إسلام ويب

الإسلام دين رحمة ورأفة، وقد حث الأغنياء على مواساة الفقراء والمحتاجين بالصدقة، وجعل الصدقة عامة في كل ما يسد الحاجة، ورتب على ذلك عظيم الأجر، بل ربما كانت صدقة التطوع في بعض الأحوال خيراً من صدقة الفرض.

المسلم في ظل صدقته يوم القيامة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل امرئٍ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس) رواه ابن حبان والحاكم ].

هذا الحديث ضمن معنى الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول: (سبعة يظلهم..) وهنا: (المرء في ظل صدقته..)، فالحديثان متفقان في المعنى في هذه الجزئية.

وفي بعض روايات هذا الحديث: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الخلائق) ، وقدر ذلك كما بينه الله في قوله: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] ، ويبين مكانة هذين الحديثين التأمل في حالة ذلك اليوم، يوم الفرار، يوم الهروب، كلٌ يقول: (نفسي.. نفسي..) حتى الأنبياء والرسل حينما يطلب منهم الشفاعة إلى الله؛ ليأتيَ لفصل القضاء، فكلٌ يعتذر ويقول: (نفسي.. نفسي..؛ إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله)، ويعتذر بما كان منه في دنياه، وهم رسل معصومون، ولكن الموقف فوق المستوى العادي، فكل يحيل إلى الآخر، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكون الشفاعة العظمى التي يشفع فيها لأهل الموقف جميعاً بما فيهم الأنبياء والرسل.

وهذا اليوم وصفه الله بقوله: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] ، فتأتي الصدقة التي أراد بها صاحبها وجه الله، فأخفاها عن المتصدق عليه، بل أخفاها عن نفسه هو، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله؛ تأتيه في ذلك اليوم وتظله، وهو يوم لو كانت الدنيا بكاملها تحت يديه كما كانت تحت يد ذي القرنين ؛ لفادى نفسه بعشرات أمثالها في ذلك اليوم، ولكن لا ينفع ذلك، والدنيا مزرعة الآخرة.

ولهذا مر الحسن على رجل يعظ الناس بالتزهيد في الدنيا، فقال: على رسلك، وهل تحصَّل الجنة إلا بالدنيا؟! وهل يتصدق المتصدقُ إلا من الدنيا؟! وهل ينفق في سبيل الله إلا من الدنيا؟! عليك أن تزهد في الحرام منها، أما الحلال فكلنا يعلم أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه مون جيشاً بكامله، وابن عوف تصدق بقافلة من الإبل وما تحمل، والرسول صلى الله عليه وآله سلم يقول: (لو أردت أن تسير خلفي الجبال ذهباً لفعلتُ!).

إذاً: يتحرى الإنسان الحلال، ويتحرى من يتصدق عليه من كرام الناس ذوي الحاجة؛ من الذين تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً كما قال تعالى: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273] ، والكلام في هذا الصنف طويل، ويكفينا هذا القدر، وبالله تعالى التوفيق.

الجزاء من جنس العمل

قال المؤلف: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عريٍ كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) رواه أبو داود ، وفي إسناده لين ].

في إسناده لين أو ضعف!! الحديث عليه رونق النبوة، وله حلاوة في السماع، ويرتاح القلب إليه، وهو واقع طبيعي: (من كسا مسلماً على عريٍ كساه الله من خضر الجنة)، فالجنة كبيرة، وخضر الجنة ليست قميصاً ولا ثوباً، بل هي حلل مقابل أن تكسو مسلماً على حاجة.

ودرهم قد يسبق مائة ألف درهم من الناس، لأنه ليس عنده إلاّ درهمان فتصدق بواحد، وهذا كسا إنساناً على عريٍ، وليس معناه أنه مكشوف العورة يمشي بين الناس عارياً، وإنما: ليس عنده من الثياب ما يكفيه، كالرجل الصحابي الذي زوجه الرسول عليه الصلاة والسلام بالمرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، قال: (فماذا تصدقها؟ قال: أصدقها ردائي، قال: فإن أعطيتها رداءك جلستَ ولا رداء لك، اذهب والتمس شيئاً، فذهب فلم يجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد) ، فهذا عنده رداء فقط، فهل يعتبر عارياً؟ نعم يعتبر عارياً، وأعتقد أنه لا أحد من هؤلاء الموجودين إلا وعنده أكثر من خمسة أثواب، فضلاً عن الفنايل والسراويل وغيرها.

فقوله: (كسا مسلماً على عري): يعني أنه يستر عورته بصعوبة، فيأتيه بثوب، وهذا بيان لتنوع الصدقة، وأنها لا تتوقف على ما يطعم الفم، وإنما هي بحسب حاجة الإنسان، فكل من له حاجةٌ لشيء تتصدق عليه به، لو كان عندك بيوت كثيرة وتصدقت على عائلة بأن تُسكنها في دارك فذلك أعظم من أن تكسو واحداً من الأسرة بثياب.

إذاً: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو أن واحداً يكد على عياله، ويحتاج إلى مواصلات، وعندك عدة سيارات، وقلت: هذه السيارة تساعدك على عملك، لأن عملك بعيد، فخذ هذه السيارة؛ فهذه صدقة عظيمة، وهكذا كل ما يمكن أن تقدمه لإنسان: سواء كان في الملبس أو في المطعم.

فرح الفقير بالصدقة

قوله: (وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ.. أو سقاه على ظمأ..): كل هذا يقدمه إليه؛ لأن العاري حينما يأتيه ثوب يفرح به فرحاً عظيماً، ولو كان هذا الثوب لا يعادل عند الأغنياء المال الكثير، والغني لو جاءته حلة -بدلة-، أو حتى خمسة أثواب أو عشرة لم يفرح، ولا يكون لها الوقع والحلاوة واللذة مثل هذا الثوب الذي يهدى لهذا العاري؛ لأنه في أمس الحاجة له.

وكذلك الجائع إذا اشتد به الجوع تختلف حاله عن حال شخص منعم في قصره، ولديه جميع الأطعمة، ولو قدمت إليه مائدة مكتملة بكل أنواع الأطعمة والفواكه، فما قيمة هذا عند صاحب (العمارة) التي فيها كل ما تشتهي النفس؟

لذا تجد بعض الأغنياء يأتي إلى موائد الأفراح، وفيها ما لذ وطاب، والبعض منهم يخرج وهو يقول: والله! لو كان فيها كذا أو كذا، كالكاره لتلك المائدة؛ لأن عنده في البيت مثل هذا، لكن المسكين لو حصل على صحن بيض من هذه المائدة، وأشبع جوعته؛ فإن فرحه يساوي الفرح بالعرس كله! ولذا جاء في حديث الموائد: (شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه من يأباه، ويمنعها من يأتيها) ، فالجوع يدفعه فيأتي إليها طمعاً في أن يشبع جوعه، فيقال له: تنح عن الناس، تنح عن الطريق!!

يا سبحان الله! والله -يا إخوان- حدثت حادثة مع بعض الإخوان، وقد كانت هناك خطة لتصريف الأطعمة التي في موائد الأفراح، فيذكر لي الشخص الذي كان يقوم على ذلك، أنه كان يأخذ القدر بما فيه بالسيارة، ويأتي إلى محل فيه فقراء، ويقف ويقول: أحضروا قدوراً وصحوناً، ويقسم بالله! إن البعض منهم كان لا يجد صحناً ولا قدراً! ويأتي بورقة كيس الإسمنت ويقول: ضع لي في هذا، فما قيمة هذا الذي سيضعه له في ورقة كيس الإسمنت مع شدة جوعه؟ وهذا قدر فايض عن حاجة الذين شبعوا وزاد عنهم، فيأتي إلى أولئك الفقراء، ويوزع عليهم، فيأتيه شخص -امرأة أو رجل- بورقة كيس الإسمنت، ويقول له: ضع لي فيها!!

استحباب البحث عن المساكين لإعطائهم الزكاة

وقد سألني سائل من قبل عن زكاة الفطر: هل ندفعها لمؤسسة أم لا؟!

فقلنا: إن هذا يفقدك فضيلة البحث والتفتيش عن المحتاجين حقاً، والتعايش والتعاطف معهم؛ لأنك بعيد عنهم، أما إذا خالطت وفتشت فسيظهر لك الشيء الكثير، وستجد المتعة الروحية في أنك تقدم لمستحق لا يعلم أحد عنه.

وهذا الحديث يدعو إلى تحري المحتاج، سواء كان عارياً فتكسوه، أو جائعاً فتطعمه، أو ظمآن فتسقيه.

وما هناك أعظم أجراً من سقي الماء، كما في قصة سعد بن عبادة لما توفيت أمه، وهو غائب في غزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟! قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. قال: فتلك سقاية أم سعد بالمدينة).

وجاء أنه قيل لها: تصدقي أوصي، قالت: المال لـسعد ، وماذا أوصي؟ وأن سعداً قال: (يا رسول الله! أينفعها إن تصدقت عنها؟! قال: نعم، قال: وما خير الصدقة؟ قال: سقي الماء) ، فكانت سقاية أم سعد معروفة في المدينة، وكانت إلى عهد التابعين.

وحبذا لو أخذت ثلاجة تبريد وجعلتها في مسجد من المساجد، وليس بلازم أن يكون مسجداً، فلك أن تجعلها في ملتقى شوارع، أو في ميدان، أو في منطقة ليس لأهلها ثلاجات في بيوتهم، فإذا جئت بهذه البرادة، واتفقت مع صاحب بيت بجوارها أنك تدفع له كلفة الكهرباء والماء شهرياً، بشكل تقريبي بقدر ما يستهلكه في بيته لكان خيراً، وما الذي يمنع من أن يشترك اثنان أو ثلاثة في برادة واحدة؟! فسقي الماء أثره وأجره عظيم جداً.

حكم الصدقة على الحيوانات والكافر غير الحربي

وسقي الماء للحيوان فيه أجر، فيه أجر، فامرأة دخلت النار في هرة حبستها ولم تطعمها، وامرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته، كانت تمشي في الطريق واشتد عليها الظمأ فوجدت بئراً، فنزلت فشربت، فخرجت فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد بلغ به الجهد من العطش مثلما بلغ بي، فخلعت خفها، ونزلت البئر وملأته وأمسكته بفمها حتى صعدت، وسقته الكلب، فشكر اللهَ فشكر اللهُ لها، أي: الكلب شكر اللهَ على أنه شرب، أو أن الله شكر لها صنيعها فغفر لها.

وفي الحديث: قالوا: (ألنا في البهائم أجر يا رسول الله؟! قال: في كل ذي كبد رطب أجرٌ) ، حتى الكافر، إذا كان معك زيادة ماء، ووجدت كافراً يموت عطشاً وليس حربياً، فاسقه، فإذا كنا نؤجر في الحيوان ألاَ نؤجر في الإنسان؟! والله سبحانه وتعالى أعلم.

والمتأمل لحالة المتطوع بالصدقة لربما وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛ وإن كان الواجب أفضل من النافلة، إلا أن مخرج الزكاة إنما يخرجها عن غنى، لأنه امتلك نصاباً، وبقي عنده النصاب عاماً كاملاً لم يحتج إلى شيء منه، ثم إنه يخرج الزكاة ووراءه من يطالبه بها، وفي الحديث: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله).

أما المتطوع فليس هناك من يلزمه، وقد لا يكون مالكاً نصاباً ولا نصف نصاب، فقد يتبرع أو يتطوع بما في يده، فصدقة التطوع يفعلها طاعة لله ابتداءً من نفسه، وإن كانت أيضاً الزكاة المفروضة إنما يخرجها طاعة لله، لكن الزكاة فيها إلزام، وأما التطوع فلا إلزام فيه، إنما هو من دوافع نفسه ويقينه بالله بأنه سيعوضه عن ذلك، وتقدم في الحديث الأول: (سبعة يظلهم الله.. -وفيه:- ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، وهذا بيان لفضل الصدقة وأنها تكون مدعاة أو مستوجبة لأن تجعل صاحبها في ذلك الموقف العظيم وفي تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق، وتدنو الشمس من الرءوس، فيكون المتصدق في ظل عرش الرحمن بسبب الصدقة الخفية، وفي الحديث الذي بعده: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة).

فمُخْفِي الصدقة يظلل بعرش الرحمن، ومن آداب الصدقة في كتاب الله إخفاؤها والتلطف بها، وإبداء المعروف معها، وحفظ كرامة المسكين، فيكون المتصدق لطيفاً عفيفاً كريماً يراعي حرمة الإنسان الذي أعوز المال، وقد بيّن سبحانه ذلك فقال: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264] ، وقال: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً [البقرة:263] ، وكان بعض السلف يرى للمسكين الذي يقبل صدقته فضلاً عليه؛ لأنه يكون سبباً في حصوله على مرضاة الله، وعلى مضاعفة ماله والزيادة فيه، فينبغي على الإنسان أن يتحرى، وأن يبحث، وأن يتعرف على مستحقي الصدقة أولاً.

وقوله: (أيما مسلم كسا إنساناً على عريٍ) أعتقد أنه لا يوجد إنسان يمشي في الطريق عريان؛ لأن هذا ممنوع ومحرم، وكان بعض السلف إذا لم يكن عنده إلا ثوبٌ واحد فإنه إذا احتاج إلى نظافته، يغسله ويبقى في البيت إلى أن يجف الثوب فيلبسه، وقد سمعت قصةً -لو صحت هذه! وحاولت بكل جهد أن أصل إليها، ولكن للأسف لم أصل- وهي: أن طالبين كانا في مدرسة واحدة، وفي فصل واحد، وهما توأمان، يحضر أحدهما يوماً، ويغيب الآخر، ثم يحضر من غاب، ويغيب من حضر.. وهكذا، فعنفهم المدير، وضربهم، وهم يعتذرون: سنأتي.. لن نغيب، ويتعللون، ولما كثر عليهما الإيذاء والكلام صارحا المدير، وقالا: نحن نصارحك فيما بيننا وبينك فقط، نحن أخوان لا نملك إلا ثوباً واحداً، يأتي به أحدنا، ويجلس الآخر عريان في البيت، فإذا كان الغد تبادلنا الثوب.

فإذا كان الناس بهذه المثابة، ويثابرون على طلب العلم والدارسة، فهذه صورة من كسا مسلماً على عري، فلا يخرج المرء إلى الطريق عارياً، ولا يفعل ذلك إلا المجانين، ولكن تصدق على من كان ذا قلة، وهو من أحوجته الثياب وأحوجته الكسوة، بعض الناس في الحالة العادية ربما عنده الخمسة والستة والسبعة الأثواب، وأتباعها مما تحت الثياب، وقد يكون الشخص ذا ثوبٍ واحد.

وقد قرأنا في تاريخ عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يرقع قميصه، بل تأتي الرقعة فوق الرقعة، وفي قصة ذهابه إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح المدينة أنهم قالوا: إننا وجدنا في كتبنا أن نسلمها إلى رجل صفاته كذا وكذا، فكتب إليه القواد بذلك، وذهب ومعه خادمه، وكانا يتعاقبان في الركوب، يركب أحدهما ويمشي الآخر، ثم يمشي من ركب منهما ويركب الآخر، فلما دنا من بيت المقدس لقيه الأمراء، وقالوا: يا أمير المؤمنين! إنك تلبس هذا القميص المرقع، وتقدم على غير العرب، وهم يفخرون بالثياب، ويخدعون بالمناظر، دعنا نكسوك قميصاً، فقدموا له قميصاً من الكتان، فلما لبسه نزعه وقال: ردوا عليَّ قميصي، قالوا: فاسمح لنا أن نغسله لك؟ قال: لا بأس، فغسلوا له قميصه المرقع، وكانوا لا يريدون أن يقدم على غير المسلمين بذلك اللباس، وجاءت نوبته في المشي فقال له الخادم: اركب أنت! لقد وصلنا إلى القوم، ولا ينبغي أن نقدم عليهم وأنا راكب، وأنت تقود البعير، فاركب أنت لأنك أمير المؤمنين، قال: لا، هذا حقك، ولابد أن تستوفيه، وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم عليهم قالوا: نعم، هذا الوصف الذي رأيناه عندنا: قميصه مرقع، ويخدم خادمه!

أيها الإخوة: ربما يكون الإنسان في حاجة ماسة ولا يعلم حاله إلا الله، وأقول: إن الذي يعرف حقيقة صدقة التطوع هو الفقير؛ لأنه يحس بحاجة أخيه الفقير، أما الأغنياء فهم في حال حسنة، وربما لا يشعرون بغيرهم، وقد قيل: إن السر في صوم نبي الله داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه فقال: أما اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر المساكين، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشبع فأشكر نعمة الله عليَّ، وهكذا هنا: (أيما مسلم كسا مسلماً على عري) يعني: أنه فتش، وتحرى، ووجد من يستحق.

إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به، فهل تعطيه لمن يجر ثوبه خيلاء، أو لمن يلبس الحرير والكتان؟! أو لمن تكاثرت لديه الملابس، أو على إنسان في برد الشتاء يتأثر بالبرد، ويحتاج إلى هذا الثوب؟ لا شك أنك تبحث عن صاحب الحاجة وتقدمه إليه، وكما قيل:

إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يراد بها طريق المصنعِ

يعني أن توضع في محلها، ومن هنا بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس: كساه الله من حلل الجنة، أو من خضر الجنة، والجزاء من جنس العمل.

(وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم):

الرحيق هو أفضل أنواع الشراب، وقيل: العرب تسمي أعلى أنواع الخمر رحيقاً.

والمختوم أي: المحفوظ المعظم المكرم بخلاف الأشياء العادية التي لا تختم، فتوضع في إناء ولا يعبأ بها؛ لأنها غير كريمة أو غير ذات قيمة، أما الشيء النفيس الكريم فيحافظ عليه، ويختم عليه زيادة في العناية والحفظ.

وهكذا يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة من ملككَ، وجادت بها نفسك، فانظر أين تضعها؟!

الصدقة تعم كل ما يسد حاجة الإنسان

وفي هذا الحديث: بيان أن صدقة التطوع لا تتوقف على الدرهم والدينار، بل تعم كل ما يسد حاجة للإنسان، فعريان يحتاج إلى قميص، وجائع يحتاج إلى طعام، وظامئ يحتاج إلى شراب.

شربة الماء صدقة، وقد قيل: إن أفضل التطوع وأفضل الصدقات سقي الماء.

فضل التصدق بالماء

كان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتوفيت أمه في غيبته، فلما جاء سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تصدقت عنها هل ينفعها؟ وقيل: إنها كانت تكلمت في مرض وفاتها، لو تملك شيئاً لتصدقت به، أو سألوها: لو تصدقتِ؟ فقالت: المال مال سعد ، وليس لي مال أتصدق به، فعلم ولدها أنها كانت ترغب في الصدقة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: أشهدك أن مال كذا -بستان له في المدينة- صدقة في سبيل الله، قال: في أي شيء أضعه؟! قال: (في سقي الماء)، فكانت لها سقيا في المدينة، تسمى سقيا أم سعد.

ومن حكم العوام: اسق الماء وأنت على الماء، أي: وأنت واقف على سبيل أو جالس عند ماء زمزم، فجاء إنسان وسقيته، فهذه صدقة منك عليه، ولك فيها أجر، وكذا لو كنت على نهر وإنسان يمشي فطلب أن تسقيه، فناولته من النهر وأعطيته؛ فهذه صدقة أيضاً، وروي أن جبريل عليه السلام قال: (يا رسول الله! إن الملائكة لتعجب من ثواب عملين من أهل الأرض، تمنت لو أنها عملت مثل ذلك، قال: وما هما؟ قال: سقي الماء، وإصلاح ذات البين) .

وسبق -يا إخوان- أن قلنا: إذا وجدنا الحديث يجمع بين أمرين فيجب أن نفتش ما هي الرابطة بين هذين الأمرين؟ لا يمكن أن تأخذ بلبلاً يغرد وتربطه مع غرابٍ يصيح؛ لأنهما غير متناسبين، لكن عندما تأخذ بلبلاً يغرد وشحروراً يصدح؛ فهذه متناسبة، وجمع الجواهر النفيسة في عقد واحد متناسب، لكن أن تأخذ من الجواهر، وتأخذ من نوى التمر أو من الحصى وتنظم منه عقداً! هذا غير متناسب.

إذاً: إذا رأيت أمرين فأكثر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما هي المناسبة؟ وما هو العامل المشترك الذي جمع بين هذه الأمور في حديث واحد؟ فلو نظرت هنا: سقي الماء وإصلاح ذات البين، فإنك تجد الرابطة بينهما قوية؛ لأن سقي الماء به حياة النفس، وإصلاح ذات البين به حياة المجتمع؛ لأنه إذا ترك وقع الفراق أو النزاع أو الخصومة بين الناس؛ وكانت الحالقة، وصارت فتنة أكلت الأخضر واليابس، فكان فيها الهلاك.

إذاً: هذا الحديث يعطينا المنهج الذي ينبغي على المتصدق، وفاعل الخير أن يسير عليه.

الصدقة بغير المال

من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي الأموال واليسار، ففي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة، فجاء رجل بدنانير، وجاء رجل بدراهم، وجاء رجل بثياب، وجاء رجل بتمر، وجاء رجل بقبضة دقيق، وجاء رجل وقال: يا رسول الله! ليس عندي ما أتصدق به، ولكني تصدقت بعرضي على كل من اغتابني أو سبني، فلما جاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله! لقد تصدق رجل منكم بصدقة عمت جميع الناس!) ، ليس عنده مال، لكن تصدق بأن سامح وعفا وصفح عن كل من اغتابه؛ لأنه أصبح له حق يستوفيه يوم القيامة، فهو تصدق بهذا الحق على صاحبه، من باب قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] .

إذاً: الصدقة لا يتقاصر عنها إنسان، فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة ماء، قال الناظم:

بث الجميل ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمودُ

وليس معنى الفقر هنا: فقير المسكين الذي ليس عنده شيء، وإنما الفقر الاحتياج، فأنت -مثلاً- تفتقر إلى خيط تخيط به خرقاً في ثوبك، أو تفتقر إلى إبرة ليست عندك، وجيبك مملوء نقوداً، لكن عندك الثوب مشقوق، والفلوس لا تخيط مخيطة للثوب، وصاحبك عنده إبرة، وأنت مفتقرٌ إلى إبرته.

إذاً: فكل ما سد فقراً، ولو إبرة تخيطُ بها ثوباً، ولو خيطاً تربط به شيئاً فهو محمودُ، يحمدك صاحب الخرق على أنك أعطيته الإبرة، وهكذا.

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك).

وقوله: (فرسن شاة)، هي ما دون الرسغ من يدها، وقيل: هو عظم قليل اللحم، والمقصود المبالغة في الحث على الإهداء ولو بالشيء اليسير، وخصَّ النساء بالخطاب لأنه يغلب عليهن استصغار الشيء اليسير، والتباهي بالكثرة..

عائشة رضي الله تعالى عنها جاءتها المسكينة وهي تأكل عنباً، فأخذت حبة وأعطتها إياها، فأخذت المسكينة تقلبها مستقلة إياها، فقالت: انظري كم فيها من ذرة! والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] .

إذاً: باب المعروف واسع، وليس له حدٌ، وفي استطاعة كل مسلم أن يتصدق يومياً، وقد جاء حديث أعم من هذا: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس.. قال: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)، فحتى البشاشة في وجه أخيك تلقاه بوجهٍ طلق؛ صدقة، هل هناك أحد يعجز عن أن يبش في وجه أخيه؟ وهل هناك أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة، أو يلقي السلام؟ فكل هذا من باب صدقة التطوع..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [2] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net