إسلام ويب

إن دين الإسلام هو دين التوحيد، فما من مناسبة إلا ويربط الإسلام الناس فيها بربهم سبحانه، ففي حالة الجدب وشحة الأمطار دلنا الإسلام على الطريق الصحيح الذي يربطنا بالله سبحانه، فشرعت لنا صلاة الاستسقاء، وبينت لنا كيفيتها وآدابها، وتعددت طرق الاستسقاء تيسيراً لنا، تارة بالخروج إلى المصلى والصلاة والدعاء، وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة ورفع اليدين لذلك، وتارة بالدعاء المنفرد لمن أراد من المسلمين.

أحكام صلاة الاستسقاء

كيفية خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

يقول المصنف رحمه الله:[عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً ..) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان ].

مما ينبغي التنبيه عليه أن بعض المؤلفين قدّم لهذا الباب أحاديث ترد الإنسان في قوته وغناه وضعفه وفقره إلى الله، ومن ذلك ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لا شباب خشّع، وبهائم رتّع، وأطفال رضّع لصب عليكم العذاب صباً) .

وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى في السهام بين المجاهدين في غزوة بدر، فقال سعد : أتجعل من أبلى كمن ليس كذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك! وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وهل ترزقون إلا بضعفائكم ودعواتهم)، وهكذا رواية أخرى: (لولا شيبان ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم في الخلاء رتّع لصب عليكم العذاب صباً)، فقد يغيث الله الناس لا لذواتهم، ولكن لما حولهم، ولبعض من معهم من المخبتين إلى الله، ومن الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ونحن نعلم قصة هاجر وابنها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف سقاها الله في ذلك المكان، وفي ذلك الوقت الحرج.

ويذكرون أيضاً أن نبي الله سليمان خرج يستسقي، ثم رجع من الطريق، فقيل له: لم رجعت؟ قال: قد سقيتم بدعوة غيركم، قالوا: ما رأينا أحداً! قال: رأيت نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى لنا عن فضلك ورحمتك فاسقنا. فرجع نبي الله سليمان وقال: سقيتم بدعوة غيركم.

فكيف رأى النملة وهو يمشي في الطريق؟ وكيف سمع نداءها؟

لقد قص لنا القرآن ذلك في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا .. [النمل:18] خطبة طويلة عريضة بلسان المقال، أو بلسان الحال، فهذه معجزة خاصة به عليه السلام لا نعلم كيفيتها ولا يعلم ذلك إلا الله.

فقد يرحم الله العباد بالحيوان، وقد يرحم الله العباد بالأطفال الرضع، وبالشيوخ الركع، أي: بمن يظهر العبادة والضعف إلى الله، وقد تكون رحمته لمخلوقاته الأخرى من بهائم وحشرات وغيرها.

قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً).

الخروج يكون من الداخل إلى الخارج.. فمن أين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والى أين خرج؟

قالوا: خرج إلى المصلى، فخرج بالناس إلى الفضاء يستسقي ربه، والحديث يبين لنا كيفية الحالة التي خرج بها صلى الله عليه وسلم في طلب السقيا؛ لأن الهمزة والسين والتاء للطلب، فـ(استسقى) أي: طلب السقيا، كما أن (استغفر) معناها: طلب المغفرة والغفران، وهكذا.

فنخرج إلى الله تعالى تاركين كل ما لدينا، مظهرين الفاقة والحاجة، رافعين أكف الضراعة إلى الله، قائلين: ها نحن جئناك يا رب لا حول لنا ولا قوة، ولا مال لنا ولا غنى إلا بك، نسألك الغيث والرحمة، ولا نخرج في عروض الخيل وأبهة السلاح وزينة الثياب، بل نخرج متواضعين منكسرين.

وبعض المحتالين في السؤال قد يكون عنده مال وفير، وهو معافى في بدنه، لكنه لما يخرج يتكفف الناس يبحث له عن ثياب قديمة، أو يتصنع عاهة؛ ليخدع الناس بمنظره وعاهته، مدعياً الحاجة والفاقة.

فنحن نخرج للاستسقاء في حالة الضراعة والذلة والتواضع وإظهار الفاقة والحاجة للمولى عز وجل، فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (متواضعاً) التواضع حساً ومعنىً ألا يكون رافعاً رأسه، ولا مصعراً خده، ولا ضارباً للأرض بقدمه، وإنما يمشي في سكينة وتواضع.

قال: (متبذلاً).

يوجد جناس بين التبذل والبذلة، فالبذلة: الهيئة -أي: الثوب الخلق- وقوله: (متبذلاً) معناه لابس لها، أي: خرج في ثياب ليست ثياب فخر، ولا ثياب إظهار النعمة، بل ثياب إظهار الفاقة، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له حلة، وكان له لباس خاص يلبسه يوم العيد، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه وجد حلة جميلة تباع عند باب المسجد، فجاء بها إلى رسول الله، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: اشتر هذه تلبسها يوم العيد، وتتجمل بها عند الوفود -لأن هذه أماكن تحتاج إلى إظهار الغنى والسعة وشكر النعمة- فنظر فيها صلى الله عليه وسلم وقال: (يلبس هذه -هذه الحلة التي جئتني بها- من لا خلاق له، وبعد قليل أرسلها إلى عمر ، فجاء عمر يجري قائلاً: يا رسول الله! أنت قلت فيها: (يلبسها من لا خلاق له) ثم تعطينيها! فقال رسول الله: لا يا عمر ! ما أرسلتها إليك لتلبسها) أي: استنتاجك وتقسيمك -يا عمر- ناقص، فمن الممكن أن تلبسها، ومن الممكن أن تلبسها غيرك، أو تهديها لإنسان آخر، أو تتخذها فراشاً، فإن لاستعمالها أوجهاً متعددة.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض على تخصيص حلة للعيد والوفود، ولكنه اعترض على نوع قدم إليه، وقد كانت له البردة، وكان يخطب فيها أيام العيد؛ لأنها أيام زينة، وأيام إظهار النعمة شكراً لله على عطائه، وكان يلبسها عند مقابلة الوفود حتى يكون في مظهر الغني الموسع عليه، لا في مظهر الفاقة فيطمع الناس فيه.

والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم خرج متواضعاً متبذلاً، ولهذا ينبغي على كل من شارك في صلاة الاستسقاء أن يخرج إليها في حالة تواضع في مشيته ومنطقه في الطريق متبذلاً في ثيابه، ولا يخرج بثياب الفخر والعز، والتواضع صفة خُلقية، والتخشع صفة خَلقية، فقوله: (متخشعاً) معناه أنه ليس سريعاً في مشيته، وإنما يمشي مترسلاً، أي: في خطوات متقاربة، وليس كمن يركض إلى غنيمة أو جهاد ويظهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، بل يمشي بهدوء ورفق وتؤدة.

وقوله: (متضرعاً) : يستوي أن يكون بكلماته أو بتلك الصفات؛ لأنها صفات المتضرع لا المتجبر.

قال ابن عباس: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد).

وحديث ابن عباس هذا أصل من أصول مباحث صلاة الاستسقاء.

فحديث ابن عباس أول حديث جاء به المؤلف في مشروعية صلاة الاستسقاء، وفيه أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ويقولون في التشبيه: ليس من الضروري أن يشبه المشبهُ المشبَهَ به في كل الصور، فقد يقال: فلان كالنخلة، والنخلة طويلة، ولها جذع خشن، وعلى رأسها الجريد، وتثمر البلح ثم الرطب، فهل هو كالنخلة بهذه الصفات كلها، أو أنه كالنخلة في بعض صفاتها؟!

فحين نقول: فلان كالنخلة. أي: في الطول. ولا يعني ذلك المشابهة في الثمرة والجريد والجذع الخشن، بل يكفي أن يشبهها في صفة واحدة.

وقوله: (كما يصلي في العيد) صلاة العيد ركعتان، فيها تكبيرات وخطبة، ففي أي صفة من تلك الصفات شابهت.

منهم من قال: كصلاة العيد في العدد، أي: ركعتان، ومنهم من قال بالتكبيرات، أي: بتكبيرات كتكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قال: في الخطبة، فلها خطبة كصلاة العيد.

والآخرون يقولون: كصلاة العيد في الركعات فقط، وحذفوا الصفات الأخرى، وسيأتي إن شاء الله بيان أنواع الكيفية والخلاف فيها، وبيان الجائز من ذلك كله إن شاء الله.

الخطبة في صلاة الاستسقاء

قال ابن عباس: [كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه].

شبه ابن عباس صلاة الاستسقاء بصلاة العيد، وعلم أن العيد فيه خطبتان، فقال: (ولم يخطب)؛ لأن الخطبتين داخلتان في التشبيه بصلاة العيد، فأخرجها بنص مستقل، ولكن هل قال: ولم يخطب. أم أنه نفى خطبة معينة؟

نقول: نفى خطبة معينة، وذلك بقوله: (كخطبتكم)، كأنه يقول: خطبتكم التي توقعونها في صلاة الاستسقاء مغايرة لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يثبت خطبة، ولكنه ينفي عنها صفة خطبتهم.

فنأخذ من حديث ابن عباس : أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، وفيها خطبة، ولكن ليست (كخطبتكم) هذه، أي: من حيث عدم الإطالة، وعدم الزجر ومن حيث إنكم تجعلونها خطبتين تجلسون بينهما، فكأنه يقول: وكان يخطب فيها خطبة ليست كخطبتكم هذه.

وسيأتي المؤلف -إن شاء الله- بنصوص تدل على ما كان منه صلى الله عليه وسلم، سواء أعتبرنا ذلك مجرد دعاء، أم اعتبرناه خطبة مع الصلاة، وأيدنا ذلك بتشبيهها بصلاة العيد.

الخروج إلى المصلى للاستسقاء

قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر ، فأمر بالمنبر فموضع له بالمصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوةً وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رُئي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابةً، فرعدت وبرقت ثم أمْطَرَت) رواه أبو داود وقال: غريب وإسناده جيد.

وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر : (وحول رداءه ليتحول القحط)].

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها من أجمع الأحاديث فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء وكيفية فعله صلى الله عليه وسلم، وقولها رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر) أي: غياب المطر، وتخلفه عن موعده، حتى قحط الناس.

ويذكر العلماء أن تلك الشكوى سبق نظيرها في مكة قبل الهجرة، حينما اشتد أمر المشركين على المسلمين، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف) فاشتد الأمر بالقحط على أهل مكة، فجاء أبو سفيان في ذلك الوقت وهو على دين قومه وقال: يا محمد! إنك تدعو إلى صلة الرحم، وقد دعوت على قومك، وقد قحطوا، فادع الله أن يسقيهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فأمطروا.

وقضية استشفاع المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعت مرة ثانية بعد الهجرة، وذلك في قصة ثمامة بن أثال، وهو سيد بني حنيفة باليمامة، خرج معتمراً وهو على دين قومه فأخذته خيل المسلمين، فجيء به أسيراً، وربط في سارية المسجد، وكان يراح عليه بالحليب وهو مربوط في السارية، وكان صلى الله عليه وسلم كلما خرج مر عليه وقال: (كيف بك يا ثمامة) فيقول: يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن ترد مالاً أعطيتك ما يرضيك، وإن تمنن تمنن على كريم، وبعد ثلاثة أيام، قال صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة) فأطلقوه فأتى إلى بعض الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينطق بالشهادتين، فذهب إلى بيرُحاء -وكان بستاناً قريباً من المدينة إلى عهد قريب- فذهب واغتسل، ثم رجع، وبعد صلاة الظهر جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطق بالشهادتين مسلماً، فقيل له: لم لم تشهد قبل ذلك؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم بعد ذلك قال: يا رسول الله! والله لقد كنت أبغض الناس إليّ، ولأنت الآن أحب الناس إليّ، وإني قد كنت خرجت معتمراً، فماذا ترى، قال: (اذهب فأتم عمرتك)، فلما أتى إلى مكة علموا بإسلامه، فنالوا منه، فأقسم بالله لن تصلكم حبة بر من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورجع إلى بلده، ومنع الميرة أن تؤخذ إلى مكة من وادي اليمامة، وكان وادياً خصباً يمول مكة، فاشتد الأمر على أهل مكة لعدم إرسال الميرة إليهم، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن ثمامة أسلم ومنع الميرة عن مكة، وأقسم أن لا يسمح بها حتى تأذن له، وإن لك بمكة -يا محمد- الخالة والعمة -أي: الرحم- فمر ثمامة أن يسمح بالميرة إلى مكة، فكتب إليه أن مر بالميرة إلى أهل مكة؛ فأمر بها وسمح.

المشركون استشفعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين:

مرة قبل الهجرة عندما قحطوا، ومرة بعد الهجرة في الميرة.

مسألة استسقاء أهل الذمة

وهنا يأتي بحث في الاستسقاء، فلو أن أهل الذمة طلبوا من المسلمين أن يستسقوا من أجلهم، أو طلبوا أن يخرجوا معهم، أو طلبوا أن يستسقوا لأنفسهم، فماذا يكون الحكم؟

يرى الجمهور: عدم الخروج معهم، وألا يمكنوا من الاستسقاء بأنفسهم، وإن طلبوا من المسلمين أن يستسقوا لهم فعلوا.

وذلك لأنهم قالوا: لو خرجوا وحدهم، وصادف أن سقاهم الله رحمة من عنده لا استجابة لدعائهم، ربما ظنوا أنهم على حق، وأن الله استجاب لهم، وإذا خرجوا مع المسلمين وسقوا من أجل المسلمين، ربما ادعوا بأنهم سقوا بوجودهم معهم، أما إذا طلبوا من المسلمين أن يستسقوا لهم، فهذه هي السنة، فيخرج المسلمون، فإن رحمهم الله فبفضل من عنده، وإن لم ينزل المطر، فهذا أمر خارج عن نطاقهم وقدرتهم.

ومن عجيب ما سمعت أنه في زمن مضى بعض الدول الأوربية حدث فيها قحط فاستسقى المسلمون فسقوا، أو أن أهل البلاد قحطوا فطلبوا من المسلمين أن يخرجوا ليسألوا الله نزول المطر فخرجوا فأمطروا.

ومما يهمنا في هذا الخبر قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله)، وهكذا حال المسلمين، فإذا نابهم أمر هرعوا إلى الرسل، وسألوهم أن يكونوا شفعاء لهم عند الله، فيسألونه رفع الضر الذي نزل بهم.

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء

تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله قحط المطر، فأمر بمنبر).

ابن القيم رحمه الله يشكك في كلمة المنبر، وابن حجر في فتح الباري يقول: كان ذلك سنة ستٍ من الهجرة في رمضان، والمعروف في تاريخ المنبر أنه صنع سنة ثمان من الهجرة، فالله تعالى أعلم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن صح الحديث وإلا ففي النفس منه شيء.

فأمر بمنبر وخرج، أي: خرج من المدينة إلى المصلى ليستسقي للناس هناك.

قالت: (فقعد على المنبر( القعود على المنبر ليس في حالة الخطبة؛ لأن الخطبة إنما يكون الخطيب فيها قائماً، فبعضهم يقول: قعد ليدعو، وبعضهم يقول: خطب قاعداً وبعضهم يقول: قعد ثم قام وخطب قائماً.

ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون معه فيه، وفي ذلك اليوم، أمر بالمنبر فأخرج إلى المصلى، وخرج الناس معه، فقعد على المنبر.

قالت: (فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله).

هناك من يقول: التكبر في صلاة الاستسقاء كالتكبير في العيدين، سبع في الأولى، وخمس في الثانية وبعضهم يقول: كبر مرة واحدة، ولم يأت هنا عدد، فيحمل الحديث على حديث ابن عباس المتقدم: (كما يصلي في العيد).

قولها: (وحمد الله) يقولون: هذا افتتاح الخطبة بالحمد؛ لأن السنة في ابتداء الكلام إما بـ(باسم الله)، وإما بحمد الله، أو بهما معاً ، فهنا بدأ بحمد الله، وفي الحديث: (كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله -أو لم يبدأ باسم الله- فهو أجذم، وفي رواية: أقطع، وفي رواية: أبتر) يعني: ناقص.

(ثم قال) يخاطب الناس: (إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم).

يبين ويذكّر العباد بما جاء عنه سبحانه وتعالى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (والله إني لا أهتم لإجابة الدعاء بقدر ما أهتم بإلهامي الدعاء). لأن الإجابة وعد من الله، فقد قال سبحانه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فبقي الدعاء منا، فنحن نهتم بأن يلهمنا الله الدعاء أكثر من اهتمامنا بأن يستجيب الله لنا؛ لأنه وعد بذلك.

قالت: (ثم قال: الحمد لله رب العالمين)

بعد أن أمرهم بأن يتوجهوا بالدعاء قال: (الحمد لله رب العالمين)، وهذه فاتحة سورة الفاتحة، وقرأ صلى الله عليه وسلم من سورة الفاتحة جملة: (الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين).

يقول بعض العلماء: في هذا الحديث ترجيح إحدى القراءتين؛ لأنه قرئ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وفي الأخرى: (ملك يوم الدين)، وهي قراءة مالك ، فقالوا: في هذا الحديث قرأ صلى الله عليه وسلم (مَالِكِ) بمد الميم، من الملك.

وقد يقول المالكية: ومن الذي يحتم بأنه أراد القراءة، ربما أراد الافتتاح أيضاً، والله تعالى أعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد).

هذا التسليم والتفويض لله؛ لأنه الإله الخالق الرازق المدبر: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] يعني: أراد القحط فوقع القحط، ويريد الخصب فيأتي الخصب، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.

ولهذا يقولون من باب التندر: إن عمرو بن عبيد -وهو من رؤساء القدرية- جاءه أعرابي وقال: إن حماري قد ضاع فادع الله لي أن يردها. فرفع يديه وقال: اللهم إن حماره سُرق ولم ترد أن يُسرق، فقال: يا هذا! امسك عليك دعاءك، والله لئن كان سرق ولم يرد أن يُسرق فقد يريد أن يرد ولا يُرد عليّ، أمسك عليك دعاءك.

فقوله: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) يدل على أنه إن أراد خيراً فعل ولا أحد يرده، وإن أراد شراً فعل ولا أحد يدفعه، فلا يسوق الخير إلا الله، ولا يرد الشر إلا الله.

وقوله: (اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت).

(اللهم) بمعنى: يا الله. والميم في الآخر بدل عن الياء في الأول، والياء ياء النداء.

وقوله: (أنت الله لا إله إلا أنت) أي: أنت الفعال لما يريد، ولا إله إلا أنت، ولا غالب لما أردت.

وقوله: (أنت الغني ونحن الفقراء) هذا هو التضرع، فأنت الغني بيدك خزائن الملك وملكوت كل شيء، ونحن الفقراء لا نملك شيئاً إلا ما أتانا من عندك، وهذه هي الضراعة، وهذا هو الالتجاء إلى الله، كما تقدم أنه خرج متبذلاً متخشعاً متواضعاً، وهنا يظهر الفاقة والحاجة لرب العالمين، ويعترف بأن الغنى المطلق هو لله سبحانه وتعالى.

قوله: (أنزل علينا الغيث) أي: ما دمت غنياً ونحن فقراء عاملنا بفقرنا، وأعطنا من غناك، وأنزل علينا الغيث؛ لأنه من عندك.

قال: (واجعل ما أنزلت)، ولم يكن الغيث نزل عند كلامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزلت) لأنه صلى الله عليه وسلم موقن بمجيء الغيث، وكأنه قد نزل بالفعل.

قال: (واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً):

قوله: (قوة وبلاغاً) أي: لا بطراً ولا هلاكا،ً والبلاغ والبلاغة والبلوغ: الشيء الذي يُبَلِّغُكَ الغاية التي تريدها.

أي: اجعل ما أنزلت من الغيث قوة لنا، وقد يقال: وهل الغيث فيه قوة؟ والجواب: الغيث مطر ينزل، ولكن المراد: اجعله سبباً لما ينشأ عنه من إحياء الأرض وإنبات النبات وإيجاد الثمار التي تكون قوة لنا.

قال: (وبلاغاً إلى حين) أي: ليس طغياناً نطغى به، كما قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، ولكن اجعل ما أنزلته علينا قوة لنا في ديننا ودنيانا نستعين به على ما تحبه وترضى

وقوله: (إلى حين) أي: إلى أجل.

رفع اليدين في الاستسقاء

قالت رضي الله عنها: (ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه).

في هذا الحديث: (ثم رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه) يقال: كيف هذا الترتيب؟ فهل كونه رفع ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه هو قبل الرفع أو بعد الرفع؟

هنا حذف خفي على بعض الناس، فادعى أنه لم يرفع يده في دعاء إلا الاستسقاء، كما جاء في أثر أنس : (ثم رفع يديه ولم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه)يعني: بالغ في رفع يديه في دعائه في الاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه، بخلاف المواقف الأخرى، فيمكن أن يرفع يديه حذو منكبيه، أو حذو أذنيه ولا يرى بياض إبطيه، لكن هنا في شدة الضراعة واللجوء إلى الله وإظهار الحاجة بالغ في رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه.

وهنا ينقل العلماء عن النووي رحمه الله، أنه أنكر على من ينكر رفع اليدين في الدعاء مطلقاً، ويقول: لم يأتِ رفع اليدين إلا في الاستسقاء، كما في حديث أنس : (ما رفع يديه إلا في الاستسقاء) وأجاب العلماء عن قوله: (ما رفع يديه) أي: على تلك الحالة التي رئي فيها بياض إبطيه إلا في الاستسقاء.

يقول النووي رحمه الله: ولقد جمعت في ذلك رسالة فوق الثلاثين حديثاً في رفع اليدين، في عموم الدعاء، وذكر ذلك في كتاب (المجموع) في نهاية باب الصلاة، وينقله العلماء عنه لنفاسته.

وقال بعد أن ذكر الأحاديث: ومن ظن أنه لا ترفع الأيدي إلا في هذه المواطن فهو جاهل. أي: إن العبرة بعموم الأحاديث في رفع اليدين عند كل دعاء، ومن أعم ما جاء في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحيي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً) يعني: لابد أن يجيبه، كما لو جاءك السائل فإنك تستحيي أن ترده بلا شيء، فتعطيه ما تيسر، فكذلك الله تعالى يستحي من عبده إذا مد إليه يديه،لم يعين ولم يحدد صلى الله عليه وسلم في أي شيء يمد يديه بل جعله على العموم.

وقولها: (رفع يديه ولم ينزل) أي: لم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم.

تحويل الرداء في الخطبة قبل الدعاء

قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره)

كان على المنبر يحمد الله بهذه الكلمات الكريمات مواجهاً للناس.

واجهة الخطيب للمصلين تكون بطبيعة الحال معاكسة لجهة القبلة، فتكون القبلة وراءه، وليس معقولاً أن يستدبر الناس ويخاطبهم، فليس هذا من الآداب، بل سنة الخطبة أن يواجه الخطيب من يخاطبهم.

قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) أي: لما استقبل القبلة.

قالت: (وقلب رداءه)، وجاء: (حول رداءه)، وجاء: (كانت عليه طنفسة غليظة فأراد أن يحولها فثقلت عليه فقلبها)، وجاءت عدة ألفاظ.

والراجح من كل تلك الألفاظ أنه حول، وجاء التصريح أنه جعل الطرف الأيمن على الكتف الأيسر، والطرف الأيسر على الكتف الأيمن، والفرق بين (قلب) و(حول) أن القلب معناه أنه كان طرف الرداء الأعلى على رأسه، فإذا كان (قلب) فسينزل هذا الطرف إلى أسفل، ويأتي بالطرف الأسفل إلى أعلى، وتبقى أطراف اليمين في اليمين، واليسار في اليسار، لكن التحول معناه أنه يأخذ الرداء كله ويرفعه، فالأيمن يجعله أيسر، والأيسر يجعله أيمن.

والمشهور أو الراجح أنه حول، وبعض العلماء يقول: تارة قلب، وتارة حول وكل ذلك تفاؤل واستشعار بتحويل الحال التي هم عليها إلى حال أحسن منها، أو قلب الوضع من جدب إلى خصب، وكل ذلك لا بأس به.

يقول ابن حجر : وكان رداؤه صلى الله عليه وسلم ستة أذرع في ذراعين، وبعضهم يزيد: وشبرين.

فالمهم أنه حول الرداء، والآن لا أحد يلبس الرداء.

فإذاً: كان ما يلبس قابلاً للتحويل فيحول، فإن كان مشلحاً حوله، فيجعل كم اليد اليمنى في اليسرى، وما كان في اليد اليسرى يجعله في اليد اليمنى، وجعل المشلح بهذا الحال يقتضي القلب؛ لأنه ما كان في الداخل سيكون في الخارج، وما كان خارجاً سيكون داخلاً.

وعلى كل إذا لم تكن هناك عباءة أو مشلح فهناك ما يضعه على الرأس فيحوله أو يقلبه.

وفي ذلك الاستشعار والتفاؤل بتغيير الحال الذي هم فيه إلى حال أخرى أحسن منها.

قالت: (وقلب رداءه وهو رافع يديه).

في حالة رفع اليدين أمسك بالرداء وقلبه أو حوله.

قالت: (ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين).

بعدما أجرى حركة الرداء تحويلاً أو قلباً استقبل الناس بوجهه، ونزل من على المنبر، أي: عاد إلى حالته الأولى،:ثم قام فصلى ركعتين، ومن هنا بعض الناس يقول: خطبة الاستسقاء تكون قبل الصلاة وقال آخرون: لا. فقد جاءت أحاديث أخرى تفيد أن خطبة الاستسقاء بعدها.

فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان دعاء، وليس خطبة؟!

سيأتي البحث: هل يخطب لها أم لا، وهل يخطب بعدها أم قبلها، وسيأتي تفصيل ذلك في الأحاديث الآتية إن شاء الله.

استجابة الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم

قالت: (فأنشأ الله تعالى سحابة).

أسندت عائشة رضي الله عنها الإنشاء إلى الله، فهو الفعال لما يريد، وليس كقول الجغرافيين، ولا كقول الفلكيين: بنوء، أو بتبخر ماء البحر، وإنما أنشأ الله سحابة، وستأتي الرواية: (فوالله ما بيننا وبين سلع من سحابة ولا قزعة).

والسحابة: السحاب المتواصل المتراكم، والقزعة: السحابة المتقطعة، كما في الحديث: (نهى عن قزعة الشعر)، أي: أن الإنسان يحلق جزءاً ويبقي جزءاً ، وهذا لا يجوز، وابن حجر يذكر رواية: (والسماء كالمرآة صافية)، أي: ليس فيها شيء، فأنشأ الله سحابة من وراء سلع -من جهة الغرب؛ لأن المدينة شمالها إلى أحد، وغربها إلى وراء سلع- فأنشأ الله سحابة من وراء سلع، وبعضهم يقول: كرجل الطير، وبعضهم يقول: كالترس والترس: هو الآلة التي يمسكها المقاتل يتترس بها من ضربات العدو بالسيف أو الرمح. يعني: لا يزيد قطرها عن خمسين أو مائة سنتيمتر.

وفي الحديث: (فجاءت ريح فساقتها، حتى أقلت سماء المدينة، فانتشرت فأمطرت)، وهذا الذي أشرنا إليه سابقاً بأن سوق السحاب وإنشاء السحاب وإنزال المطر إنما هو من الفعال لما يريد سبحانه وتعالى.

قالت: (فرعدت وبرقت ثم أمطرت).

الرعد والبرق يذكر بعض العلماء أنه من عوامل السحب، أو من تنقيحها.

قالت: (ثم أمطرت) أي: تلك السحابة التي نشأت، وجاءت وهم يرونها.

قال المصنف: [رواه أبو داود ، وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) ].

الزيادة هنا أنه في صلاته جهر بالقراءة، وعائشة رضي الله تعالى عنها أخبرتنا أن خروجه كان حين بدا حاجب الشمس، وصورة الشمس في أول خروجها تشبه استدارة الحاجب على العين، وذلك في أول ظهور حافتها العليا، فتكون في صورة حاجب العين، أو في صورة الهلال، فحينما بدا كان قبل أن يكتمل القرص في الظهور، ولما وصل إلى هناك، أكتمل القرض بالظهور، وصحت الصلاة بعد شروق الشمس.

قال المصنف: [وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر : (وحول رداءه ليتحول القحط) ].

هناك (قلب)، وهنا (حول)، فالرواية باللفظين، وأيهما فعل فلا مانع في ذلك، وزادنا هنا: (ليتحول الحال)، أي: تفاؤلاً.

الاستسقاء في خطبة الجمعة

قال المصنف: [وعن أنس (أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله عز وجل يغيثنا. فرفع يديه، ثم قال: اللهم أغثنا. اللهم أغثنا) وذكر الحديث، وفيه الدعاء بإمساكها، متفق عليه].

الحديث الأول فيه أنه وضع له منبر وخرج، فتلك صورة من صور الاستسقاء.

والحديث الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً يخطب يوم الجمعة، فليست خطبة استسقاء، فدخل رجل -يعني: بعد الشروع في خطبته- فالخطبة ليست لمجيء الرجل، وإنما الخطبة للجمعة، فقد يقع الاستسقاء مستقلاً بخروج الإمام وخروج الناس معه، وقد يقع ضمن خطبة الجمعة في المسجد.

فهذا رجل دخل -ويقال: من باب مقابل المنبر- (فقال الرجل: يا رسول الله! هلكت الأموال.) أي: من القحط، فما بقي شجر، ولا بقيت دواب، ولا أنعام، وما بقي مرعى، فإذا لم يبق مرعى هلكت الأنعام.

قال: (وانقطعت السبل).

السبل: جمع سبيل، وهي الطريق، والطريق ممدود في الأرض فكيف تنقطع؟ والجواب: أن المراد أنقطع استعمالها، إما لأن الإبل وهي سفينة الصحراء -كما يقال- لم يبق عندها ما تأكل، فلا تستطيع أن تذهب أو أن تسافر، كما لو انعدم الآن البنزين، فالسيارات ستبقى في محلها، كذلك هنا، فإذا المرعى للإبل انقطع لن تقوى الإبل على السير، أو أن السبل كانت تستعمل لنقل المنتجات وغلات الزرع، ولم يبق هناك زرع ولا ثمار، فلا يبقى هناك أسفار؛ لأن موجب الأسفار تعطل.

قوله: (فادع الله عز وجل يغيثنُا) روي: (يغيثنا) بالرفع، و(يغيثَنا) بالنصب، فعلى رواية الرفع يكون التقدير: (فادع الله إن دعوته).

وعلى رواية النصب يكون التقدير: : (ادع الله عز وجل أن يغيثَنا) فكلا الروايتين وارد وموجود، وله توجيه في الإعراب، والغرض من ذلك: ادع الله لنا بالغيث.

قال أنس : )فرفع يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.)

هذا الحديث -حديث أنس- فيه زيادات:

فقد ذكر فيه قضية السحابة ومجيئها ، حيث قال: فأمطرت، فوالله ما رأينا الشمس سبتاً. أي: أسبوعاً.

وفي بعض الأقطار يسمون الأسبوع جمعة، فالجمعة الأولى والجمعة الثانية، والشهر عندهم أربع جمع، أي: أربعة أسابيع، ويرمزون إلى الأسبوع بجزء منه وهو يوم الجمعة.

يقول بعض العلماء: هذا الصحابي قال: (ما رأينا الشمس سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً من صلاة الجمعة إلى يوم السبت الآتي بعدها.

يقول بعض العلماء: إن كلمة (سبت) أخذها الأنصار من اليهود؛ لأن اليهود يعتبرون يوم أسبوعهم هو يوم السبت، والنصارى يعتبرون أسبوعهم يوم الأحد، والمسلمون يعتبرون أسبوعهم يوم الجمعة، فكان مستعملاً قبل ذلك وعرفاً سارياً، فاستعمل الكلمة على ما هي جارية على ألسنتهم.

والغرض من ذلك أنهم أمطروا، وما رأوا الشمس سبتاً، أي: استمر المطر من حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مر عليهم السبت الآتي بعد يومهم ذلك.

وجاءت روايات: (فأمطرت كالجبال)، وجاءت روايات: (وكان هم الرجل أن يصل إلى مكنة)يعني: ما يكنه من المطر من شدة ما نزل من الماء.

جواز الدعاء بإمساك المطر إذا خشي الضرر

قال المؤلف رحمه الله: [وذكر الحديث وفيه الدعاء بإمساكها متفق عليه ].

اختصر الحديث اختصاراً شديداً، وتتمة الحديث في يوم الجمعة الثانية دخل رجل من نفس الباب، وفي بعض الروايات (دخل الرجل) فاللام للعهد، أي: الرجل الأول، وبعضهم يقول: لا ندري أهو بعينه أم غيره. فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعو الله أن يمسكها عنا. فضحك صلى الله عليه وسلم، وتبسم لشدة خلف ابن آدم، فمن قبل تشتكون الجدب، والآن تشكون المطر! ثم أجابهم، وقد نقل ابن حجر وغيره عن قتادة : أن فيه إظهار كرامة الله لنبيه كما أشرنا سابقاً أن الاستسقاء فيه إثبات المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء وللصالحين، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة، وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية، ومنابت الشجر، ويشير بيده)، فيقول الراوي: والله إنا لنرى السحاب يتفتق ويتقطع وينفلق، فطلعت الشمس وخرجنا نمشي في الشمس.

وبعضهم يقول: تحولت حول المدينة، وأصبحت المدينة كأن عليها التاج أي: كان السحاب محيطاً حول المدينة، وعلى سماء المدينة ما في سحاب ولا مطر، فسبحان الله، ولا إله إلا الله يفعل ما يريد.

وهنا جواز الدعاء بإمساكها، وهنا ينبه بعض العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أمسكها عنا ولكن طلب رفع الضرر، وأنه قد اشتد أمر نزولها علينا فتضررنا، فحولها إلى ما لا ضرر فيه، فإنها إذا نزلت على الآكام، -وهي المرتفعات- وعلى الجبال، وعلى بطون الوديان جرت الوديان، وسقت الأرض، وشربت الدواب، فكان في وجودها وجريانها في مجراها خير كثير، بخلاف ما إذا أمطرت على البيوت فإنها قد تهدمها، فلم يسأل صلى الله عليه وسلم ربه أن يمسكها؛ لئلا يقع في طلب الإرسال أولاً، ثم طلب الإمساك، وإنما طلب رفع ضررها بأن تتحول إلى الأماكن التي لا يحدث منها فيها ضرر.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الصلاة - باب صلاة الاستسقاء [1] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net