إسلام ويب

حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة يوم الجمعة، وجعل ذلك من علامة فقه الخطيب، وكان يخطب صلى الله عليه وسلم بسورة (ق)، لكونها مناسبة للموعظة. وقد حث الشرع المصلين على الإنصات للخطبة حتى يتحقق الغرض المقصود بها من الاتعاظ والاعتبار.

أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) رواه مسلم ].

الجمعة -كما نعلم- من شعائر الإسلام، وهي فرض عين، لا كما يظن بعض الناس أنها سنة مؤكدة، وهي فريضة اليوم وليست نيابة عن الظهر، والعناية بيوم الجمعة شديدة، وهي عيد من أعياد المسلمين يعود عليهم كل أسبوع، وفيه لهم خيرٌ كثير، وقد جاء في كتاب الله من العناية بالجمعة وأدائها قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9-10].

وعاتب الله أقواماً خرجوا وانفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب يوم الجمعة، وجاءت فيها آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم)، وجاء أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه)، وذلك أن في يوم الجمعة اجتماع المسلمين من أهل القرية أو المدينة، وفيها يتعرف أهل البلد بعضهم على بعض، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهو اجتماع إجباري ومؤاخاة إلزامية.

ثم مع ذلك تلقى المواعظ من على المنبر في هذه الشعيرة العظيمة، وبهذا يتميز الإسلام عن غيره، فمن خصائص الإسلام باب الإعلام، وهو إعلام إلزامي فرض في كل يوم جمعة، يعلم الخطيب الحاضرين المصلين بما يراه من باب التوجيه والنصح والإرشاد، ويعالج ما عساه أن يكون طارئاً موجوداً بين الناس.

وهنا يسوق المؤلف رحمه الله تعالى من مباحث يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مقارناً بين الصلاة والخطبة : (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) ، والمئنة: العقل والحلم، من التأني، وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم في المقارنة بين الصلاة والخطبة أنه لا ينبغي تطويل الخطبة على وقت الصلاة، وينبغي إطالة القراءة؛ لأن فيها فرصة إسماع المجتمعين آيات من كتاب الله، وفيه كل خير، وأما قصر الخطبة فإنه علامة على بلاغة الخطيب وعلى قدرته على التحكم في الكلام؛ لأنه كما قيل: خير الكلام ما قل ودل.

وقد جاء عن الصديق رضي الله عنه أنه سمع شخصاً يخطب وأطال فقال: يا هذا لا تكثر فينسي آخر الكلام أوله، فإذا بدأت في موضوع ثم أطلت وتتبع المستمع معك ما تورد عليه، فإنه بإطالة الخطبة يحتفظ بآخر الكلام ويكون قد نسي أوله.

وحقيقة الأمر في الخطبة أنها تشتمل على الموعظة وعلى آية من كتاب الله وعلى الشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه، فإذا ألم بالموضوع، وجمع أطرافه في كلمات موجزة فقد أجاد، وقد قالوا: مقياس بلاغة الخطبة مطلقاً، أي: سواء أكانت في الجمعة أم في غيرها، أنه إذا ما خرج مستمع وسأله من لم يستمع فقال: فيمَ كانت الخطبة فإنه يستطيع أن يوجزها في جمل، فإذا كانت الخطبة في إصلاح ذات البين، وذكر الخطيب الأحاديث في ذلك، وحث على السعي في ذلك، وبين أجر الساعين فيه، فهذا موضوع متكامل أمكن للسامع استيعابه.

أما إذا أخذ الخطيب موضوعاً، وانتقل منه إلى موضوع آخر، ولم يستوف الموضوع الأول، ثم انتقل من الثاني إلى الثالث، وهكذا يتنقل بين عدة مواضيع، وهو لم يستوف موضوعاً بعينه، فيكون قد شتت على السامع ذهنه في عدة مواضيع، ولم يعطه موضوعاً متكاملاً، فلو أنه قسم تلك المواضيع على خطب متعددة، ودار حول الموضوع في أسبابه ونتائجه وعلاجه خرج المستمع بنتيجة مستوفاة، والذي يستطيع أن يفعل ذلك من كان قادراً على التحكم في الكلام، حيث يجمل ذلك كله ويوجزه ويعطيه للمستمع.

أما إذا لم يكن مستطيعاً ولا قادراً على البيان فإنه يحاول كالذي يحاول صعود جبل وينزل، ويصعد عدة مرات من أجل أن يصل، وهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم في عمل ما يشبه المقارنة، فأي الأمرين يكون أطول من الآخر الخطبة أم الصلاة؟

ولكننا في هذه الآونة نجد المتفشي خلاف ذلك، وكثيراً ما نجد أن زمن الخطبة أطول من زمن الصلاة، وكأن الخطيب يراعي ما تعوده السامعون من إطالة الخطبة وكثرة الكلام، ولو اختصر ربما اتهموه بالعيِّ واتهموه بالعجز وعدم استطاعة الخطبة، ومن أجل هذا ربما يراعي مشاعر أو اعتقادات الحاضرين، وهذا أعتقد أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يكون حسب السنة، وهو أن تكون الخطبة موجزة ليستوعبها الناس، ويعمد إلى موضوع معين من أبرز ما يكون من قضايا المجتمع، سواءٌ من مواضيع الأسرة أم كان غير ذلك، فيعالجه بعبارات موجزة، ولا مانع أن يقسم علاج الموضوع إلى عدة مراحل في عدة خطب في عدة أيام من أيام الجمعة.

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة

[ وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس)، رواه مسلم . ]

بعد أن ذكر المؤلف قصر الخطبة وطول الصلاة، ذكر عن أم هشام أنها تقول: (ما أخذت سورة ق إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يخطب من على أعواد المنبر)، والكلام على هذا الحديث من جهتين:

لا معارضة بين حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته سورة (ق)

الجهة الأولى: المقارنة بينه وبين حديث بلال المتقدم في قصر الخطبة، فهل تكون الخطبة قصيرة وقد قرأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (ق)؟

الجهة الثانية: هل سورة (ق) لها مناسبة مع يوم الجمعة؟

فهاتان الجهتان هما موضوع الحديث أو الكلام عن هذا الحديث النبوي الشريف.

أما قراءة السورة الكريمة مع الحث على قصر الخطبة فلا تعارض بينهما؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان يُؤذن لصلاة الظهر، ثم تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع ويتوضأ ويأتي ويدرك الركعة الأولى، فإذا كان على هذا الحد وصلاة الظهر أربع ركعات، فمعناه أنها بالنسبة إلى سورة (ق) تكون أطول، فهما ركعتان على هذه الحالة.

ثم هل كان صلى الله عليه وسلم يضيف مع سورة (ق) موعظة أخرى أو يكتفي بهذه السورة؟

فبعضهم يقول: كان يكتفي بها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله والشهادتين، فيكتفي بسورة (ق) وهي كافية للموعظة.

وهنا يقال: إن الأساس في خطبة الجمعة والموعظة إحياء القلوب وجلاءها من صدئها، وجلاءها عن عماها، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، والموعظة بما يجعلهم يتابعون العمل، وكلما طال الزمن يأتي يوم الجمعة فيذكرهم، كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16]، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]، فترك الموعظة يترك القلوب تكسل عن العمل فتقسو، ولكن مع تكرار الموعظة كل أسبوع، في كل جمعة، تصير القلوب رطبة بذكر الله، ولذا جاء بعد هذا السياق قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17]، فكذلك يحيي القلوب التي ماتت بالموعظة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون مع الموعظة التوجيه والإرشاد.

وقد كانت الخطبة تستعمل لغير الجمعة أيضاً، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ أمراً أو استجد أمر يقول: (احضروا المنبر)، فيحضرون ويجتمعون فيخطب، فيقول: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا)، ويبين صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يبينه، ولم تكن الخطبة على المنبر خاصة بالجمعة، بل بكل إعلام، وبكل توجيه وإرشاد، وما كانت معالجة القضايا خاصة بخطبة الجمعة، بل تعالج في أي وقت، ولكن الناس الآن لم يألفوا ذلك، وأصبحت معالجتها في النوادي والمؤتمرات وغيرها، فقراءة سورة (ق) من حيث إطالة الصلاة وقصر الخطبة لا تعارض بينهما.

وفي قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله..) نفهم منه أن أخذ القرآن كله كان عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، وأخذه جبريل عن رب العزة سبحانه، فسند القرآن الكريم سمعه أصحاب رسول الله من رسول الله بدون واسطة، وسمعه رسول الله من جبريل بدون واسطة، وسمعه جبريل من رب العزة بدون واسطة.

وعلى هذا يكون سند القرآن بهذه المثابة من الوضوح والجلاء والقوة لا يتطرق إليه شك، ونعلم أيضاً أن أخذ القرآن لا يكون وجادة أبداً، أي: لا يكون أخذه من المصحف قراءة، بل لا بد من تلقيه سماعاً بسند متصل من قارئ عالمٍ بأحكام القراءة، لأن هناك ما يسمى بالرسم العثماني في المصحف الشريف، والرسم العثماني يختلف عن رسم الإملاء الموجود عند الناس اليوم، والقرآن تلاوة وسماع.

وقد كتبوا الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان ليقرأ من المصحف فقد يقرأ بعض الكلمات على غير ما أنزلت، وعلى غير ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما وقع الخلاف في القراءات وجاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنه قال: أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله كما اختلفت اليهود والنصارى، قال: وما ذاك؟ قال: كنت بأذربيجان واجتمع الجند من الشام ومن العراق، فأخذ بعضهم يعترض على قراءة بعض. فعمد عثمان رضي الله عنه وأخذ الصحف من عند حفصة رضي الله عنها التي كان كتبها أبو بكر رضي الله عنه، وكانت عنده في خلافته، ثم انتقلت إلى حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل عثمان تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد، وكتب منها خمس نسخ أو ست نسخ، وأرسل بكل نسخة إلى مصر من الأمصار، ومع كل مصحف قارئ يقرئ الناس ليأخذوا القرآن سماعاً وتلقياً.

وهكذا تخبر الصحابية الجليلة: أنها ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرؤها كلها في الجمعة على أعواد المنبر، والمنبر إنما صنع في السنة الثامنة من الهجرة، أي في أواخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا الجانب في أخذ الصحابية الجليلة رضي الله عنها لهذه السورة الكريمة، وعلاقة قراءة سورة (ق) مع الحديث المتقدم.

حكم قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة وعلاقتها بيوم الجمعة

وبقي حكم قراءة هذه السورة في الخطبة، وعلاقة هذه السورة بيوم الجمعة.

أما حكمها فيتفق الجميع على أنه ليس بواجب، وأنه من شاء قرأها ومن شاء قرأ غيرها.

أما علاقتها فتقدم لنا في القراءة في فجر يوم الجمعة أنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ - أي: أحياناً - سورة السجدة وسورة (هل أتى على الإنسان)، وقالوا في ذلك: إن يوم الجمعة هو يوم أبينا آدم، وهو أول وجود الخليقة؛ لأن آدم عليه السلام إنما خلق يوم الجمعة، وأسكن الجنة يوم الجمعة، وسجد الملائكة له يوم الجمعة، وهبط إلى الأرض، وتيب عليه يوم الجمعة.

فقالوا: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الإثنين للنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه ولد، وفيه أنزل عليه، وفيه دخل المدينة، وفيه توفي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن سورة السجدة و(هل أتى على الإنسان) فيهما قصة خلق الإنسان، وفيهما ذكر المعاد والجزاء، فيذكر الإنسان بمبدئه ومعاده ليعمل لذلك اليوم، فكذلك سورة (ق)، في علاقتها بيوم الجمعة، وعلاقتها بيوم البعث، وقد ذكر فيها أكثر علامات أو دلائل البعث على المنكرين.

سورة (ق) وما فيها من فوائد وعبر

وانظر إلى مستهل السورة حيث يقول تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، والحروف المقطعة كـ(ق) و(ص) و(ن) و(طه) و(يس) و(ألم) سواءٌ كانت حرفاً واحداً أم حرفين أم ثلاثة أم أكثر من ذلك، يعجز إنسان أن يقول فيها قولاً قاطعاً؛ لأنها من أسرار ومعجزات الكتاب الكريم، وغاية ما قال العلماء إنها حروف مقطعة بمثابة التحدي الرمزي، فلما تحدى الله العرب بقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34]، وعجزوا عن المماثلة بسورة منه أخبرهم تعالى: أن هذا الذي عجزتم عنه ليس بغريب ولا بعيد عنكم، إنما ألف من لغتكم العربية قرآناً عربياً مبيناً، ومجموع حروفه من تلك الحروف التي تتكلمون بها، وتنظمون بها أشعاركم وخطبكم، فهو من (ق) و(ص) و(ن) و(ألم) و(ألر) و(كهعيص)، فكيف تعجزون عن هذه المادة الأساسية التي منها نظم؟

وقالوا: هذا بمثابة من يأتي إلى أمة بجهاز ويقول: هذا جهاز يحفظ الكلام، فيقول إنسان: ما الذي فيه؟ وهل يمكن أن نعمل مثله،؟ فقيل له: اعمل مثله فعجز، فقيل له: لماذا تعجز فهذا الجهاز عبارة عن أسلاك، وقوى مغناطيسية وشمعات، ثم أتي بالمواد الأساسية لجهاز مثله، وقيل له: اصنع جهازاً مثله، فإذا به ينظر ويعجز أن يصنع مثله مع وجود المادة الأساسية بين يديه.

وقد استدل العلماء على ذلك الاستنباط بأن سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة غالباً ما يأتي ذكر القرآن بعدها كقوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، وقوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]، وقوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2] أي: القرآن، وقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، وقوله تعالى: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه:1-2]، فقالوا: يعقب تلك الحروف المقطعة الحديث عن القرآن، فكأنه يقول في مثل قوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ [يس:1-2]: إن القرآن جمع من هذه الحرف. والله أعلم بالحقيقة.

وفي قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] يقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن مع أن منكري البعث ينكرون القرآن، فكيف يقسم لهم بما ينكرونه؟ والجواب: أن ذلك من باب أن إنكارهم واهٍ وملغى لا قيمة له؛ لأنه عن جهالة.

وقوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ [ق:2] يعني ما كذبوا بالقرآن، ولكن هذا إضراب بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق:2]، فعجبوا أن الوحي يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف:31-32]، فالله يخبرهم أن الأكل والشرب الذي نهايته إلى فناء قد قسمه بينهم، ورحمة ربك أعظم من ذلك فلن يتركها لاختيارهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32] لا والله، فنحن قسمنا بينهم ما هو أدنى من ذلك مقداراً وهو المعيشة وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32].

قال تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:2-3]، فقالوا: عجيب أن ينذرنا بالبعث، ثم استنكروا فقالوا: ( أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد )، وقد أجاب الله تعالى عن استبعادهم بقوله: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4]؛ لأنهم يقولون: بعد أن نغيب ونضل في التراب ما الذي يجمعنا؟ ومن ذلك ما ذكره تعالى في آخر سورة يس وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، فقد جاء هذا الرجل بعظم بال قد رم من طول الزمن، ثم فتته بيديه، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذه العظام؟ في موقف المتحدي المستبعد إحياء العظام وهي رميم، وقال تعالى عنه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] فنسي وجوده، ونسي كيف وجد، وبكل هدوء يجيء الجواب: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، ثم ذكر الأدلة على قدرته على ذلك، ثم قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

وهنا يقول تعالى عنهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] فهم يستعبدون هذا؟ لأنهم صاروا تراباً، واختلط العظم بالتراب، وذهب اللحم والدم في حسبانهم فلم يبق شيء، قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4]، فعلم الله سبحانه بكل أجزاء الإنسان، وما تنتقصه الأرض من تلك الأجسام، وما يغيب فيها وما يضل في ثراها، فالله سبحانه لديه كتابٌ حفيظ بذلك كله.

فالله تعالى يقول: ( قد علمنا ) ولم يقل: (سنعلم)، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4].

قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] أي: مختلط عليهم.

ثم قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6] أي: ألا ينظرون إلى هذا الخلق العظيم، فهذه السماء بنيت وزينت وليس فيها من شقوق ولا فروج، فهذا الخلق متى رفع بغير عمدٍ ترونه؟ ومن الذي خلقه ورفعه،؟ قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].

قال تعالى: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ [ق:7]، وهذه الجبال من نصبها؟ ومن جمع حجارتها؟

قال تعالى: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:7] صنف بهيج متغاير، فالتربة واحدة والماء واحد ولكن النبات مختلف تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:8].

قال تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:9-10] فأنبت بهذا الماء جنات وحب الحصيد ونخلاً وزيتوناً ورماناً، فالتربة واحدة والماء واحد، فمن الذي غاير بين هذه النباتات في أشكالها وفي ثمارها وفي طعومها وفي أوضاعها؟

قال تعالى: رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] أي: كما أحيينا البلدة الميتتة بالماء، كذلك خروجكم، فأقام الأدلة على البعث.

وأدلة البعث في القرآن أربعة، وهنا جاء أكثرها وهي ثلاثة:

فمن أدلة البعث خلق السماوات والأرض، قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].

ومن أدلة البعث خلق الإنسان، قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].

ومن أدلة البعث إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس:33]، والآية الأخرى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [فصلت:39].

وهنا أيضاً قال تعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ [ق:10] إلى قوله تعالى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] واسم الإشارة (ذلك) راجع إلى المصدر الموجود في (أحيا) أي: أحيينا به بلدة ميتة، ومثل ذلك الإحياء للبلدة للميتة يكون إحياؤهم.

وبقي من أدلة البعث: إحياء الموتى بالفعل، وقد جاء ذلك في قتيل بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، والألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، وطلب إبراهيم: رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260] فهي عملية مشاهدة في طيور متعددة.

والعزير وحماره وطعامه الذي لم يتسنه كذلك، وحوت موسى عليه السلام، الذي كان قد طبخ ليتغدى به، فإذا به عند الماء يأخذ طريقاً في البحر سرباً.

في مقدمة هذه السورة الكريمة إقامة الأدلة على البعث من ثلاثة أوجه، وهي من مجموع أربعة أوجه في كتاب الله، فمن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق).

ثم تأخذ السورة بعد ذلك في بيان ذلك اليوم، وفي جزاء المحسنين، إلى آخر ما في السورة الكريمة.

وهل كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها دائماً؟ قال بعض العلماء: في غالب أحواله، ولم يكن ذلك بصفة دائمة، وكما قدمنا فإنه لا يتعين على كل خطيب أن يقرأ بها، فإن قرأ بها فلا مانع، وإن قرأ ببعضٍ منها فلا مانع، وإن قرأ غيرها فلا مانع، وبالله تعالى التوفيق.

ما يجب على المستمعين حال الخطبة

[ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً ].

بعدما فرغ المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإمام والخطيب فيما يتعلق بموضوع الخطبة والمقارنة بينها وبين الصلاة، وما يتخيره الخطيب من المواضيع من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بما يتعلق بالمستمعين، ويذكر لنا ابن عباس رضي الله عنهما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق من يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، والتقييد بيوم الجمعة ربما يخرج غير الخطبة في يوم الجمعة كالاستسقاء وكالعيدين، وكالخطب العادية التي هي لأمور اجتماعية. وبعض العلماء يرى أن كلمة (يوم الجمعة) جاءت لقضية عينٍ، وليس لها مفهوم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب)، معناه: أن الكلام قبل بدء الإمام بالخطبة ليس ممنوعاً؛ لأن بعض الناس يقول: إذا صعد الإمام المنبر امتنع الكلام، ومعلوم أنه حينما يصعد لا يبدأ بالخطبة، وإنما يسلم على الحاضرين، ثم يقوم المؤذن فيؤذن بين يدي الخطيب، ثم يشرع الخطيب بعد ذلك في خطبته، فبعض الناس كان يقول: يمنع الكلام حينما يصعد الإمام المنبر، كما قالوا: إن مجيء الإمام يمنع الصلاة، وصعوده المنبر يمنع الكلام، والمعنى: أن مجيئه يمنع الصلاة، كما في الحديث: (إذا أتى يوم الجمعة فليصل ما تيسر له، فإذا صعد الإمام المنبر فلينصت)، فبعضهم يقول: مجيء الإمام يمنع الصلاة، وكان الإمام في المسجد النبوي يخرج من باب ما بينه وبين المنبر إلا خطوات، فمعناه أنه لم يعد هناك وقت لمن يريد أن ينشئ صلاةً من جديد؛ لأنه سيتعارض في صلاته مع بدء الإمام في الخطبة، فإذا كان الأمر كذلك فنعم، فمجيء الإمام يمنع الصلاة أي النافلة.

ومن هنا قال العلماء: على إمام الجمعة وخطيبها إن كان بيته ملاصقاً للمسجد -كما يوجد في بعض المساجد- أن لا يخرج إلى المسجد ولا إلى المصلين إلا بعد أن يؤذن على السطح أو على المنارة الأذان الأول، فيخرج لوقته من أجل أن يصعد إلى المنبر، وإذا كان بعيداً وأراد أن يبادر فإنه يجلس في مكان قريبٍ من المنبر، حتى إذا قام من مكانه عرف المؤذن مكانه وجاء إلى المنبر.

وهنا نص الحديث: (والإمام يخطب)، فقبل الخطبة لا مانع، ويقول صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (من تكلم والإمام يخطب)، وهذا عام، ويستثنى من ذلك من تكلم مع الخطيب، فإذا تكلم المتكلم مع الخطيب فليس داخلاً في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويقوم الرجل ويسأل ويجيبه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قالوا: لأن الحث على الإصغاء من أجل أن لا يفوت المتكلم شيء من الخطبة، وهذا إنصات إجباري، وإلا فتلغى جمعته؛ لأنه لو تكلم كل إنسان بكلمة لحصل اللغط، ولما سمعوا الخطبة، ولما كان للخطبة كبير فائدة، فألزم الجميع بالإصغاء، وكلٌ يسكت نفسه، حتى إنك لا تقول لصاحبك: أنصت، فما يجوز لك هذا، فأنصت أنت عن قولك لصحابك أنصت، فلو أن إنساناً قال للثاني: أنصت أنصت. لقال غيره: أنصت، ويلزم من هذا التسلسل إلى النهاية، فكلٌ شخص عليه أن يسكت نفسه، فإذا ما أنصت الجميع أمكن للخطيب أن يوصل صوته إلى أكثر عدد، وأمكن للجميع أن يستفيدوا من صوته.

أما إذا كان المتحدث مع الإمام فالإمام سيوقف الخطبة، ويتكلم مع من كلمه، فلا يفوته ولا غيره شيء من كلام الخطيب؛ لأنه سيوقف الخطبة حتى يجيبه على سؤاله أو كلامه، ثم يستأنف خطبته.

ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي جاء ودخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا، وشكا له تقطع السبل وجفاف الأراضي ونحو ذلك، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة واستسقى وسقوا، ثم جاء بعد ذلك وقال: ادع الله أن يرفعها عنا. فدعا الله وسأله، وقد كانوا لم يروا الشمس أسبوعاً، فانقشع السحاب وخرجوا يمشون في الشمس.

وهكذا يأتي الرجل والرسول يخطب فيقول: يا محمد! علمني الإسلام، فيترك الخطبة، وينزل إلى الرجل ويعلمه، ثم يصعد المنبر ويكمل خطبته.

فالكلام مع الخطيب ليس فيه شيء، وكذلك كلام الخطيب مع الحاضرين، فحينما دخل رجل وجعل يتخطى الرقاب، ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة وقال: (اجلس فقد آنيت وآذيت).

وآخر جاء وجلس، فترك الخطبة وسأله: (أصليت ركعتين -أي: التحية-؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما وتجوز فيهما) .

إذاً: فكلام الإمام مع المصلي أو أحد المصلين مع الإمام خارجٌ عن هذا النهي؛ لأنه لا يفوت مصلحة، بل يأتي بمصلحة جديدة.

وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بما شبه به القرآن الكريم علماء بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فحملوها بالقوة، ولكن لم يحملوها بالفعل، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والأسفار: جمع سفر، وهي الكتب، كما أن الحمار يثقل ظهره ثقل الكتب، ولم يستفد منها بشيء، وكما قيل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظماوالماء فوق ظهورها محمول

فالإبل تحمل الماء فوق ظهرها وهي في الصحراء، وتموت من العطش لأن صاحبها ما أعطاها الماء، فالماء على ظهرها ما نفعها، فكذلك علماء بني إسرائيل لما حملوا التوراة ولم يعملوا بها كانت عليهم كمثل الأسفار على ظهر الحمار، وهو أشبه ما يكون من ضرب المثل بالبلادة، فيثقل ظهره بحمله، ولا يستفيد منه شيئاً.

فكذلك الإنسان حمل أمانة المجيء إلى الجمعة وفضلها كما في الحديث: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما)، ومع أنه يحمل هذا العبء وهذه الأمانة ولم ينتفع بها؛ لأنه يتكلم مع صاحبه والإمام يخطب، فبين يديه علم وهو إنما جاء لخيرٍ، فلم يستفد منه، وهذا التشبيه -كما قال أحمد - مثل السوء.

فقد وقع الخلاف في الرجل يهب الهبة ثم يعود فيها، فتناظر أحمد مع الشافعي ، فـالشافعي قال: ليس في ذلك شيء، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه)، فإن الكلب لا تكليف عليه، فلا حرمة في ذلك.

فقال أحمد : ولكن ليس لنا مثل السوء، فالرسول ضرب مثلاً بالكلب؟ لأنه مثل سوء وتشبيه سيئ، فهل ترضى لنفسك أن تكون كالكلب؟ فاحتج أحمد على الشافعي بهذا.

وكذلك هذا المثال فيه بيان لتقبيح الفعل ونهي عنه.

ثم جاء في تتمة هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت).

فالذي يتكلم كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: اسكت، مرتكب لمنكر، فقوله: اسكت نهي عن منكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القمة من العبادات؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات، ولكن في هذا الوقت صار إنكاره منكراً؛ لأنه تلغى في حقه الجمعة، ويكلف بإعادة صلاة الظهر، فتلغى الجمعة وينوب عنها الظهر، أو تلغى كونها جمعة بما فيها من أجر كما في الحديث: (والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما)، ويبقى إجزاء الفرض وهو حكم الظهر، فيكون كأنه صلى الظهر في يوم السبت أو الخميس، أما فضيلة الجمعة فلا يحصل عليها.

وبعضهم يقول: لا جمعة له ولا صلاة له، وعليه أن يأتي ببديل عنها وهو صلاة الظهر.

والموضع موضع خلاف طويل، ولكن يهمنا مجمل هذا الموضوع.

ثم للعلماء مبحث آخر، وهو إذا كان الإنسان في مؤخرة المسجد فلا يسمع الخطيب ولا يدري ماذا يقول، وكذلك إذا وجد المكبر وتعطل الجهاز فلم يسمع المصلي من الخطيب، أيجوز له أن يتكلم؟

بعضهم يقول: له ذلك إذا كان بتلاوة القرآن، وإذا كان بالتسبيح، وإذا كان بالاستغفار، لأنه ذكر، وقد قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] .

والآخرون يقولون: ليس له ذلك؛ لأن البعيدين إذا اشتغلوا بالتلاوة أو بالذكر ربما ارتفعت أصواتهم فيحصل اللغط على الذي يسمعون.

والصحيح أنه لا يجوز أن يقرأ أو يذكر الله، وأن عليه أن ينصت، وله أجر المستمع في الخطبة إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [4] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net