إسلام ويب

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب، وجعل هذا الأمر تحت مشيئة الإنسان؛ لئلا يحرج أمته، أما صلاة ركعتي الفجر فكان صلى الله عليه وسلم يحرص على أدائهما في الحضر والسفر، ويحض على أدائهما مبيناً أنهما خير من الدنيا وما فيها، والأصل في هاتين الصلاتين التخفيف إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

استحباب صلاة ركعتين قبل المغرب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب.. صلوا قبل المغرب.. صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة) رواه البخاري ].

هذا الحديث يتعلق بصلاة قبل المغرب، وتقدم في حديث ابن عمر وأم حبيبة ركعتين بعد المغرب، وأم حبيبة أطلقت في الحديث، وابن عمر قيد الصلاة في البيت، ولكن الجديد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب) هل المراد: قبل وجوب المغرب أم قبل صلاة الفريضة؟

قبل صلاة الفريضة؛ لأن قبل وجوبه عند الغروب الصلاة فيه ممنوعة، إذاً المعنى: صلوا قبل أن تصلوا المغرب، ثم كررها صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال: (لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة أي: أن يداوموا عليها.

بعض العلماء يرى أن هذه الصلاة مطلوبة من جانبين: الأول: قوله: (قبل المغرب) معناه: بعد الأذان، أي: أن الإقامة لم تأتِ فهي ما بين الأذان والإقامة.

الجانب الثاني: قوله صلى الله عله وسلم: (بين كل أذانين صلاة).

وهذا الحديث ينطبق على الصلوات الخمس؛ لأن سنة المغرب القبلية تصلى بين الأذان والإقامة، وعلى هذا كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يصلون قبل المغرب. وبعض الفقهاء يفصلون فيقولون: ما دامت المسألة: (لمن شاء) فهذا يرجع فيه إلى طبيعة الناس في صلاتهم، فعند المالكية لا صلاة قبل المغرب؛ لأن وقت المغرب عندهم ضيق، وهو كذلك عند الجمهور فالمغرب وقته واحد؛ لأن جبريل عليه السلام لما نزل يصلي بالرسول صلى الله عليه وسلم نزل في اليوم الأول فصلى الصلوات الخمس على أول وقتها: الصبح عندما طلع الفجر، والظهر حين زالت، والعصر إذا كان الظل قدر مثله، والمغرب إذا غربت، والعشاء إذا غاب الشفق، ومن الغد جاء فأخر الصبح إلى قرب طلوع الشمس، وأخر الظهر إلى آخر وقتها، وأخر العصر إلى اصفرار الشمس، والمغرب صلاها في وقتها الذي صلاها فيه بالأمس، ولم يغاير في وقتها، والعشاء أخرها إلى ثلث الليل، فإذاً: كل فريضة من الصلوات الخمس لها وقت واسع ما عدا المغرب، فالصلوات الأربع لها أول وآخر، ولكن المغرب صلاها في اليومين المتتاليين في وقت واحد، وجاء هذا عنه صلى الله عليه وسلم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما وقت الصلاة يا رسول الله؟ قال: أقم معنا إلى الغد) فأقام اليوم، في هذا اليوم صلى النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات في أول وقتها، ومن الغد صلاها كلها في آخر وقتها إلا المغرب صلاها في نفس الوقت الذي صلاها بالأمس، ثم قال: (أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: الوقت ما بين هذين) يقول المالكية: إذاً: المغرب لها وقت واحد، وعندهم يخرج وقت الفريضة بما يساوي الوضوء وركعتين مباشرة وصلاة المغرب ثم ينتهي الوقت، فيقولون: إذا كان الإنسان يصلي لنفسه أو الإمام بجماعته والكل حضور في المسجد، فأذن للمغرب أقام الصلاة فريضة حالاً، ولا صلاة قبلها، وإذا كان الإمام يتأخر، أو جئت إلى المسجد بعد الأذان ولم يأت الإمام، وتعلم أنه سيتأخر قدر ركعتين فصل الركعتين. وعلى هذا فالصلاة قبل المغرب جائزة عند الجمهور ما لم يكن فيها تأخير لصلاة المغرب عن أول وقتها.

وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا أتوا المسجد لصلاة المغرب وقد أذن ابتدروا السواري يصلون النافلة، حتى لو دخل إنسان لظن أن الصلاة قد انتهت -يعني: صلاة الفريضة- لكثرة ما يرى من صلاة الناس، كأنهم يصلون السنة بعدها.

وعلى هذا يأتي التخيير، والربط بالمشيئة في هذه النافلة بالذات لظروف وقت المغرب: (صلوا المغرب) كررها ثلاثاً ثم قال في الثالثة: (لمن شاء).

قال رحمه الله: [وفي رواية لـابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين)].

يريد أن يثبت المؤلف رحمه الله أن هذه الصلاة قبل المغرب ثبتت بالسنة القولية، وبالسنة الفعلية منه صلى الله عليه وسلم، إذاً: ينبغي للأئمة ألا يضيقوا على الناس، وأن يكون الإمام حاضراً في المسجد، وإذا تأخر يأتي بسرعة، ليس هناك تأخير للفريضة، فصلاة ركعتين فيها فرصة لمن كان متأخراً لأن يحضر، وفيها إحياء للسنة النبوية بالصلاة قبلها، أما إذا جاء متأخراً فلا ينبغي له أن يقدم السنة على الفريضة، بل يبدأ بالفريضة حالاً.

قال رحمه الله: [ولـمسلم عن ابن عباس قال: (كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا)].

أي: لم يكن يأمرنا ولم ينهنا بعد غروب الشمس وبعد الأذان للمغرب، ما دام أنها لمن شاء لا يأمر أحداً ولا ينهى أحداً، وإلى هنا تكون السنة تقريرية وفعلية وقولية، والسلف منهم من يفعل، ومنهم من يترك.

تنبيه: جاء في الشرح لهذا الكتاب المبارك أن مجموع النوافل التي ثبتت عشرون ركعة، ولنأخذها بالجملة: ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعد الظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل المغرب لمن شاء، إذاً: مجموع النوافل تطوعاً مع الصلوات الخمس عشرون ركعة.

ويضيف المؤلف من باب الطرفة العلمية أن ابن القيم قال: مجموع الصلوات في اليوم والليلة فريضة مع نافلة سبع وثلاثون ركعة، ويضاف إليها ثلاث ركعات الوتر، فيكون المجموع أربعين ركعة، ولكن أحب التنبيه على أن الصحيح أن مجموع النافلة مع الفريضة خمسون ركعة؛ لأن المؤلف اعتبر الوتر ثلاث ركعات فقط، ولكن جاء في حديث: (أوتروا بثلاث..بخمس.. بسبع.. بتسع.. بإحدى عشرة ركعة) وجاء في حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث عشرة ركعة)، فسبع وثلاثون ركعة بالإضافة إلى ثلاث عشرة ركعة وتراً تصبح خمسين ركعة، أقول ذلك لأن بعض العلماء يقول: فرضت الصلاة في أول الأمر خمسون صلاة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين المولى وبين موسى عليه السلام في التخفيف حتى خففت إلى خمس، وقيل: هي في العدد خمس، وفي الأجر خمسون، فقال بعض العلماء: لو جمعنا مجموع النافلة مع الفريضة لبلغت الخمسين، إذاً: فرضت الخمسون، وبقيت ليس على سبيل الفرض، الفرض سبعة عشر والباقي تطوعاً، لماذا ؟ زيادة فضل من الله على العبد، لأنه أعطاه ثمن بيت في الجنة، أعطاه: (رحم الله من صلى كذا..)، أعطاه: (خير من الدنيا وما فيها)، وهذه كلها ذكرت مع النافلة، والله تعالى أعلم.

مشروعية التخفيف في سنة الفجر

قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب؟!)] متفق عليه.

لم يأخذ من رواتب النافلة حيزاً في البحث عند الفقهاء، ولا نصوصاً عند العلماء؛ كركعتي الفجر والوتر، أما ركعتا الفجر فتقدم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها : (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أشد تحرياً لصلاة كركعتي الفجر )، وتقدم أيضاً: (صلوا ركعتي الفجر ولو طاردتكم الخيل) فهذه نصوص في التأكيد عليها , وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حافظ عليها في الحضر والسفر، وتقدم في قصة بلال أنه قال له: (اكلأ لنا الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فارتحلوا عن ذلك الوادي، فأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً بأن يؤذن للصلاة، فأذن ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقام وصلى الفريضة، وكذلك جاء في الحديث: (من فاتته ركعتا الفجر حتى صلى الصبح فليركعهما بعد طلوع الشمس)، وكذلك جاء إقراره صلى الله عليه وسلم لمن صلاهما بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الفجر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما انصرف من صلاة الصبح وجد رجلاً يصلي، فأخذ بيده وقال: (آلصبح أربعاً؟ فقال: يا رسول الله! هذه ركعتا الفجر فاتتني فأنا أصليهما، فقال: إذاً: لا بأس) وهكذا ما يتعلق بالفرائض.

ثم جاءت الكيفية وما يتبعها، فنجد هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما، وتبين من هذه الصورة قولها: (حتى إني لأقول: أقرأ بأم الكتاب؟) أي: هل قرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟! ومن المعلوم أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولكنها رضي الله تعالى عنها تبين لنا إلى أي مدى كان هذا التخفيف، وسيأتي النص بأنه كان يقرأ بـ(قل يأيها الكافرون) و(قل هو الله أحد) يعني: ليس مجرد الفاتحة فقط بل ومعها سورة أخرى، ولكن لو تأملنا موقع ركعتي الفجر هاتين مع صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل -وهما من آخر ما يصلي، كان يقوم الليل إلى أن يوتر قبل الفجر ثم يؤذن ثم يصلي الركعتين- لوجدنا النسبة بينهما بعيدة جداً، ولهذا عندما نقارن بين صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وما وصفته به أم المؤمنين بنفسها تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن)، وفي الحديث أنه(كان يقرأ الفاتحة ثم يقرأ البقرة، والنساء وآل عمران، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك)، وذكرت الركعة كلها في أركانها نحواً من ذلك، فكم تستغرق الركعتان من قيام الليل؟ فإذا جئنا إلى ركعتي الفجر بـ( قل يأيها الكافرون ) و( قل هو الله أحد) وجدناها إلى جانب صلاة الليل كالصفر على الشمال، شيء بسيط جداً.

إذاً: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يخفف) ليس معنى ذلك التخفيف الذي يخرج الصلاة عن قواعدها أو يخل بصحة الصلاة، ولكنه تخفيف في القراءة مع الطمأنينة في الصلاة بأكملها، لكن بالنسبة إلى صلاته صلى الله عليه وسلم ليلاً تكون خفيفة جداً، بدليل أنه يجتزئ بهاتين الخفيفتين عن هذه النافلة التي شدد فيها، وهذا له نظير: في منصرفه صلى الله عليه وسلم من عرفات نزل ليريق الماء، فصب عليه أسامة الوضوء، فقال: (توضأ ولم يسبغ الوضوء)، هذا الحديث كثر فيه كلام الفقهاء منهم من يقول: إنه غسل يديه واستنجى فقط، والآخر يقول: إنه غسل مرة مرة واحدة، ولكن نحن نعلم بأن إسباغ الوضوء واجب فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار)، وإسباغ الوضوء ينقسم إلى قسمين: قسم يترك خللاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب) لما رأى في أعقابهم لمعاً -أي: بياضاً لم يصبه الماء - فكان هذا نقصاً في الوضوء، ومن عدم إسباغ الوضوء أيضاً أن يتوضأ مرة مرة؛ لأن السنة جاءت بالوضوء ثلاث مرات، ونعلم بأنه لو توضأ مرة مرة فغسل كامل العضو المطلوب فإن هذا الوضوء تصح به الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاة بغيره)، يعني: بأقل منه، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (هذا وضوء من قبلنا) ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: (هذا وضوئي ووضوء أمتي)، فعرفنا أن أقل ما يجزئ غسلة، ووضوء الأمم قبلنا غسلتان، ووضوءنا الكامل ثلاث غسلات ما عدا المسح فإنه لا يكرر.

ويقول النووي: لو تكرر المسح لشابه الغسل، وأصبح الماء على الشعر كأنه غسل.

إذاً: قول الراوي: (لم يسبغ الوضوء)، مثل قول أم المؤمنين هنا: (حتى أقول: أقرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟)، والجواب عمن يقول: إن عدم إسباغ الوضوء ينصرف إلى الوضوء اللغوي، أن نقول: لا، لأن نص الحديث: (لم يسبغ) لا يقال في الوضوء اللغوي أسبغ أو لم يسبغ؛ لأن الذي يقال فيه: إسباغ هو الوضوء الذي تصح به الصلاة، فلما قال: (لم يسبغ الوضوء) فهمنا أن هذا الوضوء المذكور مما من شأنه أن يوصف بالإسباغ، وما لا يوصف بالإسباغ لا ينفى عنه، وهذه قاعدة -كما يقولون عند الأصوليين وعلماء المنطق- تسمى: (العدم والملكة)، أي: لا ينفى الشيء عما لا يتصف به. فإذا قلت: هذا العمود لا يسمع، ولا يبصر، كان هذا خطأ؛ لأنه ليس من شأنه أن يسمع أو يبصر حتى تقول: لا يسمع ولا يبصر، فكذلك غسل اليدين والاستنجاء، والوضوء اللغوي لا يقال: فيه إسباغ، فلا تحمل كلمة (وضوء) عليه، ولكن الذي يقال فيه إسباغ: هو الوضوء الذي تقع به الصلاة.

إذاً: هناك اقتصر واكتفى بالوضوء مرة مرة، وعندما جاء مزدلفة توضأ وأسبغ، إذاً: الوضوء الأول كان معتمداً أم لا؟ البعض قال: غير معتمد، ولكن الصحيح أنه معتمد وقالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحيانه، فلما أراق الماء وانتقض الوضوء , وهو سيذكر الله وخاصة في تلك اللحظات: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] أي: في طريق المشعر الحرام، فهي موضع لذكر الله، فكره أن يذكر الله على غير وضوء، ونظير ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بسباطة قوم -السباطة: هي موضع القمامة- فوقف يبول وهو قائم، فمر رجل عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، حتى إذا جاء إلى جانب جدار تيمم ثم رد السلام على الرجل وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) لكن هذه الطهارة ليست طهارة صلاة؛ لأنه في الحضر، وحكمه وجوب الوضوء بالماء، ولكن التيمم هنا للتخفيف.

ننتقل إلى حديث ركعتي الفجر، وقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (حتى أقول -في نفسي- أقرأ بأم الكتاب أم لا؟) ومعلوم أنه كان يقرأ، ولكن ليس بترسل ولا بتمهل، ولم يقرأ معها من طوال السور كما يقرأ في صلاة الليل.

ما يقرأ في ركعتي الفجر من السور

قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]) رواه مسلم ].

هذا من فقه المؤلف رحمه الله حيث أورد لنا قول عائشة الذي يمكن أن يشكك في عدم قراءة الفاتحة، فيأتينا بعده مباشرة بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ الفاتحة فقط، بل يقرأ الفاتحة ومعها تارة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وتارة: بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فإذا كان يقرأ بهاتين السورتين فهل يترك الفاتحة ويقرأ بهاتين السورتين أم قطعاً نقول: إنه يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يقرأ بهاتين السورتين؟

نقول: قطعاً أنه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وإحدى هاتين السورتين. إذاً: رداً لما عساه أن يقع في الذهن من قول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، نقول: نعم قد قرأ ولم يقتصر على الفاتحة فقط، بل قرأ معها بسورتين قصيرتين، في كل ركعة سورة، وهنا يرد السؤال: السنة أن تقرأ في كل يوم في ركعتي الفجر مع الفاتحة في الأولى (قل يا أيها الكافرون)، ومع الفاتحة في الركعة الثانية (قل هو الله أحد)، وهذا له نظير، ففي ركعتي الطواف السنة أن تقرأ بسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وكذلك في الوتر تقرأ في الأولى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وفي الثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثالثة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

إذاً جاءت سورة الإخلاص مع سورة الكافرون في الوتر في آخر الليل، وجاءت أيضاً مع سورة الإخلاص في ركعتي الفجر في أول النهار، وجاءت سورة الكافرون مع سورة الإخلاص عقب الطواف، فمن مجموع هذه الحالات يرى البعض -وهو رأي سديد-بأن حياة الأمة وصلب الإسلام وصميمه إنما هو بتوحيد الله، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لكي يظل الإنسان على طريق مستقيم من القيام بعبادة الله وحده، والإقرار لله بالوحدانية، كان يأتيه هذا التذكير يفتتح يومه صباحاً بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2]، أي: تلك الأصنام التي تعبدونها أنا أرفضها، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:4] أي: عبادتكم التي تؤدونها أنا لا أعبدها: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3]، ولا أنتم بمصلين ولا صائمين كما أصلي وأصوم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، انفصال وتميز، تميزت الأمة عن غيرها في منهجها وعلاقتها بربها، فإذا جاءت الركعة الثانية جاءت سورة الإخلاص، فالسورة الأولى جاءت بإفراد الله بالعبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] والسورة الثانية: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19] تفرد الله سبحانه بالوحدانية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فتصبح وأنت تعلن هذا الأمر: وهو إفراد الله بالعبادة، وتوحيده سبحانه في أسمائه وصفاته، مؤمناً وافياً، تعلنها في الصباح.. وتبني حياتك اليومية عليها، وهكذا في آخر اليوم عندما تسلم نفسك للنوم، وتنتهي من جميع أعمالك، والوتر أوله من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا أوترت بعد العشاء وأنهيت النهار بهذا المعنى، وبه استقبلت الليل، وكذلك هناك أنهيت الليل، وبه استقبلت النهار فتكون موحداً بين ليلك ونهارك: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] وهذا كما قالوا في المناسبة في فجر يوم الجمعة: الغالب أن يقرأ فيها بسورتي السجدة والإنسان، ويقول ابن تيمية رحمه الله: شرعت قراءة هاتين السورتين في هذا اليوم؛ لأن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه تقوم الساعة، وجاء في الموطأ في ذكر فضائل يوم الجمعة في آخره قال: وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر خوفاً من قيام الساعة، فالحيوانات تصيخ بسمعها بعد الفجر، وتتذكر هذا اليوم، ونحن أولى؛ لأن الحيوانات والجمادات والسموات والأرض عرضت عليهن الأمانة فأبينها، وحملها الإنسان، فهو أولى من أن يشفق من الساعة، وخاصة من اليوم الذي جاء التحديد من أنها ستأتي فيه وهو يوم الجمعة.

إذاً: قراءة السجدة و(هل أتى على الإنسان) مناسبتان لصلاة الصبح في يوم الجمعة؛ ليتذكر الإنسان بنفسه أن أول خلقه كان من تراب ثم نطفة ثم...إلخ وقصة السجود وعدم السجود، وليتذكر أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فيهما قصة حياة الإنسان ومآله يوم القيامة، ليتأهب ولا ينسى مبدأه، ولا يغفل عن معاده، وكذلك: (قل يا أيها الكافرون) و(قل هو الله أحد) تناسبان صباح الإنسان ومساءه.

الشبهة الواردة فيما يتعلق بالطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود

نحن نبدأ طوافنا بالتكبير عند استلام الحجر مع تقبيله، ونحن نقبل الحجر ونطوف حول الكعبة وهي من الحجارة، ألم تكن مصيبة العرب في الجاهلية هي تعظيم الأصنام؟ فبعض أمراض القلوب يقول: كيف تعيبون على المشركين تكريم أصنامهم التي من حجارة أو ذهب أو خشب، وأنتم تأتون تقبلون الحجر وتطوفون حول الحجارة؟ ما الفرق بينكم وبينهم؟ يعني: هل حجارتكم أفضل من حجارتهم؟ وهذه كما يقال: شبهة رهيبة جداً؛ لأن أعداء الإسلام دخلوا على ضعاف النفوس بهذه الشبهة، وقالوا: تلك وثنية في الدين، وأقول وللأسف: بعض المشايخ -أول ما طرق سمعي شيء من الفقه، ونحن صغار في المدارس الابتدائية- من كبار العلماء في منطقته، جاء إلى الحج ولم يستلم الحجر، فأخبرني بعض من كان معه، وقال لي: سله، فسألته لماذا لم تقبل الحجر؟ فقال: هل صحيح أن النصوص فيه صحيحة ؟ قلت: إذا كان مثلك يسأل في هذا فما بال العوام؟! أما رأيت الملايين من الناس يستلمونه، وأنت وحدك تنفرد في ترك ذلك؟! قال: لم أقتنع بصحة الحديث، فماذا تقول لمثل هذا ؟ وكتبت كتابات في ذلك مثل: وثنية الإسلام، وكتبت ردود عليه: لا وثنية في الإسلام، ويأتون بأشياء بعيدة عن صلب الموضوع، ونحن عندنا أمران:

الأمر الأول: أن الإسلام استسلام، إذا أمرنا الله أن نقبل حجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للحجر، وإذا أمرنا أن نقبل شجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للشجر، فنحن كما وجهنا الله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، وقد بين الله ذلك على لسان الملهم المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وبكل جرأة يرشد العالم عليها حينما جاء يقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع -يعني: لا أرجو فيك خيراً، ولا أرهب منك ضراً، سواء قلنا: نزل من الجنة فهو حجر أو كان من جبل أبي قبيس فهو حجر -ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهنا لنعلم ولنتأكد ولتكن قاعدة في كل الأمور التي ترتفع عن مستوانا: عمر هل عمل بهذا المعقول الذي عنده أم أنه ألغاه ؟ ألغاه، لماذا؟ لما هو أصدق وما هو آكد وأعلم. فمن لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5] جاء وقبله، إذاً عنده من العلم ما ليس عندي، وعنده ما يعتمد عليه، وأنا ملزم باتباعه، فـعمر قبل الحجر استسلاماً وتأسياً واقتداء بمن هو أعلم منه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر، أو أمرنا المولى في كتابه بأمر، وعقولنا لم ترتفع إلى مستواه، ولم تدرك معناه؛ نلغي العقل، ونعطيه إجازة، ونمضي في الطريق الذي لا مرية فيه ولا شك.

الأمر الثاني، وهو الجانب الأصولي: عندما تطوف تبدأ تقبل الحجر، ثم تطوف بالحجارة المرصوصة، وتأتي تصلي ركعتي الطواف خلف المقام: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وتقرأ: (قل يأيها الكافرون) و(قل هو الله أحد)، فأنت تأتي وتصلي لمن ؟ لله؛ إذاً: لا وثنية، عندما تجعل الركعتين خلف مقام إبراهيم لله، ومن هو إبراهيم؟! قال تعالى عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120].. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، إذاً: أنا مقتد بإبراهيم ولم أعبد الأصنام، بمجرد ما تتجه للصلاة خلف مقام إبراهيم، فإذا كنت في هذه الصلاة تعلنها: (يا أيها الكافرون) يا عباد الأصنام! حجارة أو ذهباً أو خشباً أو ما شابه ذلك، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] فتعظيمكم للأصنام والحجارة هذا شرك لأنكم لم تؤمروا به، وتقبيلي للحجر عبادة لأنني أمرت بها، لكم دينكم مع أصنامكم، ولي دين مع ربي، وتأتي بعد ذلك بسورة الإخلاص، ومعنى ذلك أعلنها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هل بعد هذا من ادعاء شبهة وثنية في تقبيل الحجر أو الطواف بالبيت؟ لا والله، ومقام إبراهيم فيه آيات بينات، وهي آثار القدم، يقول الفخر الرازي : أقدام إبراهيم في الحجر آية لوحدها، قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، فجعل مقام إبراهيم آيات، وموضوع المقام أن القدمين غاصت في الحجر وعملت فيه، قال: نعم، عندما يكون الحجر صلباً، ثم تأتي بمثقل، فإذا بحدود الحجر تلين ويغوص فيها المثقل، وبقية الحجر بقيت على ماهيتها، إذاً: موضع القدمين في ليونتهما وانطباع القدم فيها آية، وبقاء بقية الحجر صلباً آية؛ لأن الليونة لو وقعت عليها جميعها يمكن أن يقال: هذا عامل كيماوي أو عامل سحري...، نحن نعلم إذابة الحجر والنحت على الحجارة كيف يكون، بالألفونيا مع النشادر، تسحق بمقدار معين أو متساو ثم تحطها، هذه الكتابات التي على الرخام عملها يكون بتغطية صفحة الرخام بالشمع ثم تأخذ الريش، وتكتب ما تريد بأي نوع من الكتابة، فتحفر الشمعة حتى ينكشف الرخام، ثم تملي هذا المحفور بالألفونيا مع النشادر بمقادير متساوية، ثم تقطر عليها من حمض الكبريت، فإذا به يتفاعل ويأكل الرخام تحته، فإذا انتهى إلى العمق الذي تريد صببت عليه الماء فيتوقف عن التفاعل، ثم تزيل الشمع بعد ذلك، فتخرج الرخامة مكتوباً عليها بأحسن ما يكون، ما حفرت باليد وإنما صنع لها مواد كيماوية، فلو أن الحجر كله ذاب يمكن أن يقال: هذه مادة كيماوية أكلته، لكن لا، البعض يلين وينطبع فيه القدم، والبعض يبقى على حجريته، إذاً: فما لان الحجر إلا بقدرة الله، فهذه آية، وقد وجدنا قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74]، فإذا كان الأمر كذلك فنحن نقول: لا وثنية.

ونرجع ونقول: إن القراءة للفاتحة في ركعتي الفجر ثابتة بهذا الحديث، وقراءة السورتين والمداومة عليهما ربط بين حياة الإنسان العملية، وبين عقيدته فيما بينه وبين الله، وبالله تعالى التوفيق.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [2] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net