إسلام ويب

إن المساجد شعار المسلمين، وما من مسلم إلا ويتردد عليها أو يكثر المكث فيها، لذلك فقد شرعت آداب وأحكام للمساجد حتى يُحافظ على نظافتها وتكريمها، ومن ذلك: أنه يجوز للمرأة أن تتخذ بناءً في المسجد فتأوي إليه وذلك عند الحاجة، ومن أحكام المساجد أيضاً: أن تصان عن الأقذار لاسيما البصاق، وبخاصة إذا كانت أرضية المساجد كما هو الحال اليوم (مفروشة) فلا يشرع للمسلم أن يبصق إلا في طرف رداءه أو في منديل.

تابع أحكام المساجد

حكم مكث المرأة في المسجد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة : (أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، وكانت تأتيني تتحدث عندي... الحديث) متفق عليه ].

هذه المرأة -سواء أكانت هي التي تقم المسجد، أم كانت امرأة غيرها- جعل لها خباء في المسجد تأوي إليه، ويقال أيضاً: هذا في حالة الضرورة، وقد وجدنا بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ضربن لأنفسهن الخيمة في المسجد ليعتكفن، وذلك لما استأذنت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتكف معه، وضربت لها خيمة، فقام بعض الزوجات الأخريات، ونصبن خيمة، فلما غدا صلى الله عليه وسلم إلى معتكفه رأى ثلاث خيام منصوبة، فقال: ما هذا؟! قالوا: فلانة وفلانة وفلانة ضربن خياماً ليعتكفن قال: (آلبر ترون بهن؟) -يعني: الذي حملهن على هذا هو البر وفعل الخير، أم المنافسة فيما بينهن؟ ثم قال: (قوضوا خيمتي) فقوضوا خيمته، ولم يعتكف تلك السنة، وقضى اعتكافه بعد ذلك في شوال، وهل كان بصوم أو بغير صوم؟ لم يثبت في ذلك شيء، ولم يعلم العلماء كيف كان اعتكافه بعد ذلك.

وعلى هذا يجوز عند الحاجة إقامة خباء لامرأة في جانب من المسجد بعيداً عن الرجال، ولا مانع من ذلك، وهذا الذي ساقه المؤلف من أجله.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم البصاق في المسجد

قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) متفق عليه].

من آداب المسجد ما تقدم في أول حديث من هذا الباب: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب)، وجاء في حديث سمرة -وهو من أحاديث (المنتقى) الذي شرحه الإمام الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار-): (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا)، وهذا يوضح معنى الدور؛ لأنهم قالوا: الدور قد تكون جمع دار، وقد يكون المراد بها الديار. فحديث سمرة فيه : (أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا، وأن نحسن صنعتها) يعني :تكون في حالة حسنة، وليست في حالة رديئة أو حالة ليس فيها اعتناء، بل علينا أن نحسن صنعتها، فإذا أمر بحسن صنعة المسجد ففي هذا تعظيم للمسجد، واحترام للمسجد، وهو داخل ضمن قوله سبحانه: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، فالمساجد بيوت الله وشعائره، وسيأتي الكلام على تشييد المساجد، وعلى زخرفتها، والحديث فيه مقال.

قوله: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها).

يقف العلماء أمام هذا الحديث من جانبين، فما دام أن البصاق خطيئة فلماذا تتعمد ارتكاب الخطيئة؟ بل اتركها، فإذا وقعت اضطراراً فليكفر عما ارتكبه اضطراراً، بأن يدفنها في التراب إذا كان المسجد تراباً، وقد جاء الحديث أيضاً: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق تلقاء وجهه؛ فإن الله تلقاء وجهه، ولا عن يمينه فيؤذي جاره، ولكن عن يساره وتحت قدمه)؛ لأنه يستطيع بقدمه أن يدفنها.

وجاء في الحديث الآخر: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق كذا وكذا، ولكن يفعل كذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم طرف ردائه وبصق فيه، ثم دلك جانبيه)؛ وذلك ليتشرب الرداء رطوبة البُصاق، وهذا في حالة ما إذا كان المسجد تراباً، وقد كان المسجد تراباً، كما جاء في خبر ليلة القدر: (... وأريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين)، قال الراوي: فأمطرت السماء ليلة كذا، ووكف المسجد، وكان السقف من الجريد، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ماء وطين -يعني: أثره-، ولقد رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، فكانت أرضية المسجد من تراب، وبعد ذلك أتى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالحصباء -وهي: الرمل الخشن- بأطراف أرديتهم، ويأتي كل واحد منهم إلى مكانه في موقفه من الصف، ويفردها ويقعد عليها، حتى تم فرش المسجد بالحصباء، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا).

وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ الخمرة ليصلي عليها في المسجد، ويختلفون في معنى الخمرة، فبعضهم يقول: هي القطعة من سعف النخل التي تكون على قدر صلاة الإنسان. وبعضهم يقول: بل هي على قدر ما يسجد عليه بكفيه وجبهته وأرنبة أنفه، فيكون بعض جسمه على التراب، أو على شيء آخر. والخمر ما يخمّر الوجه، أي: يغطيه.

ويذكر مالك في الموطأ عن وقت يوم الجمعة أنه كان لـجعفر بن عقيل أو غيره طنفسة عند الجدار الغربي، فإذا علاها الفيء أذن المؤذن، أو جاء الإمام للخطبة، فكان توقيت الجمعة بعد الزوال؛ لأن ظل الجدار الغربي قبل الزوال يكون إلى الغرب؛ لأن الشمس ما تزال في الشرق، فإذا ما زالت عن كبد السماء إلى الغرب، انتقل الظل أو الفيء إلى الشرق، فإذا امتد الظل عند الجدار الغربي إلى الشرق حتى يغطي طنفسة -وهي سجادة صغيرة- دخل وقت الجمعة.

فكانوا يتخذون الفرش والخمر والطنافس ويصلون عليها، وكان بقية المسجد في تراب.

والأولى بالإنسان ألا يبصق في المسجد، لا في الصلاة ولا في غيرها تطهيراً للمسجد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)، وسيأتي إن شاء الله، والقذاة: القشرة الصغيرة يخرجها من المسجد تطييباً وتنظيفاً للمسجد، والمرأة التي كانت تقم المسجد قد تقدمت قصتها مراراً.

فالبصاق في المسجد خطيئة، ومن هذا نعلم أنه لا ينبغي التعمد؛ لأنه لا يحق لإنسان أن يأتي الخطيئة عن عمد ولو كانت صغيرة، فإن إصراره عليها يحولها إلى كبيرة؛ لأن فيها امتهاناً للمسجد، إلا إن اضطر، خاصة إذا كان في الصلاة، ولا يستطيع أن يذهب يميناً ولا يساراً، ومن هنا نعلم ضرورة حمل المنديل مع الإنسان؛ لأنه بدلاً من أن يجعلها في ردائه ويبقى برداء فيه البصاق فالأولى أن يكون المنديل في جيبه فيبصق فيه، ثم بعد ذلك يغسله، وغسله أيسر من غسل الرداء.

والآن تطورت الأمور، فبعد أن كانوا يسمونه منديل اليد أو منديل الجيب، ويغالون في جنسه من حرير أو من خز، ويشتغلون فيه النقوش أصبحت مناديل الورق تجزئ عن هذا كله.

ففي هذا الحديث تأكيد لما تقدم في أول الباب أن من حق المساجد أن تنظف، وأن تطيب، فإن وقع من إنسان بغير اختياره أن بصق، وكانت الأرض تراباً فإنه يدفنها حتى لا تؤذي غيره؛ لأنها إذا بقيت على وجه التراب، وجاء إنسان وجلس، أو وطئها بقدميه سيتأذى، فدفنها يجنب الآخرين إيذاءها، وهذا -كما أشرنا- تتمة وتأكيد، لأول حديث ورد في هذا الباب، وتقدمت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة في بعض المساجد فحتها بيده، أو حتها بحجر، ولا نزاع، فهو أخذ الحجر بيده وحتها، فلا مانع، ثم قال: (لا يصلين بكم هذا الإمام بعد اليوم)، فكانت هذه النخامة في جدار القبلة موجبة لعزله عن الإمامة؛ لأنه ما عظم حرمة القبلة، وانتهك حرمة المسجد وهو القدوة، فينبغي أن يكون على أمثل ما يكون في احترام المسجد وتوقيره.

المباهاة في المساجد وحكمها

قال رحمه الله: [ وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) أخرجه الخمسة إلا الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ].

هذا الحديث يعده العلماء من علامات الساعة السابقة، أو الصغرى، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل أن تقوم الساعة يتباهى الناس بالمساجد بكثرتها وفي صنعتها. ويقول بعض العلماء: ما ضيع الناس دينهم إلا تباهوا بالمساجد وزخرفوا المصاحف.

وجاء عن بعض السلف: يقيمون المساجد ولا يصلون فيها، ويزخرون المصاحف ولا يقرءون فيها.

ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله : يتخذ أحدهم السجاد والسبحة والمصحف قنية وزينة، فالسجادة لا يصلي عليها، والسبحة لا يسبح الله بها، والمصحف لا يقرأ فيه، إنما هذه -كما يقال- عادة.

ويذكر علماء الأدب أن في بعض البلاد كانت هناك المنافسة في العلم، وفعلاً كانت تلك البلد -كما يقال- مهبط علم، وتخرج منها كبار العلماء، فكان عوام الناس يتشبهون بالعلماء، ويريدون أن يحاكوا حالة العلماء؛ لأن العلماء كانت لهم عزة وكرامة، فكان الأغنياء يتشبهون بالعلماء، فلربما لبس الواحد منهم لبس العلماء، ثم يقتني مكتبة في بيته، ويعنى بها في شكلها وتجليدها، وتصبح كالتحفة، وهو لا يعرف شيئاً مما فيها، وهمه أن يقال: فلان عنده مكتبة صفتها كذا. لأن هذا من شأن العلماء، فهذه مباهاة في المكتبات، وزي العلماء، وكذلك التباهي بالمساجد.

فقد يكون هناك مسجد في حي، فتأتي جماعة جديدة، وتبني لها مسجداً، ويقولون: كما أن لهم مسجداً فنحن أيضاً صار لنا مسجد، وتأتي جماعة أخرى غير الذين تقدموا وتقيم لها مسجداً مع عدم الحاجة لذلك، فليست بينهما مسافة كبيرة، وليست هناك مشقة، والمسجد الأول يسع الجميعفهذه مباهاة، والفضيلة في هذا للأقدم، أي: في حالة المنافسة.

وهكذا تصبح المساجد في معرض المنافسة في شكلها، ولكن الله سبحانه وتعالى ما جعل المساجد ليتفاخر بها الناس، وإنما جعل إعمار المساجد لذكر الله، قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37].

وعلى هذا إذا وجدنا من يتباهى بالمسجد، وزاد فيه سعة أو رفعة أو تشييداً منافسة لغيره، فقد دخل في هذا الحديث، وهو المباهاة بالمساجد.

ويذكرون عن بعض المذاهب -وهو معروف- أن إمام المذهب يجيز ذلك، ويقول: إنه من باب تكريم المسجد والعناية به، وكما يحتفي الإنسان ببيته يحتفي ببيت الله.

لكن بيت الإنسان لمعيشته ولنومه وجلوسه وأمور دنيوية، وبيوت الله ليست من هذا القبيل.

وبعضهم أيضاً يستدل بعموم الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) إلا أن المثلية نحن لا نعرفها على حقيقتها؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وبناية الجنة غير بناية الدنيا، كما في حديث خديجة رضي الله تعالى عنها لما جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، وبشرها يبيت في الجنة من قصب -أي: من لؤلؤ- لا تعب فيه ولا نصب)، فقصب من لؤلؤة واحدة، وأين بناء الجنة من بناء الدنيا؟!

وقد جاء في بعض الروايات: (ولو كمفحص قطاة)، والقطا طائر معروف أقل من الحمامة، وأكبر من العصفور، إذا أرادت أن تبيض تفحص الرمل حتى تجد مكاناً تجعل بيضها فيه، ومفحص القطاة لا يسع القطاة نفسها، فكيف يكون محلاً للصلاة؟!

فالمثلية يعلمها الله سبحانه وتعالى.

فقالوا في حديث: (بنى الله له مثله في الجنة) لا مانع أن يزخرف ويحسن، حتى يكون البيت الذي يبنيه الله له في الجنة مثله.

فهل الله يكون خسراناً إذا كان البيت الذي سيبنيه الله له في الجنة مثل المسجد الذي بناه هو في الدنيا؟ فنعيم الجنة فوق التصور، أتنزل به إلى مثلية الدنيا! لقد ضيعت على نفسك الشيء الكثير، دعه لكرم الله.

والحديث هنا : (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد -أو في المساجد-) فتكون المباهاة في أي شكل من أشكاله، في سعته، وفي ارتفاعه، ونوع بنائه، وزخرفته، فكل هذه الأشياء هي موضع المباهاة، أما إذا كانت المباهاة في كثرة صلاتهم فيه وإعماره بذكر الله، فهذه منافسة حميدة، فلو أن أهل كل ديار نافسوا الآخرين فقالوا: نحن مسجدنا يصلي به عشرون صفاً، ويصلي به ألف مصل، ومسجدكم لا أحد يصلي فيه، فهذه تكون منافسة في الخير، وليست مباهاة.

فهذا الحديث بمنطوقه يحذر من المباهاة في المساجد، وبمفهومه النهي عن ذلك، فلا ينبغي أن تُجعل المساجد موضع مباهاة، كما يتباهى الناس في بناء الفلل والعمائر، ونوع السيارة الفاخرة؛ لأنه ينقل المساجد عن موضوع رسالتها لذكر الله وما والاه إلى أمور أخرى لأغراض شخصية.

والله تعالى أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الصلاة - باب المساجد [5] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net