إسلام ويب

الإسلام دين الخلق، فما تكاد تجد أمراً من الأمور إلا وله آداب وأحكام، وبيان لما يجوز فعله فيه وما لا يجوز، ومن ذلك المساجد، فمن آدابها: أن لا تتخذ مكاناً للبيع والشراء، فلا يجوز عقد البيع والشراء فيها، كما لا يشرع إقامة الحدود في المساجد، ولا بأس بإقامتها بجوار المساجد؛ للجمع الذي يكون عند المسجد، فتكون على مرأى ومسمع من الناس، فتعم الفضيلة وتقل الرذيلة.

تابع أحكام المساجد

حكم البيع والشراء في المساجد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: وعن أبي هريرة رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي، وحسنه ].

هذا الحديث مع الذي قبله من باب واحد، فهناك ينشد الضالة لاسترجاع ما ضاع منه، وهنا يتعاطى البيع والشراء، وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من أراد سوق الدنيا فليخرج، ومن أراد سوق الآخرة فهنا.

فلم تبن المساجد لتنقلب أسواقاً للبيع والشراء، وكما قيل: الأسواق مساكن الشياطين، كما أن المساجد مساكن الملائكة؛ لأن الأسواق غالباً يوجد فيها الضجيج، ويوجد فيها التدليس، ويوجد فيها الأيمان المروجة للسلعة، وتوجد فيها مخالفات كثيرة، إلا من عصم الله، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب أمام التجار، والذين يتخذون المساجد مكاناً للبيع والشراء.

ويقال للمبتاع والمشتري في المسجد: لا أربح الله تجارتك.

وقد يقول بعضهم: إن قول: (لا أربح الله تجارتك) إنما يقال لمن اتخذ ذلك عادة، أما إذا تبايعا في سلعة بينهما، وليس من عادتهما التبايع في المسجد فهل يتسامح معهما؟!

والجواب: لا؛ لأن الحديث سدّ الباب، فإن تبايعا اليوم في قلم، ففي الغد سيتبايعان في الساعة، وبعده في الكتاب وهكذا، فيتسرب البيع والشراء إلى المساجد.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (فقولوا له) أي: أسمعوه لا أن تقولوها سراً؛ لينزجر بذلك، وإذا علم البائع الذي يريد الربح أنه إذا عقد عقد بيع في المسجد قيل له: لا أربح الله تجارتك فإنه لن يقدم على مثل هذا العقد، المدعو عليه بمحق الربح؛ فإنه -ولو ربح- لا خير فيه، كما قال سبحانه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] فكذلك هذا العقد، وإن كان فيه ربح فهو ممحوق؛ لأنه منهي عنه.

وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله، ويفسحون لنا المجال نوعاً ما، فلو أن إنساناً اشترى من إنسان سلعة، وكان الثمن مؤجلاً، فوجد الثمن عند المشتري، ولقي البائع في المسجد، فهل يجوز له أن يقول: خذ ثمن سلعتك الذي عندي. أم لا يجوز؟

والجواب: لأن عقد البيع قد مضى، وهنا سداد الدين، وسداد الدين -إن أخلص في النية- عبادة؛ لأنه يخرج من عهدة المطالبة بالدين، فلا مانع من ذلك.

ومثل هذا أيضاً رد الوديعة، فلو أن إنساناً أودع إنساناً آخر وديعة، وأراد المستودَع أن يسافر، وتعذر عليه لقاء صاحب الوديعة إلا في المسجد، فأتى بالوديعة معه ولقي صاحبه، وقال: خذ وديعتك.

فإني مسافر فلا إشكال في هذا؛ لأن المنهي عنه إنما هو التبايع، سواءٌ أكان لمرة واحدة نادرة، أم مراراً قليلة أو كثيرة.

حكم عمل المعتكف صاحب الصنعة داخل المسجد

وهنا مسألة قد يثيرها بعض العلماء، تجدونها في مبحث الاعتكاف، وهي إذا لم يكن للمعتكف رأس مال، وإنما يعيش من صنعته، أو بيعه وشرائه، فهل يجوز له -وهو معتكف- أن يزاول مهنة البيع والشراء، أو يخرج إلى الخارج ويبيع ويشتري ثم يأتي إلى مسجده، أو إلى معتكفه؟

فبعضهم يقول: لا مانع إذا كان في طرف من المسجد. والجمهور يقولون: لا؛ لأن الحديث لم يفصل.

فإذا كان صاحب صنعة لا يبيع ولا يشتري، ومنها عيشه، ويمكن أن يجمع بين الأمرين حاجته في معيشته، وعبادته في اعتكافه، فبعضهم -كالأحناف أو غيرهم- قالوا: يجوز له إن لم تكن صنعته تقذر المسجد، أو تضيق على الناس، ومثلوا بنسخ الكتب، إذ نعلم جميعاً أنه لم تكن في السابق مطابع، ولكن كانوا يعولون على نسخ الكتاب بأيديهم، فإذا كان الشخص وراقاً، ومشهوراً بخطه، وبكتابته للكتب، واعتكف يكون في معتكفه، وعنده حبره وقلمه وأوراقه، فله أن ينسخ وهو في محله، فإنه لا يقذر المسجد، ولا يضيق على المصلين، ولا يشوش عليهم، فمثل هذا قالوا: لا مانع في حقه؛ لأنه يجمع بين الحسنيين، ولا يضر، ولا يترتب عليه أذى.

وبعضهم قال: هذه الصناعة تابعة للبيع والشراء؛ لأنه يبيع خبرته في كتابته لمن يكتب له.

ويقال: إن كان ذا ضرورة، وليست له مهنة، فلا ينبغي أن يحرم، ما دام يؤدي هذا العمل بعيداً عن التشويش على الناس، ونحن الآن، لو وجدنا طالب علم، جالساً في جانب، أو عند سارية، وعنده مخطوطة يريد أن ينسخ منها، أو ينقل منها فلا غبار في ذلك.

فهذا ما يتعلق بمسألة النهي عن البيع والشراء في المسجد، فعلى كل من سمع أو رأى من يبيع أو يبتاع في المسجد: أن يجابهه بهذه الكلمة (لا أربح الله تجارتك)؛ لينزجر عن ذلك.

والله تعالى أعلم.

حكم إقامة الحدود في المساجد

قال رحمه الله تعالى: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها) رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف ].

إقامة الحدود من أعظم شعائر الله، وفي بعض الآثار: (إقامة حد في الأرض خير من مطر عشرين -أو ستين- عاماً)، فإقامة الحدود منزل للبركة والرحمة؛ لأنه تطبيق لشرع الله، والحدود -كما يقولون- منها ما هو محض حق لله، ومنها ما هو محض حق للعبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد وربه، كما في السرقة وفي الزنا وفي القذف، وفي شرب الخمر، فكل ذلك عقوبته حد، سواءٌ أكانت الحدود فيها جلداً، كالخمر، وزنا البكر، أو إتلافاً، كالرجم والقطع والقود، والقود حق للإنسان، بمعنى أنه إذا اعتدى إنسان على إنسان -سواءٌ في جراح، أم في نفس- فإن من حق المجني عليه أن يقتاد، أو يقتص من الجاني، وسواء في العضو، أم في النفس، فالحدود على ذاك التقسيم جلد، أو إتلاف، ومهما كانت فلا يقام الحد بالجلد أو بالقطع في المسجد؛ لأنه قد يحدث من المجني عليه، أو ممن يقام عليه الحد -سواءٌ بالجلد أم القطع- ما لا يتناسب مع المسجد، فإنما تقام الحدود على أبواب المساجد، في موضع التجمعات، لقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

وكذلك القود، والقود في النفس بالقصاص، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] أما في الجراح فيتفق العلماء على أن القود في الجراح يشترط فيه أن يكون الجرح والاعتداء في مفصل؛ لأن القود في المفصل ممكن، أما إذا كان الجرح في الفخذ -مثلاً- أو في وسط اليد فإنه لا يتأتى فيه قود مماثل؛ لأن القصاص معناه أن تأخذ بحقك دون زيادة أو نقص، كما إذا قصصت الورقة أو الثوب بالمقص، فإن طرفي المقصوص متساويان، ولو مال المقص يميناً أو يساراً لظهر هذا الأثر في جانبي المقصوص، فيكون القص متعادلاً تماماً، سواءٌ في الاستقامة، أم في الأخذ يميناً أو يساراً، ومن هنا إذا كان الجرح في مفصل -كمرفق اليد والعضد والركبة والحقو- فهنا يكون القصاص.

أما إذا كان الجرح، أو الكسر في غير مفصل، فلا يمكن أبداً أن يقتص بكسر، نظير كسر في وسط العظام؛ لأن الكسر الأول قد أخذ شكلاً معيناً، والكسر الثاني -كسر القصاص- لا يمكن أن نضمن أنه بحدوده، وأبعاده، وأجزائه، يكون مماثلاً للكسر الذي سبق، فهنا لا يكون القصاص، وتكون الدية، دية الجرح، أو دية كسر العظم، وهذه كلها مقدرة في كتب الفقه.

فما كان حقاً لله، من الحدود، فلا يقام في المسجد، وكذلك أيضاً ما كان حقاً للآدمين، من قود، وقصاص، فلا يستوفى في المسجد، إنما يكون في الخارج؛ لأنه في الجلد، ربما يحدث من المجلود، في حالة شدة الجلد، ما يخشى منه على المسجد، وكذلك عند القطع، حيث يكون هناك الدم ويتناثر، فلا يناسب أن يكون في المسجد.

وإذا قلنا: إن المسجد موضع الرحمة، وتنزل الرحمات، فلا يمكن أن نجعله موضع النقمة، وموضع التعذيب، وإن كان حداً من حدود الله؛ لكن فيه التعذيب وفيه الآلام، فينبغي أن يكون بعيداً عن حدود المسجد، ويبقى المسجد لطلب الرحمة والمغفرة.

فنهى صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود أو يقتاد في المسجد.

وأما القصاص في مكة فبعضهم يقول: لا يقام حد القصاص في حرم مكة، وحدود الحرم جميعاً؛ لقوله سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] ويقولون: نتركه حتى يخرج خارج الحرم، وهناك نقتص منه ونقتله، وإذا لم يخرج قالوا: يمنع من البيع، والشراء، والمعاطاة، ولا يعطى شيئاً حتى يضيق من نفسه، ويخرج يطلب لقمة العيش، فهناك نقتص منه.

والبعض الآخر يقول: قال تعالى: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191] وإذا اعتدى إنسان وقتل إنساناً في الحرم فيكون القاتل هو الذي انتهك حرمة الحرم فنقتله فيه، أما إذا جنى خارج الحرم ودخل لاجئاً إلى الحرم فلا نقيم عليه الحد في الحرم؛ لأنه لم ينتهك حرمة الحرم، بل لجأ إليه يحتمي فيه، وهنا يقول تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] وحرم مكة له أحكامه الخاصة، ويهمنا هنا فيما يتعلق بعموم المساجد في الدنيا وأنه لا تقام فيها الحدود، ولا يقاد فيها بين الناس.

والله تعالى أعلم.

التمريض وحكمه في المسجد

قال رحمه الله تعالى: [ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد، يوم الخندق، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب) متفق عليه ].

يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى قضية سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وسعد له تاريخ عريض في الإسلام، وكان سيد بني عبد الأشهل، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أصحابه بعد بيعة العقبة، ليعلمهم الإسلام، كان يتتبع الأنصار على مياههم، فجاء إلى ديار بني الأشهل يدعو الناس، فكان سعد جالساً وراء هذا العمل، فأرسل ابن أخته، وقال: اذهب إلى فلان ومن معه، وقل له: فليكف ذلك عنا، ولا يفسد سفهاءنا.

فلما جاء إلى مصعب وصاحبه هددهما وشتمهما، وقال: قوما عنا. فقال له مصعب رضي الله تعالى عنه: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أعرض عليك الذي جئت به، فإن رضيته وقبلته فبها، وإن لم ترضه، ولم تقبله رحلنا عنك، قال: أنصفت، وركز حربته وجلس. فقرأ عليه مصعب شيئاً من القرآن؛ فاستحسنه، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل -أو يتوضأ- ويصلي ركعتين، ويشهد شهادة الحق ففعل، فرجع إلى سعد ومن عنده، فقال من كان عند سعد : والله لقد رجع إليك قريبك بوجه غير الذي ذهب به عنا. فقال له سعد : ماذا فعلت؟ قال: أمرتهما بما أمرتني به، وعند عودته من عند مصعب قال له: إن ورائي رجلاً لو اتبعك سيتبعك أهل الحي هذا جميعاً.

فكأن سعداً لم يقنع بكلام هذا الرجل، وذهب بنفسه، فلما وقف عليهما أتكاً، ارتكز على حربته، وكلمه بمثل ما كلمه الأول، فأجابه مصعب كذلك بمثل ما أجاب الأول، فقال: أنصفت والله. فقرأ عليه ما تيسر من القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ فأخبره، وصلى الركعتين، وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل! كيف ترونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وميمون الطليعة، ومبارك النجيبة، ... إلخ، فقال: والله إن كلامكم رجالاً ونساءً عليّ حرام ما لم تسلموا. فبات الحي كله مسلماً.

وهكذا كان له رضي الله تعالى عنه شأن عظيم في غزوة بدر، وفي غزوة الأحزاب أصيب بسهم في أكحله، فعز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعد عنه، وأراد أن يكون بجواره من قريب، فضربت له خيمة في المسجد، يُمرّض فيها، وليعوده النبي صلى الله عليه وسلم من قريب، أي: من حجرته إلى المسجد، فرقع جرحه واستراح، فجاءت قضية بني قريظة الذين نقضوا العهد في غزوة الأحزاب، وشدة الأمر على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر، وفي ذلك الموقف الرهيب الصعب قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]، فمن فوقهم اليهود، ومن أسفل منهم الأحزاب قريش، وغطفان، ومن معهم، وأصبح المسلمون -كما يقال- بين فكي الأسد.

فـسعد رضي الله تعالى عنه لما أصيب قال: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم تكن أبقيت حرباً لقريش فاجعلها شهادة، ثم قال: اللهم أقر عيني في بني قريظة، فلما ذهب صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، كان من قصتهم أن طلبوا أن ينزلوا على حكم سعد ؛ لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أنه سيرفق بهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم -وهو هناك يباشر الحصار-، وجيء بـسعد على حمار، فلما وصل، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: قوموا لسيدكم فأنزلوه، فلما أنزلوه قال صلى الله عليه وسلم: لقد نزل اليهود على حكمك يا سعد ! فوقف وأشار بيده وقال: أحكمي نافذ على كل من كان هنا؟ قال الجميع: نعم. وأشار إلى اليهود: تنزلون على حكمي؟ قالوا: نعم. وأشار إلى الجهة الأخرى بتأدب وقال: ومن هنا؟ قالوا: نعم، فقال: يا رسول الله! أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم -أي: كل من كان قادراً على حمل السلاح- وتسبى نساؤهم وذراريهم، فأخذ اليهود يصيحون، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق) يعني: من فوق السماوات السبع، ونفذ ذلك، فقُتلت المقاتلة، وسُبي النساء والصبيان.

والذي يهمنا أنه في هذه الوقعة -ومعها غزوة الأحزاب- كان لـسعد رضي الله تعالى عنه موقف نبيل، وكانت حياته كلها لله سبحانه وتعالى، ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلما أصيب عزّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُترك ويُمرَّض في بيته في بني عبد الأشهل، وهم في العوالي، فنصب له خيمة في المسجد وصار يعوده من قريب، فلما انتهى من التحكيم المذكور نقض عليه جرحه في الليل، ومات في الصباح، وأقر الله عينه فيما أراد، وكما يقولون: لما أصبحوا وجدوا دماً وماءً يسيل من تحت الخيمة، فنظروا فإذا بجرحه قد نقض عليه ونزف ومات.

وهنا يقول العلماء: هل ذلك الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم خاص بـسعد، ومن أجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده من قريب، أو أننا إذا احتجنا، وحدث -لا قدر الله- مرض، وضاقت المستشفيات، وعجزت الدور المخصصة لذلك فلنا أن نستعمل المساجد مأوى للمرضى؟

الجواب: نعم، مع الحفاظ على أرض المسجد من أن يأتيها شيء مما يكون من المرضى، وإذا كان ولابد فليكن في مكان في جانب من المسجد، ثم بعد ذلك يطهر ما وقع في أرض المسجد.

ويقول المتأخرون: إن من المهام التي أداها المسجد -أو على الأخص المسجد النبوي- مهمة المستشفى العسكري، أي: تمريض من أصيب في القتال داخل المسجد، ويقصدون به قصة سعد رضي الله تعالى عنه، والمؤلف يسوق لنا قصة سعد في باب المساجد ليبين لنا أنه عند الحاجة وعند الضرورة، لا مانع أن يمرض المرضى في المساجد؛ لأنها خدمة عامة، ومصلحة للجميع، فلا مانع من ذلك.

والله تعالى أعلم.

حكم اللعب في المسجد

قال رحمه الله تعالى: [ وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد... الحديث) متفق عليه ].

يأتينا المؤلف بهذا الحديث، أو بهذه القصة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة -أي: رجال من الحبشة- يلعبون في المسجد) وهذا جزء من مشهد كبير طويل، وهو: أنه كان في يوم عيد، فأخذ الأحباش الموجودون بالمدينة، في تلك السنة، يلعبون بحرابهم لعبة القتال، في المسجد النبوي، فرغبت عائشة رضي الله تعالى عنها أن ترى هذه اللعبة؛ لأنها لم ترها من قبل.

وهنا يلبي لها النبي صلى الله عليه وسلم رغبتها، فيقف ويسترها من الناس، وتتمكن من الرؤية، فصارت تَرى ولا تُرى، وقد جاء في خبرها، أنه لما طال وقوفها، قال: أرضيتِ؟ فقالت: لا، أريد زيادة.

ويهمنا في سياق هذا الحديث السماح للأحباش باللعب بتلك الحركات الميدانية في المسجد النبوي، وهل يجوز لنا في الوقت الحاضر أن نفعل ذلك؟

يقولون: إذا كان مجرد لعب، أو لهو، أو مسابقة، أو مناضلة، -أي: مسابقة بالسهام- فلا، أما إذا كانت حركة فيها تدريب على الجهاد، ونوع من أنواع القتال، ومن يراه يستفيد، ومن يزاوله يحسن أكثر، فلا مانع، وفي يوم العيد؛ لأن يوم العيد في الإسلام فيه بهجة وسرور ولعب.

فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على فراشه، وعندها قينتان -جاريتان- تغنيان، وتضربان بالدف، فنهر عائشة وقال لها: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعها -يا أبا بكر-؛ إنه يوم عيد).

أي: أن يوم العيد يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتى المدينة ولهم أعياد كثيرة، لاسيما اليهود، فكل مناسبة عندهم يتخذونها عيداً، فلهم أيام متعددة، يتخذونها أعياداً إلى الآن، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم -يخاطب المسلمين- يومي عيد خيراً من هذا: عيد الفطر، وعيد الأضحى).

ويقول العلماء -من باب الالتماس-: جعل الله سبحانه وتعالى العيدين عقب عبادتين عظيمتين، وقد يستأنس الإنسان لهذا من سياق تشريع آيات الصيام، في قوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، ثم يقال: يسّر الله مع الفرضية والإلزام، فجاءت الرخصة لمن يشق عليه، ثم جاء تعليل التيسير بقوله: (لتكملوا العدة)؛ لأن التشريع إذا كان شاقاً ملزماً وليس فيه ترخيص يعجز الناس عنه، فإذا كان التكليف شاقاً فمع المشقة رخصة للعاجز، فيمكن للمكلفين أن يكملوا العدة التي كلفوا بها؛ لأن مشقة التكليف يصحبها الترخيص والتخفيف.

ثم قال تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ يقول بعض العلماء: هو التكبير الذي يكون يوم العيد؛ لأنه جاء بعد إكمال العدة -أي: إكمال عدة رمضان- وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكرون الله.

فقوله تعالى: عَلَى مَا هَدَاكُمْ أي: لأداء الواجب عليكم، وامتثال أمره، فكأنه قال: كلفتم بالصيام فأديتموه، وأكملتم العدة، فهلموا إلى تكبير الله، وإلى بهجة وفرحة العيد، بإكمال هذا التكليف الشاق العظيم.

وكذلك عيد الأضحى بعد الحج، والحج عبادة فيها مشقة، ففيها السفر والتنقل بين المشاعر، والسفر وحده -كما قيل-: لسفر قطعة من العذاب؛ لأن الإنسان يتحمل فيه تغير طبيعة حياته في نومه، وفي طعامه، وفي شرابه، فيختلف عليه نظام حياته في الإقامة، ويتحمل ذلك في سبيل أداء هذه العبادة العظيمة.

ومن هنا كان العيدان -عيد الفطر وعيد الأضحى- بهجة بعد أداء واجب فيه مشقة، فعيد الفطر بعد الصوم، وعيد الأضحى، بعد الحج، ومن هنا رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء القوم أن يظهروا فرحتهم وبهجتهم بما يطيب لهم، وهي -كما يقال- لعبة القتال أو رقصة القتال، فيفعلونها تعبيراً عن شعورهم وفرحتهم في ذلك اليوم، فلا مانع في ذلك.

ويهمنا أنه سمح لهم أن يفعلوا ذلك في المسجد، أما بقية أنواع اللعب فلا يسمح بها، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه البيوت -أو المساجد- لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه)، فكما أن الشعر الذي يخدم الدعوة الإسلامية ويخدم المسلمين مما يوالي ذكر الله؛ لأنه تأييد لهم، فكذلك مثل هذه الحركة ففيها تدريب، وفيها تعليم لمن لم يرها من قبل، وفيها تشويق لمن لم يعرف ذلك، فتكون فيها خدمة دينية، فلا مانع منها، ولا يسمح بها في غير يوم العيد، فهذا ما يؤخذ من هذا الحديث.

وهنا ناحية اجتماعية أخرى، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ستر عائشة حتى لا يراها الناس، وهي رأت الناس ولا يمكنها مشاهدة ذلك إلا بأن تراهم، فهناك فرق بين أن يرى الرجل المرأة وأن ترى المرأة الرجل، ولكن -كما يقولون- الأفضل للطرفين ألا يرى أحدهما الآخر، فهذا هو الأسلم والأفضل، كما جاء في قصة ابن أم مكتوم حيث دخل على بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: (احتجبن. فقلن له: إنه أعمى لا يرانا. قال: أوعمياوان أنتما؟) فهو لن يراهما لأنه أعمى، وهما سيريانه، وهذا من باب الرفعة أو السمو، أو علو درجات أمهات المؤمنين، فيحملن على أكمل الصور وأكمل الحالات.

والآن -بطبيعة الحال وضرورة الحياة- المرأة تخرج إلى السوق، ولها أن تخرج إلى المسجد، ففي الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فستخرج من بيتها إلى المسجد، فهل تخرج مغمضة عينها أو ترى الطريق؟! إنها سترى الطريق، والطريق فيها الرجال والنساء، فسترى المار في الطريق، فهذا من الضرورات، ولا يمكن أن نمنعها من رؤية الرجال؛ لأن هذا معناه منعها من الحركة خارج بيتها، مع أنه يجوز لها أن تخرج إلى قضاء حاجتها، حتى المعتدة لها أن تذهب في النهار لتقضي حاجتها وترجع، ويكون مبيتها في بيتها.

فهذه ضرورة، ولا يمكن القضاء عليها، وليس هناك بديل عنها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الصلاة - باب المساجد [4] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net