إسلام ويب

من المسائل المتعلقة بالتيمم: جواز التيمم لمن لم يجد الماء ولو كانت المدة طويلة، ومنها: لو تيمم رجل وصلى، ثم وجد الماء، فإنه لا يعيد الصلاة، وإن وجد الماء أثناء الصلاة فإنه يقطعها ويتوضأ ويصلي، ومن تلك المسائل: جواز التيمم لمن خاف على نفسه الهلاك من استعمال الماء، لمرض ونحوه، كأن يكون الماء شديد البرودة، ولم يستطع استعماله، ونحو ذلك من الاعذار.

شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) رواه البزار ، وصححه ابن القطان ، لكن صوّب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه].

بعد ذكر المؤلف بيان مشروعية التيمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً)، وبيان نوعية ما يتيمم به في قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً)، وبيان الكيفية وهي ضربة أو ضربتان إلى الكفين أو المرفقين، أتى هنا إلى التوقيت في التيمم، وهل التيمم مؤقت بوقت، أو أنه مطلق الزمان؟

فقد وجدنا توقيت المسح على الخفين بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، فجاء المؤلف رحمه الله بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد)، ولم: يقل التراب ولا التربة على عموم ما تقدم.

(طهور المسلم)، كلمة (طهور) جاءت في قوله تعالى: مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وهي وصف للماء الذي يتطهر به، فالصعيد طهور المسلم، ولذلك قالوا: إن التيمم طهور كطهور الماء، ولفظ (المسلم) هنا للأغلبية، فإذا كانت أسرة أو عائلة أو جماعة ولم يجدوا الماء فالتيمم للمرأة وللرجل سواء.

وأصل الحديث أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك أبو ذر يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟! قال: كنت أكون في الخلاء ومعي أهلي وتصيبنا الجنابة وليس عندي ماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)، وهنا إلى أسلوب المبالغة، فهل سيعيش الإنسان في فلاة لا يجد الماء عشر سنين؟! وإذاً كيف تكون حالته وحياته؟!

لابد أنه سيقيم في مكان لا ماء فيه عشر سنين ويتيمم للجنابة وللحدث، أو يكون الماء قليلاً لا يكفي إلا لطعامه وشرابه؛ لأنه من المتفق عليه أنه إذا كان الإنسان في الخلاء وليس معه من الماء ما يكفي إلا لشرابه، وطهي طعامه، ولدابته التي يركبها ليسقيها، ولم يزد على ذلك؛ وفّر الماء لشرابه، ولإنضاج طعامه، ولعجينه ولدابته وتيمم، ويعتبر فاقد الماء؛ لأنه ليس عنده ماء زائد عن حاجته، فإذا كان عنده ماء زائد عن حاجته، وحاجة كل حيوان محترم معه، فله أن يوفر الماء للحيوان؛ لأنه سوف يموت إذا لم يشرب، ولنفسه من باب أولى في مصالحه: في الشراب، والقهوة، والطعام، والعجين، وإذا لم يزد عن ذلك شيء تيمم ووفر الماء للضروريات تلك.

فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع (لم يجد الماء عشر سنين) هذا هو أقصى ما يمكن أن يتصوره إنسان أنه لن يجد الماء في تلك المدة، فإذا كان لأسبوع أو لشهر أو لشهرين فمن باب أولى أنه لا مانع في ذلك.

إذاً: لا توقيت في استعمال التيمم ما دام أنه على ما وصف الله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، وكما أجمع العلماء: أن من كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء فإنه له أن يتيمم.

إذاً: إن عدم الماء أو عدمت الاستطاعة على استعمال الماء وكان موجوداً؛ فإنه حينئذٍ يعمد إلى التيمم، وإلى متى؟ لا تحديد في ذلك ما دام مريضاً لا يستطيع استعمال الماء، وما دام على غير ماء لم يجده، فإنه يستعمل التيمم دون تحديد بزمن، لا يوم وليلة، ولا ثلاثة أيام، ولا شهر ولا شهران، ولا غير ذلك.

هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟

ثم قال (فإذا وجد الماء) أي: بعد العشر سنوات، (فليتقِ الله وليمسه بشرته)، يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هذا الحديث من المشكلات.

فقوله: (فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته)، هل يمسه بشرته لما مضى وتيمم من أجله، أو يمسه بشرته لما يستقبل من الصلوات الجديدة ويصليها بطهارة مائية؟

ومن هنا ينشأ السؤال: رجل أجنب وتيمم وصلى، ثم بعد يوم أو يومين وجد الماء، فهل يمسه بشرته لتلك الجنابة الماضية، أو لما يستقبل من الجنابة أو الحدث؟ وهل التيمم رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟

والإشكال في ذلك يقول رحمه الله: إذا كان قد صلى بالتيمم فمن قال: إنه رافعٌ للحدث فإن الصلاة صحيحة، والحدث ارتفع وإلا لما صحت الصلاة، والآخرون يقولون: لو لم يكن الحدث باقياً لما أمره أن يغتسل بعد أن وجد الماء.

إذاً: إن قلنا: يغتسل فمعناه: أن الحدث موجود، وإن قلنا: يصلي، فمعناه: أن الحدث ارتفع، فالأمران متعاكسان في هذا الحديث, ولذلك من قال: إن التيمم ليس رافعاً للحدث، ولكن الحدث ليس موجوداً وقت الصلاة, قال: إنما التيمم رافع للحدث وقت الصلاة.

ولكن يقال: التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فهو مبيح للصلاة مع وجود الحدث، وذلك نظير الرخصة في أكل الميتة، فإن النص بتحريم الميتة موجود وهي محرمة، لكن أبيحت مع التحريم للضرورة والاضطرار, إذاً فحكم نجاسة الميتة عندما يأكلها المضطر موجود، ولكنها أبيحت له إبقاءً على حياته، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] فهي محرمة ولكن: فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] (فلا إثم) للحرمة الموجودة، وكذلك هنا حينما لم يجد الماء، فتيمم مع وجود الحدث، لكنه أبيح له أن يصلي بهذا التيمم.

وقوله: (فليتقِ الله وليمسه بشرته)، يقول العلماء: يمسه بشرته للجنابة الماضية، ويكون الحدث باقياً، ويترفع بعد أن وجد الماء لعدة سنوات أو أيام، وهل يمسه للمستقبل؟

نقول: أما للمستقبل فلا يحتاج؛ لأن الله يقول: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، فالأمر بالغسل للجنابة مع وجود الماء موجود ولا يحتاج إلى التنبيه عليه هنا.

إذاً: قوله: (فليمسه بشرته)، إنما هو للحدث المتقدم الذي تيمم بسببه وصلى، ويؤيد هذا قضية المرأة ذات المزادتين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وعند رجوعهم انتهى الماء عليهم، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ومعه شخص آخر ليطلبا الماء، فذهبا يطلبان الماء، ومشيا مدة طويلة فلم يجدوا ماءً، ثم وجدا ضعينةً راكبة على بعير بين مزادتين، وهي امرأة من المشركين كانت على بعير لها، وعلى البعير مزادتان، أي: قربتان كبيرتان مليئتان بالماء، فسألاها: أين الماء؟ فقالت: الماء عهدي به أمس الساعة -أي: من أمس مثل هذا الوقت وأنا أمشي من عند الماء- ففكر: هل يذهبان ويبحثان عن الماء بعد أربعة وعشرين ساعة؟ فتشاورا فاقتاداها إلى رسول الله بما معها، قالا لها: إذاً اذهبي معنا إلى رسول الله، فقالت: من رسول الله؟ ذاك الصابئ؟ قالا: الذي تعنين، فأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإنزال المزادتين، ثم أخذ من كل واحدة من المزادتين جزءاً في إناء، وقرأ ودعا وبرك في ذلك، وأعاد الماء الذي قرأ فيه ودعا في المزادتين، ثم نادى في الجيش: من أراد الماء ليشرب؟ من أراد ليسقي دابته؟ من أراد ليملأ وعاءه؟ فامتلأت أوعية الجيش, وشرب الناس وسقوا دوابهم، واكتفوا في كل حاجتهم من الماء.

وقد كان صلى الله عليه وسلم في صبيحة ذلك اليوم رأى رجلاً معتزلاً الناس لم يصل، فقال: (ما بالك لم تصل مع الناس, ألست بمسلم؟! قال: بلى يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: الصعيد وضوء المسلم)، فتيمم الرجل وصلى، فلما جيء بالمزادتين وأفاض الله على الجميع بالماء، أخذ ماءً في إناء وقال: أين الرجل؟ يقصد الذي أجنب، قال: هأنا, قال: (خذ هذا فأفرغه على جسمك)، وهنا يقال: الرجل تيمم وصلى، ثم دعاه الرسول وأعطاه الماء، وأمره أن يغتسل الجنابة التي تيمم لها؛ لأنه لم يجنب جنابة جديدة، ولم نعلم ذلك، وحتى لو أجنب ما علمنا بذلك، نحن نعلم الجنابة المتقدمة فقط.

وفي تتمة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (انظري ما انتقصنا من مائك شيئاً، ولكن الله الذي سقانا، وقال: اجمعوا لها، فجمعوا لها ما معهم من الطعام وحملوه على المزادتين)، وذهبت إلى قومها فقالت: يا قوم! رأيت عجباً، رجلاً إن كان ساحراً لهو أعظم السحرة، وإن كان نبياً لهو نبي حقاً، وقصت لهم القصة, فكان الصحابة إذا أغاروا على الأحياء يتجنبون حيها إكراماً لها؛ فقالت: يا قوم! والله ما ترككم القوم عجزاً عنكم، ولكن إكراماً لكم، فأسلموا خيراً لكم, فأسلموا.

والذي يهمنا في هذه القضية من الفقه أن الرجل تيمم وصلى، وهذه الجنابة باقية عليه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الماء لما علم من الجنابة السابقة، وأمره أن يغتسل، ولكن هل أمره أن يعيد الصلاة؟

لا؛ لأن الوقت قد خرج.

حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء

[وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له, فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي ].

يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: (خرج رجلان) فكونه لم يسم الرجلين لا يضر في الحديث؛ لأن الرجلين ليسا موضع تشريع خاص بهما، ولكنه يحكي ما وقع منهما، وما بينه صلى الله عليه وسلم من فعلهما، وهذا من أهم أحاديث التيمم.

هذان الرجلان خرجا في سفر وليس عندهما ماء، وأدركتهما الصلاة، فتيمما وصليا، وإلى هنا فعلا شيئاً عادياً, صليا بطهارة مشروعة وهو التيمم عند انعدام الماء، ثم مضيا في طريقهما فوجدا الماء الذي كان مفقوداً عند التيمم، والوقت باقٍ لم يخرج، وهنا اجتهد الرجلان، وكما يقول العلماء: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في غيبته لا في حضوره، أما في حال حضوره فلا اجتهاد لأحد، ولا يقدم أحد شيئاً بين يدي رسول الله.

ولنفرض أنهما سافرا ودخل وقت العصر وليس عندهما ماء، فتيمما وصليا في أول الوقت، وفي أثناء المسير عند اصفرار الشمس وجدا الماء، فهم الآن في وقت العصر التي صلياها، فحينئذ اجتهد الرجلان، أما أحدهما فرأى أن الوقت باقٍ, وهو مطالب بالصلاة بطهارة مائية: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، فتوضأ وأعاد الصلاة بهذا الوضوء، ليوقع الصلاة بطهارة مائية كما أُمر, والآخر نظر إلى شيء آخر وقال: لقد صليت بطهارة مشروعة، تيممت كما أمرني الله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، وقد أديت الصلاة بوجهها المشروع وانتهيت من أدائها ومضت، فكوني أجد الماء بعد ذلك لست مطالباً بإعادة الصلاة؛ لأنني صليتها بطهارة مشروعة جائزة لي، إذاً أنا عملت عملاً صحيحاً شرعياً, أما أن أوجب على نفسي إعادة الصلاة بطهارة الماء فأنا لا أرى ذلك ولم أفعل.

إذاً: اختلاف وجهات النظر فيما لا نص فيه أمر وارد, ولم يعب الذي توضأ وصلى على من لم يتوضأ ولم يصلِّ, ولم يقل له: أنت مقصر، وإنما قال: هذا اجتهادي أنا في نفسي, والثاني لم يقل له: أنت مبتدع أو مخالف، ولم يعب عليه؛ لأن كلاً منهما عمل باجتهاده الخاص، وليس عند أحدهما نص يوقف الآخر عنده, وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه رجلان فقال: من أين جئتما؟ قالا: من عند فلان, قال: ماذا تصنعان عنده؟ قالا: كنا نحتكم إليه في قضية كذا, قال: بم حكم لكما؟ قالا: حكم بكذا, قال: لو كنت أنا لحكمت بغير ما حكم به, فقالا: وما الذي يمنعك أن تحكم بيننا وأنت أمير المؤمنين بما تراه؟ فقال لهما: -وهذا محل الشاهد, وينبغي على طالب العلم الحرص كل الحرص على هذا المنهج؛ لأنه هو الذي يبقي المودة والأخوة، وصفاء النفس، وطهارة القلب بين طلبة العلم- قال: لو كنت أردكما إلى نص رسول الله أو كتاب الله لفعلت، ولكني سأردكم إلى رأيي، وليس الرأي بأولى من الرأي.

مع أنه أمير المؤمنين، وهو خليفة راشد، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، فلما لم يكن عنده نص من كتاب ولا سنة توقف، وقال: ولكني سأردكم إلى رأيي.

وقد بين لنا القرآن الكريم في قضية داود وسليمان: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78]، فداود عليه السلام حكم لأهل الحرث بالغنم عوضاً عن الحرث الذي أتلفته, وسليمان قال: أنا سأحكم بغير هذا، وعندي وجهة نظر أخرى، قال: تكون الغنم عاريةً عند أهل الحرث ينتفعون منها، وأصحاب الغنم يقومون على الحرث حتى يصلح على ما كان عليه من قبل، فمثلاً: إذا أكلت الغنم القمح في صغره، فهو يمكن أن ينبت ويطلع، فالشجر الصغير يمكن أن يورق وتطلع أغصانه، ويأتي بالثمار، فإذا ما استوى الحرث على ما كان عليه رد الحرث لأصحابه، وردت الغنم لأصحابها، وقال الله سبحانه وتعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]، ثم قال: وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79].

فكما قال الفقهاء: صوب الله حكم الاثنين؛ فحكم داود صحيح، وحكم سليمان صحيح، ولكن حكم سليمان أكثر فهماً وأجمع للمصلحتين، ونحن لو نظرنا في قضائنا اليوم: (على اليد ما أخذت، وعلى العين ضمان ما أتلفت)، فداود حكم بهذه القاعدة، وسليمان عليه السلام رأى إلى ضمان مصلحة الطرفين.

وهنا عمر رضي الله تعالى عنه الملهم المحدث يقول: لو كنت أردكما إلى نص من كتاب أو من سنة فعلت ونفذت؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، ولكن رأيي، وليس الرأي أولى من الرأي)، ولهذا في نظام القضاء لو أن قضية عرضت على قاض، وهي مسألة اجتهادية لا نص فيها، وحكم فيها، فإن حكمه يمضي، ولا يحق لحاكم يأتي بعده -ولو كان أعلى منه رتبة- أن ينقض ذلك الحكم؛ لأنه سوف ينقضه لرأيه الخاص، وليس رأياً بأولى من رأي، أما إذا كان مخالفاً نصاً فينقض لمخالفة النص.

فهذان رجلان مستويان في الدرجة، أدركتهما الصلاة ولا ماء عندهما، وهما يعلمان الحكم بأن الصعيد طهور المسلم، فتيمما وصليا، ثم طرأ عليهما ما جدد الفكر، واستوجب النظر، وهو أنهما وجدا الماء في الوقت، فحينئذٍ لو لم يكونا صليا بالتيمم فسوف يكون الواجب عليهما الوضوء والصلاة، لكنهما صليا وأديا ما عليهما، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء، والثاني لم يعد، وإلى هنا عمل كل منهما مغاير للآخر، والمرجع في هذا إلى الله ورسوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم فصل في القضية، وهذا مما يبين منزلة صدر الإسلام وسلف الأمة، وأصحاب رسول الله الذين يتلقون العلم مبدئياً حياً طرياً من رسول الله مباشرة، فإذا جاءنا حكم عن صحابي عن رسول الله وجب أن نرفع به رأساً، ويجب أن نسترعيه الانتباه، ونعلم بأن هذا أحق ما يمكن أن يؤخذ فيه الأحكام.

فأجابهما صلى الله عليه وسلم على ما كان منهما، وقال للذي لم يتوضاً والصلاة لم يعد: أصبت السنة، والسنة هي الطريقة، وقد تستعمل السنة في مقابل الفرض في ذلك الوقت، وهو أمر اصطلاحي، كما جاء في حق رمضان: (إن الله افترض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه)، وليس قيام الليل يعدل صيام النهار، فالصوم فرض: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، ولكن القيام من النوافل والسنن، فهنا نص صلى الله عليه وسلم على الفرق بين العملين، العمل الذي هو فرض وعين على كل مكلف، والعمل الذي هو سنة مندوب إليه، فقال للذي لم يعد واكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة)، والسنة: هي الطريقة، كما قيل:

من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمام

أي: لكل معشر طريقة وإمام يقتدون به، وقوله: (سنت لهم آباؤهم) أي: رسمت لهم الطريقة والمنهج في حياتهم.

وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة)، يدل على أن صلاته صحيحة؛ ولهذا أخذ العلماء أن من تيمم في أول الوقت لانعدام الماء، ثم وجده في الوقت، فإن صلاته صحيحة؛ لأن إصابة السنة معناها إصابة الصواب، فهو نص على أن الصلاة صحيحة مجزئة، وأنه أصاب السنة بعمله ذلك.

وقال للآخر: (لك الأجر مرتين).

وذلك لأنه فعل الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالوضوء، وبعضهم يقول: (لك الأجر مرتين) أي: لاجتهادك، ولكن الأول كذلك اجتهد في اكتفائه بالتيمم وصلاته التي مضت، فالتحقيق كما يقوله الكثيرون: (لك الأجر مرتين)، لأنه أعاد الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالطهارة المائية.

المفاضلة بين الذي أصاب السنة والذي حصل على الأجر مرتين

وهنا يأتي نقاش العلماء النقاش الطريف: أيهما أفضل: الذي أصاب السنة أو الذي حصل على الأجر مرتين؟

نقول: الذي حصل على الأجر مرتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه قال للذي لم يعد: (وأجزأتك صلاتك)، ولفظ الإجزاء هو أقل ما يمكن أن يحصل عليه، وليس بعد الإجزاء من نقص فيكون ذلك قد أجزأته صلاته، ولكن الذي أصاب الأجر مرتين أجزأته وزيادة.

مسألة: إذا وجد المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي

وهذه مسألة يبحث الفقهاء فيها وهي: إدراك المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي، فيقولون بالتقسيم العقلي: تيمم وقبل أن يصلي وجد الماء، فهل يصلي بتيممه، أم أن الماء موجود وهو ما شرع في الصلاة فيتوضأ؟

نقول: يتوضأ، وهذا باتفاق العلماء، إلا قول لـداود الظاهري .

فإذا تيمم ووجد الماء قبل الشروع في الصلاة، فالجمهور على أنه يبطل التيمم بوجود الماء؛ لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43] وقد وجده.

مسألة: إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة

مسألة: تيمم وشرع في الصلاة، ثم وجد الماء أثناء صلاته، فهل يخرج من الصلاة ليتوضأ ويأتي بالصلاة بوضوئها أو يستمر في صلاته؟

يبطل التيمم بوجود الماء؛ لأن التيمم مشروط فيه: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] وقد وجد فألغي التيمم.

والشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: الله تعالى يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، فهو قد دخل في الصلاة بوجه شرعي معلوم، وأصبح مطالباً أن لا يبطل صلاته بالخروج منها.

ولكن الجمهور يقولون: الطهارة المائية شرط أساسي، والتيمم ما جاء إلا نيابة عن الماء عند فقده، فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة لم يبق للتيمم سبب.

وفي بعض المذاهب يقولون: إذا نهق الحمار بطلت صلاة المتيمم، وما هو الذي أبطل الصلاة بنهيق الحمار؟ قالوا: كأن طلب الماء فلم يجده، فأرسل شخصاً بحمار ليأتي بالماء، فاستبطأه فتيمم، ثم دخل في الصلاة، فإذا هو بالحمار ينهق من ورائه، فعلم أن الماء قد حضر، فحينئذ تبطل صلاته بالتيمم لحضور الماء، وهذا من نواقض التيمم زيادة على نواقض الوضوء.

إذاً: إن أدرك الماء وهو في أثناء الصلاة بطلت صلاته، وعليه أن يخرج من تلك الصلاة؛ لأنها لم تعد صلاة؛ لعدم استيفائها الطهارة المائية، وقد وجد الماء.

وإن وجد الماء في الوقت بعد أن تيمم وصلى، فهذه قضية هذا الحديث الموجود عندنا، وباتفاق الأئمة الأربعة أنه قد أجزأته صلاته؛ لأنه صلاها وأداها، وخرج من عهدتها، فبقاء الوقت مع وجود الماء أمر جديد يكون لما يستقبل من الصلوات الأخرى.

وإذا تيمم وصلى وخرج الوقت ثم وجد الماء، فلا إشكال أن الصلاة التي صلاها مضت لطريقها، وعليه أن يستعمل الماء لما يستقبل من الصلوات الآتية.

حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء

[وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [النساء:43] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم) رواه الدارقطني موقوفاً، ورفعه البزار ، وصححه ابن خزيمة والحاكم ].

هذه قضية من العقد في باب التيمم، يقول تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ.. [النساء:43] الآية، فبين أن الإنسان إذا كان على سفر ولم يجد ماء فإنه يتيمم، لكن إن كان واجداً للماء ولم يقدر على استعماله، فـابن عباس يقول: إذا كانت بالرجل الجراحة، فيجنب، ويخشى على نفسه إن هو اغتسل الهلاك -أي: الموت- بسبب الجراح؛ فإنه يتيمم.

ولكن إذا كانت الجراح مع استعمال الماء ليس فيها موت، ولكن فيها إيلام، وتأخير برؤ جراحه، وإذا لم يكن به جراح بالكلية، ولكن الماء شديد البرودة، والجو بارد لا يقوى على برودة الماء مع برودة الجو، فهل يتيمم أم عليه أن يغتسل من جنابته في شدة البرد مع برودة الماء؟

تحمل برودة الماء في برودة الجو تختلف فيه أجساد الناس، فبعض الناس قد يزيح الثلج عن وجه الماء ويغتسل، وبعضهم لا يستطيع حتى أن يغسل وجهه، وقد كان هناك أعرابي مسافر، فنزل في بعض منازل سفره فوجد غديراً فيه ماء، ومن شدة البرد تكونت طبقة من الثلج على وجه الماء، فجاء هذا الأعرابي وخلع ثوبه، وأزاح الثلج عن الماء ونزل فاغتسل، وخرج ولبس ثيابه، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى هذا الرجل، فأُعجب بقوته وتحمله، فاستصحبه معه، وكان شاعراً، فمدح معاوية بمدائح وحي الطبيعة:

أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب

فقالوا: ويلك كيف تمدح أمير المؤمنين بهذا المدح؟ فقال: اتركوه، هذا خير ما يعلم؛ لأن الكلب عنده وفي، والتيس في قراع الخطوب أقوى من الحيوانات، فهذا ما يشاهد من بيئته، فلما أخذه معه وعاش عيشة الترف وتثقف بالمجتمع والحياة المتحضرة تغيّر، فهو القائل:

عيون المها بين الرصافة والجسرقتلنني من حيث أدري ولا أدري

ففرق بين التيوس والكلاب، وبين عيون المها وقتلنني، فلما رجع معاوية من رحلته إلى الحج مرة أخرى ومعه هذا الرجل ونزلوا في ذاك المنزل وفي شدة البرد، ناداه معاوية وقال: هلم! تذكر وقت كذا عندما اغتسلت هنا، قال: نعم، قال: فافعل الآن! وقال: لا إن البرودة تقتلني، قال: لماذا فعلت ذلك في العام الماضي؟ قال: العام الماضي كنت في البادية، أما الآن فقد عشت معك في الرفاهية والنعيم، وفي الدفء، فلا أقوى عليه الآن.

إذاً: التحمل لشدة برودة الماء أمر نسبي، وليس كل إنسان يقدر عليه، لكن إن عرف من نفسه أن ذلك يضره فلا بأس بالتيمم.

ونأتي إلى قصة عمرو بن العاص عندما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، فلما في طريقه وقد دنا من العدو احتلم، فلما أصبح ذكر ذلك لأصحابه، ثم تيمم وصلى بهم، وهم مأمورون باتباعه لأنه أميرهم، فقالوا: كيف تصلي وأنت جنب؟ قال: أنا أميركم وأنا المسئول، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! عمرو صلى بنا وهو جنب، تيمم ولم يغتسل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك جنباً يا عمرو ؟ قال: بلى، قال: ولماذا؟ قال: يا رسول الله! إن الليل شديد البرد، والماء شديد البرودة، وأخشى إن اغتسلت به هلكت، والله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] والعدو قريب منا، فخشيت إن أنا أوقدت ناراً لأدفئ الماء أن يشعر بنا العدو، فتيممت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقر فعله، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة).

إذاً: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرجل به الجراحة في سبيل الله، فأجنب، فخشي إن هو استعمل الماء -سواء كان لبرد أو لغيره؛ لأن الجراح قد تتأذى بالماء ولو لم يكن بارداً- أن يهلك، فإن له أن يتيمم، يقاس على ذلك بعض الأمراض الجلدية التي لا تقبل الماء، كأنواع الجدري -عافانا الله منه- أو ما يسمى (بالعنقز) عند بعض الناس، وهي حبوب صغيرة تظهر على الجلد فيها ماء قليل، وتغيّر الجلد، ولا يستطيع صاحبه أن يستعمل الماء؛ لأنه ينشر الداء على الجلد.

إذاً: من أجنب وخاف على نفسه الهلاك باستعمال الماء، سواء بسبب جراح، أو بسبب شدة البرد وبرودة الماء وهو لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، فحينئذ يكون له حق التيمم.

لكن هل هذا في جميع الحالات أم أنه في السفر فقط؟ لأن بعض العلماء يمنع التيمم للجنابة في الحضر، لكن إذا كان لمرض فهذا يستوي فيه الحضر والسفر، أما إذا كان لعدم الماء فيقل ويندر أن يعدم الماء في الحضر، قد يعدم في البادية والصحراء، لكن في الحضر هو محل إقامة الناس، والناس لا يقيمون إلا على الماء، والله تعالى أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة - باب التيمم [3] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net