إسلام ويب

ينبغي معرفة مدى اهتمام الإسلام بالمظهر العام للمسلمين، فقد شرع أنواعاً من الأعمال، منها ما هو واجب ومنها ما هو سنة، والرجال والنساء فيها على ااسواء، ومن تلك الأعمال الغسل لمن جامع، سواء أنزل أم لم ينزل، والغسل لمن أسلم، والغسل يوم الجمعة، وغيرها.

شرح حديث: (الماء من الماء)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:-

[عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) رواه مسلم، وأصله في البخاري].

ذكر المؤلف رحمه الله باب الغسل، وأورد فيه عدة أحاديث، وبدأها بقوله عليه الصلاة والسلام: (الماء من الماء)، فما المقصود بالحديث؟

قالوا : هذا من حسن الجناس في اللغة؛ لأن الماء الأول غير الماء الثاني، فالماء الأول هو: الماء المعهود للشرب والغسل، وأما الماء الثاني فالمقصود به المني.

والمعنى: أن استعمال الماء -للغسل- يكون من الماء الذي يخرج من الرجل، ومفهوم المخالفة: إذا لم ينزل المني فلا يجب الغسل، وسيأتي الجمع بين هذا الحديث وبين حديث: (إذا جلس بين شعبها..)، فلو أن إنساناً أتى أهله فأكسل -لم ينزل- فهل يجب عليه الغسل؟

إذا نظرنا إلى رواية أبي سعيد : (الماء من الماء)، فهذا النص بهذا اللفظ لا يمنع أن يكون الماء من شيء آخر، لكن جاء الحديث بالحصر: (إنما الماء من الماء)، والحصر كما يقولون: يحصر المبتدأ في خبره، فإذا قيل: إنما الماء من الماء، فلا غسل إلا لنزول المني فقط، لكن: (الماء من الماء) بدون حصر معناه: أن الغسل قد يكون من غير النزول كالجماع بدون إنزال مثلاً، وهناك من يقول: من أتى أهله فأكسل -لم ينزل المني- فلا غسل عليه.

وسبب هذا الحديث: أن أحد الصحابة كان على بطن زوجه، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعجل وقام ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل، فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب تأخره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عليك، إنما الماء من الماء)، ما دمت أعجلت عليها ولم تنزل، فلا غسل عليك، لأن الغسل لا يجب إلا مع النزول، وإنما عليك أن تغسل فرجك، فأخذ بعض العلماء من هذا أن من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه.

ثم جاء الحديث الآخر: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)، قال بعضهم: الشعب كناية عن اليدين والرجلين، وذلك كناية عن الجماع، وأكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم جهدها) والجهد من الجهد، وهو: الطاقة؛ لأن المرأة تبذل جهداً، أو أن الرجل يحملها جهداً في هذه العملية، وذكر ابن دقيق العيد أن من معاني الجهد لغة: النكاح، فقوله: (ثم جهدها) بمعنى: وطئها.

وجاء في حديث آخر: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل).

وجاء أيضاً: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -قبل الحجاب- وعائشة جالسة فقال: إني لآتي أهلي وأكسل -لا أنزل المني- أعلي غسل؟ فقال: إني أفعله أنا وهذه ونغتسل).

الراجح في مسألة حكم الغسل لمن جامع ولم ينزل

والتحقيق عند العلماء أن من جامع ولم ينزل فعليه غسل.

وجاء أن بعض الصحابة كان يقول: من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه،. وقال آخرون: عليه الغسل، فاختلفوا بين يدي عمر، فجاء علي رضي الله تعالى عنه فسأله عمر : ما تقول أنت؟ قال: وعلام تسألني وبجوارك أمهات المؤمنين؟! فأرسل إليهن فسلهن فإنهن أعلم بذلك منا.

وهذا من ضمن ما يذكره العلماء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن ينقلن عنه بعض تصرفاته الخاصة مما يستفاد منها في التشريع، فأرسل عمر لـأم سلمة رضي الله تعالى عنها فقالت: سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله عنها فقالت: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل)، وفي بعض الروايات أن بعض أقاربها سألها وكان غلاماً: الرجل يجامع أهله ولم ينزل؟ قالت: مثله كمثل الفروج؛ سمع الديكة تصيح فصاح، يا ابن أختي! إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . فلما جاء رسول عمر رضي الله تعالى عنه ونقل له حديث أم المؤمنين عائشة : (أنه إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) ومعناه: ولو لم يحصل إنزال، فقال عمر: لا أسمع بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره، فجاء أبي بن كعب فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين: كان في بادئ الأمر رخصة لنا، ولا غسل إلا لمن أنزل، ومن جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، ثم عزم علينا.

وكذلك في الخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره في بعض الروايات: (أفعله أنا وهذه ولا نغتسل، قال الراوي: ثم عزم علينا بعد ذلك) ، وجاء: (أفعله أنا وهذه ونغتسل).

ومن هنا نعلم: أن بعض المسائل قد تخفى على بعض الصحابة، مما تعم بها البلوى كما يقال؛ لأنها قضية بين الزوجين، وتحدث في كل ليلة، وفي كل ظهيرة، وفي كل وقت، ليس فيها تحديد زمان، ومع ذلك حكمها يخفى على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

إذاً: مع طول الوقت ووجود الخلاف ووجود التساؤل تبلورت المسائل، وما كان مختلفاً فيه أو متجاهلاً أمره على البعض تمت معرفته؛ ولذا نجد هذه المسائل التي تسمى: بالمذهب ما جاءت عفواً، ولا قام بها الإمام في المذهب وأملاها على الناس، ولكن جزئيات وأحداث ووقائع تقع وينظر فيها الإمام على مقتضى النصوص السابقة التي وصلته، ويصدر رأيه وفتواه فيها، فتجمع ثم يأتي أصحابه وأتباعه من بعده، وتأتي أحداث وتأتي وقائع فينظرون فيها على مقتضى قواعد إمامهم وما تقدم له، وعلى أسس فتواه في نظائرها، فيضمون الأشباه والنظائر إلى أن اكتمل المذهب؛ وهو من عمل الإمام ومن عمل أتباعه وأصحابه، وتكون من المجموع مذهب فلان، من فعله وفعل تلاميذه وأتباعه.

فهل قضية مثل هذه يختلفون فيها؟ نعم، ولا مانع، وعمر يتوقف ويسأل علياً، ويسأل أمهات المؤمنين، فيخبره أبي بأن ذلك الأمر كان في بادئ الأمر رخصة ثم عزم علينا.

إذاً: انتهى الخلاف في هذه القضية بذلك المجلس العلمي الذي ترأسه أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، وبنوا رأيهم وحكمهم على ما أتاهم من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهى الأمر بوجوب الغسل.

حجة القائلين بعدم نسخ حديث: (الماء من الماء)

حديث: (الماء من الماء)، هناك من يقول: قد نسخ بحديث: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل). ، والصحيح أنه ليس منسوخاً؛ والمؤلف أدرك ذلك؛ ولذا جاء بحديث المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل على المرأة غسل إن هي احتلمت؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء).

إذاً: للمرأة ماء، وللرجل ماء، وكانت أم سلمة موجودة فغطت وجهها وقالت: فضحت النساء، وهل المرأة تحتلم؟! استنكرت ذلك؛ لأنها ما احتلمت ولم تسمع بأن المرأة تحتلم، ولكن وجد ذلك من عدد من الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن، وفي بعض الروايات: (النساء شقائق الرجال) ، يعني: يجري على النساء في المنام ما يجري على الرجال، فقال: (نعم، تغتسل إن هي رأت الماء) ، لا لمجرد الاحتلام بل لرؤية الماء.

وهل قوله: (رأت) رؤية علم إذا أحست بخروج الماء؟

قالوا: رؤية المرأة للماء لا يتعين خروجه؛ لأن ماءها يجد مكاناً يكمن فيه ولا يبرز إلى الخارج، فإذا أدركت أنه خرج ماؤها وانفصل عن مكانه ولو لم يبرز إلى الخارج فعليها غسل، بخلاف الرجل فإذا جاوز ماء الرجل مكانه فليس عنده مكان في الداخل يكمن فيه، بل يخرج إلى الخارج حالاً .

وهكذا حديث : (إذا رأت المرأة ما يرى الرجل ..) ليس هناك جلوس بين الشعب، وليس هناك جهد، وليس هناك مجاوزة ختان لختان، ولكن شيء في المنام رأته تسبب في خروج الماء، فعليها غسل، وسيأتي تتمة الحديث.

إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم : (الماء من الماء) شمل المرأة؛ فالمرأة إذا رأت ماءها باحتلام أوبغيره فعليها الغسل مثل الرجل في ذلك.

إذاً: حديث : (إنما الماء من الماء) لا يصح ادعاء نسخه؛ لأنه يبقى معمول به في غير الجماع؛ وهو الاحتلام، سواء كان للرجل أو كان للمرأة.

وبالمناسبة يقولون: إذا رأى الرجل المني في ثوبه ولم يذكر احتلاماً، فيغتسل لقوله: (الماء من الماء)، وقد وقع لأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه بعد أن صلى الصبح ذهب إلى الجرف، وبعد أن طلعت الشمس وجد في إزاره المني، فقال: ما أراني صليت الصبح إلا وأنا جنب. وفي بعض الروايات قال: لما أصبنا الودك لانت العروق وجرى الماء؛ لأنه في عام الرمادة آلى على نفسه ألا يأكل دهناً ولا يأكل لحماً حتى يأكل ذلك كل المسلمين؛ فلما أخصبت الأرض وعادت الأمور إلى مجاريها وأكل، قال: فلما أصبنا الودك- والودك هو: الشحم المذاب- لا نت العروق - كانت يابسة - فجرى الماء، فغسل إزاره وأعاد صلاته، ولم يأمر الناس الذين صلى بهم أن يعيدوا صلاتهم.

ومن هذا أخذ العلماء: أن الصلاة إذا وقع فيها شيء من جانب الطهارة والنجاسة فخرج وقتها فلا إعادة.

هل صلاة الإمام مرتبطة بصلاة المأموم أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة؟

ابن عبد البر يتساءل في التمهيد: هل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة وبطلاناً، أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؟

رجح أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؛ بدليل: أن الإمام لو نابه شيء في الإمامة، وخرج من الصلاة فالمأمومون لا شيء عليهم، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: (كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء). أي: اغتسل- فعندما كبر كأنه كان قد وجب عليه غسل ونسي، وتذكر وكان الناس قد كبروا وراءه، فلما تبين أن تكبيرته التي وقعت واقتدى به الناس فيها غير صحيحة؛ ما بطلت تكبيرات المأمومين، وقال: مكانكم. وبقوا على تكبيرة الإحرام السابقة قياماً حتى دخل فاغتسل فجاء وكبر لنفسه وأتم الصلاة.

إذاً: صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام في الطهارة صحة وبطلاناً. وهذا لا يخلو من خلاف عند العلماء كما نعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم : (الماء من الماء) وفي رواية أخرى: (إنما الماء من الماء)، وبعضهم يقول: من أدوات الحصر تعريف الطرفين بأداة التعريف أل، وتعريف الطرفين يدل على الحصر، تقول: الشاعر زيد، فالمبتدأ المحلى بأل معرف، والخبر علم معرف، ومن أدوات الحصر، تقديم ما حقه التأخير، مثل قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب قدم وجيء معه (بإيا) لينطق بالكاف معه؛ لأنه لا ينطق به وحده، فلما قدم ما حقه التأخير بعد الفعل دل على الحصر : إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]لا نعبد سواك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لا نستعين بغيرك.. وهكذا، فيتفق الأسلوب الأول مع الثاني إلا أنهم يقولون: أشد أدوات الحصر ( إنما ) لأنها بذاتها أداة مستقلة، وكذلك النفي والإثبات مثل: لا شاعر إلا زيد. (لا) هذا نفي، و(إلا) إثبات، وهي أقوى من (إنما) لأنها جاءت في ( لا إله إلا الله ) فلا إله: نفي لجميع الآلهة، وإلا الله: إثبات للمولى سبحانه وتعالى.

إذاً: { الماء من الماء } ، كان في أول الزمن رخصة، والمعنى: لا ماء -غسل- من جماع دون إنزال، ثم عزم عليهم وأصبح الحديث خاصاً بالاحتلام إذا خرج الماء، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل)

قال رحمه الله: [ وعن أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال: تغتسل) متفق عليه.

زاد مسلم: (فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: نعم. فمن أين يكون الشبه؟)]

أنس رضي الله تعالى عنه اختصر الحديث، ومن هي المرأة ؟ أم سليم بنت أبي طلحة، وكانت أم سليم وأبو طلحة بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالأهل، وكان كثيراً ما يرتاد بيتها، وقال في بعض مجيئه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وأبو عمير أخو أنس، فكان الرسول يغشاهم بكثرة، ولهم أخبار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أم سليم تصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وفي حنين جاء أبو طلحة وقال: (يا رسول الله! أم سليم معها خنجر! قال: (ما تفعلين به يا أم سليم؟! قالت: إذا جاءني كافر أبعج به بطنه) ، فكانت لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأقول: لعله لتلك الصلة تجرأت وسألت مثل هذا السؤال، ولكن في روايات الحديث مقدمة لطيفة، وهي: أن أم سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، -كأنها تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأل في أمر يستوجب الحياء، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله يبين كثيراً من الحقوق من هذا القبيل بالكناية اللطيفة- هل على المرأة من غسل إن هي رأت ما يرى الرجل في منامها؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء)، وكانت أم سلمة رضي الله تعالى عنها حاضرة، فقيل: إنها غطت وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنها قالت: أوتحتلم المرأة يا رسول الله؟! تستنكر سؤال أم سليم، والإنسان إذا لم يجرب الشيء أو لم يسمع به أو ما مر عليه يستنكره، كما جاء عن موسى عليه السلام كليم الله مع الخضر : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:68] ، شيء يجهله الإنسان قد لا يصبر عليه، فهي تعجبت وسألت، فبين لها صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم، فمن أين يكون الشبه؟) أي شبه؟ شبه المولود من أبويه؛ لأن المولود لا يخرج عن دائرة الأبوين قرب أم بعد، ويقولون في علم الوراثة: إن الجنين إما أن يحمل خصائص الأبوين القريبين أو الأبوين البعيدين، وفي حديث صاحب الإبل لما رأى مغايرة في ولده، دخله الشك فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له (ألك إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر، قال: هل فيها جمل أورق؟ قال: نعم. قال: من أين جاء؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم -في ولده الذي اشتبه عليه-: لعله أيضاً نزعه عرق) أي: من أجداده أو أعمامه أو أخواله.

وعلى هذا يقولون في علم الأجنة: إن الحيوان المنوي على هيئة الدبوس، ويحمل جينات في مذنبه - يعني: مثل الجيوب - ، وكل جينة فيها خصائص الوراثة من أبوي الطفل: من لونه ومن طبعه، ومن شجاعته أو جبنه، ومن كرمه أو بخله، إلى آخره ... فينشأ الإنسان من هذه الجينات فيشابه أحد الأبوين .

ومتى يكون شبهاً لأبيه أو لأمه؟

في الحديث: إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد الأب، يعني: حسب كثرة ماء الأبوين، والواقع: أن هذا كما يقولون من علم التشريح وعلم الأجنة، وهذه مجالات علمية حديثة لم تكتشف إلا متأخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في ذلك لم يدخل مختبراً ولم يدخل معملاً، ولم يجر تجارب، وإنما كان ذلك وحي من الله، لا كما يقول بعض المتأخرين: إنها اجتهاديات منه صلى الله عليه وسلم لا تصدق.

نقول: لا، الاجتهاديات في أمور الدنيا، أما الإخبار فهذا وحي، وقد جاء مما يكون فيه الاجتهاد لما قال لهم: (علام تؤبرون النخل؟ قالوا: إذا لم نؤبره يشيص، فقال: إن كان الله كاتب لكم شيئاً من الرزق يأتي، فتركوه فجاء شيصاً، فقالوا: تركنا فحصرتنا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) ؛ لأن الدنيا مبناها على التجارب، وكما قال الغزالي رحمه الله : العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم إلهية، وعلوم ظنية.

فالعلوم التجريبية: هي الطب، ولهذا كل أسبوع بل كل يوم يأتينا في الطب جديد، نتيجة للتجارب، وتسمعون وتقرءون: اكتشف كذا بسبب إجراء العلماء تجربة كذا، ولهذا يكون الطبيب الذي يقتصر على حمل شهادته مجمداً، والطبيب الحقيقي هو الذي يتابع الدورات، ونتائج المؤتمرات، ونتائج الأبحاث؛ لأنها تتجدد بتجدد التجارب.

والأمور العقلية: مثل الرياضيات، فإنها لا تختلف أبداً! (1+1=2، 6-5=1) ولكن إذا حصل خطأ فمن العقل الذي يجريها. وأما الظنيات: فما يقال عن مواقع النجوم وعن سيرها وعن أفلاكها هذه مبنية على الظنيات، وقد تكون الظنيات تبلغ إلى حد العلم -كما هو موجود الآن- لوجود الاكتشافات الحديثة.

وأما الإلهيات: فطريقها التوقف والنقل الصحيح عن المعصوم، وكل ما يتعلق بالإلهيات من الأمور المغيبة؛ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التوبة:94]، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] فما كان غيباً فلا يمكن معرفته لا بالتجربة ولا بالظن ولا بالعقل، ولكن بالنص الإلهي من الوحي، سواء كان من كتاب أو من سنة.

إذاً: الغيبيات مرجعها إلى الوحي المنزل الصادق المصدوق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشبه يكون من ماء أحد الأبوين؛ إما الأم وإما الأب، وأما التذكير والتأنيث فله الآن مباحث عديدة، والله سبحانه وتعالى جعل في ماء الرجل خصائص التذكير والتأنيث، ولا دخل للمرأة في ذلك أبداً، جاء في آية النجم: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم:46] فالزوجان الذكر والأنثى من نطفة الرجل، وماء الرجل هو الذي يحدد الذكورة والأنوثة، والأم صالحة للجانبين كالأرض: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ ... [البقرة:223] والحرث: الأرض التي تزرع، ونوعية الزرع من الزارع؛ إن أراد قمحاً بذر قمحاً، وإن أراد فولاً بذر فولاً، فنوعية الزرع من الزارع وكل ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع...)

قال رحمها لله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.].

قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع ...) هل لهذا العدد مفهوم مخالفة؟ يعني: هل هذا حصر لاغتسالاته صلى الله عليه وسلم أم أنه مجرد إخبار؟

جاء في هذا الحديث أنه كان يغتسل من أربع، وفي حديث أم سلمة أنه كان يغتسل من خمس ...، وفي حديث صفية أنه كان يغتسل من عشر، وهل هناك معارضة؟

لا توجد معارضة، كل تخبر بشيء مما كان يغتسل منه، فهنا: (كان يغتسل من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) ونحن نعلم أنه كان يغتسل للعيدين، وكان يغتسل لإحرامه، وكان يغتسل لدخول مكة، وكان يغتسل لوقوفه في عرفات.

إذاً: هناك مواطن للاغتسال عديدة، وعلى هذا: إخبار أم المؤمنين عائشة لا يدل على حصر موجبات الغسل في هذه الأربعة، ثم هي جمعت لنا كما يقال: كشكولاً، وهل كل هذه الأربعة سواء في الحكم؟ فهل غسل الجمعة كغسل الجنابة؟ وهل غسل الجنابة كالغسل من الحجامة؟ وهل غسل الميت كغسل الجمعة؟ كل هذه مختلف في حكمها إلا غسل الجنابة فهو متفق عليه.

إذاً: كان يغتسل من أربع، مبدئياً لا مفهوم لهذا العدد، من أربع.. من خمس.. من عشر.. على حسب ما جاء النص وثبت.

فالموضع الأول هو غسل الجمعة: وسيأتي المؤلف إلى تفصيل هذه الأربعة، فكأنه قدم حديث عائشة بهذه الأربعة مجملة ثم يشرع في تفصيلها، فإذا كان المؤلف سيشرع في تفصيل هذه الأربعة، فنترك الكلام على تفصيلها إلى ما سيأتي به المؤلف؛ لأنه سيذكر الخلاف، سواء في غسل الجمعة، أو في غسل الحجامة، أو غسل الميت، أما الغسل من الجنابة فقد انتهينا منه، وهذا موضع إجماع.

إذاً: بقي علينا بيان الكلام التفصيلي في هذه الأمور الأربعة.

شرح حديث: (أمر ثمامة أن يغتسل عندما أسلم)

قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة ثمامة بن أثال عندما أسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: أن يغتسل) رواه عبد الرزاق، وأصله متفق عليه.]

تجاوز المؤلف تلك الأربعة وجاء بقضية أخرى ليلحقها بالأربعة، ثم يأتي إلى التفصيل.

يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ثمامة بن أثال أمره أن يغتسل) .

ثمامة سيد بني حنيفة، وكان في طريقه إلى مكة معتمراً، فأخذته خيل المسلمين وجاءوا به أسيراً، فربط في سارية المسجد، وكان يؤتى بحلب سبع شياه فيشربها، وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول: (كيف بك يا ثمامة ؟) فيقول: يا محمد! إن تمنن تمنن على كريم، وإن ترد فداءً أعطيتك ما يرضيك، وإن تقتل تقتل ذا دم، يعني: دمي لا يصير هدراً، فأهلي سيطالبون به، فما زال على ذلك ثلاثة أيام، والرسول يسأله ويجيب بهذه الإجابة، وفي اليوم الثالث قال: (اتركوا ثمامة) فأطلقوه، فلما أطلقوه أتى إلى الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل دينكم؟ قالوا: يغتسل، فذهب فاغتسل، فجاء فنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لِمَ لَمْ تفعل ذلك من أول يوم؟ قال: لا، خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، فلما أطلق سراحي جئت بحريتي.

إذاً: الرواية هنا في قصة ثمامة أنه سأل وأخبره الصحابة فذهب إلى بيرحاء، وكانت عند مقدمة المسجد في الجهة الشمالية، -وكانت موجودةً إلى وقت قريب قبل هذه التوسعة الأخيرة- فاغتسل هناك وجاء إلى صلاة الظهر وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم .

هنا يقول (إن الرسول أمره أن يغتسل)، وهل كل من أسلم جديداً نأمره بالاغتسال أم لا؟

نعم على قول الجمهور ما عدا أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: لا غسل عليه؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.

وبعضهم يقول: إن كان قد وقعت عليه جنابة ولم يغتسل أمرناه بالغسل.

وبعضهم يقول: يغتسل، أجنب أو لم يجنب.

والجمهور على أن غسل من أراد الإسلام ليس بفرض؛ لأنهم في غزاتهم وفي إسلامهم وفي دخول الناس في الدين أفواجاً ما ثبت أن الرسول أمر إنساناً أسلم أن يغتسل،كما يفعل بعض المتأخرين؛ يلزم من يريد الإسلام أن يختتن، فلربما ترك الإسلام من أجل ذلك.

الذي يهمنا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يغتسل، وهل هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ قالوا: ليس للوجوب؛ لأننا وجدنا صوراً عديدة ممن دخل في الإسلام ولم يأمرهم قادة الجيوش وأمراؤهم أن يغتسلوا، وجاءت الوفود وأسلموا في المدينة -وفد ثقيف، ووفد تميم- وما أمروا أن يغتسلوا قبل أن يسلموا.

إذاً: الأولى أن يغتسل، ولكن ليس بشرط في صحة إسلامه، فيصح الإسلام ويقبل منه ولو لم يغتسل.

ثم كان من شأن ثمامة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت معتمراً فأخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، قال: امض فاعتمر - أو: أتمم عمرتك) ولما جاء مكة وعلم أهل مكة أنه أسلم آذوه هناك، فتوعدهم ورجع إلى بلاده ومنع الميرة -الطعام- أن تأتي إلى مكة، وكان وادي حنيفة يمول مكة بالحنطة، فجاء أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه: أن يأمر ثمامة أن يسمح للميرة أن تأتي إلى مكة، فإن فيها الخالات والعمات، وذوي الأرحام وقد منعها، فكتب إليه بذلك ففعل.

إذاً: الموضوع هنا زائد عن الأربعة، وهو أمر من أراد أن يدخل في الإسلام أن يغتسل، وهذا بصرف النظر عن الوجوب أو عن الندب، فيغتسل من أربع، وهذه زيادة على الأربع، فصار إلى الآن خمس اغتسالات، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب...)

قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه السبعة.]

نعلم جميعاً أن يوم الجمعة من خصائص هذه الأمة، وقد جاء أن اليهود ما حسدوا المسلمين على شيء كما حسدوهم على يوم الجمعة، وقول: آمين.

ويوم الجمعة اختصت به هذه الأمة وضيعته اليهود والنصارى، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله هذه الأمة ليوم الجمعة.

ويوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية بيوم العروبة، وقد صلى بعض الصحابة يوم الجمعة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة؛ وسبب ذلك أن اليهود كانوا يجتمعون يوم السبت لعبادتهم ولأذكارهم، فيخصون ذلك اليوم بالعبادة وينقطعون عن العمل، فرأى بعض الأنصار الأولين أن يتخذوا يوماً يجتمعون فيه، ويذكرون الله كما يفعل اليهود، فدعاهم شخص فذبح لهم شاة وصنع لهم طعاماً، وصلوا الجمعة - أي: ركعتين- في المدينة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم.

وأحكام هذا اليوم كثيرة جداً، وسبق أن نبهت عليها، ومن أراد استقصاء أحكام يوم الجمعة فإنه يطول عليه، والكلام عن يوم الجمعة أشبه ما يكون بالكلام عن الحج، وأشرنا إلى أكثرها في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] مع قوله: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

ومن أحكامها التي تعرض لها المؤلف هنا: الغسل ليوم الجمعة، فعنأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) .

مما نلاحظه في هذا الحديث مدى عناية الإسلام بالمظهر والنظافة، وخاصة في أيام الأعياد والمجتمعات، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماذا على أحدكم إذا اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوب مهنته؟)

وهذا تنظيم عجيب! أعمال المهنة سواء كانت زراعة للمزارع، أو نجارة للنجار، أو حدادة للحداد، أو.. أو..، كل إنسان له مهنة يحتاج إلى لباس يناسبها يتحمل ما يجري عليه أثناء العمل، فإن أتى الجمعة فمن باب حسن المظهر، ومن باب حسن السمت أن يلبس من أحسن ما يملك، وقد ذكر البخاري في الأدب المفرد : (حسن السمت من الإيمان)، ومشهور عن كثير من العلماء أنهم يعنون بسمتهم، وكما جاء عن ابن عمر في التجمل للزوجات قوله: إنهن يردن منا ما نريد منهن.

وجاء عن مالك رحمه الله أنه ما كان يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ليكون في أحسن هيئة، وذكرنا في قصته مع هارون الرشيد ، حينما أتاه هارون الرشيد فلم يفتح له حالاً ولكن ذهب واغتسل، وأبدل ثيابه وتطيب ثم أذن له، فقال له هارون الرشيد ما شأنك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك، فقال له: علمت أنك لم تأت لدنيا ولكن للحديث، فكرهت أن أجلس للحديث وأنا على غير هيئة مكتملة.

والله تعالى يقول: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

وعمر رضي الله تعالى عنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأخذها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اشتر هذه، لتلبسها في الأعياد، وتتجمل بها عند الوفود .

وجاء في بعض الآثار: إذا اجتمعتم فتجملوا.

إذاً: عناية الإسلام بالمظهر أو بالهيئة أو بحسن السمت عناية فطرية وطبيعية، وتدل على الذوق والرقي في الإسلام.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [1] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net