اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة - باب الوضوء [5] للشيخ : عطية محمد سالم
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) متفق عليه، واللفظ لـمسلم ] .
هذا الحديث لو أن إنساناً تتبع طرقه واحتواه من جميع جوانبه ودلالاته لخرج برسالة كبيرة، وأوسع من رأيتُ ممن تكلم عليه ابن عبد البر رحمه الله في الجزء العشرين في كلامه على حديث الموطأ بهذا المعنى.
والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا تتمة لأسباغ الوضوء، وليبين لنا أن إسباغ الوضوء يكون معه غرة وتحجيل.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يأتون): (إن) هنا أداة تأكيد، وأداة التأكيد لا تأتي ابتداءً إلا إذا شمت رائحة الإنكار، ولا تُشمُّ رائحة الإنكار إلا عن خبر متقدم، فهل النبي صلى الله عليه وسلم جاء ابتداءً وقال: (إن أمتي يأتون ..)، أم قال ذلك جواباً في سؤال كان موضع التساؤل؟
ولفظ الحديث أولاً: (إن أمتي ..)، والأمة المحمدية هي خاتمة الأمم، وهي قسمان -كما يقولون-:
- أمة الدعوة، وأمة الإجابة.
والمراد هنا: أمة الإجابة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة) أي: بعد البعث يأتون مع سائر الأمم.
وقوله: (غراً محجلين) الغرة: الشعر في ناصية الرأس. وفي الاصطلاح: بياض في جبين الفرس، تجد بعض الخيل تتميز به.
والتحجيل شعر أبيض في موضع الحجل في يدي الفرس.
والغرة والتحجيل من علامات فراهة الخيل وأصالتها، فما كل الخيل تأتي غراً محجلة، وهي أبرز علامة يتميز بها الخيل.
وقوله: (غراً محجلين من أثر الوضوء) الوضوء يكون في الوجه واليدين والقدمين، والحديث ذكر البياض في الوجه والقدمين، فيكون أيضاً في اليدين تبعاً لهما، أو أنه يحوي الأطراف، فإذا كانت الغرة في الطرف الأعلى، والتحجيل في الطرف الأسفل فيكون قد حوى ما بينهما.
والغرة والتحجيل شعر أبيض ينبت في هذين المحلين، لكن الغرة والتحجيل في الإنسان ليس شعراً ينبت، ولكن يكون نوراً، كما قال تعالى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]، فهذا النور من أثر الوضوء.
وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) قد يقال فيه: بماذا يطيلها؟
والجواب: يطيلها إما في المشبَّه -وهو أعضاء الوضوء- فيزيد على المفروض في الغسل، أو يسبغ الوضوء أكثرَ.
والظاهر أن الطول والقصر في الزيادة ليس في الكمية، وإنما في الكيف.
وذكر بعض السلف رحمهم الله فقال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فوق سطح المسجد، فغسل إلى كذا، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين..).
وغرض المؤلف التأكيد على استيعاب الفرض، وأنه لا مانع من الزيادة، وبيان خصوصية هذه الأمة.
وبعض الناس يقول: الوضوء خاص بهذه الأمة ولكن لا يصح؛ لأنه قال: (إن أمتي يأتون) ومفهوم هذا: أن بعض الأمم الأخرى لا تأتي بهذا، فقالوا: لا وضوء في الأمم الأخرى.
ولكن النصوص جاءت بالوضوء في زمن الأنبياء من قبل، وفي الأمم الماضية فيكون الوضوء ثابتاً للأمم الماضية؛ ولكن آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، فالوضوء تشريع عام في جميع الأمم ولكن ظهور آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة.
وبعض العلماء يقول: هل قوله: (فمن استطاع أن يطيل) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنه مدرج في الحديث من قول أبي هريرة ؟
أي أنه أخذه من قوله: (أمتي يأتون غراً محجلين)، واستنبط من ذلك أنه كلما طال الغسل في عضو الوضوء طال النور فيه، فقال: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل).
فبعض العلماء يقول: هذه الزيادة مدرجة من أبي هريرة ، وهذا اجتهاد منه لِمَا فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، ويؤيد أنها مدرجة، ومن فعل أبي هريرة ومن فهمه أنه لم يُنقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن رسول الله نفسه أنه جاوز بغسل اليدين المرفق، كما جاء عنه: (وأدار الماء على مرفقيه).
أما أن يشرع إلى الساق أو إلى المنكب فلم يأتِ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، ولهذا قالوا: انفرد بهذه الصفة قولاً وفعلاً أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
وإذا كان انفرد بها الصحابي وخالفه الآخرون نقول: هذا عمل شاذ انفرد به، ويبقى العمل على ما ثبت من السنة وعمل جمهور الصحابة، وينتهي غسل اليد إلى المرفق كما في نص الآية الكريمة: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].
والرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن المرفق داخل في الغسل، لما جاء في الحديث: (أدار الماء على مرفقيه) أي: من أول الساعد.
نأتي إلى جو الحديث وما أشرنا إليه من عمومه أو شموله أو سببه:
يقولون: (إن شاء الله) هنا: ليست للشك ولا للتردد، ولكن للتبرك أو للتأكيد، أو التماس المشيئة بأن اللحاق بهم يكون بهذا البقيع الذي خرج إليه، ويكون هذا مأخوذ من مجموع النصوص التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في رغبته في أن يُدفن في البقيع، أو أن يُدفن بالمدينة، أو نحو ذلك.
كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، فجلس عندها ونظر في القبر قبل أن تُدخل فيه الجنازة، فجاء رجل ونظر فقال: (بئس مضجع الرجل فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلتَ قال: يا رسول الله! أردتُ الجهاد في سبيل الله -أي: كون الإنسان يعيش ثم يموت كما تموت بهيمة الأنعام ويُدفن غير محبوب عندي، بل أحَبُّ إليَّ لهذا الرجل أن يذهب ويقاتل ويُستشهد ويدفن في أرض المعركة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم الجهاد ولكن ما من بلد أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها): أي: من المدينة.
وهنا يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شاء الله بكم لاحقون) والمراد به: في هذه التربة.
فالمشيئة ليست للتردد، أو هي على عموم قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله! ألسنا بإخوانك؟ قال: لا. أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعدي فيؤمنون بي، وددتُ أني رأيتهم، وأنا فَرَطُهم على الحوض، قالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره) أي: كيف تعرف من يأتي بعدك وأنت تقول: (وأنا فَرَطُهم على الحوض)، والفَرَط: الذي ينفرط من القوم، مثل العِقد ينقطع منه الخيط، وينفرد الحبل ويسبق، وفَرَطُ القوم: من ينفرد عنهم، ويسبقهم إلى الماء ليهيئ لهم الماء من البئر قبل أن يصلوا.
وهذا سؤال استغراب، لا سؤال استنكار ولا استبعاد، ولكن يُشم منه رائحة الاستيضاح.
فقال هنا: (إن أمتي). وهناك لفظ آخر يذكره أيضاً مالك أنه قال: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في وسط خيل بهم دهم -والفرس الأدهم: هو الأسود الذي ليس مع سواده لون آخر، والبَهْمُ: يطلق على ولد الغنم الصغير، وسمي بَهماً للإبهام؛ لأنه لا يُفصح، والبَهْمُ: الخيل ذات اللون أيَّاً كان لا يخالطه لون آخر، وليس خاصاً بالسواد- قال: أيعرف خيله؟ قالوا: نعم. قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض).
فهنا تساءلوا: (ألسنا بإخوانك؟ قال: لا. أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدي، وددتُ لو أني رأيتهم، و) ابن عبد البر رحمه الله يسوق في التمهيد حوالي ثلاثين صفحة حول هذا المعنى.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا السياق: (يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بماله وأهله) وهذه -والله- صحيحة، فكل مسلم الآن يود لو أنه لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية بعينيه شخصية رسول الله، ولو يفدي ذلك بأهله وماله.
وفي رواية أخرى: (أيُّ الناس خير -أو أيُّ إيمان الخلق أفضل-؟ قالوا: الملائكة قال: وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والأمر ينزل فوقهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: غيرهم. وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: نحن، لا. قال: غيركم. وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! خير الناس إيماناً قومٌ يأتون بعدي يرون أوراقاً مكتوبة يقرأونها فيعملون بها).
وهناك روايات وآثار وأخبار في هذا المعنى، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد في الجزء العشرين ما يقرب من الثلاثين صفحة في مبحث هذا الحديث.
وعلى هذا فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (إن أمتي يأتون يوم القيامة) لم يأتِ ابتداءً، ولكنه في معرض سياق خبر به أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتساءلوا لاستغرابهم فجاءهم هذا الجواب مؤكَّداً بـ(إنَّ) فقال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين) أي: فأعرفُهم بهذه العلامة.
وفي تتمة الحديث: (ليُذادَنَّ رجالٌ من أمتي عن حوضي -أي: يُدفعون ويُحجَبون دون الحوض- فأنادي: أمتي أمتي -أو أنادي: هَلُمَّ هَلُمَّ- فيقال لي -أي: تقول الملائكة-: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً).
وهذا يذكره ابن كثير أيضاً في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
لأنه في ذلك اليوم يطفأ نور المنافقين وهم في الصراط، كما قال الله عنهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، فخدعهم الله سبحانه بهذا النور؛ لأنهم خادعوه في الدنيا، كما قال تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9]، وقال تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
والمخادَعة من المنافقين هي: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والمخادَعة هنا أنهم بإظهارهم هذا الدين خلاف ما أخفوا أمِنوا على دمائهم وأنفسهم وأعراضهم، وتزوجوا من المسلمين، وأخذوا في الغنائم حصصاً، فعومِلوا معاملةَ المسلمين، والله أجراها عليهم، مع أنهم في داخلهم لا يستحقون شيئاً من ذلك لكفرهم، فالله خدعهم، فتركهم على ما هم عليه في خداعهم حتى إذا كان يوم القيامة وخرج الناس من قبورهم، وبُعِث المنافقون مع المؤمنين، والجميع غرٌّ محجلون المنافق مع المؤمن الصادق، ومشوا في طريقهم كل بغرته وتحجيله فإذا دنوا من الحوض هناك يكون الحجز، فتأتي ملائكة وترد أولئك الناس، فلا يصلون إلى الحوض، وحينما يُردون تُطفأ أنوارهم، ولذا يقول تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ أي: تبقى على بياضها. وقال تعالى: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] أي: يُسلب نورُها، فحينئذٍ يقفون مكانهم ليس عندهم نور يمشون به، فينادون المؤمنين: انْظُرُونَا [الحديد:13].
وقولهم: (انظرونا) هو إما من النظر، وإما من الانتظار، فإن كان من النظر فالمعنى التفتوا وراءكم حتى تضيئوا لنا بنور وجوهكم الطريق.
وإن كان من الانتظار فالمعنى: انتظرونا لندرك المشي معكم في ضوء أنواركم.
قال تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد:13]، فحينئذٍ المؤمنون تقدموا بأنوارهم، والمنافقون -عياذاً بالله- رجعوا وانطفأت أنوارهم، وبقي المؤمنون على حذر يخافون أن تأتي عقبة أخرى تكون فيها تصفية ثانية، فيدعون كما قال تعالى عنهم: يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا [التحريم:8] أي: ابقِ لنا هذا النور يا رب، فأنت أطفأته عن أقوام، ونحن نخشى أن تكون هناك عملية تصفية أخرى، ويُطفأ عن بعضنا الأنوار، فيسألون الله ويدعونه بإلحاح قائلين: أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا [التحريم:8].
فالحديث -كما أشرت- آفاقه واسعة، ومواقفه عديدة، فلو أن إنساناً تتبع وأخذ كل جزئية منه بحديث متوسع متوفر لخرج من الحديث برسالة كاملة.
ونحن الآن في الوقت الحاضر -بصرف النظر عن فعل أبي هريرة في كونه يطيل الغرة، إذ علينا بالسنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نستطيع أن نسلي أنفسنا بأن هذه بشرى لنا، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمتدح أقواماً يأتون بعده ولم يروه، ويؤمنون به على غيب يرونه في أوراق مكتوبة.
وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا حفظه الله يقرؤه المسلم، ويؤمن بحميع ما فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (وددتُ لو أني رأيتهم)، ويشهد لهم بأن الواحد منهم يود لو ضحى بأهله وماله ليراه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأوراق التحذير من النفاق والابتداع، ومن التغيير والتبديل، حتى لا يُذاد عن ذلك الحوض الكريم، وهو الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قولها: (يعجبه التيمُّن في تنعُّله) أي: لبسه النعل، ولبس النعل جِبِلَّة، فكان يلبسه متيمناً.
ونحن نلبس النعال، ونمشي حفاة، فإذا لبسنا فالسنة أن نبدأ باليمين، وهذا محل التشريع، وهو الكيفية أو الوصف.
قولها: (وترجُّله) الترجُّل هو: تسريح الشعر.
فتسريح الشعر جِبِلَّة ونظافة وحسن مظهر، وفيه عناية الإنسان بصحة شعره، وإذا ما رجَّلته كان فيه القمل والأوساخ، فأنت مضطر لترجيله لنظافتك، ولكن باليمين؛ لأن ذلك هو السنة.
قالت رضي الله تعالى عنها: (وفي شأنه كله).
فبدل أن تعدِّدَ كل شيء قالت: (وفي شأنه كله)، وكلمة (في شأنه) عامة لم يخرج منها شأن من شئونه، فلم يخرج لباسه، ولا نومه، ولا خروجه، ولا دخوله.
ولكن قالوا: هذا العام دخله التخصيص في مسألتين خرجتا من هذا العموم:
الأولى: عند خروجه من المسجد، فيقدم الشمال، فهذا أمر خرج عن عموم شئونه.
والثانية: عند دخوله الخلاء، وهذا خرج عن عموم شأنه كله.
والأمور التي ذكَرَتْها، كالتنعُّل، وهو لبس النعال والجورب، والترجُّل، وهو تسريح الشعر، وفي لبس الثياب كان يبدأ بالكم الأيمن، كل هذه أمور جِبِلِّية، أي: تطلبها الجِبِلَّة والخِلقة، ولكن الوصف الذي كان يعجبه صلى الله عليه وسلم فعله هو التأسي، وهو السنة.
وفي الوضوء والغسل كان يعجبه التيمُّن في وضوئه وغسله.
وسيأتينا في كيفية الغسل أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيغسل فرجه، ثم يحتُّ يده بالأرض، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويؤخر قدميه، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، فحصل التيامن في الغسل.
وعائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كان يعجبه)، والذي يعجبه حده الاستحباب، وهذا رأي الجمهور، فالتيامن في الوضوء للاستحباب عندهم.
وهناك من غير الأئمة الأربعة من يقول: إن التيامن واجب؛ لأنه ليس هناك مضادَّة، ولا خلاف بين كونه يعجبه وكونه واجباً، والواجب سيعجبه أيضاً.
فقالوا: لا منافاة، فهو واجب يعجبه ولكن التعبير بـ(يعجبه) دون التعبير بـ(يلزمه)، أو (كان يأمر)، أو (كان يوجب) يوحي بأن هناك فارقاً.
وبالنظر إلى الأمر في كتاب الله في قوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] فإن غسل اليدين في الآية مجمل، وجاء فعله صلى الله عليه وسلم مبيِّناً، وقد بدأ باليمنى، فلماذا لا نقول: هو واجب؟
فكان على مقتضى ما تقدم أن يكون التيامن واجباً، لكنهم قالوا: جاء عن الحسن وغيره أن علياً. قال: (لا أبالي بدأت باليسرى أو باليمنى إذا أتممتُ الوضوء). وقالوا: (إنهما كالعضو الواحد)، ولذا جُمعا في قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] فإذا غسلهما بأي صورة ما تيامن أو تياسرَ تم الغسل المطلوب.
فإن قيل: وأين تذهبون عما قاله الأصوليون أن بيانه للمجمل يأخذ حكم المجمل، وغسل اليدين واجب، فيكون بيانه واجباً؟
قالوا: يمنع ذلك ما نقل من الإجماع أنه سنة، وما نقل عن بعض السلف، ولهذا يقول ابن دقيق العيد وغيره: لولا نقل الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن التيامن سنة لكان مقتضى دوام فعله يقتضي الوجوب.
وعلى هذا يكون التيامن من باب السنة، فإذا فعل إنسان خلاف ذلك صح وضوءه ذلك إلا من يقول: لا ينبغي تعمُّد ذلك، ولعل هذا من أحسن الأقوال، فمن ترك التيامن نسياناً وصلى نقول: وضوؤه صحيح، ولكن من تركه تعمداً فهناك الخطر عليه؛ لأن القول بالوجوب بمقتضى بيان رسول الله ودوام فعله، ولم يُنقل عنه مرةً واحدة أنه بدأ بالشمال دون اليمين، فإن هذا كله يقوِّي القول بالوجوب، كما تقول الهادوية وغيرهم، وكما يقول الشوكاني : لولا نقل الإجماع لكان القول بالوجوب قوياً.
والله تعالى أعلم.
الحديث الأول فيه: (كان يعجبه)، وهذا حكاية فعل، وهنا قال: (إذا توضأتم فابدءوا بميامينكم).
وهذا الحديث أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة ، فلا يوجد مطعن في سنده.
وهذا الأمر: (فابدأوا بميامينكم)، يقوِّي وجه من يقول: إنه واجب، ولا ينبغي تعمد تركه، ويكون الإجماع لمن تركه نسياناً، لا لمن تركه متعمداً.
والقول عن علي رضي الله تعالى عنه يناقَش في سنده أو لا يناقَش! فكلهم متفقون على رواية ذلك عنه رضي الله تعالى عنه.
وبقي مبحث الموالاة والترتيب، والترتيب بين أعضاء الوضوء هو كما جاء النص الكريم في الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.. [المائدة:6]
فهذا ترتيب أعضاء الوضوء الذي ورد في القرآن الكريم.
والموالاة يستدل لها بقصة الرجل الذي رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قدمه لمعة مثل الظفر فقال: (اذهب فأحسن وضوءك) فما قال: اغسل هذه فقط.
وقضية الموالاة بين الأعضاء معناها أنه لو قطع الوضوء عند غسل اليدين واشتغل بشيء ما، أو انتهى الماء عنده، أو جاء طارئ وتبعه وترك الوضوء من أجله حتى جف الماء عن اليدين، وأراد أن يكمل الوضوء، فهل يبني على ما مضى، أو أنه قد فات زمن يكون قد انقطع عما تقدم؟
فبعض العلماء يقول: إن طالت الفرقة أو الفصل بين أعضاء الوضوء استأنف من جديد، وإن لم يطُل الفصل بنى على ما تقدم.
وقالوا: مقياس الفصل طويلاً كان أو قصيراً هو جفاف العضو الأخير الذي غسله وكفَّ عن تتمة الوضوء، كأن يكون غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم سمع منادياً فذهب وطال اشتغاله مع هذا المنادي، ثم رجع إلى وضوئه فإذا يداه جافتان كأنهما لم يمسا بماءً، قالوا: انفصل ما قبله عما بعده فيستأنف وضوءاً جديداً، أما إذا عاد إلى الوضوء ولم تزل بقايا البلل أو الماء على بعض أجزاء من يده الأخيرة -وهي اليسرى- فإنه يكمل ويبني على ما تقدم.
وموضوع الموالاة سيأتي له النص في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الحديث عنده إن شاء الله.
قال رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة) أخرجه مسلم ].
هنا بدأ المؤلف بقضية مستقلة، وهي كيفية المسح على الرأس.
فقد جاء النص مجملاً في قوله سبحانه: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، فكيف يكون المسح؟
إن الرأس من حيث هو في الوضوء إما أن يكون عارياً، وإما أن يكون عليه العمامة أو العصابة كما يُقال، أو الخمار كما جاء.
فإن كان عارياً، فما الجزء المجزئ في مسحه؟
هناك من يقول: أيُّ معنىً يصدُق عليه المسح -أي: أيُّ مقدار يصدُق عليه المسح فهو مجزئ، وهو قول الشافعية.
ولكن هذا القول حمله بعضهم على التفريط في هذا الأمر، كما قال النووي رحمه الله: والمنصوص أنه لو مسح ثلاث شعرات أجزأ؛ لأن أقل الجمع ثلاث، وقد أفرط بعض أصحابنا فقال: لو مسح بعض شعرة أجزأ.
ثم يقول: وكيف يتحقق مسح بعض شعرة؟! فقال: إذا ما طلى إنسان رأسه بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء -والجزء البارز من تلك الشعرة ليس هو كل الشعرة- فمسح هذه الجزئية من الشعرة، أجزأه.
ولكن يقول النووي : هذا تفريط، وقد ذكرتُه لأنبه عليه، ولا يُغتر به، ولو عظُم قائله.
والقول الثاني: أقل ما يجزئ من مسح الرأس ربعه. وهو مذهب الأحناف.
المالكية والحنابلة يقولون: الواجب مسح جميع الرأس.
فهناك من يقول: يجب استغراق الرأس.
وهناك من يقول: فيه عموم، فمعناه أنه قد يفوِّت بعض الرأس، وهو أقل شمولاً من القول بالاستغراق.
وخلاصة القول فيما يجزئ من مسح الرأس إن لم يكن عليه عمامة أن العلماء مختلفون في ذلك.
فمنهم من قال: أقل ما يصدُق عليه وهو للشافعية، وفيه ما فيه.
ومنهم من قال: ربع الرأس، وهم الأحناف.
ومنهم من قال: يمسح جميع الرأس.
والجميع متفقون على أن مسح جميع الرأس هو الأفضل، فمن اقتصر على بعضه أو على الربع يقول أيضاً: لو مسح الكل لكان أفضل.
أما إذا كان على الرأس عمامة، فيقولون: لها ثلاث حالات:
الأولى: أن يمسح على العمامة وحدها دون أن يمس الرأس.
الثانية: أن يمسح على الناصية تحت العمامة فقط.
الثالثة: أن يمسح على الناصية تحت العمامة ويكمل على العمامة.
فهي حالات ثلاث:
فإما أن يقتصر على العمامة كما يقتصر على الخف في القدمين.
وإما أن يقتصر على ربع الرأس وهو الناصية تحت العمامة.
وإما أن يجمع بين الناصية والعمامة.
فهذه الأقوال مجمل ما قيل في مسح الرأس في الوضوء.
أما في الغسل فلا عمامة ولا قلنسوة، وعليه يجب تعميم الغسل.
وهنا حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه نأخذه كأصل في المسألة.
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين).
فحديث المغيرة يكون أوفى، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه روى كثيراً من حالات وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً في سفره معه في غزوة تبوك.
فقوله: (بناصيته) الناصية: مقدَّم الرأس، أي: قدر وضع اليد على مقدَّم الرأس، فهذه هي الناصية.
فلقوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن القدر المجزئ هو المسح على الناصية وقدرها.
وقال: إما أن ينفرد المسح على العمامة، وإما إن ينفرد على الناصية، والمغيرة لم يرِد الجمع بينهما، وإنما أراد أنه مسح على الناصية تارةً، وعلى العمامة وحدها تارةً.
والآخرون يقولون: المغيرة يحكي حالةً واحدة في الوضوء الواحد، وهو أنه جمع بين الناصية والعمامة.
فقال أبو حنيفة: لا يوجد مانع، الناصية قدر الواجب، والتكميل على العمامة أو على الرأس تمام السنة والفضيلة.
وقال: لو كانت العمامة وحدها تجزئ لما كانت هناك حاجة إلى الناصية، ولو كانت الناصية مكملة للفضيلة لما كانت هناك حاجة إلى العمامة، فهو جمع بين المفروض والمسنون، فمسح على الناصية لأنه أقل الواجب في الفرض، وأتم على العمامة؛ لأنه الأكمل والسنة والأفضل.
وعند مالك رحمه الله لا يُقْتَصَر المسح على العمامة وحدها إلا للضرورة، كشدة البرد أو الحاجة، كما جاء في قصة التساخين والعصائب والعمائم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً فاشتد بهم البرد، فأمرهم أن يمسحوا على التساخين وعلى العمائم)، قالوا: و(التساخين) هي نوع من القماش يُلف على القدم تسخَّن به، وينوب عن ذلك الخفُّ أو الجوربُ المتين.
وكذلك العصائب والعمائم المشدودة على الرأس.
ولمن يجيز المسح على العمامة فقط شرط، وهو أن تكون العمامة محنكة، ومكورة، ويقصدون بالمحنَّكة: التي يأتي طرفها من تحت الحنك ويذهب به مرة أخرى إلى الرأس أي: أنها ثابتة يشق نزعها في كل وقت، فتسهيلاً عليه يمسح عليها.
· فتارةً مسح على الناصية تحتها فقط.
· وتارةً مسح على الناصية وأتم على العمامة.
· وتارة مسح على العمامة وحدها دون الناصية.
وكل ذلك فيه نصوص واردة صحيحة ومن اقتصر على حالة منها أجزأته.
والله تعالى أعلم.
هناك مبحث في هذه المسألة في قضية (الباء) في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِـ... [المائدة:6]:
فالشافعية يحملونها على التبعيض ولكن العلماء -خاصة علماء اللغة- يردون هذا، ويقولون: ليست للتبعيض.
وقال الأحناف: هي للإلصاق.
ولا مانع أن تكون للإلصاق وللتبعيض؛ لأنهم يقولون بالمسح على الناصية.
وغيرهم يقولون: إن مجيء (الباء) ليدل على وجود ممسوح به؛ لأنك تقول: مسحت رأس اليتيم أي: مررتَ يدك عليها، ويقول: مسحت يدي في رأس اليتيم. تعني أن في يدك دهناً مسحته عليها.
وهكذا قالوا في قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6]، مع أن الشرب يتعدى بنفسه، تقول: شربت الماء. أو: شربت ماء العين. أو تقول: شربت بماء العين.
فقالوا: (الباء) هنا كـ(الباء) هناك.
ولكن يجيبون عن ذلك من جهة اللغة بالتضمين في قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بها فقالوا: ضُمِّن فعل (يشرب) معنىً يتعدى بـ(الباء)، وهو (يستمتع ويتلذذ)؛ لأن شرب أهل الجنة ليس عن عطش.
وقالوا في (الباء) هنا: هي للإلصاق.
والشافعية حملوها على التبعيض.
وكان مجيء (الباء) هو سبب لهذا الخلاف والنزاع في جزء ما يمكن أن يُقْتَصَر عليه في الوضوء.
والخلاف فيما يجزئ في مسح الرأس في الوضوء هو عين الخلاف فيما يأتي في قوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، فهل المراد بـ(رءوسكم) جميع الرأس، أو أن المراد: محلقين رءوسكم ومقصرين من الرأس؟
والخلاف في أية الوضوء لوجود (الباء) ليس كالخلاف هنا؛ لأن هنا لا يوجد (باء). والله تعالى أعلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة - باب الوضوء [5] للشيخ : عطية محمد سالم
https://audio.islamweb.net