اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة - باب الآنية [2] للشيخ : عطية محمد سالم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال رحمه الله تعالى: [ وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ) أخرجه أبو داود والنسائي ].
حديث شاة ميمونة فيه مباحث متعددة:
وجاءت الروايات: (أن شاة لـميمونة )، (شاة لبعض زوجاته)، (شاةً ماتت)، (مر بشاة يجرونها).. إلخ، والظاهر أنها لـميمونة رضي الله تعالى عنها، وفي بعض النصوص أن الشاة اسمها فلانة، وذكر لها اسماً، وهذا كان معهوداً عند أصحاب المدينة حتى اليوم، قل أن تجد بيتاً إلا وفيه غنمة أو غنمتين، وكان أهل البيوت يطلقون أسماءً على الأغنام، بحيث لو نادت صاحبة البيت الغنمة وهي في الشارع، جاءتها فحلبتها أو أطعمتها وسقتها، بل أغرب من هذا كنا نلاحظ أن المرأة في البيت تصفق، فإذا غنمتها تعرف صفقتها فتأتي إليها، وكان هذا موجوداً.
نشرح الحديث كلمة كلمة:
قوله: (شاةً) الشاة: هي أنثى الضأن، من: الغنم.
(ماتت): أي: لم تدرَك فتذكى، فهي ميتة، وهناك عموم: قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.. [المائدة:3]، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآهم يجرونها، فقال: (هلا)، وهلا: تستعمل للحض، فتقول مثلاً: هلا فعلت كذا.. هلا قلت كذا.. وهو حض على الفعل.
(هلا أخذتم إهابها) الإهاب هو: الجلد قبل الدبغ، وهو عام في كل جلد لم يدبغ، وادعى البعض بأن كلمة (إهاب) خاصة بالجلد قبل الدبغ لمأكول اللحم، ولكن علماء اللغة يردون هذا التخصيص ويقولون: بل هو عام في كل جلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
(هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به)، أخذ بعض العلماء -غير الأئمة الأربعة- من هذا جواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ؛ لأنه قال: (فانتفعتم به)، ولكن الرواية تؤخذ بكاملها، فكونهم أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنها ميتة، وقولهم هذا يستدل منه أنهم رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم الميتة للمسك -الجلد-، والميتة تنجس بالموت، فيحرم لحمها، وإذا وقعت في الماء نجسته، فلحم الميتة نجس: مأكولة أو غير مأكولة، حتى غير المأكول لو ذكي فهو نجس، فأخذوا من الحديث نجاسة الميتة، وسحبوا الحكم على جلدها لأنه جزء منها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الاستنتاج، وأيضاً قولهم: إنها ميتة، يدل بدلالة الالتزام بأنه نجس؛ لأن الميتة نجسة، وجلد الميتة جزء منها فهو نجس، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه أرشدهم إلى ما يطهر نجاسة الجلد، فقال: (يطهره) ولم يقل: يبيحه أو يحله، وفي بعض الروايات: (إنكم لم تأكلوا لحمها، ولم تأكلوا الجلد)، لكن تهمنا الرواية المشهورة التي عندنا، وكونهم فهموا من الميتة نجاستها، وألحقوا الجلد بالشاة، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنتاج، وأفتاهم بمقتضى ما فهموا، وكأنهم قالوا: ما الذي يطهر هذه النجاسة؟
فقال: (يطهره الماء والقرظ)، والماء والقرظ يحصل بهما الدباغ، ولو حصل الدباغ بغير هذين فلا مانع، وليست الطهارة في الجلد -الإهاب- مقصورة على الماء والقرظ، بل كل دباغ مطهر لقوله: (أيما إهاب دبغ)، وقوله: (دباغ جلود الميتة طهورها)، لكنه هنا ذكر صنفاً من أصناف المواد المستخدمة في الدباغ التي تطهر الجلد.
وقوله: (يطهره) أي: من النجاسة، (الماء والقرظ) وعلى هذا -من ناحية الفقه- أخذ بعض العلماء: أن الشاة الأصل فيها أنها مأكولة اللحم، ولما كانت ميتة، وتنجس الجلد بموتها، وجاء القرظ والماء يطهر الجلد، قالوا: صورة السبب شاة، والشاة مأكولة، فيكون طهور جلد الميتة بالدباغ لكل مأكولة اللحم كالشاة ونحوها؛ لأنها صورة السبب في مأكولة اللحم، ولذا يقول البعض: أن الدباغ يطهر جلود الميتة مأكولة اللحم فقط.
ويجاب عن هذا: بأن التخصيص بصورة السبب لا يتأتى؛ لأن العبرة -عند الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ جاء بالعموم: (أيما إهاب..)، وجاء: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر).
إذاً: وجدت صيغ العموم فشملت مأكول اللحم.
الجهة الأولى: توجيه عام للأمة في أصل من أصول الاقتصاد.
الجهة الثانية: توجيه خاص لمتأخري طلبة العلم في الوقت الحاضر.
أما التوجيه العام فلو سألنا الحاضرين جميعاً: لو ماتت عندك شاة؛ أتطيب نفسك أن تذهب وتسلخها لتحصل على الجلد؟
يقول لك: لا، ما لي حاجة إليها، قد ماتت وعفنت، فأنت تترفع وتتقزز نفسك أن تسلخ جلد الميتة لتنتفع به، ولسان حالك: ماذا يساوي هذا؟! وماذا أصنع به؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ضرورة الحفاظ على المال، والانتفاع بأدنى وأتفه شيء يمكن؛ لأن في ذلك حفاظاً على اقتصاد الأمة، وفيه -أيضاً- ادخار، فإذا كان يحث على الانتفاع بجلد الميتة بعد موتها، ومعالجته بالدباغ لينتفع به، فهل ترونه يتساهل في الأمور الأخرى؟!
لا، ونحن نترك الشاة المريضة أو نراها قد سقطت فانكسرت، فنقول: اتركها حتى تموت، وكان ينبغي أن ندرك ذكاتها -ما لم تكن مريضة مرضاً يضر بالإنسان-، ونجد الكثير من الأمم في العصر الحاضر تتلف العديد من سلعها، وتتساهل فيما يقال له: القديم، ونجد بعض الدول الأخرى تبحث عن المستهلكات لتجدد صناعتها، وهاهو الإسلام يقول لنا: عليك ألاَّ تهمل شيئاً قط يمكن أن تنتفع به.
وقد كتب بعض الإخوان بحثاً منذ حوالى أكثر من (15) عاماً يقول فيه: إن العالم في حاجة إلى الحديد، فالإنسان يخرجه من معادنه، ويصهر التراب حتى يخرجه، ولدينا مئات الأطنان من الحديد ملقاة في الفلاة من تلك السيارات التي على جوانب الطرقات، فلو أخذت وصهرت وأعيد تصنيعها لوفرت على الدولة الشيء الكثير، فكيف نهمل الأشياء الأخرى؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يمر على تمرة ملقاة على الأرض ويأخذها ويقول: (لولا أنني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، ولا يرضى أن يترك تمرة ساقطة على الأرض، ثم لو جئنا لبعض الأمور الأخرى نجد بعض الأشخاص لديه السيارة الفارهة، ولديه المتاع الذي صفته كذا، فإذا ما جاءت سيارات جديدة أو ما يسمى بالموديل الجديد عاف هذه السيارة وذهب واشترى سيارة جديدة، لأي شيء؟
لأن الموديل هذا جديد، وكذلك أنواع الفراش، وأنواع الأثاث فيقول: هذه صارت قديمة، ولا ينتفع بها، مع أنه يمكن إصلاحها.
وفي هذا الحديث توجيهٌ للأمة بضرورة الحفاظ على أتفه الأشياء التي يمكن الاستفادة منها، وألاَّ تترك -ضياعاً- للشيطان.
إذاً: هذه لفتة إلى الانتفاع بالقليل والكثير مما أعطانا الله سبحانه وتعالى، ولو كان جلد ميتة، ولو كانت تمرة في الأرض، فضلاً عن الأشياء العديدة ذات الأثمان الغالية والمرتفعة.
الجهة الثانية: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين يقولون بأن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته، ويقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشر قرناً على نجاسته، فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع، فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، قالوا: الدم كالميتة؛ حرم أكلها، وكذلك الدم حرم أكله، وليس بنجس العين، يقال لهم: إن دلالة الاقتران -وهي دلالة اقتران الدم بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين الدليل على نجاستها؟
قيل لهم: إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات؛ فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما حرم أكلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس، وما أجابهم بعدم الأكل، ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: (يطهره..).
إذاً: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بنت جحش -التي استحيضت- فهي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب.)، فقد ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي باب الحيض؛ ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم، قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره، قلنا: أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها صلى الله عليه وسلم: (تحيضين ستة أيام، أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي)، فقوله: (اغسلي عنك الدم) هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟
إن كان الغسل واقعاً على دم الحيض فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد انتهى، فهي تغسل دم استحاضة، ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض.
ونأتي إلى كتاب المحلى لـابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر، فقد جاء بقاعدة من أعجب ما تكون! قال: إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال: (اغسلي عنك الدم)، فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، فإن: (ال) هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم الدماء، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك -وهذه مبالغة منه-، وإن كان بعض المالكية يقولون بشيء من هذا، ولكن العموم أنها سألت عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو: حتّيْة، فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن -كما قال ابن حزم- ألغى السؤال في خصوص دم الحيض، وأجاب بـ(ال) التي هي للعموم، فتستغرق جميع أنواع الدم.
وأيضاً أتينا إلى المجموع لـابن تيمية رحمه الله، فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع، منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس الدم فيها، والدم نجس، ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة مواطن من مجموع الفتاوى.
إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم المسفوح إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون، ومن بعده إلى اليوم، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع؛ لأنهم فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك، وأن النجاسة قد انتقلت في جلدها، فقالوا: (إنها ميتة) أي: إلى جلدها نجس، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا، وأرشدهم إلى ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.
بعد هذا نرجع إلى هذه الأقوال لنرى ما هو الراجح منها؟
أما الذين أخذوا بالعموم فإن ظاهر النصوص معهم إلا ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أن الآية الكريمة تنص على أن الخنزير رجس، وإذا كان نجساً في الحياة فبالموت من باب أولى، وكذلك الشافعي ألحق بالخنزير الكلب قياساً، وقد تطمئن النفس إلى الاستثناء، وقد تدعو الحاجة إلى التعميم على ما سيأتي إن شاء الله.
بقي عندنا رأي مالك والحنابلة: أنه يطهر ظاهراً لا باطناً، قالوا: الجلد إذا دبغ فالوجه الذي لامس الدباغة قد طهر بهذا الدباغ، أما مسام الجلد في الداخل فهذه لم ينفذ إليها الدباغ فلم تطهر، فيطهر ظاهراً لا باطناً، بمعنى: لو أنك افترشت جلد الميتة المدبوغ، وصليت عليه، تكون قد صليت مواجهاً للوجه الطاهر، لكن لو أنك حملته ولبسته وصليت فيه، لا تصح الصلاة؛ لأن ما داخل الجلد من المسام لم يطهر، فتكون مصلياً حاملاً لنجاسة داخل مسام هذا الجلد.
والمناقشة في ذلك بأن نقول: الإهاب يطهر ظاهراً وباطناً لما جاء في الحديث الأخير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة).
وهذا الحديث فيه تتمة البحث، والمزادة: هي القربة الكبيرة، قيل: من جلد البقر أو الإبل، بخلاف القربة فإنها من جلد الشاة أو الماعز، والقصة طويلة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من إحدى الغزوات ونفد الماء عليهم فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليطلبا الماء، فمضيا من الصباح إلى قريب الزوال، فلم يجدا ماءً، فلقيتهم ظعينة راكبة بين مزادتين -امرأة على بعير لها يحمل مزادتيها- فسألاها: أين الماء؟ أي: من أين استقيت الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس الساعة -يعني: أمس هذا الوقت، وأنا أمشي من عنده، أي: أربعة وعشرين ساعة- فتشاورا، فقال أحدهما: ما يمكن أن نذهب هذا الوقت كله، ولكن نسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معها من الماء، فقالا لها: هلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: ذاك الصابئ! قيل لها: ذاك الذي تعنين، فلما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخوا بعيرها وأنزلوها، وطلب إناءً فأفرغ من مزادة جزءاً من الماء، ثم قال: (اشربوا وتزودوا)، فما بقي إنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأتى بما عنده من قرب وسقاء أو إناء وملأه، وسقوا الخيل والإبل التي معهم، وما بقي إنسان إلا توضأ، حتى أن رجلاً بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه، فإذا به معتزلاً القوم، فقال: (مالك لم تصلِ؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى، يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماءً في إناء، ونادى الرجل فقال: خذ هذا فأفرغه عليك)، وكان قد تيمم وصلى فأعطاه الماء ليغتسل، المهم أنهم أخذوا من المزادتين ما يملئ أوانيهم، ويشربوا في بطونهم ويتوضئون، ويغتسل الجنب فيهم، وتشرب دوابهم، ثم قال: (اجمعوا لها، فجمعوا لها من الطعام، ثم قال لها: انظري! لقد سقانا الله، وما نقصت مزادتاكِ شيئاً) فأركبوها على بعيرها، وحملوا لها ما جمعوا، وذهبت إلى قومها، فقالت: يا قوم! والله! لقد أتيتكم من عند رجل لئن كان ساحراً لهو أسحر عباد الله، ولئن كان نبياً لهو حق مرسلٌ من عند الله، وأخبرتهم بالخبر، وما أخذوا من الماء، وما أخبرها، ثم كان الصحابة يحفظون لها ذلك المعروف، فيغيرون على الأحياء من جوانبها ويتركون حيها التي هي منه، ثم قالت: يا قوم! والله! ما تنحى هؤلاء عنكم لقوة فيكم، ولا لضعف منهم، وإنهم يحفظون ذلك المعروف، فأسلموا تسلموا، ودعتهم إلى الإسلام فأسلموا.
والذي يهمنا هنا، أن هذا الماء الذي في المزادتين كان لامرأة مشركة، والمزادتان من أواني المشركين، وصنعوهما من دوابهم، وهم يذبحون، ولكن ذبيحة المشرك والوثني ميتة: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، يذبحون باسم الصنم، أو باسم الصليب أو غير ذلك، ومع أنها ميتة شرعاً، وقد دبغت، وفيها الماء؛ استعمله صلى الله عليه وآله سلم، فيرد بذلك على من يقول: إن الدباغ يطهر الإهاب ظاهراً لا باطناً؛ ولذا المالكية رووا هذه القصة فقالوا: يمكن أن يستعمل الجلد في خصوص الماء فقط؛ لأن الماء قويٌ يدفع عن نفسه، وقيل لهم: إن قضية شاة ميمونة في تتمته: (فأخذنا مسكها -يعني الإهاب- فدبغناه، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً)، (ننبذ فيه) أي: نطرح التمر والزبيب مع الماء حتى يستحلب ويتحلى الماء بهذه الثمار ونشربه، و(شناً) أي: قديماً، فقد تغير عن كونه مطلق ماء، وأصبح نبيذاً، فضعف عن قوة الطرد الذاتية للماء، وبهذا يتم الاستدلال على طهارة ما دبغ ظاهراً وباطناً.
بقي مسألة: هل يقال بالعموم فيشمل مأكول اللحم وغير مأكول اللحم أم لا؟
الذين قالوا: لا يشمل غير المأكول قالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مياثر النمور)، والمياثر جمع ميثرة، وهي: شيء من اللبد من جلد النمر يجعل على السرج ويركبه الفارس، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود النمور، وهي غير مأكولة، وهي جلود مدبوغة، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب عليها، إذاً: هي لم تطهر.
وأجاب الآخرون عن ذلك وقالوا: إن النهي عن جلود النمور والمياثر ليس للنجاسة، ولكن لأن الركوب على جلود النمور من أفعال العجم، وهو يورث الكبرياء والخيلاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ركوبها تجنباً لهذه الحالة، وامتناعاً من مشابهة غير المسلمين، ولو كان نجساً ما سمح باستعماله مطلقاً لا في سفر ولا في حضر.
إذاً: يترجح عندنا العموم في كل ميتة، وإذا دبغ جلدها فإنه يطهر، ويبقى عندنا: الكلب والخنزير فقط، وهما محل النزاع؛ فمن قال بالعموم -كما يقول الشوكاني - فظاهر النصوص معه، ومن استثناهما فهناك الشبهة، ومنذ عشر سنوات تقريباً جاءني بعض الإخوان الذين يستوردون الأحذية من روسيا -أو من المعسكر الروسي- وقال: إن بعض الأحذية مصنوعة من جلود الخنازير، ماذا نفعل بها؟ هل نردها؟ أو نمنع استعمالها؟
وصناعة الجلود قد توسعوا فيها، فيصنعون منها حقائب ونعالاً وأدوات أخرى، بل ملبوسات كالفرو، ولما توسعت الصناعات الجلدية فمن قال بالعموم تيسيراً على الناس فلا مانع من ذلك، ولكن من عرف بذاته أن هذا من الخنزير فتركه لكان أولى، ولكن لو استعمله غيره فلا ينبغي له الإنكار عليه، هذا ما يتعلق بهذه الجلود.
وقوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) هناك تساؤل عن ماهية الدباغ، وأشرنا إلى أن الحديث يقول: يطهره الماء والقرظ) والقرظ قيل: هو ورق السدر، والبعض الآخر يقول: هو ثمرة قوية لبعض الشجر، أي: ذات حمضيات شديدة، وهذا القرظ إذا طحنته أو دققته واستكت به؛ فإنه يشد اللثة المرتخية، ويخرج الرطوبة منها، فهو علاج للثة؛ لشدته وقوته، وبعضهم يدبغ بدلاً من القرظ بقشر الرمان؛ لأن فيه قوة، وفيه مادة تشد الجلد، وتسحب منه الرطوبة، وبعضهم يدبغ: بالتراب والملح، ولكن كما يقول بعض العلماء: المسألة راجعة إلى ما يطهر الجلد، وإلى ما يدبغه ويلينه، وهذا يرجع إلى نوع الصناعة، فبعضهم يدخل الخل، وبعضهم يدخل الملح، وبعضهم يدخل الحناء ،وبعضهم يكتفي بالتراب فأية مادةٍ تعارف عليها الناس، وجُرب أنها تدبغ الجلد، فإنه دباغ يطهر جلد الميتة.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشرك) متفق عليه في حديث طويل].
ننتقل إلى حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم...) وأهل الكتاب: يصدق على اليهود وعلى النصارى، وكان اليهود يسكنون في الجزيرة، وكذلك النصارى خاصة في الجهة الشمالية في دولة الغساسنة، ونصارى بني تغلب كانوا موجودين في تلك المناطق، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا فيها إلاَّ ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها)، وفي بعض الروايات: (وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر) يعني: في تلك الأواني، فهل نستعير تلك الأواني ونستعملها والحال أنهم يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمور أم لا؟
قال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً) يعني: اغسلوها بقوة، ثم بعد ذلك كلوا واشربوا فيها، وأخذ العلماء من هذه الحديث عدم جواز استعمال أواني أهل الكتاب إلا بعد غسلها، ويقول البعض: إذا لم نشاهد فيها شيئاً يستوجب الغسل فنأخذها ونستعملها، فلو جاءنا إناء فيه آثار إدام أو شراب فنغسله، لكن إذا هم قد غسلوها ووضعوها وهيئوها حتى استعمالها، فطلبناها منهم ولم نجد فيها شيئاً يستوجب الغسل استعملناها، فهي في ذاتها ليست نجسة، وإنما رحضها بالغسل لما عساه أن يطرأ عليها، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يأكلون من طعام أهل الكتاب عند أهل الكتاب، وفي أوانيهم، ولم يسألوهم: هل غسلتموها أم لا؟
فهم قد أكلوا في أواني أهل الكتاب حينما قدموا لهم الطعام في أوانيهم فأكلوا، ولا ننسى الشاة المسمومة التي قدمتها المرأة في خيبر، وورد: (أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم له إهالة سنخة فأكل منها)، وإهالة: عصيدة خفيفة مثل الشربة، فيها سمن متغير ريحه، فأكل منها في أوانيهم.
ما الذي يربطها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ولقد لقينا بعض الأشخاص من رؤساء بعض البعثات في عام (84) في رحلة إلى أفريقيا، وكان يدعو إلى مؤتمر إفريقي في فرنسا لدراسة اللغة المحلية التي يتعارف عليها الاتحاد الإفريقي، وقلنا له: يا فلان! اتق الله! إنكم إن اخترتم لغة غير العربية؛ فمعنى ذلك أنكم عزلتم أنفسكم عن العالم الإسلامي. وأقول لكم: إن اللغة العربية ليست كبقية اللغات، واللغات في أصلها ما لم يكن لها ضمان تتشعب بسبب اللهجات، وهذه اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية هي متفرعة من لغة واحدة وهي اللغة اللاتينية، فتشعبت إلى لهجات، ثم استقلت وصارت كل منها لغة مستقلة، والآن اللغة الإنجليزية في شمال بريطانيا تغاير ما في جنوبها، وكذلك اللغة الفرنسية في شمالها تغاير ما في جنوبها، واللغة العربية أوجد الله لها ضامناً من أن تتشعب مهما وجد فيها من لهجات عامة، فإنك الآن تأتي إلى الموسم في الحج فتجد البادي من الجزائر، والبادي من المغرب، والبادي من الصعيد، ونجد، وتجد البادي من أقطار العالم، وكلهم يتكلم اللغة العربية، وإذا تكلم بلهجته المحلية لا يفهم الآخر منه شيئاً؛ لأنها لهجة محلية، أما إذا قرأ الإمام في صلاته: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. [الفاتحة:2] فإن جميع هذه الأقطار تفهم ما يقول الإمام، لماذا؟ لأن القرآن الكريم أصبح قطب رحى اللغة العربية، تدور حوله مهما تشعبت لهجاتها، وتباعدت أقطارها؛ فإنها ترجع إلى المركز الأساسي ألا وهو: القرآن الكريم، وقلت له: أيها الأخ! مهما اخترتم من لغة محلية فإن طول الزمن سيجعلها تتشعب إلى لهجات، ويوجد في أفريقيا ما لا يقل عن مائتي لغة محلية، فستعود المسألة في حافرتها، وأين للأجيال المقبلة ما يربطهم بمعجمات اللغة وقواميسها، وموسوعات الفقه والحديث والتفسير؟ ولا تستطيعون أن تترجموا هذه الموسوعات إلى اللغة التي سوف تختارونها، وإذا تشعبت إلى لغات لن تستطيعوا متابعة الترجمة إلى كل ما يستجد من لهجة.
إذاً: عودتكم إلى اللغة العربية عودة إلى الأصل، وفيها الغناء لكم، ويقول الشافعي رحمه الله: فرض عين على كل مسلم أن يتعلم من العربية ما يتعلق بعبادته لربه.
أيها الإخوة! نحن استطردنا في هذا الموضوع؛ لأنها قضية اليوم، وهذا الحديث ليس الغرض فيه مجرد أحكام: طهارة، نجاسة، استعمال آنية كفار أو عدم استعمالها، ولكن الحديث أوسع أفقاً في الدلالة، وفيما ينتفع به المسلم، وهنا صلى الله عليه وسلم يوصي أنه لا ينبغي للمسلم أن يستعمل آنية أهل الكتاب إلا عند الحاجة، وكما أشرت ليست القضية قضية أوانٍ، إنما القضية قضية مبادئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون متميزاً بذاته لا يندمج مع غيره فينماع وتذوب شخصيته، ويبقى هو وغيره -من غير المسلمين- سواء، وبالله التوفيق.
هذا الحديث تتمة لما تقدم، وله صلة بالنهي عن أواني الذهب والفضة، وله صلة أيضاً بما أشرنا إليه -أيضاً- في شاة ميمونة.
وقدح النبي صلى الله عليه وسلم كان مربعاً -يعني: لم يكن مستطيلاًً، ولكنه قصير وواسع- وكان يشرب فيه، ويقول أنس : (سقيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء والنبيذ واللبن).
(انكسر): ما ألقى به وجاء بغيره، مع أنه كان يستطيع -لو أراد- أن يتخذ قدحاً من زمرد، ولكن حفاظاً على ما يمكن أن يستفاد منه، جعل محل الشعب سلسلة من فضة، أي: أنه صار مضبباً، والتضبيب: أن يخرز الإناء من طرفيه، ويلمه ويملأ محل الخرم بالجبس، فيلتحم الإناء الذي كان مكسوراً، ثم يستعمل، وكانت الصحون الصينية النفيسة عندما تنكسر -وقد تنكسر إلى ثلاثة أجزاء أو أربعة- لا يلقي بها أصحابها، ولكن يؤتى بها إلى من يمارس هذه الصنعة فيخرز محل الكسر، ويجعل له ضبة، فيلمها، ويصبح الصحن -نوعاً ما- كما كان قبل ذلك.
إذاً: يجوز استعمال الفضة عند الحاجة؛ لأن غيرها لا يجزئ عنها، وإذا كانت الفضة تجزئ فلا حاجة إلى الذهب، ولكن يقول الفقهاء: عند الاستعمال لا ينبغي أن يعمد إلى موضع الفضة: ويشرب منه ملامساً له، إنما جعل التضبيب لحفظ الإناء حتى يمكن استعماله، فيشرب بعيداً عن مواطن الفضة؛ حتى لا يلامسها عند الاستعمال، وبالله تعالى التوفيق.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة - باب الآنية [2] للشيخ : عطية محمد سالم
https://audio.islamweb.net