اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تفسير سورة النور [6] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته، والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21].
هذه الآية الكريمة اشتملت على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان الرجيم.
والأمر الثاني: بيان العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبع الشيطان في أوامره وسبُله.
وأما الأمر الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة: بيان أن الله تبارك وتعالى هو المتفضل على عباده، يرحم من يشاء بهدايته، ويزكي من يشاء بفضله، سبحانه وتعالى.
قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا): حرف نداء، و(أيُّ): منادَى، و(الهاء): للتنبيه...
أي: يا من آمنتم بي، وآمنتم برسلي، وآمنتم بكتابي، ولقائي! لا تتبعوا خطوات الشيطان.
هذا النداء من الله تبارك وتعالى استفتحه بهذه الخصلة العظيمة التي تدل على شرف الإنسان وعلوِّ مكانته عند الله عز وجل وهي صفة الإيمان بالله تبارك وتعالى.
وفي استفتاح هذا النهي بهذا النداء تشويق لأهل الإيمان أن يلتزموا شرع الرحمن، أي: إن كنتم أهل إيمان وطاعة واتباع لي، ولسبيلي لا تكونوا متابعين للشيطان في أوامره التي يأمركم بها بالفحشاء والمنكر.
وهذا النداء يستفتح الله تبارك وتعالى به بعض أوامره، ويستفتح به نواهيه، قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى يستفتح أوامره ونواهيه بهذا النداء؛ لكي يشوق السامعين والقارئين للقرآن للعمل بما تضمنه ذلك النداء من الأمر، ولترك ما اشتمل عليه من النهي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إذا سمعت الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه).
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن الله تبارك وتعالى يستفتح الآيات بهذا النداء الذي يتضمن أحد ثلاثة أمور:
-إما أمر بالمعروف.
-وإما نهيٌ عن المنكر.
-وإما أن يجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن أمثلة أمره بالمعروف: أمره بتقواه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).
ومن أمثلة نهيه عن المنكر كما في هذه الآية الكريمة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].
فقد تضمنت هذه الآية الكريمة النهي عن اتباع سبيل الشيطان، بل إن النهي عن اتباع خطوات الشيطان هو النهي عن الشر والبلاء كله، فالشر كل الشر في متابعة الشيطان، والخير كل الخير في اتباع سبيل الرحمن، ولن تجد من العبد معصية انتهك بها حدود الله أو أصاب بها محارم الله تبارك وتعالى إلا وجدت الشيطان داعياً إليها محبِّباً إياها ومقرباً منها، ولذلك جمع الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة النهي عن أصل الشر كله والتحذير منه، فكل الشر في هذا الأمر، وهو اتباع خطوات الشيطان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خص الله عز وجل أهل الإيمان في هذه السورة الكريمة ونهاهم عن اتباع سبيل الشيطان، وجاء في آية أخرى النهي لعموم الناس في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] فنهى الله تبارك وتعالى الناس عموماً والمؤمنين خصوصاً:
-فشمل النداء عموم الناس مؤمنهم وكافرهم حينما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).
-وخصَّ أفضل الناس وهم أهل طاعته، وأهل سبيل محبته، حينما ناداهم في هذه السورة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وفي هذا النداء دليل على أن الإيمان يستلزم من الإنسان القولَ والعملَ الصالح، كما قرره أهل السنة والجماعة من أن الإيمان بالله عز وجل: (اعتقادٌ بالجَنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان).
اعتقادٌ بالجَنان: فلابد أن يكون جَنان الإنسان أي: قلبه مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
وقولٌ باللسان: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأما فعلُ الأركان والجوارح: فهو العمل بمقتضى هذه الشهادة، فتكون الأقوالُ والأفعالُ موزونةً بميزان الكتاب والسنة، لا يحيد المؤمن عن ذلك قيد شعرة، فإن حاد نقص إيمانه بقدر ما حاد، وإن ازداد من الخير والطاعة والاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى كان أحظى الناس بالإيمان وأعلاهم مرتبةً في طاعة الرحمن.
يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) الخطوات: جمع خُطوة، وهي ما بين القدمين، ويقال: خَطوة، وهو مصدر.
(لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) للعلماء رحمهم الله في (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أقوال:
-فمِن أهل العلم مَن قال: إن قوله تبارك وتعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): المراد منه الخطايا التي يصيبها الإنسان باتباعه الشيطان؛ لأن الشيطان متمرد على طاعة ربه، بعيد عن محبة الله عز وجل وسبيل ولايته.
-ومِن أهل العلم مَن قال: إن قوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: آثاره.
-ومِنهم مَن قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: نذور المعاصي التي كان عليها أهل الجاهلية في جاهليتهم؛ لأن الشيطان كان يدعوهم بها إلى انتهاك حدود الله، وغشيان محارم الله تبارك وتعالى.
-وهناك قولٌ اختاره بعض المفسرين -وهو قولٌ لطيف- يقول: إن قوله تبارك وتعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: انتقال الشيطان من المعصية إلى المعصية، فهو يقود الإنسان إلى حدود الله شيئاً فشيئاً، ويحببه في معاصي الله خطوة خطوة، حتى يفضي به إلى أعظم الحدود وأكبر الكبائر وهو الشرك بالله والعياذ بالله.
-وهناك قولٌ أخيرٌ في هذه الآية الكريمة -وهو القول الخامس-: وأن المراد بقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): أي: الخطوة التي ينتقل بها من الحلال إلى الحرام.
فالمقصود: أن هذه هي أقوال العلماء في قوله تعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
والذي عليه بعض المحققين: أن الآية شاملة لهذا كله، فما دام أن الجميع يصدُق عليه أنه خطوة للشيطان، فلا مانع أن الله تبارك وتعالى ينهانا عن جميع ذلك، والأصل أن اللفظ ما دام على عمومه أن يُحْمَل على ذلك العموم سواءً ورد في الكتاب أو ورد في السنة فيبقى لفظ الآية الكريمة في الدلالة على العموم حتى يرد النص الذي يدل على شيءٍ مخصوص بعينه.
ومن هنا يتبين لنا أن نهي الله تبارك وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان المراد به النهي عن جميع ذلك كله، فالإنسان مطلوب منه أن يبتعد عن متابعة الشيطان سواءً دعاه إلى المعاصي أو نقله إليها خطوة خطوة، فينبغي للمؤمن كلما أحس في قلبه بوسوسة من الشيطان تدعوه إلى معصية الرحمن أن ينكفَّ وينـزجر ويطيع الله تبارك وتعالى إذ نهاه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن متابعة هذه الوساوس والخطرات، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (خط خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينة خطوطاً، وعن يساره خطوطاً فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فكل من أطاع داعي الشيطان إلى تلك السبل وأجابه إلى تلك المعاصي فقد خالف نهي الله تبارك وتعالى، واعتدى حدود الله عز وجل، وانتهك محارمه على قدر عظم ما أصاب من ذلك الذنب الذي أطاع الشيطانَ فيه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قال بعض العلماء: إن الله عز وجل قد جمع في هذه الآية الكريمة النهي عن أساس الشر كله، وذلك في بعض سطر حينما قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وهذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه وعظيم شأنه، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذا الكتاب المبين معجزاً بلفظه وبمعناه، فجمع الشر في هذا المقطع اليسير من الآية الكريمة.
وقوله تعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): نسبها إلى الشيطان؛ لأنه هو الداعي إليها والمحبِّب فيها، والشيطان على ضربين:
-شيطان إنس.
-وشيطان جن.
ولكن إذا أطلق الشيطان فالمراد به أساس الشر وهو إبليس، ويتبعه أعوانه الذين يسلطهم بإذن الله على بني آدم، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان عرشه على الماء، يبعث رسله إلى بني آدم فتنةً من الله وامتحاناً وابتلاءً واختباراً تدعو عباد الله إلى معاصي الله، وتحببهم في انتهاك حدود الله وغشيان محارمه، فالناس بين عبدين:
-عبد له مجيب، قد تردى في الدركات والعياذ بالله الموجبة لسخط رب الأرض والسماوات.
-عبد الله يتمرد على شيطانه، ويعتصم بالله تبارك وتعالى، ويلوذ به ويستعيذ به، فينقذه الله عز وجل من شرورهم، قال الله عز وجل: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112].
فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى نهانا في هذه الآية الكريمة عن اتباع سبيل الشيطان، سواءً كان ذلك الشيطان شيطان جن أو كان شيطان إنس.
(فَإِنَّهُ) أي: الشيطان. (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) وهي: جمع فاحشة، والفحشاء: المراد بها الفاحشة، وقد تطلق على القول الذي لا يحبه الله تبارك وتعالى، وقد تطلق على الفعل:
فمن إطلاقها على الفعل: قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32] فأخبر سبحانه وتعالى أن الزنا فاحشة مع أن الزنا فِعْل من الأفعال، فهذا من إطلاق لفظ: (الفاحشة) على الفعل.
ومن إطلاق الفاحشة على القول: قول عائشة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً) صلوات الله وسلامه عليه، أي: ما كان ليقول أو يفعل ما لا خير فيه.
وقوله تعالى (وَالْمُنْكَرِ): المنكر ضد المعروف، وهو ما أنكره الله تبارك وتعالى في كتابه، وأنكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، والمنكر وُصِف بذلك لما فيه من النكارة وهي كل ما لا يحبه الله ويرضاه فإذا فعل العبد ما حرم الله عليه فإنه قد أصاب منكراً؛ لأنه من أعظم ما يكون جريمة أن يعصي العبد ربه، فبمعصيته لمن خلقه ورزقه، وأطعمه وكساه كان بذلك مرتكباً لأمرٍ منكر لا يحبه الله ولا يرضاه.
يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ) أي: الشيطان.
أما الفائدة الثانية: أن الآية فيها منهجٌ تربوي لمن أراد أن يعلِّم أو يربِّي غيره، ذلك أن الله تبارك وتعالى نهى العباد عن متابعة الشيطان، وذكر عاقبة مَن اتبع الشيطان، قال بعض العلماء: ذكر عاقبة من اتبع الشيطان أبلغ في زجر الناس عن متابعة الشيطان، بمعنى إذا أراد الإنسان أن ينهى صبياً أو يعلم جاهلاً فإنه ينبغي له أن يجمع في النهي بين أمرين:
الأمر الأول: أن يحدد له الشيء الذي ينهاه عنه.
والأمر الثاني: أن يبين له عاقبة الشيء الذي نهاه عنه.
فذلك أبلغ في التربية والتوجيه والتعليم.
وقد اشتملت الآية الكريمة على كِلا الأمرين، فحذرنا الله تبارك وتعالى عن اتباع سبيل الشيطان، وأخبرنا عن العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبعه وسار على نهجه وارتضاه، فقال: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) هذا الأمر الذي يوجهه الشيطان إلى الإنسان إنما يوجهه بالوسوسة، فهي سبيل الشيطان للإنسان، ولذلك إذا وقف الإنسان أمام معصية من المعاصي وجد في نفسه دعوة تدعوه إلى تلك المعصية، وهي لَمَّة الشيطان والعياذ بالله، ووجد في نفسه ما يزجره عن فعل تلك المعصية وهي لَمَّة الخير التي جعلها الله عز وجل للمَلَك، ولذلك يعيش الإنسان بين اللَّمَّتين: منهما: لَمَّة الشيطان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (فإن للشيطان لَمَّة، وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان: فتسويف بالخير وإيعاد بالشر، وأما لَمَّة المَلَك: فنهي عن الشر وإيعاد بالخير)، فهاتان لَمَّتان موجودتان في الإنسان.
وبناءً على ذلك: فكل ما يجده الإنسان في نفسه من الدعوة إلى الحرام ينبغي أن يعلم أنه من الشيطان، وعلاج ذلك بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] فمن أراد أن ينجو من هذه الأوامر التي يسوِّلها الشيطان لأوليائه، فما عليه إلا أن يستعيذ بالله عز وجل، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
والمراد بقوله: مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النور:21] أي: ما طهر قلب الإنسان من معصية الله تبارك وتعالى التي اشتملت عليها أوامر الشيطان، وفي هذا دليل على أنه لا نجاة من تلك الوساوس والخطرات إلا برحمة الله تبارك وتعالى، وكأن الله تبارك وتعالى يدعونا بهذه الآية الكريمة إلى التعلق به، وسؤاله النجاة من هذه الوساوس والخطرات، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من دعاء الله عز وجل صلاحَ قلبه، وزكاةَ فؤاده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالله تبارك وتعالى هو وحده الذي يزكي القلوب بفضله؛ فتنشرح لطاعته وسبيل محبته، وتكون أسبق ما تكون إلى ما يحبه ويرضاه، وأبعد ما تكون عن معاصيه التي لا يحبها ولا يرضاها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا المعنى بقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] فالله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحبب القلوب في طاعته، ويشرح الصدور لسبيل ولايته، فإذا أراد أن يصطفي أحداً لتلك الهداية أو يجتبيَه لتلك الولاية جعل قلبه منشرحاً زكياً نقياً طاهراً من هذه الوساوس، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا أراد أن يكون على درجة الصلاح والخير والاستقامة فينبغي أن يكون أبعد ما يكون عن الوساوس، كلما وجد في نفسه الوسوسة دفعها بذكر الله والاستعاذة به تبارك وتعالى، ومن ثم نبهوا على أن أخطر ما يُخشى على الإنسان الاسترسال في الوساوس والخطرات، وهي: التي يُدْلَى بها الإنسان إلى معاصي الله عز وجل، فيبتدئ الشيطان مع الإنسان في سمعه، أو في بصره، أو في لسانه، أو في فرجه، أو في أي شيءٍ من الأمور التي يملكها حتى يسهل له بها السبيل إلى حدود الله فيبتدئ بالسمع أو بالبصر، فيقول له: تمتع بسمعك أو تمتع ببصرك، ولا حرج عليك في النظرة والنظرتين، فيرسل النظرة، فتورث النظرةُ الشهوة، فيسترسل بالنظرة تلو النظرة حتى ينتهي إلى حديث النفس المستحكِم، فإذا استحكم الشيطان بذلك القلب واستأثر بالفؤاد انقلب ذلك القلب والعياذ بالله من طاعة الله إلى معاصي الله عز وجل، فيصبح يفكر كيف السبيل لإصابة تلك الشهوة، وإصابة ذلك الحد من حدود الله عز وجل؟
يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ [النور:21] الفضل في اللغة: الزيادة.
وقوله: (فَضْلُ اللَّهِ): أي: تفضل الله تبارك وتعالى عليكم ورحمته؛ لأن النجاة من المعاصي والبعد عما لا يحبه الله عز وجل ويرضاه إنما هو رحمة من الله عز وجل يرحم بها من شاء، قال بعض العلماء: وَصَفَ الله عز وجل الهداية والاستقامة بكونها رحمة، لأن العبد يُرْحَم فيها في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فلأن صلاح الأمور بالاستقامة، وأما في الآخرة: فبالنجاة من عذاب الله عز وجل وعقوبته، وذلك إنما يكون بالتزام شرعه والبعد عن حدوده ومحارمه.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21] سميعٌ لأقوالكم، عليمٌ بأفعالكم.
وقوله: (سَمِيعٌ): فعيل بمعنى فاعل أي: سامعٌ سبحانه وتعالى.
وقوله (عِلِيمٌ): فعيل أيضاً، وصيغة فعيلٍ وهي دالة على المبالغة.
-القراءة الأولى: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ).
-القراءة الثانية: : (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ).
أما هاتان القراءتان فللعلماء رحمهم الله فيهما وجهان:
الوجه الأول: أنهما قراءتان بمعنى واحد.
والوجه الثاني: أنهما قراءتان مختلفتان في المعنى.
أما أصحاب القول الأول الذين قالوا: إن تلك القراءتين بمعنى واحد، فقد اختلفوا على قولين أيضاً:
فقال أصحاب القول الأول: إنهما بمعنى واحد، وهو الحلف، فقوله: (وَلا يَأْتَلِ)، وقوله: (وَلا يَتَأَلَّ) كل ذلك المراد به لا يحلف وهو من الأَلِيَّة وهي: الحلف، ومِن استعمال هذا الفعل بمعنى الحلف قول الله تبارك وتعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226]، -وهي آية الإيلاء- أي أن يحلف الرجل ألاَّ يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر إجماعاً، أو أربعة أشهرٍ... خلافٌ بين العلماء رحمهم الله. فالمقصود: أن الأَلِيَّة بمعنى الحلف على هذا القول.
وأما على القول الثاني: فقالوا: إن قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ)، وقوله تعالى: (وَلا يَتَأَلَّ): كل ذلك بمعنى: لا يقصر مِن قولهم: أَلَيْتُ بمعنى: قصَّرتُ، يقول الرجل: لا آلو جُهدي: أي: لا أقصِّر ومِن استعمال هذا الفعل في القرآن بمعنى التقصير قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [آل عمران:118] أي: لا يقصرون في جلب ما يوجب الخبال لكم، يعني: أعداءه سبحانه وتعالى.
وهناك قول ثان: وهو أن كلتا القراءتين مختلفة المعنى فقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ): أي: لا يقصر، وقوله تعالى: (وَلا يَتَأَلَّ): أي: لا يحلف.
وبناءً على كلا المعنيين: يكون المعنى الأول: لا يحلف أولوا الفضل منكم والسعة ألا يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله من فضل الله، فتكون الآية الكريمة تضمنت نهي الصحابة أو نهي أبي بكر على سبيل الخصوص والمؤمنين على سبيل العموم عن أن يحلفوا على الامتناع عن إعطاء المساكين وأولي القربى والمهاجرين.
وأما المعنى الثاني: فيكون المراد لا يقصِّر أولوا الفضل وأولوا السعة الذين وسع الله عليهم من الخير وأعطاهم بسطة المال فرزقهم من فضله في الإحسان إلى هؤلاء الضعفاء.
وكلا المعنيين واضح.
وقوله تعالى: (وَالسَّعَةِ): أي: الذين وسع الله عز وجل عليهم في رزقهم فأصبحوا أهل مال وثراء.
(وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) في هذه الآية الكريمة دليل على أن أصحاب الجود والسخاء الذين يبذلون المال للضعفاء والفقراء يبتغون بذلك مرضاة رب الأرض والسماء أنهم أهل فضل، والله تبارك وتعالى شهد لهم من فوق سبع سماوات بذلك، فمن كان سخياً جواداً بماله في طاعة الله ومرضاته، يحتسب من إنفاقه رضوان الله عز وجل عليه، فإنه يعتبر من أهل الفضل بشهادة الله تبارك وتعالى، وفي هذا دليل على فضل الإنفاق والجود في طاعة الله ومحبته، ولو لم يكن في فضل الصدقة والإحسان إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عنه أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى بذلك فضلاً وشرفاً، ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين السبب الذي يوجب نجاة العبد من نار الله وعذابه قال: (ما مِن أحد منكم إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
قال بعض العلماء في قوله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) دليل على أن مِن أعظم الأسباب التي تنجي من النار وعقوبة الله: الصدقة، ولذلك نهى الله تبارك وتعالى أهل المال والثراء عن الإنفاق مع الأذية.
فمثال الأول مَن اجتمعت معه في الأصول: كالأعمام.
وفي فروع الأصول: كأعمام الأب، وما تفرع عن هؤلاء.
ومثال مَن اجتمعت معه من الفروع: مَن كان منسوباً إليك كأبنائك، وأبناء أبنائك وإن نزلوا، وكذلك فروع إخوانك وأخواتك كل أولئك من القرابة؛ لأنه تجمعك بهم رابطة تقربهم منك، وتنسبك إليهم وتنسبهم إليك.
وقوله تعالى: (أُوْلِي الْقُرْبَى): لأن مسطح بن أثاثة رضي الله عنه كان قريباً لـأبي بكر الصديق ؛ لأنه ابن خالة لـأبي بكر رضي الله عن الجميع، فلما آذى مسطح أبا بكر بالكلام في عائشة كان وقْعُ تلك الأذية عظيماً في قلب أبي بكر كما قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهندِ
فأذية القريب مؤلمة؛ لأنك إذا أردت أن تنتقم منه لم تستطع لمكان القرابة والرحم، وإن سكت عنه سكت على الألم والأذية.
فمع عِظَم ما آذى به مسطح رضي الله عنه أبا بكر الصديق أمر الله تبارك وتعالى أبا بكر أن يغض الطرف وأن يصفح عنه، وأن يحتسب عند الله تبارك وتعالى في ذلك الغض والصفح.
يقول تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) و(المساكين) جمع مسكين، وُصِف بذلك لأنه تعلوه المسكنة، فالإنسان إذا كان ضعيفاً قليل المال فإنه تغلب عليه المسكنة والضعف، على خلاف الغني فإن الغالب فيه -إلا من رحم الله- أن يكون أشِرَاً بَطِرَاً، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] فالإنسان إذا أصاب الغنى بَطِرَ والعياذ بالله إلا أن يرحمه الله.
فالمقصود أن مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل إنما يُحبط بالكفر والشرك بالله.
ولا يُشْكِل على هذا قوله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] فقد خرَّج بعض العلماء ذلك على الوعيد كما اختاره صاحب الأضواء وغيره من أهل العلم رحمهم الله، وذهب المعتزلة إلى أن الإنسان إذا فعل كبيرة من الكبائر حبِط عمله والعياذ بالله، ومثال ذلك لو أن إنساناً زنى أو سرق وكان على طاعة واستقامة فإن زناه وسرقته توجب حبوط عمله عند هؤلاء.
والحمد لله الذي وسَّع علينا ما ضيقه أهل الاعتزال، والحمد لله الذي رحم عباده حيث لم يجعل حبوط العمل بارتكاب الكبائر، إذ النصوص شاهدة على أن مرتكب الكبيرة لا يعتبر ممن حبط عمله، كما في هذه الآية الكريمة، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن مسطحاً قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها على خلاف: هل كان يقول ذلك، أو ينقل الكلام دون اعتقادٍ له، أو كان يحضر المجالس ويسمع ويرضى ولم يكن منكراً لذلك الأمر، وإن كان الذي ورد في الرواية التي في سبب النزول أنه رضي الله عنه وأرضاه كان فقط يسكت على ما يقال، وهذا يدل على أن مَن جلس المجلس الذي يغتاب فيه المسلم أنه شريك للذي اغتاب والعياذ بالله في إثمه، وآخذ حكمه والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:140].
فالمقصود: أن أصح الأقوال هو قول أهل السنة والجماعة من أن مرتكب الكبيرة لا يُحبط عمله، وأنه على حالتين:
-إما أن يتوب في الدنيا فيتوب الله عز وجل عليه، قال الله عز وجل: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ولم يفرِّق الله بين ذنب كبير ولا صغير، فالآية عامة.
-وإما أن يصر على الكبيرة إلى لقاء الله والعياذ بالله، فيوافي الله يوم القيامة بتلك الكبيرة غير تائب منها، فإن وافاه وحالته على ذلك فهو تحت رحمة الله ومشيئته؛ إن عذبه فبِعَدْلِه، وإن عفا عنه فبِرَحْمَتِه، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وقوله: (وَلْيَعْفُوا): ذلك أن الإنسان إذا أذنب آخر في حقه ولم يؤاخذه بذلك الذنب، فكأنه قد محا أثر ذلك الذنب، فلذلك يقال: عفا عنه، وقال بعض العلماء: العفو بالأقوال، والصفح بالأفعال. فالصفح مأخوذ من صفحة العنق، وهو أن يعرض الإنسان عن الشيء الذي لا يريده، يقال: أعرض عنه صفحاً أي: أعرض عنه فلم يؤاخذه بما قال، وكل ذلك كناية عن عدم المؤاخذة.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا): وفي هذه الآية الكريمة دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون سمحاً ليناً حليماً رحيماً رفيقاً بإخوانه، فإذا حصلت الزلة والأذية من أخيه، فإنه ينبغي له إذا كان يرجو رحمة الله ويطمع فيما عنده عز وجل أن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن لا يقابل الإساءة بالإساءة فذلك أكمل.
ولذلك ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام وهو متكلَّمٌ في سنده ولكن لا تبعُد صحة متنه أنه (إذا كان يوم القيامة نادى منادي الله عز وجل: مَن كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومَن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذنب).
فالإنسان إذا عفا عن غيره، وكان عفوه لوجه الله عز وجل، -رجاء ما عند الله تبارك وتعالى- فإنه يرجى له مثوبة الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا أساء إليه أحد فإن شاء أخذ حقه في الدنيا، وإن شاء أن يؤخر حقه إلى الآخرة أخَّرَه، فإن أخَّرَ حقه إلى الآخرة فهو مخير بين فضلين، أحدهما أعظم من الآخر:
أما الأول: فهو أن يرضى أن يقتص الله له ممن ظلمه، وهذا أدنى الفضلين.
وأما الفضل الأعلى: فهو أن يعفو عنه ويحتسب الأجر عند الله، قال بعض لعلماء: مَن عفا عن الذنب لوجه الله، فإنه يُرجى له من مثوبة الله أكثر مما يعطاه لو أخذ من حسنات مَن ظلمه.
ولذلك رغَّب الله عز وجل في العفو والصفح لوجهه، وهذا هو شأن الفضلاء والأخيار والنبلاء أنهم يبادلون الإساءة بالإحسان، ولا يبادلون الإساءة بالإساءة، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقابل الإساءة بالإحسان، ولا يقابل السيئة بالسيئة، وكان هذا من وصفه في الكتب السماوية التي قبله أنه عليه الصلاة والسلام يعفو عمن أساء إليه، ولا يؤاخذه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (جاءه أعرابي فأخذ بطرف قميصه عليه الصلاة والسلام حتى أثر في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم له ولم يزده على ذلك)، وورد عنه عليه الصلاة والسلام في قصة اليهودي أنه استدان من اليهودي، فلما جاء ذات يوم أقبل عليه اليهودي، فأخذ بمجامع ثوبه عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! اقضني ديني، فإني قد عهدتكم يا آل هاشم قومٌ مطل، فقال عمر: دع ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا ضربت عنقك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنا وهو أولى بخيرٍ من ذلك: أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء. فكان ذلك سبباً في إسلام اليهودي) فهذا من كريم خُلُقه صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام وهو من أخبار السير أيضاً أنه (لما فتح الله عليه مكة وقام عليهم فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم -قال بعض العلماء: لولا أن قريشاً تعلم منه الحلم والرحمة والإحسان ما قالت له ذلك، ولكنه كان على ذلك الخلق- فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال في الرواية الأخرى: لا تثريب عليكم! اذهبوا فأنتم الطلقاء) فكان عليه الصلاة والسلام على السماحة واليسر.
وورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنه لما لحق بالقوم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مَلَكْتَ فأسجح) أي: اعف وسامح، صلوات الله وسلامه عليه.
فالمقصود: أن هذه الآية الكريمة أدبت عباد الله المؤمنين فتخلقوا بخُلُق الصفح، خاصة إذا كان الإنسان ممن يُقتدى به، كأهل العلم وطلابه، فهم أحق الناس بسعة ورحابة الصدر؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومن العجيب الغريب أن الناس انعكست عندهم المفاهيم، وانقلبت لديهم الموازين! فأصبح الذي يعفو عن الناس، ويتجاوز عن إساءتهم يوصف بكونه ضعيفاً وجباناً، وبكونه لا يستطيع الانتقام لنفسه، حتى ربما وصفوه بكونه امرأة وهو رجل، وهذا كله مما حرمه الله عز وجل لأنه يفضي إلى تزهيد الناس في العفو والصفح الذي يوجب أُلفة القلوب واتحاد الكلمة.
والله تبارك وتعالى ندب عباده إلى العفو، ولذلك قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] أي: يحب من كان بهذه الصفة من العفو عن الناس.
ولذلك كان مِن الخَطَإِ وصفُ مَن عفا عن حقه بكونه جباناً، بل لا يؤمَن على من يتفوّه بذلك أن يكون مخالفاً لهديه عليه الصلاة والسلام، ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد، بل إنه صلى الله عليه وسلم أنكره بأسلوب عجيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رَفَعَه) قال بعض العلماء: قوله: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) قال: إن الناس تظن أن العفو ذُل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العفو عزة، ولذلك تجد الإنسان إذا عفا عمن أساء إليه دلَّ ذلك على قوة شكيمته وإرادته وتحمله؛ لأن ذلك من صنيع الرجال الكاملين في الرجولة أن يتحملوا الأذى، ولذلك سُئِل الأحنف بن قيس ذات يوم، قال له رجل فضولي: (لِمَ سُدْتَ قومَك وأنت قصير دميم الخِلْقة؟! قال رحمه الله: بتركي لِمَا لا يعنيني كما عَناك من أمري ما لا يعنيني). قال بعضهم: إنه كانت به خُلَّة أمكنه أن يردَّه بها، ولكن كان الأحنف رحمه الله على حِلْم.
فالمقصود: أن الحِلْم والصفح عن الناس من الخلق الكريم الذي يثيب الله عز وجل عليه، ونَدَب إليه الكتاب، وندبت إليه السنة.
قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الإحسان والصدقة سبيل في عفو الله عن العبد، ولذلك ورد في الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما نزلت هذه الآية الكريمة: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) قال: (بلى والله! -أي: بلى والله! نحب أن تغفر لنا- والله لا أقطع عنه شيئاً أبداً). واستمر في عطيته إلى أن توفاه الله رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه إشارة إلى أنك إن صفحت عن الناس صفح الله عنك، وإن غفرت للناس غفر الله لك، وإن رحمت الناس رحمك الله، ولذلك قيل: (كيفما تدين تدان) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه كان فيمن كان قبلكم رجلٌ يداين الناس وكان يقول: إذا لقيتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه)، والله تعالى أعلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تفسير سورة النور [6] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي
https://audio.islamweb.net