اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تفسير سورة النور [3] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]: هذه الآية الكريمة اشتملت على جملة من الأحكام الشرعية والكلام عليها ينحصر في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في بيان سبب نزولها.
والموضع الثاني: في بيان مفرداتها.
والموضع الثالث: في بيان أحكامها ومسائلها.
ومِن العلماء مَن قال: إن هذه الآية الكريمة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على العموم، وأراد أن يقرر بها صيانة أعراض المسلمين، حتى لا يستطيل المسلم على عرض أخيه، فأدّب الألسن لئلا تسترسل في أعراض الناس بالتهم والظن الذي لا أصل له.
الرمي الحسي: كرمي الحجر وهو قذفه، ومنه قوله تبارك وتعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4].
والرمي المعنوي: وهو السب والنقيصة والتهمة بالسوء والعياذ بالله، فيقال: رمى الرجلُ الرجلَ إذا اتهمه بالسوء والعياذ بالله وانتقصه في عرضه، فالرمي بهذا المعنى يستعمل فيما يُسْتَبْشَع والعياذ بالله من الألفاظ الخبيثة، ومنه قول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني
أي: رماني بتهمة سوء قد كنتُ منها ووالدي بريئين، فمعنى الرمي انتقاص الشخص الذي يُتَّهم.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، والمراد بهذه الآية اشتراط شيءٍ معين، وهو أن يحصل لفظ معين من الإنسان، وهذا اللفظ يتضمن تهمة الإنسان بالزنا والعياذ بالله، سواءً كان المتهم رجلاً أو كان امرأة، صالحاً كان أو فاسداً ما دام أنه من المسلمين.
القول الأول: المراد بالمحصنات: العفيفات.
والقول الثاني: المراد بذلك: الفروج المحصنة.
والقول الثالث: الأنفس المحصنة.
والقول الرابع: أن الآية جاءت للمغايرة، فذكر الله فيها قذف الأجنبية حتى يُرَكِّبَ عليها قذف الزوج لزوجته، كما سيأتي بيانه وبيان أحكامه ومسائله إن شاء الله.
والإحصان في اللغة معناه: المنع، ومنه الحصن؛ لأنه يمنع الإنسان الذي بداخله من أن يصله السوء من خارجه، ومنه قوله تبارك وتعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80]، أي: لتقيكم ضربات السيف والقنا، فقوله: (لتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي: تحفظكم من أذى الحروب.
فالشاهد: استعمال الإحصان بمعنى المنع.
يقول العلماء: سُمِّيت المرأةُ العفيفةُ محصنةً؛ لأنها تمتنع عن الأمور التي لا تليق بها من الفاحشة وما في حكمها.
فقوله -تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد به: العفيفات، والمرأة المحصنة هي المرأة العفيفة الحافظة لعرضها، ومن ذلك قول حسان بن ثابت يمدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعنه:
حصان رزان ما تُزَنُّ بريبةٍ وتصبح غرثى مِن لحوم الغوافلِ
(حصان) أي: عفيفة.
فالمرأة المحصنة هي العفيفة، وُصفت بذلك لأنها أحصنت فرجها، فحفظته مِن أن يُتَوَصَّل إليه بغير طريق شرعي معتبر.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، والسؤال: كيف يتحقق رمي المحصنات؟
رمي المحصنات يفتقر إلى لفظ مخصوص، وسيأتي إن شاء الله بيانُ الألفاظ التي إذا خاطب بها الإنسانُ غيرَه والعياذ بالله كان قاذفاً متوَعَّداً بالوعيد الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ليس المراد من هذه الجملة أن الوعيد والعذاب مختص بمن قذف النساء، بل إن الحكم عام، فكل من قذف مسلماً أيَّاً كان رجلاً أو امرأة فإن الله تبارك وتعالى توعده بما جاء في الآية.
وهي على أمرين:
الأمر الأول: أن الزنا يثبت بشهادة أربعة شهود ذكور عدول، وذلك يدل على أنه إذا وُجِد هذا الشرط، وهو اكتمال البينة بأربعة شهود ثبت الزنا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يدل على الأمر الثاني وهو: أن حد القذف لا يثبت إلا إذا لم يُقِم الإنسان بينة كاملة، وهي أربعة شهود، ولو أن إنساناً قذف غيره فقال له والعياذ بالله: يا زانٍ، أو قال لامرأة: يا زانية، ولم يُقِم إلا ثلاثة شهود، فإنه يجب أن يجلد الحد، وأن يجلد بقية الشهود أيضاً الحد، وفي هذا دليل على صيانة الله عزَّ وجلَّ لأعراض المسلمين.
فانظر رحمك الله! إلى هذه الآية الكريمة؛ يخاطب الله عزَّ وجلَّ بها خير الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أصحابه الكرام الفضلاء الأعلام.
يقول تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور:4]، فلو أن ثلاثة من الصحابة شهدوا ولم يكتمل النصاب -أربعة- لوجب إقامة الحد عليهم جميعاً على المدعي والشهود الذين معه؛ لأنهم قَذَفَةٌ، كما فعل ذلك عمر رضي الله عنه بمن قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي لم يحضروا أربعة شهداء، والمراد بهم الذكور، وأما الإناث فإن شهادتهن في الحدود فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله كما سيأتي إن شاء الله!
الأمر الأول: وهو قذف الإنسان لغيره وذلك باتهامه بالزنا رجلاً كان أو امرأة.
والأمر الثاني: أنه لا بينة عنده، ولم يقر المقذوف بأنه زان، فحينئذ يقول الله تعالى مبيِّناً العقوبة المترتبة على هذا الأمر:
العقوبة الأولى: أشار إليها بقوله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].
والعقوبة الثانية: أشار إليها بقوله: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور:4].
والعقوبة الثالثة: أشار إليها بقوله سبحانه: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، أي: فَسَقَةٌ -والعياذ بالله- خارجون عن طاعة الله ومحبة الله.
فهذه ثلاث عقوبات لمن قذف أخاه المسلم، أو قذف أخته المسلمة بدون بينة.
يتحقق القذف باللفظ الصريح الدال عليه، وذلك بأن يتهم الإنسانُ غيرَه رجلاً كان أو امرأةً من المسلمين بالزنا، فيقول له -والعياذ بالله-: يا زانٍ، أو يقول للمرأة: يا زانية، أو يتهم أبا المقذوف، فيقول له: يا ابن الزاني، أو يتهم أم المقذوف -والعياذ بالله- فيقول: يا ابن الزانية، فهذا لفظ صريح يدل على التهمة بالزنا، أو يتهمه بفاحشة في حكم الزنا على خلاف بين العلماء، كأن يقول له: يا لوطي، أو يا ابن اللوطي والعياذ بالله.
فكل هذه الألفاظ توجب ثبوت القذف أي: التهمة، وتعتبر من الألفاظ الدالة على ثبوت لفظ القذف، أي: الألفاظ الصريحة.
القول الأول: مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع أن من قذف أخاه تعريضاً أنه لا يجب عليه حد القذف وإنما يعزر.
القول الثاني: من قذف أخاه تعريضاً فإنه يجب أن يُحَدَّ حد القذف، كالحال فيمن قذف تصريحاً، وهذا هو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، يقول الإمام مالك والإمام أحمد في رواية: مَن قال لأخيه: لست بابن زنا، أو ما أنا بابن الزنا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يُفْهَم منها أنه يتهم صاحبه، فإنه يُعْتَبَر قاذفاً والعياذ بالله.
واستدل الجمهور بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟ ...) الحديث، وجه الدلالة أن الرجل اتهم امرأته تعريضاً ولم يصرح، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بإقامة الحد عليه، وقال أصحاب هذا القول: إن في اللفظ احتمالاً، وبناءً على ذلك فالأصل براءة المتكلم، حتى تثبت إدانته وتهمته على وجه لاشك فيه ولا مرية.
أما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بأدلة، أقواها: قول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، فإن بني إسرائيل لم يقولوا لـمريم: أنت زانيةٌ صراحةً وإنما قالوا: لها ما ذكر الله: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً [مريم:28]، فلم يقولوا لها: أنت زانية، وإنما قالوا لها: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً [مريم:28]، كأنهم يقولون لها: أنت واقعة في ذلك، أي في الزنا، والله يقول: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، فأثبت أنهم متَّهِمون لها من هذا الوجه، فدل على أن التعريض يأخذ حكم التصريح.
وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن القذف تعريضاً لا يأخذ الحكم بالقذف تصريحاً، وأنه في هذه الحالة ينبغي زجر المتكلم، والنظر إلى بساط المجلس، فإن كان بساطُ المجلس فيه خصومة أو فيه عداوة يُفهم منها أنه يريد السوء؛ فإنه يُؤدَّب ويُعزَّر، ولا يقام عليه حد القذف، وإنما يعزر بما دون حد القذف، كما أشار إلى ذلك جمهور العلماء رحمهم الله.
أجمع العلماء رحمهم الله على أنه يحرم على المسلم أن يتهم غيره بالزنا من المسلمين، سواءً كان ذكراً أو كان أنثى، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات يعتبر من كبائر الذنوب -والعياذ بالله- الموجبة لسخط الله عز وجل وغضبه.
ولذلك توعد الله عزَّ وجلَّ مَن فَعَلَ ذلك باللعنة في الدنيا والآخرة، والعذاب العظيم في الآخرة، والفضيحة على رءوس الأشهاد -والعياذ بالله- يوم يقوم الأولون والآخرون، فيقيمهم الله عز وجل، فتشهد الألسن التي تكلمت بأنها افترت على عباد الله، وكذبت على عباد الله، ويكون في ذلك جمع بين عقوبة المعنى وعقوبة الحس والعياذ بالله، كما آذى إخوانه المؤمنين بسبهم وتهمتهم في أعراضهم توعده الله عز وجل بشديد العذاب وعظيم النكال.
ولذلك بيَّن العلماء رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نَزَّل العرض منزلة الدم، فجمع بين حرمة العرض وحرمة الدم، وذلك في أعظم مشهد وأعظم جمع جُمع له في عهده صلوات الله وسلامه عليه، فقد قام في أصحابه في مقامٍ لم يجمع له مثله لا من قبل ولا من بعد، يوم حجة الوداع، حيث أخبر بعض الصحابة أن الجمع بلغ مائة ألف من الصحابة، كلهم حضروا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد أن يقرر الأحكام وأن يبين الشريعة قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)، فدل على أن العرض ومنه: سب الإنسان وتهمته بالزنا يعتبر من المحارم المعظَّمة عند الله عز وجل، كحرمة يوم عرفة في الشهر الحرام في البلد الحرام، كل ذلك تعظيماً من الله لأعراض المسلمين.
فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه من الوقيعة في عرض أخيه المسلم، بل قال العلماء: لو أن شخصاً رأى رجلاً أو امرأة فظن بهما ظن السَّوء ولم يتحقق فعلهما للسُّوء، فإنه يعتبر مرتكباً للجريمة -والعياذ بالله- على قدر ظنه، ويلقى الله -والعياذ بالله- بإثمهما، كما بين الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، فأخبر أن بعض الظن إثم وجريمة في حق الناس.
ولذلك نبه العلماء رحمهم الله -عند الكلام على أدب اللسان- على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، من عدم التكلم في حق أخيه إلا ببينة وعلم، كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]، ولو كان الإنسان مازحاً فقال لأخيه: يا ابن الزانية أو يا ابن الزاني؛ لكان -والعياذ بالله- قاذفاً، ويلحقه الوعيد الذي أخبر الله عز وجل عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه في قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات) قال بعض العلماء (الموبقات) أي: المهلكات والعياذ بالله، أي: أنها تهلك العبد في دينه ودنياه وآخرته.
فالمقصود: أن القذف من كبائر الذنوب، وأنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه، وأن يصون سمعه عن سماع أي طعن في مسلم أو مسلمة بفاحشة.
وهل يُندب له الستر إذا كانت تلك فلتة من الزاني والزانية؟
نقول: يندب له الستر لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه في صحيح مسلم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في موضعه.
أحدهما: أن يكون مجتنباً لكبائر الذنوب.
والضابط الثاني: ألاَّ يصر على صغائر الذنوب.
فإذا كان غير مرتكب للكبائر، ومتقياً في أغلب حاله للصغائر، فإنه يُحكم بكونه عدلاً وتقبل شهادته، وإلى ذلك أشار بعض الفضلاء بقوله:
العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا
أي: أنه لا يفعل كبائر الذنوب كشرب الخمر وأكل الربا ونحو ذلك، ويتقي في الأغلب الصغائر، أي يبتعد في غالب حاله عن صغائر الذنوب، فهذا هو الذي تُرضى شهادته، ويُحكم بشهادته في الدماء والأعراض والفروج والأموال، وغير ذلك مما تطلب له الشهادة.
وقوله: (فَاجْلِدُوهُمْ) أمر عام والمراد به خاص، وهم ولاة الأمر كالقضاة ونحوهم، فإنهم هم المطالَبون بإقامة الحد على القاذف.
وقوله تبارك وتعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وقد تقدمت صفة الجلد، وأنه يجلد الزاني بسوط ليس بهش يتهشم عند الضرب به، ولا بلين، وإنما بسوط بين السوطين.
يقول تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور:4]: أجمع العلماء رحمهم الله على أن القاذف إذا قذف غيره وثبت عند القاضي قذفه، فإن القاضي يحكم بعدم قبول شهادته إلى الأبد، يقول بعض العلماء، وفي هذا أدب إلهي يبيِّن لنا حرمة الأعراض وكيف تؤدب الألسن إذا انطلقت دون خوف من الله عز وجل في أعراض المسلمين، قال بعض العلماء لما كان هذا اللسان جريئاً على أعراض المسلمين، عاقبه الله عز وجل فقطع شهادته إلى الأبد لكي يكون في ذلك زجر لأهل الفساد، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي هذا دليل على سمو منهج الشرع، فإن الإنسان إذا كان لا يتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين، فيشهد عليهم بالتهم، ويلصق بهم ما لا أصل له من الفواحش، فإنه جريءٌ على الكذب في غير ذلك، وإذا لم يتقِ الله في أعراض المسلمين، فإنه إذا شهد بالأموال من باب أولى وأحرى أن يكذب، فكما كذب في الأعراض فإنه من باب أولى وأحرى أن يكذب كذلك في الأموال، فالأموال أهون من الأعراض، وفي هذا دليل على حكمة الشرع، وأن الله تبارك وتعالى قد وضع العقوبة في موضعها.
يقول تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]: قال بعض السلف: لو قال لي القاذف قبل توبته: السماء فوقك، ما صدقته ولَصَدقت غيره، كل ذلك لأن الله قال: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور:4]، فمنع من قبول الشهادة منهم أبداً.
العقوبة الثالثة: في قوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]: الفاسقون جمع فاسق، فالله عز وجل وصف القاذف بالفسق، والفسق في اللغة: الخروج، ومنه قولهم: فَسَقَت الرُّطَبة: إذا خرجت من قشرها، قال بعض العلماء: سمي الفسق فسقاً لأن صاحبه -والعياذ بالله- خارج عن طاعة الله تبارك وتعالى، فالفاسقون هم الخارجون عن طاعة الله، المجانبون لسبيل الله، المنتهكون لحدود الله ومحارم الله.
-ذنب يوجب الخروج من الملة.
-وذنبان لا يوجبان الخروج من الملة.
أما الذنب الذي يوجب الخروج من الملة: فهو الكفر والردة والعياذ بالله!
وأما الذنبان اللذان لا يوجبان الخروج من الملة فهما:
-كبائر الذنوب التي لا تصل إلى الكفر.
-وصغائر الذنوب.
فصغيرة الذنب كالنظرة إلى الحرام مرة واحدة إذا كانت بعد استرسالٍ على وجه لا يكون فيه اطلاع على عورات ونحو ذلك تعتبر من الصغائر.
فإذا استرسل فيها وداوم عليها انتقل إلى الكبائر، فأصبحت بمجموع الإصرار تعادل الكبيرة والعياذ بالله!
وكبائر الذنوب تكون:
-باللسان، ومن ذلك القذف.
-بالشراب، كشرب الخمر.
-بالبطن، كأكل مال اليتيم، وأكل الربا.
-بالفرج، كالزنا.
-باليد، كالسرقة.
فلكل جارحة ما يناسبها من الذنوب التي تصل إلى الكبائر أو تكون دون ذلك.
فالمقصود أن الذنوب على ثلاثة أقسام:
-فإن وصلت إلى حد الخروج من الملة فهي: الكفر.
-وإن كانت صغيرةً لا يُداوَم عليها فهي: صغائر الذنوب التي لا توجب الفسق.
-وإن كانت بين الصغيرة والردة فهي: الكبيرة، كالزنا ونحو ذلك.
فالكبيرة هي التي توجب الفسق.
ولذلك أشار الله عز وجل إلى هذه الأقسام الثلاثة بقوله: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]:
-الكفر: الذنب الأعظم الموجب للخروج من الملة.
-الفسوق: كبائر الذنوب.
-العصيان: صغائر الذنوب.
وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه.
فقوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]: أي الخارجون عن طاعة الله المعتدون على محارم الله وحدوده.
قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا): (إلاَّ) حرف استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة أن يستثني شيئاً مما سبق ذكرُه مما ترتب على القذف من العقوبة، فقال سبحانه: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا).
التوبة من القذف للعلماء فيها قولان:
الأول: أن التائب من القذف لابد أن يعترف أنه كان كاذباً في القذف، وأن فلاناً ليس بزانٍ، وفلانة ليست بزانية، وأصحاب هذا القول هم الجمهور، يقولون: إن الذي يقذف غيره فيتهمه بالزنا لا يعتبر تائباً إلا إذا كذب نفسه، فقال: فلان الذي اتهمته بالزنا ليس بزان، ويرجع عن قوله وتهمته، هذا هو قول جمهور العلماء، يقولون: لو تاب وأناب وأصلح، وكان من خيار عباد الله، وبقي على التهمة بالقذف؛ فإنه لا يزال -والعياذ بالله- قاذفاً، وهذا القول هو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك لما وقعت حادثة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وشهد عليه الشهود ورجع بعضهم، قال عمر لـأبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه: تب أقبل شهادتك، أي: ارجع عن قذفك للمغيرة حتى أقبل الشهادة منك، فهذا يدل على أن التوبة من القذف أن يكذب القاذف نفسه ويقول: فلان الذي اتهمته بالزنا ليس بزانٍ وفلانة التي اتهمتها بالزنا ليست بزانية.
القول الثاني: إن التائب من القذف لابد أن يُصْلِحَ حاله، وأن يستقيم في ظاهره وباطنه، ولا يشترط عند أصحاب هذا القول أن يكذِّب القاذف نفسه، بل قالوا: إنه إذا تاب وأناب ورجع إلى الطاعة واستمر وداوم عليها فإنه يعتبر تائباً منيباً إلى الله عز وجل يشمله الاستثناء في هذه الآية الكريمة، وهذا القول هو مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله، يقول: إن التوبة بصلاح الحال.
وأصح القولين -والعلم عند الله-: أنه لا توبة للقاذف إلا إذا كذب لفظه، فقال: فلان الذي اتهمته بالزنا ليس بزانٍ، وفلانة التي اتهمتها بالزنا ليست بزانية، فإذا فعل ذلك كان تائباً وإلا فلا.
وقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد قذفهم.
(وَأَصْلَحُوا): أي أصلحوا بالقول الطيب فقالوا قولاً طيباً بعد أن قالوا القول الخبيث والفحش الذي لا يرضي الله.
الوجه الأول: قالوا: إن هذه الآية الكريمة دلت على أن الإنسان إذا قذف غيره وحكم القاضي برد شهادته، ثم تاب وكذَّب نفسه، فقال: فلان الذي قذفته ليس بزانٍ يُحكم بقبول شهادته. فقوله: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور:5] يستثنى منه رجوع القائل الناطق بالقذف المتلفظ به، فإذا رجع عن قذفه فكذب نفسه قُبِلت شهادته، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن القاذف لا تقبل شهادته إلى الأبد، وأما قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5] فهو عائد إلى الحكم بالفسق في قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، أي: إلا الذين تابوا فهم ليسوا بفاسقين.
وفائدة الخلاف بين القولين: فيما لو أن إنساناً قذف غيره بالزنا، ثم أقيم عليه الحد رُدَّت شهادته وحُكِم بفسقه، فعند الجمهور: لو تاب وكذَّب نفسه تُقبل شهادته بعد أن يكذِّب نفسه.
وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: لا تُقبل شهادته بل ترد عليه ويبقى رد شهادته إلى الأبد، ولا ينفعه في ردها صلاحه، وتوبته فيما بينه وبين الله عز وجل.
وفي هذه الآية الكريمة دليلٌ على سعة رحمة الله عز وجل بعباده، ولطفه بهم، وهي تدل دلالة واضحة على كمال وحكمة التشريع، ووجه ذلك: أن الله تبارك وتعالى لم يقنط القاذف، الذي ارتكب جريمة القذف من رحمته، بل فتح له باب الإنابة والتوبة إليه سبحانه وتعالى.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [النور:5]: أي: من بعد إقامة الحد عليهم والحكم برد شهادتهم وبفسقهم.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5]: هذا هو الجواب، غفور لما كان منهم، رحيم بهم، وقال بعض العلماء: إن ختم الآيات بالرحمة يدل على التوفيق لهم بالطاعة، أي: أن الإنسان إذا ارتكب الإساءة فتاب وأناب ورجع إلى الله عز وجل فإن الله يمنُّ عليه بصلاح الحال رحمةً به ولطفاً من الله عز وجل.
فقوله: (إن تكلم جلدتموه): أي جلدتموه حد القذف. (وإن قتل -أي: قتل الزاني- قتلتموه). (وإن سكت سكت على غيظ): فكيف يسكت على فراشٍ فاسد.
فعَظُم الأمر على الصحابة؛ لأنهم خافوا أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحد عليه.
فرواية عويمر العجلاني فيها أنه أمر عاصم بن عدي رضي الله عنه -ابن عمه- أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته الرجل، إن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ، سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فذهب عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع فجاءه عويمر ، فقال: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال له عاصم : والله! ما جئتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسألتك، فلما علم منه ذلك مضى عويمر بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلمه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره المسألة؛ لأنه يظن أنها لم تقع، فلما كان قد بُلِي بها ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يخبره عن هذا البلاء الذي بُلِي به في أهله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مقالته، فأنزل الله الوحي على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أُنْزِل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب وائتِ بها).
وفي حديث هلال بن أمية رضي الله عنه وأرضاه أنه قذف امرأته بـشريك بن سحماء ، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت هذه الآيات لم تنزل بعد، فلما قذفها بذلك، قال الصحابة: الآن يجلد هلالاً ، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلوات الله وسلامه عليه هذه الآيات.
الوجه الأول: أنه لا يقبل قذف الزوج لزوجته إلا إذا قرنه بالرؤية، فقال: لقد رأيتها بعيني تزني، فلا يقبل من الزوج أن يقذف زوجته ويلاعنها بعد القذف، إلا إذا جمع بين أمرين: القذف، مع نسبة ذلك القذف إلى الرؤية، فيقول: زوجتي فلانة زانية رأيتها بعيني، أو فلانة زوجتي رأيتها بعيني تزني، هذا يسمى عند العلماء: بالقذف المقيد بالرؤية، وهذا هو مذهب المالكية، يقولون: إذا قذف الزوج زوجته فإنه لا يُقْبَل لعانه إلا إذا قرنه بالرؤية، فلو قذفها بناءً على خبر أحد، أو شهادة مَن يعرف فيه الصدق، فإنه يقام عليه حد القذف ثمانون جلدة إذا لم يقم البينة كاملة، وهذا هو الذي يسميه العلماء: القذف المجرد، وهو أن يقذفها بقذف مجرد من الرؤية.
الوجه الثاني: مذهب جمهور العلماء أن من قذف زوجته مطلقاً، سواء قذفها مجرداً عن الرؤية فقال: فلانة زانية، أو قذفها مقيداً بالرؤية، فقال: رأيتها بعيني تزني، أنه يوجب ثبوت اللعان له.
ومذهب الجمهور هو أصح الأقوال في المسألة.
واحتج الأولون بحديث عويمر إذ قال فيه: (والله! لقد رأيتها بعيني يا رسول الله! والله يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني) قالوا: فهذا يدل على أن القذف لابد أن يستند إلى الرؤية.
والجواب عن هذا الحديث بأمرين، الأمر الأول: أن الآية أطلقت والحديث مقيد؛ فلفظ الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:5]، وأما الحديث فلفظه: (لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني) فيجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطالبه بالتقييد.
والأمر الثاني: أنه جمع بين السماع والرؤية، وبالإجماع لا يشترط قوله: (سمعت بأذني) فكذلك قوله: (رأيت بعيني) .
فهذا هو أصح الأقوال؛ أن الزوج إذا قذف زوجته مطلقاً أنه يلاعنها.
لا يحق للزوج أن يتهم الزوجة بالزنا إلا إذا تحقق من ذلك بأن رآها أو تبين زناها، على خلاف عند العلماء في ضوابط ذلك التبين، فمذهب بعض العلماء: أنه إذا أخبره ثلاثة ممن يثق بهم، أو اثنان ممن يثق فيهم عدالةً وأمانةً وصدقاً، أن من حقه أن يقذفها بناءً على شهادتهم، ومن حق الزوج أن يلاعن زوجته في حالتين:
الأولى: إذا رأى منها الزنا.
الثانية: إذا كان هناك أمرٌ يَخشى منه اختلاط النسب، كأن تكون المرأة حَمَلت من هذا الزنا والعياذ بالله!
فإذا حملت من زناها وجب عليه أن يلاعنها لكي ينفي هذا الولد، فيبعده عن أن يرثه ويُنسب إليه؛ ويستبيح النظر إلى بناته من امرأة أخرى ومحارمه اللاتي لا يحق له النظر إليهن.
فلذلك قال العلماء: يجب على الزوج أن يلاعن زوجته، وأن ينفي الولد عنه إذا تحقق من زناها، وكان ذلك الزنا في طهر لم يجامعها زوجها فيه، فكان الماء خالصاً لهذا الزاني، فالولد خالص له، فينبغي أن يسعى في نفي هذا الولد عنه، وإلا أثم شرعاً.
ومن العلماء مَن قيد ذلك فقال: إذا رأى امرأته على الزنا، وكان ذلك على الصفة التي ذكرناها في طهر لم يجامعها فيه، قالوا: له إذا استطاع أن يأخذ الولد بعد ولادتها فيضعه لقطة يأخذه الغير، فيسلم من شر عاره، ودخوله على أولاده وبناته، قالوا: يجوز له الستر في هذه الحالة، أما إذا لم يتمكن من ذلك، وتعلق به هذا الولد، فإنه يجب عليه أن يلاعن، لما في إثباته والسكوت عنه من حصول الإضرار، واستباحة المحارم بالنظر إليهن والجلوس معهن، من هذا الابن الذي هو ابن زناً والعياذ بالله!
الحالة الأولى: أن يقصد من الملاعنة إثبات زناها.
الحالة الثانية: أن يقصد إثبات الزنا ونفي الولد، فإذا أراد إثبات الزنا قال: أحلف بالله أن فلانة -ويشير إليها مع ذكر اسمها في مجلس القضاء- زانية، وإذا أراد نفي الولد ضم إلى هذه اليمين قوله: أن فلانة زانية، وأن هذا الولد ليس بولدي، أو أن هذا الحمل الذي منها ليس مني، فيشهد أربع شهادات.
حتى إذا استتم الأربع أوقفه القاضي وقال له: اتقِ الله يا فلان! إنها الموجبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال بعض العلماء: إنها الموجبة، أي: إذا حلف الإنسان أن عليه لعنة الله -وكان كاذباً- أصابته اللعنة، وأنها إذا حلفت كاذبة أصابها الغضب والعياذ بالله! فأوجبت اليمين الكاذبة منه لعنةً من الله موجِبةً للطرد من رحمته، أو غضباً من الله عز وجل -على المرأة إن كانت كاذبة- موجِباً للبعد من لطفه وعنايته.
يقول هذه الخمس الشهادات حتى إذا استتمها خُيِّرت المرأة بين إقرارها أو تلاعنه، فإذا أقرَّت وزُجرت بهذه الشهادات فلا إشكال، أما إذا أصرت على قولها وبقيت على تبرئتها لنفسها، فالحكم حينئذ أنه يطالبها القاضي بخمسة أيمان؛ أربع منها تشهد فيها بالله عز وجل أنه لمن الكاذبين؛ وأنه قد كذب علي وأني لست بزانية، فإذا كان على نفي الولد قالت: لست بزانية، وأن الولدَ ولدُه، وتشير إليه أو تذكره، أو كان حملاً فتقول: وهذا الحملَ حملُه أو هذا الحمل منه، حتى إذا بلغت الشهادة الرابعة واستتمتها، ذكَّرها القاضي بالله وأوقفها وقال لها: يا فلانة! يا أمة الله! اتقي الله؛ إنها الموجبة أي: أنكِ إذا حلفتِ الخامسة -كاذبة- بأن غضب الله عز وجل عليكِ فإنه سيصيبك الغضب -والعياذ بالله- لا محالة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما أقام المتلاعنَين بين يديه شهد الرجل خمس شهادات حتى إذا انتهى قامت المرأة فشهدت الأربع شهادات الأولى، فقال لها: (اتقي الله يا أمة الله! إنها الموجبة، فترددت المرأة وتلكأت في كلامها، فلما أرادت أن تعترف قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفت الخامسة)، فهذا يدل على أنه ينبغي تذكير الزوج وتذكير الزوجة عند اليمين الخامسة، أنه لا يبادِر ولا يعاجَل بها، كل ذلك صيانة له من لعنة الله، وصيانة لها من غضب الله -والعياذ بالله- فإذا استتموا هذه الشهادات الخمس، فحينئذ يحكم القاضي بالتفريق بينهما فراقاً مؤبداً لا تحل له إلى الأبد، ولا يحل لها إلى الأبد -والعياذ بالله-، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما تلاعن الرجل مع امرأته، قال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب) فهذا يدل على أنه لابد من وقوع الكذب، إما من الرجل وإما من المرأة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمقصود بيان حقيقة اللعان وأنه على الصفة التي ذكرناها، وإذا ثبت اللعان ثبتت الفرقة المؤبدة، وحينئذ لا يخلو حالهما من ضربين:
الضرب الأول: أن يُكَذِّبَ الرجل نفسه ويرجع عن قوله.
والضرب الثاني: أن يبقى على لعانه، وتبقى المرأة على لعانها.
ففي الحالة الأولى: إذا قال الرجل: كذبتُ عليها، أو قال: هي ليست بزانية، أو قال: الولد مني، فإنه حينئذ يجلد حد القذف.
وهل تعود له امرأته أو لا تعود، وجهان: أصحهما أنها لا تعود له إلى الأبد، وأنها تبقى عليه حراماً ولو كذَّب نفسه.
وإذا حكم القاضي بالتفريق بينهما فالسؤال: ماذا يُصنع بالولد؟
إذا تلاعن الرجل مع امرأته ونفى الولدَ فإن الولد يُنسب إلى المرأة ولا يُنسب إلى الرجل، ويعطى حكم ولد الزنا، وحساب أبيه على الله إن كان كاذباً والعياذ بالله!
إذا وقف الزوج وحلف بعض الأيمان أو حلف حتى بلغ الخامسة، وذُكِّر بالله فرجع عن حلفه، فإنه يجب إقامة حد القذف عليه في هذه الحالة، ويُحكم بلحوق الولد به.
أما إذا كذَّبت المرأة نفسها، كأن تكون المرأة في منتصف الأيمان وقالت: إنه صادق، ورجعت عن تكذيبه وأقرت، فإنه يقام عليها حد الرجم والعياذ بالله! فترجم حتى تموت وتتلف نفسها عقوبة من الله، كالحال في الزاني المحصن، وأما إذا رجعت أثناء الحلف فنكلت وترددت فهل يقام عليها الحد أم لا؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: أصحهما أنه يقام عليها الحد إذا تلكأت، تُخيَّر بين الإتمام وبين إقامة الحد عليها.
المسألة الثانية: إذا أقيمت المرأة وأقيم الرجل للحلف والإدلاء بشهادات اللعان، واستتم الرجل الشهادات وأكملها وامتنعت المرأة أن تحلف بعد حلف الزوج، وامتنعت أن تقر بالزنا فللعلماء وجهان:
الوجه الأول: أن شهادة الزوج الكاملة توجب إقامة الحد عليها إذ امتنعت من اللعان، وهذا الوجه هو مذهب الجمهور.
والوجه الثاني: أنه إذا استتم الرجل الأيمان كاملةً وامتنعت المرأة من الحلف حُبِست حتى تحلف، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة ، أن تحلف أو أن تبقى في سجنها حتى تموت.
وأصح الأقوال -والعلم عند الله- أنها تخير بين الأمرين؛ بين الحلف، أو يقام عليها حد الرجم مباشرة؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ [النور:8] فدل على أن العذاب يلزمها رجماً إن لم تحلف الخمسة الأيمان، ولأن كل يمين من الزوج تعتبر قائمةً مقام الشاهد، فكانت بمثابة البيِّنة الكاملة، فكأن الزوج قد أقام أربعة شهود على صدق قوله.
المسألة الثالثة: إذا امتنع الزوج من الحلف، فإنه يخير بين الأمرين: بين أن يلاعن، وبين أن يقام عليه حد القذف، فإن شاء استتم اللعان، وإن شاء أُقيم عليه حد القذف، ويُحكم بلحوق الولد في النسب.
فهذا هو المراد من آية اللعان.
وقوله: (فَضْلُ) يدل على أننا أمام هذه الأحكام، أمام رحمة لا نستوجبها على الله، وإنما هي محض إحسانه ومحض عفوه ولطفه بخلقه وعبيده.
وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النور:10]: وصف الله نفسه بـ(تواب) وهي: صيغة فعَّال وتدل على الكثرة، أي: يقبل توبة التائبين، ويتوب على العبد إذا تاب تفضلاً وتكرماً، حتى ولو لم يتب فإن قد يصيبه برحمة منه تفضلاً وتكرماً، بل إن من دلائل رحمته وتوبته على عباده أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه سبحانه سخَّر حملةَ العرش للاستغفار لك أيها المؤمن! وهذا من عظيم رحمته ودليل لطفه بعباده، ولو أنه وَكَلَهم إلى حولهم وقوتهم لكانوا بلا شك من الهالكين، فهو الذي ييسر التوبة للعبد، ولذلك قال العلماء: صيغةُ فعَّال تدل على الكثرة والمبالغة في الشيء، والله عز وجل موصوف بتوَّاب، ووصف نفسه بذلك في أكثر من موضع، إذ أن توبته لم تقف على كونه تائباً على من تاب، بل إنه يمنُّ بالتوبة على مَن شاء من عباده، ولذلك قد ترى الرجلَ كأشد ما أنتَ راءٍ فِسْقاً وفجوراً واعتداءً على حدود الله وغروراً، وفي لحظة واحدة ينفحه الله عز وجل برحمته، ويصيبه بلطفه وعنايته، فينقلب رأساً على عقب تائباً منيباً إلى الله، فلذلك قالوا: التوفيق للتوبة دليل على عظيم رحمة الله عز وجل ولطفه وتوبته على عباده؛ لكنه سبحانه -مع أنه تواب- قد قَرَن توبته على عباده باسمه (الحكيم)، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، فهو سبحانه وتعالى عليم بخلقه، حكيم في تقديره وأمره وتدبيره، فيضع الأمور في مواضعها، فلذلك يتوب على من شاء، ويمن بالتوبة على من شاء.
ونسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يمنَّ علينا في هذا المجلس المبارك بتوبةٍ لا مؤاخذة بعدها، ورحمة لا عذاب بعدها، وسعادة لا شقاء بعدها، وأن يجعلنا من عباده التائبين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تفسير سورة النور [3] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي
https://audio.islamweb.net