إسلام ويب

أقسم الله في سورة الليل على أن سعي الناس مختلف، وبين أن من أعطى ما أمره الله واتقاه فسييسر له فعل الطاعات، ومن بخل واستغنى عن مولاه فإن الله ييسر له فعل المعاصي، ويحرمه من فعل الخيرات، ثم ختم الله السورة بصفات المؤمن الأتقى المخلص في نفقاته ابتغاء وجه ربه، ووعده بالرضا، فحري بنا أن نتقي الله ليرضينا في الدنيا والأخرى. أما سورة الشرح فقد عدد الله فيها بعض نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها أنه وسع صدره لحمل أعباء الرسالة، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، فهو أعظم وأشرف وأفضل مخلوق، وذكر الله في هذه السورة بشارة كبيرة، وفتح باب أمل واسع لمن ضاقت أحواله، فإن بعد العسر يسراً.

تفسير قوله تعالى: ( والليل إذا يغشى... )

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد:

فيقول الله سبحانه وتعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:1-4].

يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل وبالنهار، ويقسم بالذي خلق الذكر والأنثى، وهو نفسه سبحانه وتعالى، يقسم بذلك على: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى .

وقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى أي: يغطي بظلامه، ومنه قوله تعالى: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم:54] أي: فاعتراها ما اعتراها، وأصابها ما أصابها، وحل بها ما حل بها، ونفس المعنى مضمن في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا [الأعراف:189]، ( تغشاها ) أي: جامعها، فيقسم الله بالليل عند إقباله ومجيئه وتغطيته للأشياء، ويقسم بمقابل ذلك وهو النهار: إِذَا تَجَلَّى أي: أضاء وظهر وأنار، وهذا القسم كقوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:1-4].

وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أي: والذي خلق الذكر والأنثى، يقسم الله سبحانه بهذه الأشياء على: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى .

قراءة ابن مسعود: (( والذكر والأنثى ))

ورد في صحيح البخاري ومسلم من طريق علقمة قال: أتيت الشام في نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -أي: مع مجموعة من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- ، فالتقينا بـأبي الدرداء ، فقال أبو الدرداء : هل منكم من سمع عبد الله يقرأ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ؟

قلنا: نعم، قد سمعناه يقرأ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى .

قال: أيكم أقرأ؟! يعني: من منكم الأحفظ ؟

فأشاروا إليَّ أي: إلى علقمة ، قال أبو الدرداء : فاقرأ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، فقرأ فقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2] والذَّكَرَ وَالأُنْثَى ، ولم يذكر كلمة (وَمَا خَلَقَ)، فقرأها علقمة : (والذَّكَرَ وَالأُنْثَى)، فقال أبو الدرداء : هكذا سمعتها من عبد الله ؟

قال: نعم، هكذا سمعتها من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: وأنا والله! لقد سمعتها من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا -أي: بدون ذكر كلمة: ( وما خلق )- ، ولكن هؤلاء يأبون عليَّ -أي: يمنعونني أن اقرأ بهذه القراءة- ، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، والحديث في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم.

إلا أن علماء القراءات يقولون: هذه من القراءات الشاذة، فالقراءة المتواترة هي: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى)، وهذا لا يثار في مجالس عموم الناس، إنما يثار في مجالس طلبة العلم، ولكن على كلٍ فقد قال أهل القراءات: إنها من القراءات الشاذة، أما أهل الحديث فيقولون: السند ثابت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي غيرهما.

(وَمَا خَلَقَ) أي: والذي خلق الذكر والأنثى، (إِنَّ سَعْيَكُمْ)، السعي المراد به: العمل، ومنه قوله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، فالسعي المراد به هنا أيضاً: العمل، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، أي: إن عملكم لمتنوع ومختلف، فمنكم من يعمل الصالحات، ومنكم من يعمل السيئات، منكم من يعمل عمل أهل السعادة، ومنكم من يعمل عمل أهل الشقاوة، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، أي: إن عملكم لمختلف ومتنوع.

تفسير قوله تعالى: ( فأما من أعطى واتقى... )

ثم قال الله سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)، أي: أعطى المال وأنفقه في سبيل الله، (وَاتَّقَى)، أي: واجتنب محارم الله سبحانه وتعالى ولم يقع فيها، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، والحسنى لأهل العلم في تفسيرها هنا ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن المراد بالحسنى: الجنة، والذين قالوا هذا القول استدلوا بقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].

القول الثاني: أن المراد بالحسنى: قول: لا إله إلا الله، أي: من صدق بالتوحيد.

القول الثالث: المراد بالحسنى: التصديق بوعد الله بأنه سيخلف على المنفق، كما قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان، يقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً)، فللعلماء ثلاثة أقوال في تفسير الحسنى:

أحدها: أن المراد بالحسنى: الجنة.

والثاني: أن المراد بالحسنى: لا إله إلا الله.

والثالث: أن المراد بالحسنى: وعد الله بالإخلاف على المنفق.

(فَسَنُيَسِّرُهُ)، أي: سنهيئه ونوفقه، (لِلْيُسْرَى)، أي: لعمل الخير.

تفسير قوله تعالى: ( وأما من بخل واستغنى... )

قال الله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى)، بخل بالمال وامتنع عن إنفاقه في أوجه الخير، (وَاسْتَغْنَى) عن ربه سبحانه وتعالى!! (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، أي: سنوفقه ونهيئه لعمل الشر، قال علي رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة في بقيع الغرقد، فجلس وجلسنا حوله، وكان معه عود ينكت به، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، فقلنا: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]).

وفي الصحيحين (أن شاباً أو شابين من الأنصار -كما في بعض الروايات- أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! أرأيت العمل الذي نعمل فيه، أهو عمل مستأنف أم عمل طويت عليه الصحف، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير؟ قال: بل تعملون عملاً طويت عليه الصحف وجفت به الأقلام وجرت به المقادير، فقالا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]) .

تيسير الله لمن سلك طريق الهداية

وهذه الآيات تفيد أن الشخص إذا سلك طريق الهداية يزيده الله سبحانه وتعالى هدىً، وإذا سلك طريق الغواية فتحت له أبواب الغواية كذلك، ففيها أن الشخص إذا التمس أسباب الخير سهلها الله عليه، وإذا التمس أسباب الشر والفساد فتحت له هذه الأبواب -والعياذ بالله-، فالشخص يقدم شيئاً من الخير ثم ييسر الله سبحانه وتعالى له أموره إذا اقترب من الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ..)، وفي هذا المعنى عدة آيات وعدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد أن الشخص إذا سلك طريقاً أُعين على هذا الطريق الذي سلكه، فمثلاً رب العزة يقول: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، ويقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وتقدم قول الله في شأن موسى عليه الصلاة والسلام: آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14]، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24]، وقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقوله تعالى: ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127]، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يتصبر يصبره الله، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله)، وكتوضيح يسير لذلك، مثلاً: أنت إذا قمت تصلي من الليل ركعتين لله، الفرش دافئ، والزوجة بجوارك حسناء، وسمعت الصارخ قبل الفجر بساعة أو أقل أو أكثر، وتريد أن تقوم إلى الصلاة، والقيام عليك في غاية المشقة، ولكنك استعنت بالله سبحانه وتعالى، وتقويت به سبحانه، وتجافيت عن الفراش، وقمت واستعنت بالله وصليت ركعتين، فتذوق طعم هذه الطاعة، وكلما تذكرتها في النهار حمدت الله، وصدرك منشرح لها، وإذا وقعت في كربة في النهار تذكرت أنك قمت من الليل وصليت ركعتين لله، فتتوسل بهاتين الركعتين إلى الله، تأتي الليلة الثانية فتتذكر حلاوة الطاعة فيكون القيام عليك أيسر من القيام في الليلة السابقة، وإذا استمر بك شهراً على هذا المنوال يصبح قيام الليل عندك في غاية اليسر، يصبح على قلبك يسيراً خفيفاً بإذن الله سبحانه وتعالى، ييسره الله عليك غاية التيسير، فتكون عادة لك إذا سمعت الصارخ قمت تلقائياً، كأنك تقوم لعملك، وأنت متلذذ بهذه الطاعة.

جرب طاعة أخرى، صلِ الفجر في جماعة، ثم امكث في مكان صلاتك يوماً إلى طلوع الشمس، تذكر الله، وتأتي بأذكار الصباح، وتتلو ما تيسر لك من كتاب الله، في أول يوم العمل عليك شاق غاية المشقة، وفي اليوم التالي ييسر عليك العمل شيئاً ما، وبمرور الأيام -بتوفيق الله- يصبح عليك الجلوس في المصلى إلى طلوع الشمس في غاية السهولة واليسر، وإذا قلت لرجل آخر: تعال معي نجلس من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فكأنك تسجنه سجناً، بينما يكون العمل عليك في غاية اليسر، يأتيك ضيف مثلاً، فيبيت عندك، وأنت متعود أن تصلي الفجر وتمكث في المصلى إلى طلوع الشمس، فالضيف صلى معك الفجر، ثم قلت له: أنا أريد أجلس في المصلى إلى طلوع الشمس، يصاب بهم ما بعده هم، كأنك ضربته ضرباً مبرحاً؛ لأنه سيجلس إلى طلوع الشمس!! وأنت بسلوكك لهذا الطريق، واستمرارك عليه جعله الله يسيراً عليك بإذن الله، وهو لابتعاده عن هذا الطريق جعله الله شاقاً عليه في غاية المشقة، وهكذا كل الطاعات.

صم يوم الإثنين والخميس، أول إثنين وأول خميس تصومهما في غاية المشقة، تقول: أجوع، أنا لا أصبر إذا تأخر الغداء نصف ساعة، وأعمل مشكلة مع الزوجة في البيت، فكيف أصوم الإثنين والخميس؟ لكن جرب واصبر أول أمرك، فيسهل عليك بعد ذلك هذا الصيام، ويكون لك دأباً، وتكون تلقائياً تصبح كل يوم إثنين وأنت صائم، وكل يوم خميس وأنت صائم، بدون أي مشقة، وبدون أي تعب، وبدون تكلف، وبدون إرهاق، فمن سلك طريق الطاعات يسرها الله له، وكذلك الإعطاء كما في هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) أعط الناس، قد يكون الإعطاء عليك في أول يوم شاق، تخرج جنيهاً من جيبك كأنك تقطع من جلدك شيئاً وأنت تتصدق به، تقول: أنا أولى، أشتري بالجنيه كيلو سكر أو أي شيء، فكأنك تقطعه من جلدك، لكن إذا استمريت على هذه الطاعات تشعر بعد ذلك بأنك تفعل الطاعات وأنت في غاية السعادة والانشراح، وتشعر أن الله يبارك لك في صحتك، وأن الله يدفع عنك بلايا كانت ستحل بك وبنيك، ترى أبناء إخوانك عند الأطباء وفي المستشفيات وأنت مبارك لك في مالك وفي ولدك، فتحمد الله وتشكر الله.

فالشاهد: أن من سلك طريق الهداية فتح الله له أبوابها، ووفقه الله لها وسهلها عليه، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) * (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ)، أي: سنهيئه ونوفقه لعمل الخير، ونهديه للطريق اليسرى السهلة السمحاء، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) * (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، وهذا الذي ييُسر للعسرى.

تفسير قوله تعالى: ( وما يغني عنه ماله إذا تردى )

قال تعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:11]، ( تردى ) أي: سقط، سقط في جهنم، هذا المال الذي جمعه ولم ينفقه في الطاعات لا يغني عنه كما قال هو بنفسه في الآية الأخرى فيما حكى الله عنه: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]، وكما قال سبحانه في الآية الثالثة: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ [الهمزة:2-3]، أي: يظن، أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:2-6]، فهو سينبذ في الحطمة، أي: في النار الموقدة، وماله سيقذف به أيضاً معه في الحطمة.

فهنا يقول تعالى: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ)، أي: الذي بخل به، (إِذَا تَرَدَّى)، أي: إذا سقط في النار، فالمال ليس بنافع صاحبه يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله -يعني: إلى القبر- فيرجع اثنان، ويبقى واحد)، يتبع الميت المال والأهل والعمل، فيدخل مع الميت في القبر العمل، ويرجع المال والأهل، يبقى واحد، ويرجع اثنان، العمل هو الذي يصاحب صاحبه إلى القبر، ويرجع المال ويرجع الأهل، فالمال لا ينفع صاحبه إلا مع إيمان، قال الله سبحانه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، وقال تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ [الأنعام:70]، أي: بالقرآن، أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ [الأنعام:70]، أي: تحبس نفس، بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ [الأنعام:70]، يعني: إن تقدم كل فدية، لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70].

تفسير قوله تعالى: ( إن علينا للهدى )

قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل:12]، أي: علينا أن نبين للناس طريق الهداية، وطريق الغواية كذلك يبينه الله للعباد، ولكن حذف لدلالة السياق عليه، كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]، أي: وتقيكم البرد، وفهم أنها تقينا البرد من كونها تقينا الحر، وكذلك قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، أي: ونساءً كثيراً كذلك، فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى)، أي: وإن علينا أيضاً بيان طريق الضلالة كذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وكما قال في الآية الثالثة: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، يعني: بينا له الطريقين.

وقوله سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) فيها قولان لأهل العلم:

القول الأول: إن علينا أن نبين لخلقنا طريق الهداية وطريق الغواية، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، فهذا هو القول الأول.

القول الثاني: إن هداية الناس مردها إلينا لا إلى غيرنا، فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس:100]، وكما قال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، وكما قال أهل الإيمان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، وكما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7]، فهذا هو القول الثاني، (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) أي: إن أمر الهداية وكذلك أمر الغواية موكول إلينا نحن، ولا يستطيعه نبي ولا ملكٌ ولا بشرٌ ولا أي خلق، إنما مرده إلينا، والمراد بالهداية: هداية التوفيق، أما هداية الدلالة، فقال الله عنها: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7]، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فهذه هداية الدلالة، أما هداية التوفيق فمردها إلى الله وحده، لم يملكها نوح لولده، ولا إبراهيم لأبيه، ولا نوح ولا لوط لزوجتيهما، ولا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لعمه، ولا يملكها أحد، قال الله سبحانه: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ [الليل:12-13]، أي: للدار الآخرة، (وَالأُولَى)، أي: الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: ( فأنذرتكم ناراً تلظى )

قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل:14]، أي: تتوهج وتتلهب وتشتعل وتتوقد، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى)، أي: حذرتكم من هذه النار المتوهجة الملتهبة المتقدة.

(لا يَصْلاهَا)، أي: لا يدخلها فيصلى بحرها إِلَّا الأَشْقَى [الليل:15]، والأشقى هنا هو: الكافر والمشرك، فإن قيل: هل هذه النار لا يصلاها إلا الكافر؟ هل هناك مسلمون يدخلون هذه النار أو ليس هناك مسلمون يدخلون هذه النار؟

قد يقول قائل: إن قوله: (لا يَصْلاهَا)، أي: لا يدخلها (إِلَّا الأَشْقَى)، وهو -كما قلتم- الكافر أو المشرك، وكذلك في قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، فهي معدة للكفار، فهل النار يدخلها أحد من المسلمين؟

الجواب: نعم، هناك مسلمون يدخلون النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أتدرون من المفلس؟ فذكر أن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)، وهذا وهو مسلم! وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:130-131]، وقال تعالى: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، فهناك مسلمون يدخلون النار، فكيف -إذاً- نوجه قوله تعالى: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى)؟

للعلماء في هذا أجوبة:

الوجه الأول من هذه الأجوبة: أن النار نيران، وليست ناراً واحدة، وهي دركات، فهناك نار معدة للكافرين، ونار أقل منها معدة للمسلمين العصاة الذين لم يتب الله عز وجل عليهم لجرائمهم، فهم يدخلون النار مدداً ثم يخرجون منها إلى الجنان على ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن المراد بقوله: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى)، أي: (لا يصلاها) مخلداً فيها خالداً إلا الكافر، أما المؤمن فهو وإن دخلها فلا يخلد فيها، لقول الله كما في الحديث القدسي: (اخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة ...) الحديث.

الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:16]، (تولى) معناها: أعرض.

تفسير قوله تعالى: ( وسيجنبها الأتقى )

قال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا ، فسيبعد عنها الأَتْقَى [الليل:17]، التقي، الَّذِي يُؤْتِي ، أي: يعطي، مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18]، أي: يتطهر، فإن بقاء أموال الزكوات معه تلوثه، أموال الزكوات تلوث من لم يخرجها (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)، أي: يتطهر بإيتاء المال، وأيضاً: يتطهر من الشرك ومن الكفر ومن المعاصي.

وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى [الليل:19]، أي: يعطي المال ولا ينتظر مقابلاً من أحد من الخلق، كما في الآية الأخرى، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9]، فأي عمل يُعمل لابد أن يبتغى به وجه الله وحده سبحانه وتعالى حتى يكمل الثواب، قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، فالشاهد في قوله: تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:39]، وفي الآية الأخرى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22]، فالصبر أيضاً لا يثاب صاحبه إذا كان يصبر تجلداً أو يصبر خوفاً على صحته أو يصبر ليقال عنه: صابر، إنما يصبر ابتغاء وجه الله، وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22]، وقال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، قد تذهب للإصلاح ليقال عنك: مصلح، فلا تثاب، تتكلم كلمة طيبة ليقال عنك: متكلم بكلمة طيبة، فلا تثاب، لكن: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، وهنا يقول سبحانه: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ)، أي: عند هذا التقي المنفق (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى)، ينتظر ثوابها، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:20]، إنما ينتظر لقاء ربه وثواب ربه سبحانه وتعالى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21]، سوف يرضيه الله سبحانه وتعالى ويجازيه بنيته الحسنة الطيبة.

تفسير قوله تعالى: ( ألم نشرح لك صدرك )

ندخل إلى سورة الانشراح، يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]، الهمزة للاستفهام المتضمن معنى النفي، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات، فعلى ذلك فالمعنى: قد شرحنا لك صدرك، كقوله تعالى حاكياً عن فرعون: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [الشعراء:18] أي: قد ربيناك فينا وليداً، وكقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36] المعنى: الله كافٍ عبده، وكقول الشاعر:

ألستم خير من ركب المطاياوأندى العالمين بطون راحِ

أي: أنتم كذلك، فالشاهد: أن نفي النفي إثبات، فقوله سبحانه: (أَلَمْ نَشْرَحْ)، معناه: قد شرحنا، (لَكَ صَدْرَكَ)، وهو تعديد لنعم الله على عبده ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام وتذكير له بهذه النعم، ومعنى (نشرح): نوسع ونفسح، (أَلَمْ نَشْرَحْ)، أي: ألم نفسح لك في صدرك ونوسع لك فيه؟ ومن المعلوم أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه محمد إنما هو شرح الصدر للإسلام، فقد يكون شرح الصدر للكفر -والعياذ بالله- كما قال تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106]، أي: وسع صدره للكفر، وقال سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، ولتقريب المعنى إلى الأذهان: أنت إذا كنت تحب شخصاً من الناس، فكل قول يقوله هذا الشخص قلبك يتسع له ويقبله، حتى الخطأ الذي يقوله تجد منك تأويلات لهذا الخطأ، أما إذا كنت تبغض شخصاً، فكل قول يصدر منه مكروه عندك، ولا يجد له أي مسلك يدخل به إلى قلبك، فالصدر ضيق مغلق تجاه أي قول يقوله، فشرح الله صدر نبينا للإسلام، وشرح الله صدور عباده المؤمنين للإسلام، فكل قول يقال لهم من ربهم، وكل أمر يؤمرون به، وكل نهي ينهون عنه؛ يجدون في صدورهم متسعاً له، ولو كانت آية ظاهرها التعارض مع آية أخرى تقبل قلوبهم أن نجمع بين الآيتين، أي تكليف يجد متسعاً ومسكناً يسكن في قلوبهم، فشرح الصدر -الذي هو التوسعة والفسح- نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فإذا شرح الله صدرك للإسلام تجد أن كل التكاليف وكل التعاليم تدخل إلى قلبك وأنت مستريح في غاية الراحة، ومن ثم طلب موسى هذا الطلب من ربه سبحانه فقال أول ما قال لما كلفه الله الذهاب إلى فرعون: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28]، فشرح الصدور نعمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالله شرح صدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرح الصدر أيضاً المراد به: الشق، فقد شق صدر رسول الله حقيقة مرتين:

مرة وهو عند ظئره أي: مرضعه التي كانت ترضعه، فخرج يلعب مع الصبيان، فجاء جبريل عليه السلام وأخذه من بين الصبيان، وشق صدره واستخرج حظ الشيطان من صدره، وغسل صدره وملأه إيماناً وحكمة، ثم لأمه -أي: ضم بعضه على بعض- فذهب الصبيان إلى ظئره وقالوا: إن محمداً قد قتل، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.

والشرح الثاني الذي تم لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، أُخذ النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، ثم غُسل قلبه، ثم استخرج حظ الشيطان، وملئ القلب إيماناً وحكمة، ثم لئم الصدر كذلك، فصدره عليه الصلاة والسلام شُرح بالمعنى الأول، وشُرح أيضاً بالمعنى الثاني.

فيمتن الله على نبيه صلى الله عليه، فيقول له: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).

تفسير قوله تعالى: ( ووضعنا عنك وزرك )

قال تعالى: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2] الوزر: هو الحمل والثقل، ومنه قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]، الوزر يطلق على الذنب كهذه الآية، ويطلق على الحمل كما في قول الإسرائيليين لموسى: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه:87]، فالوزر أصله: الحمل، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فالله يقول لنبيه: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ)، أي: حِملك.

قال تعالى: الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:3]، (أنقض ظهرك) يعني: كأنه من ثقل الحمل على ظهرك سمع لفقار الظهر نقيض، إذا وضعت شيئاً ثقيلاً على السقف تسمع للسقف نقيض، أي: يبدأ السقف في التكسر، فكأن النبي كان يحمل أوزاراً ثقيلة، فكادت هذه الأوزار أن تكسر ظهره حتى سمع لفقار الظهر نقيض، وهذا من شدة الحمل الذي كان يحمله الرسول، فالله يمتن على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه وضع عنه هذا الحمل الثقيل الذي كاد أن يكسر ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو هذا الحمل الذي كاد أن يكسر ظهر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما الحمل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمله حتى أنقض للنبي صلى الله عليه وسلم ظهره؟

من العلماء من يقول: إن هذا الحِمل هو هم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان النبي يحمل هذا الحمل، ويهتم بهذا اهتماماً عظيماً صلى الله عليه وسلم، حتى كاد هذا الحمل أن يكسر له الظهر، ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذنوباً صغيرة، ولكنها عند الأنبياء كبيرة، فكان يخشى منها خشية بالغة، فغفرها الله له، كما قال في الآية الأخرى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، وكما قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:1-3]، فأُمر أن يستغفر، فمن العلماء من قال: إن النبي فعل صغائر، ولكنها كانت عنده بمثابة الكبائر العظيمة، فأهل الصلاح إذا صدرت منهم أشياء يسيرة فهي عندهم كبيرة كما قال الخليل: (نفسي نفسي إني كذبت ثلاث كذبات) وهذه الكذبات لا تخفى عليكم، قوله عن زوجته: هذه أختي، ويقصد أخته في الله، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] عندما دعوه للخروج معهم إلى عبادة الأصنام، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، على سبيل السخرية والاستهزاء بأهل الكفر، ومع ذلك عدها ذنوباً، ويعتذر عن الشفاعة بسببها فيقول: (إني كذبت ثلاث كذبات) وكما قال أنس رضي الله عنه، ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ) أي: من المهلكات.

تفسير قوله تعالى: ( ورفعنا لك ذكرك )

قال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، رفع الله للنبي ذكره بماذا؟

رفع له ذكره بهذا القرآن أولاً، فقد قال الله عن القرآن: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ [الزخرف:44]، أي: لشرف لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، إن هذا القرآن -يا محمد- شرف لك؛ لأنه نزل عليك، وشرف لقومك كذلك؛ لأنه نزل على رجل منهم، ورفع له ذكره بأن قرن اسم النبي مع اسم الله في الشهادة، فمن يدخل الإسلام لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وفي الأذان كذلك خمس مرات يومياً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وفي كل صلاة يصليها العبد يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكر اسمه في الأولين وفي الآخرين، ففي يوم القيامة الشفاعة العظمى تحال إليه صلى الله عليه وسلم، ولا يفتح باب الجنة إلا لمحمد عليه الصلاة والسلام، ويقول الخازن: (بك أُمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، وفي الحج يذكر، وفي الصلوات يذكر، وفي كل موطن يذكر صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله الوسيلة، وآتاه الله الفضيلة عليه الصلاة والسلام، وجُعل سيد ولد آدم، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، فرفع الذكر للشخص نعمة والله! خاصة الذكر الحسن، ومن ثم طلبه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84].

قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5]، فإن ابتليت بشيء -يا محمد- فاصبر فقد أذهب الله عنك هموماً كثيرة، وأعطاك من النعم ما لا يعلمه ولا يحصيه إلا هو، فإن أصابك عسر، أي: شدة وضيق وكرب، فاعلم أن مع هذا العسر يسراً، أي: فرج ومخرج وسعة وغنىً، ثم أكد هذا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6]، وكما قال قائل السلف: لن يغلب عسر يسرين، فالله أكد أن مع العسر يسرى، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] فكل كرب يتبعه فرج، وكل شدة يتبعها رخاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، (وأن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرى) وكما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ [البقرة:214]، الفقر والضر في الأبدان، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، وفي الآية الأخرى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، فدائماً الأمور إذا ضاقت جاء معها الفرج بإذن الله.

تفسير قوله تعالى: ( فإذا فرغت فانصب )

قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7]، فرغت من ماذا؟

من أهل العلم من قال: إذا فرغت من أمور الدنيا فأقبل على العبادة وعلى الطاعة، أي: أقبل على العبادة والطاعة وأنت فارغ البال، فإن العبادة تحتاج إلى هدوء بال، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان)، هذا قول: إذا فرغت من أمور الدنيا فاجتهد في العبادة.

والقول الثاني: إذا فرغت فانصب، أي: اجتهد واتعب في العبادة، إذا فرغت من الصلاة فاجتهد في الدعاء بعد الصلاة، وهذا قول قتادة ، وروي بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما!

حكم الدعاء بعد السلام

وهنا يرد مبحث -وقد سيق من قبل-: ما هو حكم الدعاء بعد الصلاة؟ وهل هو مشروع أو غير مشروع؟

وفي الحقيقة أن هذا يجرنا إلى تنبيه لإخواننا طلاب العلم الذين يقرءون الكتب المعاصرة، الصحوة المعاصرة اتجهت في كثير من خطواتها إلى كتب أهل علم أفاضل، كـالشوكاني والصنعاني وابن حزم رحمهم الله، وبعض كتب الأفاضل المتأخرين كالشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، ولكنهم تركوا التوغل والبحث في كتب الأوائل، كالإمام الشافعي وكالإمام مالك وكالإمام أحمد وغيرهم من الأئمة، فكان جديراً بهؤلاء الإخوة الذين اتجهوا إلى طلب العلم أن يتجهوا أيضاً إلى كتب الأوائل، ويظهروا استنباطات هؤلاء الأفاضل، ولا يبخسوهم حقوقهم، كما أنهم لا يبخسون الأواخر حقوقهم كذلك.

فمثلاً: مسألتنا هذه: الدعاء بعد الصلاة، غالب المصادر التي يقرأ منها الإخوة الآن، وأقربها إلى أيديهم كتاب زاد المعاد لـابن القيم رحمه الله تعالى، وأنعم بـابن القيم ، فهو من أهل العلم والفضل، وله من المنزلة والمكانة مالا يخفى عليكم، لكن ليس هو الفاضل وحده، فهناك فضلاء آخرون ينبغي أن تقرأ أقوالهم وأن تسمع أخبارهم، وأن ينظر في أدلتهم كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].

وفي الحقيقة أن ذكرنا لمسألة الدعاء بعد الصلاة إنما هو فقط من باب عدم الإنكار والتشديد في الإنكار على من خالفك في الرأي إذا كانت عنده أدلة ثابتة يستدل بها، فمن الناس من يقول: إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع واستدل هذا القائل بأمور:

أول الأمور التي استدل بها: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته لم يقعد في مصلاه إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) هذا هو الدليل الأول.

الدليل الثاني -وهو من ناحية النظر- قالوا: كيف تترك الدعاء أثناء الصلاة، وأنت قريب من ربك، ومقبل على ربك، ثم تدعو الله بعد الانصراف من الصلاة؟!

ومن أدلتهم -وقد بالغوا في ذلك- أنهم قالوا: إنه لم يثبت عن النبي أنه دعا بعد الصلاة، وهذا هو الدليل الثالث.

ولما أوردت عليهم بعض الإيرادات، قالوا: إن دبر الشيء منه، فالأحاديث التي ورد فيها أن النبي كان يدعو دبر الصلاة، فدبر الصلاة قبل التسليم عندهم، هذا مجمل ما استدل به القائلون بمنع الدعاء بعد الصلاة.

أما الذين قالوا باستحباب الدعاء بعد الصلاة، فلهم جملة أدلة، والصراحة أنها أصرح، ومن ناحية الصحة فهي صحيحة كذلك، فمن أدلتهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال: اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) فقالوا: هذا دليل على الدعاء بعد التسليم.

والدليل الثاني: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: (كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه كي يلتفت إلينا إذا سلم، فسمعته يقول: رب! قني عذابك يوم تبعث عبادك).

والدليل الثالث: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يا معاذ! والله! إني أحبك، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: رب! أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك).

والدليل الرابع: ما ورد عن سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الصبيان، ألا وهي: اللهم إني أعوذ بك من البخل، -والاستعاذة دعاء- وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر.

الدليل الخامس: حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الدعاء دبر الصلوات المكتوبات) لكن هذا الحديث الراجح فيه الإرسال، فهو من طريق عبد الرحمن بن ثابت عن أبي أمامة ، وهو لم يسمع من أبي أمامة ، هذا الحديث على وجه الخصوص لا يصح.

الدليل السادس: (أن النبي كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً) ، والاستغفار معناه: رب! اغفر لي، رب! اغفر لي، فهو دعاء.

الدليل السابع: أن الدعاء يشرع بعد الأعمال الصالحة، كحديث: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك ..)، والرجل الذي أذنب ذنباً أُمر أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويصلي، وفي صلاة الاستسقاء أو صلاة الخسوف أو صلاة الكسوف تدعو الله وتستغفر الله وتتصدق، ومن الأدلة كذلك هذه الآية (إذا فرغت فانصب) على التفسير الذي سمعتموه.

فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء بعد الصلاة، وأجابوا على القائلين بأن دبر الشيء منه فقالوا: نعم قد يكون دبر الشيء منه، فدبر الدابة منها، وقد يكون دبر الشيء خارجاً عنه، والدليل على ذلك، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (معقبات لا يخيب قائلهن، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة، دبر كل صلاة).

ولا أعلم خلافاً أن التسبيحات والتحميدات والتكبيرات إنما تكون بعد الصلاة، فهذه أدلة القائلين بأنه يشرع الدعاء بعد الصلاة.

وتوسط قوم فقالوا: يشرع الدعاء لكن بعد ذكر، ما يدعو مباشرة بالصلاة، ولكن بعد الصلاة يذكر الله ثم بعد الذكر يأتي بالدعاء، وهذا القول قول لا طائل تحته، وإن تقلده بعض الفضلاء، ومال إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، لكنه لا طائل تحته؛ لأن الرسول كان إذا انصرف من صلاته استغفر، ولم يرد أنه ذكر ثم استغفر، والاستغفار نوع دعاء.

وهل هذا الدعاء جماعي؟

لم يرد أنه جماعي، بل يدعو كل شخص بما تيسر له.

مسألة رفع الأيدي في الدعاء

وهل ترفع الأيدي في الدعاء أو لا ترفع؟

الخطب في هذا يسير، والحقيقة أنه لم يرد نص أن النبي كان يرفع يديه بالدعاء دوماً بعد الصلوات، فهذا الذي يصار إليه، لكن إن رفع شخص أحياناً فلا بأس؛ لأن النبي ذكر في أبواب الدعاء: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ..) فمن آداب الدعاء مد اليد إلى السماء، وصحح بعضهم حديث: (إن الله حيي ستير كريم يستحي أن يرفع العبد إليه يديه ثم يردهما خائبتين صفراً) وفيه رفع اليدين، فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء دبر الصلوات، والله أعلم.

قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7]، أي: فاجتهد في العبادة، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:8]، أي: اجعل رغبتك فيه وحده سبحانه، كما كان الصحابة يقولون في حجهم: إليك الرغباء والعمل، ارغب فيما عنده، واجعل ملتجأك إليه سبحانه وتعالى دون من سواه.

وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

حكم التصوير الفوتوغرافي

السؤال: يقول: لقد قرأت في كُتيب للشيخ عبد الله بن جبرين أن الصور الفوتوغرافية حرام، وصدقت ذلك وامتنعت عن الصور، ولكني رأيت صورة الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ حسن البناء والشيخ محمد الغزالي على الكتب الخاصة بكل واحد منهم، وقرأت أيضاً أن الصور حرام في روائع البيان ولكني حائر هل هي حرام أم حلال؟

الجواب: حق للسائل أن يتحير؛ لأنه لم يعرف المصدر الأصل الذي يتلقى منه دينه، فاعلم أن المصدر الأصل الذي تتلقى منه دينك كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليست العبرة بقول الشيخ ابن جبرين، ولا بقول الشيخ الغزالي ، ولا بقول الشيخ فلان ولا فلان، الحجة دائماً قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسأل عن دينك، اسأل كما كان الصحابة يسألون، ماذا في كتاب الله عن كذا؟ ماذا في سنة رسول الله عن كذا؟ أما تقول: صورة الشيخ الفلاني موجودة، وتحتج بالشيخ، لا، أبداً لا تسير الأمور هكذا، إنما اسأل عن الدليل الذي استدل به هؤلاء أو أولئك، ما هو الوارد عن رسول الله في الصور؟ اسأل عن هذا: هل ورد في كتاب الله شيء عن الصور؟ اسأل: هل نبيك كانت له صورة؟ وأين صورة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام؟

كان الممثلون والنحاتون موجودين على عهد الرسول، وكانوا يتخصصون في صناعة الأصنام التي هي أقوى من صناعة الصور، ولم ترد لنا صورة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم ترد لنا صورة لـأبي بكر ولا لـعمر ولا لـعثمان ولا لـعلي ، ولم ترد لنا صورة للإمام الشافعي ولا لـمالك ولا لـأبي حنيفة ولا لـأحمد ولا لليث بن سعد ولا لـعروة بن الزبير ولا لغيرهم.

اسأل عن الأدلة من السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لُعن المصورون)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدع صورة إلا طمستها)، ومن العلماء من يستدل بحديث: (إلا رقماً في ثوب) إذ أن المعنى: نقشاً في الثوب، فيجوز تصوير الصورة في الثوب، وليس الصورة الفوتوغرافية، إنما يستدل به على الثياب التي فيها صور نقوش، كثور أو نخلة أو أي شيء مرسوم في الثوب، لقوله: (إلا رقماً في ثوب)، وبعض من العلماء قال: المراد بالرقم في الثوب: ما لم يكن من ذوات الأرواح،وكان يجدر بالسائل أن يسأل أيضاً: ما هي أقوال الصحابة بعد قول رسول الله في هذا الباب؟

جاء رجل مصور إلى عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عباس ! إني رجل مصور، وليس عندي دخل إلا من هذه التصاوير، قال: تعال، ادنُ مني، ادنُ مني، فقربه ثم قال: إن كنت صانعاً فاصنع الشجر وما لا روح فيه، (فالذين يصنعون هذه الصورة يعذبون بها يوم القيامة)، وفي الحديث الآخر يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) ، (من صور صورة كُلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) .

قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: والتفريق بين ماله ظل وما ليس له ظل مذهب باطل، واستدل له (بأن النبي لما رأى الستارة معلقة وعليها تصاوير؛ جاءت عائشة وشققتها أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعلت منها وسادتين)، فهذه هي الأدلة، فكون الشيخ فلان جاء في المجلة، أو الشيخ فلان رسم صورته على كتاب، فالعبرة بالدليل، وليست بقول فلان ولا فلان، أقرب ما يقال: يا شيخ! لماذا تصور نفسك؟ هل الرسول تصور؟! رسول الله أفضل منك، هل تريدنا أن نحبك أكثر من حبنا لرسول الله؟! لا، معاذ الله أبداً أن نحبك أكثر من حبنا لنبينا محمد، ولست كـجرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله الذي كان يقال عنه: يوسف هذه الأمة؛ لجمال صورته، ومع هذا ليست له صورة، أين صورة جرير بن عبد الله؟ ليست له صورة، أين صورة يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام؟

إن الرسول عندما دخل الكعبة وجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل، وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله! -أي: المشركين- والله! ما استقسما بالأزلام قط)، ثم طمس الرسول صورة إبراهيم وصورة إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فلو كان شيء من ذلك باقياً لبقيت صور رسل الله عليهم الصلاة والسلام، إنما كما قال الرسول لما ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وفي هذه الكنيسة صور، فقال: (أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، أولئك كانوا إذا مات فيهم العبد الصالح صوروا له تلك التصاوير، وبنوا على قبره مسجداً)، والحديث في الصحيح، فوصف النبي الذي فعل هذه الفعلة بأنهم: (شرار الخلق).

فلا يغرنك الشيخ فلان ولا الشيخ فلان أبداً، وكيفما كان حبك للشيخ، دائماً اجعل سنة رسول الله فوق كل السنن، وهدي رسول الله فوق كل هدي، يكفينا أنه ليست بين أيدنا صورة لمحمد عليه الصلاة والسلام أبداً، فلا تفعل ذلك، وسل دائماً عن الدليل من الكتاب والسنة، ولا يرد أن الصور لم تكن موجودة، كانت التماثيل تصنع بعالي الدقة والبراعة، ومن ثم قال الرسول: (أشد الناس عذاباً المصورون الذين يضاهئون بخلق الله) فكان هناك قوم يصورون، لكن إذا دعتك الضرورة إلى صورة بطاقة أو صورة جواز ونحو ذلك فلا بأس بذلك. وأنا سائلكم بالله وأنصفوا من أنفسكم، الذي يصور صورته وينشرها في جريدة أو على كتاب، هل ترون -والله أعلم بالنيات، وليس لنا تدخل فيها، لكن قلوبكم لها فكر- أنه يتقرب بهذا النشر أمام الله أو أنه يريد لفت النظر إلى منظره؟

كلٌ يسأل نفسه عن ذلك، المتصور الذي ينشر صورته على كتاب، هل يريد بنشر الصورة وجه الله سبحانه؟ الله أعلم بالنيات، لكن لنا أيضاً فكر، الله يقول عن قوم: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، فأنت افهم الأمور كيف تسير، وليس لنا تسلط على النيات، لكن تخيل أن صورتك نشرت، فالله الله! في سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الليل والشرح للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net