اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الطور للشيخ : مصطفى العدوي
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الطور في صلواته، وكان كثيراً ما يقرأ بها في صلاة المغرب، قال جبير بن مطعم رضي الله عنه: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، حتى بلغ قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] فكاد قلبي أن يتصدع. وفي رواية: كاد قلبي أن يطير)، وكان آنذاك مشركاً.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: وَالطُّورِ [الطور:1]، الواو للقسم، فيقسم الله سبحانه وتعالى بالطور، وقد تقدم أن الله سبحانه له أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما نحن فليس لنا أن نقسم بجبل ولا بشجر ولا بحجر ولا بأب ولا بنبي ولا بأخ، ولا بأي شيء إلا بالله أو بأسمائه أو بصفاته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، لكن لربنا أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالطور.
وقد قال فريق من العلماء: إن الجبل إذا كان عليه نبات أطلق عليه الطور، فالطور على هذا القول: اسم لكل جبل ينبت، والذي لا ينبت يطلق عليه جبل.
لكن المعني بالطور هنا على رأي جمهور المفسرين هو طور سيناء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [القصص:46] أي: نادينا نبينا موسى عليه السلام.
فالخلق يتفاوت، وكذلك القرآن وهو كتاب الله يتفاوت في الفضل، فسورة الفاتحة هي أعظم سورة في الكتاب العزيز، وآية الكرسي هي سيدة القرآن الكريم، فكل هذا الأمر فيه لله يتصرف فيه كيف يشاء سبحانه وتعالى.
والجبال المذكورة في كتاب الله منها الطور، كما في هذه الآية، ومنها الجودي، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]، ومن الجبال المذكورة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، ومنها جبل يقال له: جمدان، مر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
فالجبال تتفاوت فيما بينها في الفضل، كما أن سائر الخلائق بينها تفاوت في الفضل، وكما قدمنا أن الله سبحانه وتعالى فضل بعض البلاد على بعض، فأم القرى مكة ليست كالمنصورة مثلاً، وفضل بعض المساجد على بعض، فالمسجد الحرام يفوق غيره من المساجد في الفضل، وهذا فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54].
فأقسم الله سبحانه وتعالى هنا بالطور.
من أهل العلم من قال: إنه الكتاب الذي كتبت فيه مقادير الخلائق، كما قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، على أحد الأقوال في تأويلها، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
ومن العلماء من قال: إن الكتاب المسطور هو القرآن الكريم.
ومنهم من قال: إن الكتاب المسطور هو الكتاب الذي تكتب فيه أعمالنا الآن وتسطر، وتنشر يوم القيامة، كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13].
قال تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] للعلماء فيه أقوال، تقدم كثير منها عند قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3]، فمن الأقوال التي فيها: امتلأت وفاضت فاختلط عذبها بمالحها.
ومن الأقوال: أن (البحر المسجور) هو المتأجج ناراً، وهكذا يكون يوم القيامة، تشتعل البحار ناراً على ما قاله فريق كبير من العلماء.
فمن صور تخفيف العذاب في الدنيا: الاشتراك في المصائب، إذا اُبتليت تأملت، فإذا رأيت بلاء غيرك أعظم من بلائك هان عليك بلاؤك، أما في الآخرة فلا ينفع هذا الاشتراك، كما قال الله سبحانه: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، كذلك الصبر قد يخفف العذاب في الدنيا ولكنه لا يخففه في الآخرة، قال أهل الكفر: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21]، وهنا يقول سبحانه: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور:16] أي: يستوي عليكم، الصبر وعدمه، إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16]أي: إنما تجزون جزاء كسبكم، وجزاء عملكم.
فقل للحواريات يبكين غيرناولا تبكين إلا الكلاب النوابح
فقوله: (فقل للحواريات) أي: للجواري البيضاء، فالحواري هو شديد البياض، فالحورية هي: شديدة بياض العين، شديدة سوادها كذلك.
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21] أي: إذا كان الأب صالحاً وبلغ درجة عالية في الجنة، وابنه مؤمناً، ولكن هذا الابن قصر ولم يبلغ منزلة أبيه في الجنة، فإكراماً من الله سبحانه وتعالى للآباء، وتفضلاً منه سبحانه وتعالى على الأبناء، يلحق الأبناء بالآباء، ولا يلت الآباء من أجورهم شيئاً، أي: ولا ينقص الآباء من أجرهم شيئاً، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، أي: للدرجات العُلى، فأفادت الآية ما أفادته غيرها أن الابن ينتفع بصلاح الأب، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فالابن الصالح ينتفع بسعي أبيه، وكذلك الأب ينتفع بسعي ولده كذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ومنها: ولد صالح يدعو له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه بعض أهل العلم: (إن الرجل ترفع درجته يوم القيامة، فيقول: يا رب! أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك) ، وحديث: (يقول الله يوم القيامة لملائكته: أدخلوا هؤلاء الصغار الجنة، فيمتنع الصغار عن دخول الجنة، فيقول الله سبحانه: ما لي أراهم واقفين -أي: ممتنعين مترددين- فيقولون: يا ربنا! لا ندخلها حتى يدخلها آباؤنا وتدخلها أمهاتنا، فيقول الله سبحانه: أدخلوا معهم آباءهم وأمهاتهم)، فالولد الصالح ينتفع بصلاح أبيه، والأب ينتفع بصلاح الولد.
إذاً: قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فيه استثناءات وإضافات، وله إيضاحات، فقد ينتفع الرجل بسعي غيره، فإن الرجل قد يحج عن الآخر فينتفع بحجه، والرجل قد يتصدق عن الآخر فينتفع بصدقته، والرجل قد يدعو للآخر فينتفع بدعائه، والرجل قد يسدد الدين عن الآخر فيجزئ سداد الدين عنه، والرجل قد يشفع في الآخر فتقبل شفاعته فيه، وقد أورد بعض أهل العلم ما يقارب سبعة وعشرين وجهاً لاستفادة الشخص بسعي غيره، كلها بأدلة من الكتاب والسنة.
يقول سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21] ما المراد بالذرية؟ هل الذرية المراد بها الأبناء فحسب أم المراد بها التسلسل؟ أحياناً يذكر الذرية ويراد بها أبناء الشخص فحسب، ذريتك هم أبناؤك، وأحياناً تمتد الذرية إلى أحفاد أحفاد الأحفاد، كما قال الله لنا: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3]، وبيننا وبينهم قرون كثيرة، فقوله سبحانه: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21]، هل المراد بها الذرية المتسلسلة إلى قيام الساعة أو المراد بالذرية الأبناء؟
الظاهر أنه الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم، وإلا لاستوى أهل الصلاح كلهم في الفضل يوم القيامة، إذ كلهم يرجعون إلى المحمولين مع نوح، والمحمولون مع نوح عليه السلام في درجة عالية من الجنة، فلو قلنا بتسلسل الذرية إلى الأحفاد وأحفاد الأحفاد لاشترك الجميع في المنزلة، ولكن الذي يبدو ويظهر أن المراد بالذرية هنا هم الأولاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] (وما ألتناهم) أي: وما أنقصناهم، بل كلٌ مرتهن بعمله وبكسبه.
فقوله سبحانه: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا [الطور:23] (فيها) بمعنى: معها، أي: لا يصاحب خمر الآخرة، ( لغو ) كخمر الدنيا، ولا يصاحبها إثم كذلك، فالجنة كما قال الله عنها: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26].
قال تعالى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23]، وليس المراد بالتنازع المعروف في الدنيا، إنما المراد بالتنازع هنا -والله أعلم- التناول؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].
قال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24] ( غلمان ) أي: خدم، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ [الطور:24] أي: من الخدم الذين يخدمونهم، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24] من شدة البياض الذي هم فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى:لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19] من كثرتهم كأنهم لؤلؤ رش في الجنة من شدة البياض، وكثرة الخدم.
قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] أي: أقبل أهل الجنة بعضهم إلى بعض كلٌ يسأل الآخر ويكلم الآخر، فالمراد بالتساؤل هنا التخاطب والتحادث.
قال تعالى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] ( قبل ) أي: في حياتنا الدنيا، ( في أهلنا ) أي: في وسط أهلنا، ( مشفقين ) أي: خائفين من عذاب الله، فهذا الشعور ينبغي أن ينتاب المؤمن، ألا وهو الخوف من عذاب الله سبحانه، شعور يجب أن ينتاب المؤمن في حياته الدنيا.
هاهم أهل الإيمان يقولون: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27] و(السموم) هو الحر الشديد، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28] و( البر ) قال بعض العلماء: المراد به اللطيف، فجمعوا بين خصلتين، إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] ( مشفقين ) أي: خائفين، ومع ذلك: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ [الطور:28] أي: كانوا يدعون ربهم مع خوف وإشفاق، كما قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
فعلى المسلم أن يوطن نفسه على هذه الأحوال، ألا وهي: دعاء الله سبحانه وتعالى مع الخوف والشفقة من عذابه، فهذا هو حال أهل الإيمان، وقد دلت عليه عشرات النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلم أن يدعو ربه دعاء الخائف من عذابه الراجي رحمة ربه.
قال سبحانه: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور:29] (الكاهن) هو الذي يدعي علم الغيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، وقد ورد بلفظ: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وهذا الأخير تكلم فيه بعض العلماء، قال سبحانه: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور:29] أي: كما يصفك هؤلاء الواصفون.
تربص بها ريب المنون لعلهاتطلق يوماً أو يموت حليلها
فقوله: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به حوادث الدهر تحل به، وكما قال سبحانه وتعالى معقباً على مقالتهم وعلى ظنهم السيئ الرديء: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، وكما قال الشاعر:
فقل للشامتين بنا أفيقواسيلقى الشامتون كما لقينا
فالموت سيأتي الجميع.
قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِر [الطور:30] أي: بل يقولون شاعر، نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور:30-31] أي: انتظروا، فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:31] أي: من المنتظرين.
ولما طفق مسيلمة الكذاب يختلق الاختلاقات، ويكذب على الله، ويدعي قرآناً نزل عليه من عند الله، فطفق يقول: يا ضفدعة بنت ضفدعين، نقي كما تنقين، نصفكِ في الماء ونصفكِ في الطين، لا الماء تعكرين، ولا الشارب تمنعين، كذبه أقرب أصحابه إليه، فقالوا: نشهد على قفاك أنه قفا كذاب على الله سبحانه، أين هذا من قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:1-4]؟ كذلك لما طفق يكذب ويقول: والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، فالآكلات أكلاً، إن قريشاً قوم يعتدون! كذبه أحب أصحابه إليه وأقرب أصحابه إليه، ووسم بسمة لا تفارقه إلى يوم الدين ألا وهي سمة: مسيلمة الكذاب والعياذ بالله من الكذب على الله.
قال الله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ [الطور:37] يتحكمون في الخلق، ويرزقون من شاءوا ويمنعون من شاءوا، أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:37] أم هم المغالبون على الدنيا يذلون من شاءوا ويهينون من شاءوا ويعزون من شاءوا؟ لا ، بل الله هو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، هذا ذو منصب الآن وفي الغد وضيع، هذا ذو جاه الآن وفي الغد ذليل حقير -والعياذ بالله-، فالأيام يصرفها ربنا كيف يشاء، ويداولها سبحانه كيف يشاء، يعز ويذل، ويقبض ويبسط، يميت ويحيي سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:37] على الكون وعلى الحياة وعلى الخلق، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور:38] أي: هل لهم سلم يصعدون عليه، ويستمعون إلى ما يدور في الملأ الأعلى، وينقلون الوحي إلى الناس به؟ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ [الطور:38] أي: مدعي هذا الاستماعبِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [الطور:38] أي: بحجة بينة موضحة للذي قال وزعم.
قال تعالى: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور:39] فقد كان أهل الكفر يدعون لله البنات، ومنهم من يقول: إن الملائكة إناث، وأنها بنات لله سبحانه، وهناك طائفة تقول: البنات في الجملة بنات الله، وطائفة تقول: إن الملائكة إناث، وهؤلاء الإناث هم بنات لله سبحانه، قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، وكان هذا اعتقاد قبيلة خزاعة من المشركين، كانت تعتقد هذا المعتقد الرديء.
فلذلك على الأخ الداعي أن يجعل العلم فوق كل شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى، ولا تمتد عينه إلى ما متع به أزواجاً منهم، فالمال زائل، والعلم الذي يُبتغى به وجه الله باقٍ، وقد قال الله سبحانه لنبيه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] ولم يقل له: وقل رب زدني مالاً، بل قال في شأن المال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، وقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة:269].
فعلى إخواننا الدعاة إلى الله أن ينزهوا أنفسهم من أخذ المال مع إعداد أنفسهم علمياً كذلك، وإلا سقطت هيبتهم، وذهب وقارهم، وداسهم الناس بالأقدام والعياذ بالله!
قال الله سبحانه: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا [الطور:40] أي: تطلب منهم أجراً على البلاغ، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور:40] أي: خائفون من غرامة يؤدونها إليك، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور:41-42] أي: يكيدون يا محمد وأهل الإسلام، فإذا كانوا يكيدون بك وبأصحابك فاعلم تمام العلم وأيقن تمام اليقين أن الذين كفروا هم المكيدون، كما قال سبحانه: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وكما قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، قال الله سبحانه وتعالى كذلك: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50]، وقال سبحانه: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، ألا فليعلم كل من يكيد بالإسلام أن الله سبحانه وتعالى يكيد به، وكل من يخطط لأذى المسلمين فالله سبحانه وتعالى يدبر له ويحكم له خططاً، فالله سبحانه وتعالى هو الحفيظ لأوليائه، وهو متولي الصالحين.
قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [الطور:44] أي: أن الآيات لا تنفعهم بشيء، كما قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97].
قال تعالى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الطور:45-46]، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:47] أي: إن للذين ظلموا عذاباً في الحياة الدنيا أقل من عذاب الآخرة، وما هو العذاب في الحياة الدنيا الذي ذكره الله بقوله: عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [الطور:47]؟
قال فريق من العلماء: هو ما أصابهم يوم بدر، وقال آخرون: هو ما أصابهم من جوع لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف).
قال سبحانه: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [الطور:47] أي: قبل عذاب يوم القيامة، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:47].
وقوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور:48] للعلماء في تفسير قوله تعالى: حِينَ تَقُومُ [الطور:48] أقوال، منها:
حين تقوم إلى الصلاة، فإذا قمت إلى الصلاة فاستفتح الصلاة كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك).
ومن العلماء من قال: حين تقوم من المجلس، قل: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
ومن العلماء من قال: حين تقوم من نومك صل لله سبحانه وتعالى، فالآية فيها: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور:48].
والآية أفادت شيئاً أفادته غيرها من الآيات وهو: أنه يستعان على الشدائد والمصائب بالصبر والصلاة، وهذا الأصل قد أُكد عليه في عدة آيات وأحاديث، فيستعان على المصائب والشدائد والبلايا بشيئين: بالصبر وبالصلاة، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور:48] أي: لقضاء ربك، اصبر على قضاء ربك، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الطور:48]، قال فريق من أهل العلم: أي صل، وهذا المعنى مذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر:97] فما العلاج؟ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:98-99] أي: اصبر على عبادة ربك حتى يأتيك اليقين.
وهذا المعنى كذلك في قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130]، ومن الآيات ما هو أصرح كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] وقد فعل ذلك سلفنا الصالح رحمهم الله، فكان ابن عباس في سفر له، فلما أتاه خبر أخيه قثم بن العباس ، فقيل له: إن أخاك قد مات، فتنحى عن الركب وقام يصلي، فقيل له: لماذا تصلي وقد بلغك خبر موت أخيك؟ قال: إن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، وقال الله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
فهذا أصل أُكد عليه في آيات كثيرة، ولما دخلت سارة عليها السلام على الجبار قام الخليل إبراهيم عليه السلام يصلي، فحينئذٍ إذا كان ذلك كذلك فليثبت الشخص مع هذا الأصل، وليداوم عليه عند الشدائد، فهو سلاحه، وهو معينه بإذن الله، ألا وهو الاستعانة بالصبر وبالصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور:48] أي: اصبر لقضاء ربك، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] نحن نتولاك ونرعاك.
قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ [الطور:48-49] أي: فصل له في الليل، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور:49]، من العلماء من قال: إن المراد بإدبار النجوم: الوقت الذي أدبرت فيه النجوم، وسيأتي بعده النهار.
ومنهم من حمل ذلك على ركعتي الفجر؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
ومنهم من حمله على صلاة الفجر؛ لقوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
ومن العلماء من حمله على ركعات قبل الفجر، عندما توشك النجوم على الإدبار؛ لأن الله قال: وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور:49] أي: عقب ذهاب النجوم، والكل محتمل، وله وجه من الصحة، والله أعلم.
الجواب: الزوج اجتهد في تقدير العقوبة على الزوجة، لكن نراه جانب الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فهو إن كان يقرها على خروجها لطلب العلم الشرعي أو يقرها على خروجها للمساجد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وقد ذكر أن عدم استجابتها للنسيان أو للانشغال، فجدير بمن شعر أن أخاه قد نسي أن يلتمس له العذر، فإن الله سبحانه رفع عن الناسي وعن المخطئ القلم، (رفع القلم عن ثلاثة)، ولما قال أهل الإيمان: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله سبحانه: (قد فعلت).
فهو أخطأ من وجهين -فيما أرى والله أعلم- وإلا فهو مجتهد، أخذته الغيرة -جزاه الله خيراً- لكن الخطأ أنه آخذ الناس، مؤاخذة الناس لا ينبغي أن يتشدد فيها الشخص، والثاني أنه عاقب بعقوبة النبي صلى الله عليه وسلم ضيف فيها الباب وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . والله سبحانه وتعالى أعلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الطور للشيخ : مصطفى العدوي
https://audio.islamweb.net