إسلام ويب

انتهاك عرض المسلم حرام، والواجب حسن الظن بالمسلم، وإن وقع مسلم في زلة فيجب ستره، ولا يجوز إشاعة زلته، وهذا من اتباع خطوات الشيطان، ومن تُكلِّم في عرضه بغير حق فصبر فله العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة. والقرآن يهدي للتي هي أقوم، ولم يفرط الله فيه من شيء، حتى إنه بين لنا فيه أحكام الاستئذان وآداب الدخول إلى البيوت.

حسن الظن بالمسلمين

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد:

فقد ورد بإسناد ينظر فيه: أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: أنت خير أم عائشة ؟ فتقول له: عائشة خيرٌ مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان ؟ فيقول: صفوان خير مني.

فتقول لزوجها ويقول لزوجته: إذا كان صفوان خيراً مني، وعائشة خيراً منك، وأنا وأنتِ لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى أنهما لا يقبلان الزنا، لأنهما أفضل منا.

فالواجب عليك أن تظن بإخوانك الخير، قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، أي: الظن السيئ، أما الظن الخيري فمطلوب في أول وهلة إذا اتُهم أخوك بالزنا.

قال تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ [النور:12] أي: كذب واضح ظاهر.

قد تتشابك الأمور لكثرة الناقلين، فلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، فتكثر المقالات حتى أكاد أُغلب وأصدق بالطعن الذي طعن به أخي، فماذا عليّ إذا غلبت في هذه الحالة؟

قال تعالى: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، فيا أيها المدعي لهذه التهمة! ائت بأربعة شهود يشهدون لك بأنك صادق وقد تقدم حكم القذف فيما سبق من الآيات التي هي كالتوطئة لحديث الإفك، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].

قال تعالى: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، وهذه الخطوة الثانية مع الظن الحسن، فإذا جاء من يتهم إخواني في أعراضهم فإني أوقفه، وأقول له: ائت على ما تقول بأربعة شهود، وإذا لم تأت بهم فأنت فاسق، وشهادتك ساقطة، وحكمك أن تجلد ثمانين جلدة.

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14] أي: فيما تقولتم به بألسنتكم (عذاب عظيم)، ولكن رحمة الله سبحانه بكم رفعت عنكم هذا العذاب وإلا فأنتم تستحقونه بخوضكم بألسنتكم في أعراض إخوانكم، أنتم تستحقون العذاب العظيم لما تخوضون في أعراض المؤمنين وأعراض المؤمنات، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14] فليس كل كلام يتكلم به.

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15] كل يأخذ المقالة بلسانه وينقلها ولا يتثبت وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] وليس الأمر كما زعمتم، أخرج البخاري حديثاً -وإن انتقده البعض- وهو: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)، فليس كل حديث يتحدث به.

وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور:15] أي: تحسبون الخوض في أعراض المسلمين والمسلمات أمراً هيناً سهلاً، وهو عند الله عظيم!

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16] أي: ليس لنا.. وما ينبغي لنا.. ولا يليق بنا أن نتحدث بهذا الحديث في عرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعرض الصديقة بنت الصديق.

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16] أي: ما ينبغي لنا هذا الحديث، كيف تسوّل لنا أنفسنا أن نخوض في أهل رسول الله؟ كيف تسول لنا أنفسنا أن نخوض في عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها؟

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ أي: تنزهت -يا ربنا- عن أن يدنس بيت نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونزهت زوجة نبينا محمد عن الزنا، يا ربنا! سبحانك، وهذه اللفظة محمولة على التعجب.

هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أي: افتراء، فالبهتان: أن تذكر أخاك بما يكره وليس فيه.

يَعِظُكُمُ اللَّهُ [النور:17]، يحذركم الله ويذكركم الله، أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17] لا مع عائشة ولا مع غير عائشة ، إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:18].

عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ [النور:19]، أي: يحبون أن تنتشر الفاحشة في الذين آمنوا.

فبمجرد حبك الفضيحة لإخوانك ينالك العذاب، ولذلك قال: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، فلا تفرح إذا زلت قدم أخيك المسلم، ولا تنشر الفضيحة لقريبك ولا لزوجك، لا تتشف بسقطة سقطها أخوك المسلم، وتمزق عرضه بهذه السقطة، وتتشفى فيه من طرفٍ خفي أو جلي.

فالذي يحب لإخوانه الفضيحة له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وانظر في نفسك -يا عبد الله- فأنت تعلم حال نفسك التي بين جنبيك، هل إذا حدثت زلة لمسلم من المسلمين تفرح بها وتذهب تنشرها، أم أنك تستغفر الله لصاحبها وتستر عليه؟

إذا كنت تستغفر الله له وتستر عليه؛ فاعلم أنك على خير، وإذا كنت تنشر الرذيلة وتفرح بها؛ فاعلم أن إيمانك ضعيف، وأن في قلبك مرضاً، وأنك تجلب لنفسك النكد والعذاب من الله سبحانه وتعالى.

فانظر إلى قلبك وعالجه، فأنت طبيب قلبك بعد الله سبحانه وتعالى، فاستغفر الله إذا وجدت هذا الخلق الدنيء السخيف في قلبك، إذا وجدت أن الفرح بمصائب المسلمين وفضائح المسلمين والمسلمات يتسرب إلى قلبك، فاستغفر الله، فإن في قلبك مرضاً، وفي قلبك غِلاً، فاستغفر الله منه.

أما إذا وجدت في قلبك شفقة على المسلم الذي سقط، أو على المسلمة التي فعلت شيئاً محرماً، وسترت السقطة، ولم تتحدث بها، فاعلم أن مآلك إلى خير، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ [النور:19] أي: أن تنتشر الفاحشة فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] أي: عذاب قبل الآخرة عذاب يطاردهم في الدنيا، ثم في الآخرة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

فهذه الآية تحذّر أشد التحذير من إشاعة الفاحشة في المؤمنين أي: من نشر الفاحشة في المؤمنين، وفي معناها قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فالكلام السيئ والأفعال السيئة ينبغي أن تكتم، ولا تنشر في الناس، ومن ثم فصفحة الحوادث التي في الجرائد، ليس لها مستند شرعي، إذ هي تنشر الفاحشة في الذين آمنوا، وتنشر جرائم شخصٍ وتسميه، وقد يتوب هذا الشخص من هذا الذنب، وتبقى وصمة عارٍ في جبهته طيلة حياته، وقد تكون سبباً في الحيلولة بينه وبين التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

فأفادت الآية الكريمة: أن الذي يحب للمؤمنين أن يفتضحوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [النور:20]، هذه الآية خاتمة عشر آيات نزلت في حديث الإفك، وقد تقدم ذكره على مسامعكم باختصار.

من فوائد حديث الإفك

ومن الفوائد التي تؤخذ من هذا الحديث: أنه يجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المؤمنين، لقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12].

ويؤخذ من الحادثة: الإنصاف، إنصاف عائشة رضي الله عنه مع من هجاها ورماها، فمع أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رماها بالفاحشة، لكن لم يمنعها هذا من أن تُقر له بالفضل الذي له، إذ قد نافح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول لمن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أتهجوه ولست له بكفءٍفشركما لخيركما الفداء

فإن أبي ووالده وعرضيلعرض محمد منكم وقاء

فـعائشة رضي الله عنه لم تنس له هذه المنقبة، وهذا من شدة إنصافها رضي الله عنها.

كذلك أم المؤمنين زينب بنت جحش لم تحملها الغيرة -وهي ضرّة لـعائشة - على أن تتكلم في عائشة بغير الحق الذي تعلمه، فقالت: أحمي سمعي وبصري يا رسول الله! أهلك وما علمت فيها إلا خيراً!

ويؤخذ من الحادثة أيضاً بعض الأحكام الفقهية التي سيقت في حديث الإفك، كالتأدب مع النساء، والسير أمام النساء، وترك السير خلفهن، فإن صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه لما وجد عائشة استرجع وأناخ الناقة ثم ركبت عائشة ، وسحب الناقة ومشى أمامها، ولم يمش خلفها رضي الله تعالى عنه.

فيؤخذ من هذا التأدب في المسير مع النساء، وفي الحديث مع النساء، ونحو ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في حديث الفتون الطويل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع ابنة الشيخ الصالح التي جاءت تدعوه قائلةً: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، ففي الأثر أن موسى عليه الصلاة والسلام مشى أمامها، ومشت خلفه رضي الله تعالى عنها، فيؤخذ من هذا التأدب في الحديث وفي المسير مع النساء، ولا يكثر الشخص من الكلام معهن إلا عند الحاجة إلى الكلام، فإن عائشة قالت: والله! ما سمعت من صفوان كلمةً غير استرجاعه، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهي الكلمة الوحيدة التي سمعتها أم المؤمنين عائشة من صفوان بن المعطل السلمي.

فيؤخذ منه التأدب في الحديث مع النساء وعدم الإكثار من الكلام معهن، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ وذلك لأنه قد يصدر من المرأة كلمة يفتن بها الرجل، أو يسوّل لها الشيطان فتخضع بالقول فيطمع فيها الذي في قلبه مرض، كما قال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، وهذا من باب سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء).

ويؤخذ من حديث الإفك: مشروعية سفر النساء مع أزواجهن، ولذلك مباحث واسعة.

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ [النور:19] أي: تنتشر، الْفَاحِشَةُ [النور:19] أي: الكبيرة، والفاحشة تطلق على الزنا، وتطلق على كل ما يفحش من الأقوال والأفعال، لكن في أكثر المواطن يراد بها الزنا، فمثلاً قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33]، الفواحش هنا أعم من الزنا.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] هذه الآية فيها دليلٌ على أن من أعمال القلوب ما يؤاخذ عليه العبد، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك، فللقلوب أعمال لا يؤاخذ عليها العبد، وهي الخطرات والوساوس التي تخطر على القلب وتمر به، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل).

لكن الأمور التي يجتمع عليها القلب، ويعقد العزم على فعلها، يحاسب عليها العبد، لقوله تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225]، فلما عقد القلب العزم على فعلها أصبحت كسباً له فيؤاخذ عليها العبد، ولذلك يؤاخذ العبد ويحاسب على الحسد، وهو من أعمال القلب، ويحاسب العبد على حب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا الحب من أعمال القلب.

ويثاب العبد على حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والحب من أعمال القلب، ويثاب العبد على حب المؤمنين، وهو من أعمال القلب، ويثاب العبد على تمنيه فعل الخير كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر حبسهم العذر)، فكُتِبَ لهم أجر لحبهم الخروج مع رسول الله والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92] الآيات.

التحذير من اتباع خطوات الشيطان

قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:21]، يـا: حرف نداء، وأيّ: منادى، والهـاء للتنبيه.

(الذين آمنوا)، أي: آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وصدقوا وعد الله، وصدقوا بـلا إله إلا الله، وصدقوا بالبعث وأيقنوا به.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] أي: طرق الشيطان ومسالك الشيطان، فطرق الشيطان أطلق عليها خطواته، فهي الطرق التي يرشد الشيطان إلى فعلها، وكلها طرق وخطوات توصل إلى النار والعياذ بالله، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء التحذير من اتباع خطوات الشيطان وأوامره في آيات في غاية الكثرة، قال تعالى محذراً من اتباع الشيطان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، وقال تعالى محذراً إيانا منه: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [يس:62] أي: خلقاً كثيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:62]، وقال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268].

فجاءت آيات في غاية الكثرة تحذر من اتباع الشيطان واتباع خطواته، ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21] أي: فليعلم الذي يتبع خطوات الشيطان، أنه يأمر أي: يحث ويحض (بالفحشاء والمنكر) والفحشاء: كل ما فحش، والمنكر: كل ما استنكر.

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21] أي: ما طهر وما صلح منكم من أحدٍ أبداً، فأفادت الآية الكريمة: أن الصالح من أصلحه الله، وأن المهتدي من هداه الله، فإذا علم العبد ذلك ازداد تواضعاً لله سبحانه، فإذا علمت أن الذي هداك هو الله لم تستطل على الخلق، فهو سبحانه قادرٌ على إضلالك، وقادرٌ على إصلاح الآخرين، فليكن العبد متواضعاً لله، قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] يا مؤمنون وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، فالذي كره الكفر والفسوق إليكم هو الله، أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8]، أن منّ الله عليك بالإيمان وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8].

قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا [النور:21] أي: ما صلح وما تطهر من الذنوب، فالتزكي يطلق أحياناً على التطهر، كقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وفي الآية ردٌ على القدرية نفاة القدر، الذين يقولون: إن الإنسان يختار لنفسه ما شاء، ولا تدخل للرب في ذلك! إنما الرب كالطبيب الناصح! وهذا القول خطأ، تقدم التنبيه على خطئه مراراً، فالله هو الذي يزكي وهو الذي يهدي، ولو كان الأمر كما قالوا، ما قلنا في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

فلماذا نطلب الهداية إذا كان أمر الهداية بأيدينا؟!

فدل هذا على بطلان قيلهم، وبطلان معتقدهم في هذا الباب، قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21]، فالله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والأمر في هذا كله لله، لا تقل: لماذا هدى الله فلاناً؟ ولماذا أغوى الله فلانا؟! فالله أعلم بالعباد، وأعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، وبمن يستحق الإغواء فيغويه، والعياذ بالله.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21] سميع للأقوال والحركات والسكنات، عليمٌ بالنيات، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.

تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة...)

ثم قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ [النور:22] أي: ولا يحلف، فالإيلاء هو الحلف، قال الشاعر:

قليل الألايا حافظٌ ليمينه -أي: قليل الأيمان حافظٌ ليمينه- وإن صدرت منه الألية ضرت

أي: إن صدرت منه يمينٌ ضر بيمينه، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] أي: للذين يحلفون ألا يقربوا نسائهم مدة طويلة، ليس لهم إلا أن يتربصوا أربعة أشهر فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].

ومعنى هذه الآية: أن الشخص إذا قال: أقسم بالله ألا أقرب زوجتي سنةً، نقول له: قف، ليس لك ذلك، إنما لك أربعة أشهر كحدٍ أقصى، فإن رجعت في خلال أربعة أشهر وجامعت أهلك فحيهلا، وإن لم تفعل توقف عند نهاية الأربعة أشهر وتجبر إما على الرجعة إلى زوجتك والجماع، وإما على الطلاق رغماً عنك، ومن أهل العلم من قال: يوقف المؤلي -يعني: الذي حلف- عند الأربعة الأشهر وإذا مرت الأربعة أشهرٍ ولم يرجع عدت طلقة عليه شاء أم أبى، هذان قولان لأهل العلم، ومحل بسطهما في كتب الفقه، فمادة (آلى) يعني: حلف، مثل حديث: (آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً)، أي: حلف ألا يدخل على نسائه شهراً.

فقال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ) أي: ولا يحلف أُوْلُوا الْفَضْلِ [النور:22] أي: أصحاب الفضل منكم يا مؤمنون! وَالسَّعَةِ [النور:22] أي: أصحاب السعة، الذين وسع الله عليهم بالمال، والمعنى: لا يقسم الفضلاء ولا يقسم الأغنياء، لا يقسم أهل الغنى والفضل أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ [النور:22].

وهذه الآية الكريمة نزلت في الصديق أبي بكر ، فقد كان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة ، وكان مسطح قريباً لـأبي بكر الصديق ، وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا طعن مسطح بلا علمٍ في أم المؤمنين عائشة ، ووصفها بالزنا ظلماً وعدواناً.

فلما برأ الله أم المؤمنين عائشة ، قال أبو بكر : والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، وكان معه حق، فرجلٌ محسن يحسن إلى شخص فاللائق بالشخص على أقل تقدير أن يجازيه بجزاك الله خيراً، ولا يذهب يطعن في ابنته بالزنا بلا علم، فقال أبو بكر لما نزلت براءة عائشة وتبين كذب مسطح رضي الله عنه: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، فنزل قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22] أي: لا تقسموا يا أهل الفضل ويا أهل الصلاح ويا أهل الغنى أن تحرموا الفقراء والمساكين.

والمذنب إذا لم يعترف بذنبه، فلا وجه للعفو عنه؛ لأنك والحالة هذه تكون قد نصرته ظالماً، ونصرة الظالم لا تجوز، ولكن إذا اعترف بذنبه وأقر بخطئه، فباب التوبة مفتوح، وينبغي العفو عنه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس)، والله أعلم.

وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، في الآية الكريمة ردٌ على الخوارج، فإن قيل ما وجهه؟

فوجهه أن الخوارج يكفرون بالكبيرة، ووجه الرد عليهم أن مسطحاً ارتكب كبيرة، وهي قذف أم المؤمنين عائشة ، ولم يخرجه ذلك عن دائرة أهل الإيمان، فقد وصفه الله بقوله: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22]، وهذه كلها صفات لـمسطح بن أثاثة ، فلم يخرجه الله عن عباده المؤمنين بالقذف الذي قذفه لـعائشة.

وهذا من إنصاف ديننا، فالشخص يحكم عليه بمجمل ما صدر منه، ولا يحكم عليه بزلة زلتها قدمه، إنما يحكم عليه بمجمل سيرته، فلا نأتي إلى مسطح ونطيح بكل حسناته وفضائله ومناقبه لكونه قذف، فليوضع القذف في كفة من الميزان، ولتوضع سائر الخيرات في الكفة الأخرى، ففي الكفة الأخرى هجرة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجهاد مع رسول الله يوم بدر، وليرجح إما جانب الخير أو جانب الشر، وبهذا يحكم على الناس، فالله سبحانه جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمةً وسطاً.

وهذا القول ينسحب على عموم الصحابة، وعلى عموم الناس، فمثلاً: إذا جئنا نزن معاوية، نجد أن من إنصاف أهل السنة أنهم قالوا: معاوية قاتل عليـاً، فأخطأ في قتاله لـعلي رضي الله عنهما، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تقتل عماراً الفئة الباغية)، ولكن ينظر إلى مناقب معاوية الأخرى، فهو كاتب للوحي على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفتح الله على يديه جملة من بلاد الكفار، ودخل في خلافته ألوف مؤلفة من الكفار إلى الإسلام، فليوزن بمجمل أفعاله، لا بفعلة واحدة، فأهل الظلم والجور يزنون الشخص بعيب واحدٍ فيه، وبزلةٍ واحدة زلتها قدمه، فيظلمون الناس:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلهاكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمهعلى شعثٍ أي الرجال المهذب؟

قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا [النور:22] أي: يعطوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22]، (والمساكين) هل المسكين أشد فقراً أم الفقير؟

يقول العلماء: إن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، والمعنى: إذا جاء ذكر المسكين والفقير في سياق واحد -كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فللفقر معنى وللمسكنة معنى آخر، والمسكين أعلى حالاً من الفقير، فالفقير لا يكاد يجد شيئاً، أما المسكين فيجد الشيء الذي لا يكفيه، قال تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فوصفوا بالمسكنة.

وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا جاء لفظ الفقير في سياق ليس فيه ذكر المسكين، دخل في هذا اللفظ المسكين، وكذلك إذا جاء لفظ المسكين في سياق ليس فيه ذكر الفقير، دخل فيه الفقير، كهذه الآية: أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ [النور:22]، فدخل في المساكين هنا الفقراء، وهذا معنى قولهم: إذا افترقا -أي: في السياق- اجتمعا أي: في المعنى.

والمسكين: من أسكنته الحاجة، ومن أسكنه الفقر.

قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] أي: وليعفوا الأغنياء وأهل الفضل، وليصفحوا.

فجدير بمن آتاه الله جاهاً أو مالاً أن يتغاضى عن هفوات الفقراء والضعفاء، ولا يعدد عليه أخطاءهم حتى لا تعد عليه نعم الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأسماء : (تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا تحصي فيحصي الله عليك).

(وَلْيَعْفُوا) أي: ليطمسوا على أخطاء هؤلاء، (وَلْيَصْفَحُوا) أي: يعرضوا عنها، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] أي: إذا أحببتم أن يغفر الله لكم فاغفروا للناس، فالجزاء من جنس العمل، إذا أحببت أن يغفر لك الله فاغفر لعباد الله، إن أحببت أن يستر الله عليك فاستر على الناس، وهكذا، فالجزاء من جنس العمل.

وفي هذه الآية منقبة كبرى للصديق رضي الله عنه، لأنه أقسم أن لا ينفق على مسطح، فلما نزلت هذه الآية: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، قال: والله يا ربي! إني أحب أن تغفر لي، ولن أمنع عن مسطح الصدقة بعد اليوم، وهو الذي طعن في ابنته، وهو الذي اتهم ابنته بالزنا، ومع ذلك يقسم بالله ألا يمنع عنه النفقة بعد نزول قوله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22].

وهذا امتثال شديد من أبي بكر لكتاب الله ولأوامر الله، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مولعين بشرب الخمر، فلما نزلت الآية بتحريم شربها قاموا إلى الدنان فكسروها، وهي ممتلئة خمراً، مع حبهم الشديد لها، وكانوا يلبسون خواتيم الذهب، فلما رءوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزع خاتم الذهب، نزعوا خواتيمهم، وكانوا يصلون بالنعال مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنزع النبي نعله فنزعوا نعالهم، ثم بين لهم أنه إنما نزعها لعلة، وهي أن فيها أذى كما أخبره جبريل عليه السلام، فكان الصحابة شديدي الامتثال لرسول الله عليه الصلاة والسلام، أحدهم كان مع زوجته يجامعها فسمع داعي الجهاد: حي على الجهاد! فقام عن الزوجة مسرعاً لا يتمهل، حتى أنه لم يغتسل، بل أسرع وقاتل حتى قتل رضي الله عنه، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، رضي الله تعالى عنهم، وأسكنهم فسيح الجنان، وقاتل الله أهل التشيع البغيض الذين ينالون منهم.

قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22] أي: امتثلوا واعملوا بهذه الصفة، صفة الغفران والرحمة للناس.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات...)

ثم قال تعالى مؤدباً الذين يخوضون بألسنتهم في أعراض أهل الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23].

(الذين يرمون المحصنات) أي: العفيفات، (الغافلات) أي: اللواتي لا يشعرن بالشر ولا يشعرن بالتهمة التي اتهمن بها، كامرأة جالسة في بيتها لا تعرف شيئاً عن الشر، وإذا بشخص ماجن فاجر يرميها بالزنا، وهي غافلة عما رميت به.

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ ، ومن يرمي من يرمي غير الغافلات أيضاً داخل فيها، ويدخل في الآية أيضاً الذين يرمون الرجال بالإجماع، فكل من رمى رجلاً بالزنا تنسحب عليه هذه الآية أيضاً.

(لعنوا) أي: أبعدوا عن رحمة الله، وطردوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، أصل العذاب المنع، يقال: أعذبوا نساءكم، أي: امنعوهن من الخروج.

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [النور:24] التي طعنوا بها في المؤمنات وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، فاليد تشهد، والرجل تشهد، واللسان يشهد، إذا أشرت أن امرأة زنت بيديك فكذلك الحكم ينسحب عليك، إذا مشيت برجليك تنقل الطعون في المؤمنين والمؤمنات، شهدت عليك رجلاك، وشهد عليك لسانك، وشهدت عليك يداك.

يَوْمَئِذٍ [النور:25] أي: يوم القيامة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:25] أي: جزاءهم الذي يستحقونه وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25].

تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين...) الآية

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26] الكلمات الخبيثة لا تصدر إلا من الأشخاص الخبثاء، والخبيثون لا تخرج منهم إلا الكلمات الخبيثة، (والطيبون للطبيات) أي: لا تصدر من الطيبين إلا الكلمات الطيبة، ولا تصدر الكلمات الطيبة إلا من الطيبين.

هذه الآية من العلماء من أولها على هذا التأويل وهم الجمهور، ومنهم من قال: إن هذا في الأزواج، فالرجل الصالح يحرص على الزواج بصالحة، والخبيث يحرص على الزواج بخبيثة، وكذلك الخبيثة السافلة المتبرجة تحرص على الزواج بسافلٍ مثلها، هذا في الأصل.

فإن عكّر معكرٌ بقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10]، وقوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، فنقول إذا اخترنا التأويل الثاني: فهذا على العموم، وكل عموم له استثناءات، وقد يقع الشخص الصالح في امرأة شريرة وهو لا يدري، لقضاء قضاه الله ولأمر أراده الله.

إذاً قال قائل: كيف يجمع بين قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم:10] وبين قوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26]؟

فالإجابة من وجهين:

أحدهما: أن المراد بـ (الطيبات للطيبين) الكلمات الطيبة تصدر من الطيبين.

والوجه الثاني: أن الحكم على الغالب، ولكل غالب استثناءات، والله أعلم.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26]، مبرءون في الدنيا والآخرة، برأ الله عائشة مما رميت به في الدنيا والآخرة، وبرأ الله موسى مما رمي به في الدنيا والآخرة، وبرأ الله مريم عليها السلام، وبرأ الله يوسف صلى الله عليه وسلم.

أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [النور:26] فكل من طُعن فيه له مغفرةٌ على الطعون التي طعن بها إن كانت كاذبة، فإذا طعن فيك وأنت بريء؛ فبسبب الطعن فيك تكفر ذنوبٌ لك سالفة، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26]، فلينم قرير العين من طعن فيه وهو بريء، فإن رب العزة يغفر ذنوبه ويجزل له الثواب، والله أعلم.

تفسير آيات الاستئذان

يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:27-29].

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا سبق بيانه بما حاصله: أن الياء حرف نداء، وأي: منادى، والهاء: للتنبيه.

(يا أيها الذين آمنوا) قال بعض أهل العلم: إن المرادف لها في التوراة، أي: الخطاب الذي كان يخاطب به اليهود في التوراة: يا أيها المساكين! فتيمن بعض أهل العلم بذلك وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لما خاطب هذه الأمة بـ (يا أيها الذين آمنوا) كان هذا مشعراً بأن الأمن يحل عليها، وأن اليهود الذين خُوطبوا بـ(يا أيها المساكين)، ضربت عليهم الذلة والمسكنة.

وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) هو حديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صحح إسناده بعض أهل العلم المتأخرون، ولكنهم جعلوا متن هذا الحديث لسند آخر سهواً منهم، وقد تراجع بعضهم عن ذلك.

معنى: الاستئناس

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لأهل الإيمان الذين هم: أهل التصديق بالله، وبرسل الله، وبكتب الله، وبملائكة الله، وبالغيب، يا من هذه صفتهم! لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27] سماها الله بيوتاً، ولم يسمها فللاً، إنما هي بيوت.

قال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، ما معنى تستأنسوا؟

من العلماء من قال: إن (تستأنسوا) بمعنى: تستأذنوا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخطأ النساخ! إنما هي: تستأذنوا، ودفع قول ابن عباس رضي الله عنهما جماهير أهل العلم، واستدلوا على تخطئة قوله بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وبقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وبقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:17-19]، وابن عباس نفسه فسَّر الآيات الأخيرة بقوله: إنّ علينا أن نجمعه لك في صدرك، ثم إنّ علينا أن نبينه، فاستدل بذلك وبإجماع القراء على أن الآية: (حتى تستأنسوا) كما نقله البعض، وعلى تخطئة القول بأن النساخ قد أخطئوا.

على كلٍ فمن العلماء من قال: معنى (تستأنسوا) تستأذنوا، ومنهم من قال: هو الاستئذان بتنحنح ونحوه من الكلمات والهمهمات والأصوات التي بها يعرف الداخل.

ومن العلماء من قال: إن الاستئناس بمعنى: الاستعلام، أي: حتى تستعلموا، أي تعلموا من فيها بدخولكم، وأخذ هذا من قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]. أي: إن علمتم منهم رشداً، وقول موسى صلى الله عليه وسلم: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10] هو بنفس المعنى.

ومن العلماء من قال: إن الاستئناس هو مقابل الاستيحاش، فالشخص يقول مثلاً: دخلت مكان كذا وكذا فاستوحشته إذا لم يجد من يأنس إليه، فهو من الأنس الذي هو ضد الاستيحاش.

فهي ثلاثة أقوال: فمن العلماء من قال: إن الاستئناس هو الاستعلام، وقيل: هو الاستئذان، وقيل: هو ضد الاستيحاش.

وَتُسَلِّمُوا [النور:27] السلام هنا المراد به: سلام الاستئذان، وهو المراد أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا سلم سلمّ ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً).

فالمراد بقول الراوي: (كان النبي إذا سلم سلّم ثلاثاً)، سلام الاستئذان، وليس معناه أنه إذا التقى بشخص في الطريق يقول: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم! إنما المراد: سلام الاستئذان، دل على ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: ( أنه أتى إلى أمير المؤمنين عمر يستأذن عليه، فقال: السلام عليكم، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم أنا عبد الله بن قيس ، فلم يأذن، ثم قال: السلام عليكم، فلما لم يؤذن له في الثالثة انصرف، فأرسل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في أثره من يطلبه، فأتي به، فقال له: ما منعك أن تثبت، قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)، قال عمر : لتأتيني على هذا ببينة أو أوجعتك ضرباً، فرجع أبو موسى مذعوراً إلى مجلس الأنصار وفيهم أبي بن كعب وهو من سادات الأنصار، فقال: من يشهد لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)، قال أبي : والله لا يقوم معك إلا أصغرنا! قم يا أبا سعيد ! فقام أبو سعيد فشهد عند عمر بذلك، فقال عمر رضي الله عنه: ألهاني الصفق بالأسواق!

فدل ذلك على أن المراد بالسلام هنا سلام الاستئذان، ونحو ذلك الحديث الذي يحسن بمجموع طرقه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى بيت سعد بن عبادة رضي الله عنه، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد بن عبادة سراً ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها النبي مرة ثانية، فرد سعد سراً، فأعادها النبي ثالثة فردها سعدٌ سراً، وبنوه بجواره يقولون له: ائذن للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: دعوه حتى يكثر علينا من السلام، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يؤذن له بعد الثالثة، فتبعه سعدٌ وقال: والله يا رسول الله! ما من مرةٍ سلمت فيها عليّ إلا رددت عليك السلام، ولكني لم أُسْمِعك حتى تكثر علينا من السلام)، فالشاهد منه: أن السلام هنا يراد به سلام الاستئذان، وأنه يكون ثلاثاً.

ومن معاني الاستئناس أيضاً: التجول بالبصر في الغرفة وفي البيت، كما في حديث عمر عندما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذن له بالدخول -كما في الصحيح- قال: أأستأنس يا رسول الله؟!

فأذن له النبي بالاستئناس، فجال ببصره في الغرفة، قال: فلم أجد شيئاً يرد البصر إلا ثلاثة أهبٍ، وحفنة من شعير، وذكر الحديث، فلما كان الاستئناس بعد السلام حمل هذا بعض العلماء على أن يقولوا: إن المراد بالاستئناس الاستئذان، فالمعنى: حتى تستأذنوا وتسلموا، وقالوا: إذا قلنا: إن المراد بالاستئناس: التجول بالبصر أو الذي هو ضد الاستيحاش، كان ذلك بعد السلام ولا يكون قبل السلام، فكان سياق الآية سيكون إذا كان هذا هو المعنى: حتى تسلموا وتستأنسوا.

لكن أجيب على هذا بأن الواو لا تقتضي الترتيب، إنما تقتضي مطلق التشريك، وقد أسلفنا القول في ذلك عند تأويل قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ [آل عمران:55]، وقول العرب: جاء زيد وعمرو لا يريدون به الترتيب، بل يعنون: أن هذا جاء، وهذا جاء، وقد يكون أحدهما جاء قبل الآخر.

الاستئذان في كل البيوت

قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، هذا عام في كل البيوت إلا بيتك. فإذا كان لأمك بيتٌ مستقل، شرع لك أن تستأذن عليها؛ لأن الله فصل بيوت الأمهات عن بيوتك، فقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ [النور:61]، فإذا كان للأم بيتٌ مستقل، وجئت إليها، شرع لك أن تستأذن عليها، وإذا كانت أمك تعيش معك في البيت فالجمهور والأكثرون على أنه يستحب لك أيضاً أن تستأذن عليها، قال ابن عباس : أتحب أن تراها عريانة؟!

وقال حذيفة : ما على كل أحوالها تحب أن ترى، وأبو هريرة رضي الله عنه جاء إلى أمه فاستأذن عليها كما في قصة إسلام أمه، فقالت: على رسلك! فسمع صوت اغتسالها بالماء، وإذا لم تستأذن عليها ربما رأيت ما تكره، وقد ترى منها منظراً يسيئك، ويسيئها هي الأخرى، فيشرع الاستئذان على الأم.

ويشرع الاستئذان أيضاً على الأخت، وفي الأثر أنه أتى رجلٌ إلى جابر فأمره أن يستأذن، وقال: إن لم تستأذن رأيت ما تكره!

قال الله سبحانه وتعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ [النور:27] أي: الاستئذان خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27] أي: تتعظون، فالتذكر يطلق على الاتعاظ.

من آداب الاستئذان

هذا، ويكره للمستأذن أن يقول: أنا، إذا سئل: من أنت؟

ففي الصحيح: أن جابراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فقال النبي: (من؟ قال: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا!! كأنه كرهها عليه الصلاة والسلام).

فيكره أن تقول: أنا، وليست الكراهية على الإطلاق، إنما هي في باب الاستئذان، بل قل: أنا فلان.

أما قول القائل: أنا فعلت كذا، فلا بأس بها، وقول بعضهم: أعوذ بالله من كلمة أنا، لا أعلم له مستنداً، إلا إذا كان على سبيل الغرور والكبر والاختيال فيذم، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).

روى الخطيب البغدادي في جامعه: أن علي بن عاصم طرق على شعبة الباب، فقال شعبة : من؟ قال: أنا، قال: ليس لي صاحب اسمه أنا! حدثني محمد بن المنكدر حدثنا جابر بن عبد الله قال: أتيت رسول الله..، فذكر الحديث.

والإذن إنما شرع لأجل البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعُل الإذن من أجل البصر)، وقد ورد حديث ينظر في إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم فلا يأت الباب من قبل وجهه، إنما يأتيه من يمينه أو عن يساره)، وهذا أدعى إلى عدم وقوع البصر على شيء يكره، والله أعلم.

قال سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]؛ حتى إذا كان البيت مفتوحاً يشرع لك أن تستأذن، وإذا لم يأذن لك أحدٌ، ولم يرد عليك شخصٌ، ولم تجد في الباب أحداً؛ فلا تدخل حتى يؤذن لك، فإن البيت ولو كان فارغاً ودخلته قد تكون مظنة للاتهام، وقد تحدثك نفسك بالسرقة منه، وقد تضع نفسك في مواطن الريب والشكوك، قال سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا [النور:28].

ثم سؤال آخر: إن وجدت فيه أحداً وأذن لك بالدخول، فهل تدخل؟

الأمر فيه تفصيل: إذا وجدت في البيت امرأةً بمفردها، وقالت لك: ادخل، وأنت وحدك؛ فلا يشرع لك الدخول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء! قال قائل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! -أي: قريب الزوج- قال: الحمو الموت).

أما إذا أتيت أنت وزوجك إلى رجلٍ في بيته، فلم تجدا في البيت إلا امرأته، وأذنت لكما بالدخول، فتدخل أنت وزوجك، وتجلس زوجك معها، وأنت تنتظر داخل البيت في مكان آمن، وإذا كان مجموعة رجال، والفتنة مأمونة، والبيت به امرأة واحدة، وأذنت بالدخول برضا زوجها بذلك؛ جاز لهم الدخول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يلجن رجلٌ على مغيبة بعد يومي هذا، إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة)، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل هو وأبو بكر وعمر بيت أبي التيهان الأنصاري رضي الله عنه في غيابه، لما أذنت لهم المرأة، وهذا محله عند أمن الفتنة، والله لا يحب الفساد.

قال سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28]:

صاحب البيت هو سلطان بيته، وهو سيد بيته، وهو المسئول عن بيته، وهو أدرى بما فيه، وهو أحفظ لعورته، وأعلم بانشغاله من غيره، فإذا استعمل هذا اللفظ الشديد بلا مقدمات وقال لك مباشرة: ارجع، لزمك أن ترجع، من العلماء من قال: ترجع وأنت راضٍ مسلم لحكم الله سبحانه، فإن هذا هو أمر الله، أما إن رجعت وأنت متضايق متبرم، وذهبت تغتابه عند الناس، وتقول: أنا طرقت عليه الباب وقال لي: ارجع، أو لم يرد عليّ؛ فأنت مخطئ، قال سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] أي: أطهر لكم، فالزكاة تطلق على التطهير، كقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28]، أي: عليمٌ بقلوبكم، وعليمٌ باتجاه أبصاركم، وعليم بنياتكم.

ثم قال سبحانه مرخصاً في بعض الدور: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النور:29] أي: ليس عليكم إثم، وليس عليكم حرج، أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور:29]، ما هي البيوت غير المسكونة المرادة في الآية الكريمة؟

من العلماء من قال: هي السقائف التي كانت على الطرقات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان أهل الفضل وأهل الخير ينشئون سقائف وبيوتاً على الطرقات، فينتفع بها المسافرون للاستظلال بها وللراحة فيها، ويضعون فيها متاعهم، فمن العلماء من قال: إن المراد بالبيوت الغير مسكونة السقائف، كسقيفة بني ساعدة، التي هي سقيفة سعد بن عبادة وأسرته.

ومن العلماء من قال: إنها الدكاكين التي لا يحتاج الداخل إليها إلى إذن، والنوادي التي يرتادها المرتادون ولا تحتاج إلى إذن، وبصفة عامة: هي الأماكن العامة التي لا تحتاج إلى إذن.

قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور:29]، هنا تقدير أي: غير مسكونة بأحدٍ بعينه، فلا يلزم إذنٌ بالدخول إليها، فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]، قال بعض العلماء: ليس المراد بالمتاع: الجهاز الذي يُتجهز به فقط، إنما المراد بالمتاع: كل ما يتمتع به، فقد يتمتع الشخص بالنوم مثلاً، قد يتمتع بالثياب، قد يتمتع بالمأكل، قد يتمتع بالاستظلال، والدنيا كلها متاع، فليس معنى قوله تعالى: (متاع) أي: حاجة من الأمتعة المعلومة لدى الناس، بل الأمر أعم من ذلك.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29].

تفسير قوله تعالى: (قل للؤمنين يغضوا من أبصارهم)

والأمر بالاستئذان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).

وبعد أن جاء الأمر بغض البصر ضمنياً في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]، جاء صريحاً في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]:

(يغضوا) أي: يقصروا، من غض الطرف ومنه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19] أي: اخفض من صوتك، ومنه أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات:3] أي: يخفضون أصواتهم.

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] أي: يخفضوا من أبصارهم، و(من) هنا اختلف في موقعها في معناها:

فمن العلماء من قال: إن (من) هنا زائدة، والمعنى: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم.

القول الثاني: إن من هنا للتبعيض، والمعنى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] أي: يغضوا أبصارهم أحياناً، وليس في كل الأوقات، إنما يغضونها عن المحرمات فقط؛ لأن البصر لا يغض دائماً، بل البصر يباح له النظر حيث شاء في المباح، فالرجل يباح له أن ينظر إلى أي شيء من امرأته، أما حديث: (النظر إلى فرج المرأة يورث العمى)! فهو حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.

وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النور [12-30] للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net