إسلام ويب

تتحدث هذه الآيات من سورة النساء عن الشفاعة الدنيوية، وأن العبد إن شفع فهو مأجور سواء قبلت شفاعته أم ردت، ثم بينت أدباً من آداب المجتمع المتمثل في إفشاء السلام، وبعد ذلك ذكرت أن كل بني البشر مجموعون لميقات يوم معلوم، ثم ذكرت مدى أهمية وحدة الكلمة وتآلف القلوب وخطورة أي خلاف، خاصة إذا كان بسبب من ليس له أي قدر عند الله كالمنافقين والعياذ بالله!

تفسير قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً... )

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فيقول الله سبحانه وتعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85] هذه الآية في الشفاعات الدنيوية، وهناك آيات تعد أصولاً في أبواب من أبوب الفقه، فمثلاً: أصلاً من الأصول في أبواب الحيل قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44] وأصلاً في الحيل المذمومة: قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163] ، فهناك آيات تعد أصولاً في أبواب معينة.

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85] فهذه الآية أصل في الشفاعات الدنيوية، فلم ترد الشفاعات الدنيوية في آية على التفصيل كما وردت في هذه الآية الكريمة.

أما الشفاعات التي ذكرت في آيات أخر في كتاب الله كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، وكقوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70]، وكقوله تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، وكقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].

فهذه الآيات وما على شاكلتها في الشفاعات الأخروية.

أقسام الشفاعة وبيان معناها

الشفاعات تنقسم إلى قسمين:

- شفاعات دنيوية، وشفاعات أخروية.

والشفاعات الدنيوية تنقسم إلى قسمين:

- شفاعات محمودة.

- وشفاعات مذمومة.

- وإن شئت ثلثت بشفاعات مباحة.

أما الشفاعات الأخروية فتزيد على أحد عشر نوعاً من أنواع الشفاعة.

والشفاعة معناها: التوسط للتجاوز عن الذنوب والجرائم، أو التوسط والتدخل لجلب خير لمسلم من المسلمين أو لشخص من البشر، أو لدفع شر عنه، ومن ذلك قول الشاعر:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاًيا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضينوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

واستشفعت من سراة الحي ذا ثقةفقد عصاها أبوها والذي شفعا

أي: والذي استشفعت به.

الجمع بين ما يبدو في آيات الشفاعة من تعارض

هناك آيات في الشفاعات الأخروية ظاهرها التعارض، فمثلاً قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، فالظاهر من هذه الآيات نفي الشفاعة مطلقاً، وبهذا تمسك جمهور المعتزلة الذين نفوا الشفاعات.

وجمهور أهل السنة أثبتوا الشفاعات لكنهم قيدوها بقيود:

- منها: أن الشفاعة تكون بإذن الله، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255 ] .

- وأن الشفاعة تكون لمن ارتضاه الله، كما قال الله : وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].

- ولا تكون الشفاعة إلا ممن يستطيعها من العقلاء، أو من ذكر فيه نص، كالقرآن فإنه يشفع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).

وحمل أهل السنة والجماعة الآيات التي نفت الشفاعة كقوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ [الأنعام:70] تبسل يعني: تسلم أو تسلم بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70]، على الكفار.

فقالوا: لا شفاعة لكافر على الإطلاق إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن العباس إن استجيز أن يطلق عليها شفاعة، قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أبي طالب : (يا رسول الله! أبو طالب عمك كان يحوطك ويمنعك فهل نفعته بشيء؟ قال: نعم. هو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فهذه الصورة الوحيدة في الكفار التي تحدث فيها شفاعات، ومع ذلك فهي منازع فيها.

فمن أهل العلم من قال: إن الكفار في النار على دركات، فمثلاً: قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88] فلكفرهم عذاب ولصدهم عن سبيل الله عذاب، ونحوه قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13].

فهذا وجه جمع أهل السنة والجماعة ودرئهم للتعارض المتوهم، فقالوا: الشفاعة مثبتة بشروط:

- أن تكون بإذن الله، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

- وأن تكون لمن ارتضاه الله وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28].

- ولا تكون في كافر.

- ولا تكون إلا ممن أوتيها.

المقصود بحديث: (أعطيت خمساً... الشفاعة)

والشفاعات الأخروية متنوعة أيضاً، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يخفى معناها على شخص، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي من الأنبياء قبلي -فذكر منها- الشفاعة)، فقد يفهم شخص من هذا الحديث: أن الأنبياء سوى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لا يشفعون، وهذا خطأ، فهناك ملائكة تشفع، وأنبياء يشفعون، بل وأهل إيمان يشفعون، والولد يشفع في أمه وفي أبيه، والأب يشفع في ولده إذا كانوا من أهل الإيمان... إلى غير ذلك.

فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت الشفاعة) محمول على نوع خاص من أنواع الشفاعات، وهي الشفاعة العظمى، هي التي أوتيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم...) الحديث وفيه: (يبلغ بالناس من الهم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقولون نستشفع بمن؟ انطلقوا إلى آدم فينطلقون إلى آدم فيقولون له: اشفع لنا عند ربك فيحيلهم آدم إلى نوح، ونوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيخر لله ساجداً، ثم يقول الله له: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطى، واشفع تشفع)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي دعوة وإنما اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيام)، فهذا بالنسبة للشفاعة العظمى صاحبها بإذن الله رسول الله عليه الصلاة والسلام.

بعض صور الشفاعة في الدنيا والآخرة

وهناك شفاعات أخرى: كالشفاعة لأهل الكبائر، ودليلها حديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وفي رواية: (أما إنها ليست للمتقين) فهي نوع من أنواع الشفاعة، تكون إنما للمتلوثين الخطائين، وهناك شفاعة في رفعة الدرجات في الآخرة، وشفاعة لإنقاذ أقوام قد سيقوا إلى النار فيشفع فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام.

والشفاعة دنيوية هي بمعنى الواسطة، والآية ذكرت قسميها: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، هذه الشفاعة الدنيوية حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا فلتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء).

فالشراح يقولون كما في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: أنه إذا أتاه السائل يسأل يسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يسكت بخلاً ولا أنه لا يريد إعطاءه إنما يقصد حتى يقول قائل: أعطه يا رسول الله فحينئذٍ يثاب الشـافع وتحدث المودة بين المسلمين ويشكره من شفع له، ومن ثم يعطي النبي صلى الله عليه وسلم السائل مسألته، فهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمور:

أولاً: مجلبة للمودة بين المسلمين، فعندما يأتي شخص يسأل أخاه، وتقول أنت للمسئول: أعطه، فإن أعطاه فإن السائل يحمد لك صنيعك.

ثانياً: أنك تثاب أمام الله سبحانه تعالى على هذه الشفاعة.

فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء). يعني: الغرض من شفاعتك أن تؤجر، سواءٌ قبلت أو ردت، فهذا يحمل الشخص على أن يتدخل بالشفاعة وإن كان يتوقع أن ترد؛ لأن الأجر حاصل بإذن الله.

ومن ثم لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عبداً يقال له: مغيث وهو زوج بريرة ، لما أعتقت بريرة -كما هي السنة في المعتقات- خيّرت هل تبقى مع زوجها العبد أو تفارقه فاختارت الفراق، فكان مغيث يحبها حباً شديداً ويطوف خلفها في الأسواق يبكي، فتسيل دموعه على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : (ألا تعجب من حب مغيث لـبريرة وبغض بريرة لـمغيث فقال العباس: لو شفعت له يا رسول الله؟ فشفع النبي صلى الله عليه وسلم عند بريرة فقالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: لا. إنما أنا شافع. قالت: لا حاجة لي فيه).

فهنا ردت بريرة طلب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان شافعاً لا آمراً، واختارت عدم الزواج، والرسول عليه الصلاة والسلام مأجور على كل حال.

فإذا استشفع بك شخص فلتشفع وإن ردت شفاعتك، ولا تتردد فأنت مأجور على كل حال، وفي هذا جلب للمودة والمحبة بين المسلمين، لكن.. تكون شفيعاً بالحق.

وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن بلال بن رباح أخذه أخوه ليشفع له عند قوم في زواج، فذهب بلال معه وقال: أنا بلال الحبشي كنت عبداً فمن الله عليّ بالعتق في الإسلام، وهذا أخي جاء يستشفع بي عندكم كي تزوجوه، وهو رجل سوءٍ فإن شئتم زوجتموه وإن شئتم تركتم، قالوا: بل نزوجه من أجل بلال ، فهنا بلال رضي الله عنه قال بالحق ومع ذلك لم تمنع هذه الشفاعة قدر الله سبحانه وتعالى المقدر.

حد الشفاعة المشروعة

الشفاعات إذا لم يكن فيها تحليل لحرام أو تحريم لحلال، أو أكل حق من حقوق المسلمين، أو تقديم شخص على شخص آخر هو أكفأ منه، فهي مستحبة، وللشافع نصيب وأجر.

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً [النساء:85] والشفاعة السيئة لها صور منها:

- الحيلولة دون إمضاء شرع الله وحكم الله، فإذا بلغت القضية الحاكم الشرعي ووجب فيها الحد، فحينئذٍ تحرم الشفاعة وتحرم الوساطة للتجاوز عن الحد، كما في حديث المرأة المخزومية التي سرقت فاستشفع القرشيون بـأسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله!! والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

وقد ورد حديث فيه ضعف: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره أو في حكمه) أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما بإسناد فيه ضعف.

فإن تقدمت لوظيفة -مثلاً- وكان في المتقدمين من هو أكفأ منك، فأتيت بواسطة لتكون أنت المستحق لهذه الوظيفة فهنا تحرم الشفاعة والوساطة؛ لأنك بذلك تأخذ حقوقاً ليست لك، وتتبوأ مكاناً غيرك أحق به منك، لكن إذا انتفت الموانع جاز، وهذا تفصيل في شأن الواسطة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الفرق بين الكفل والنصيب

قال الله: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85] بعض أهل العلم يقولون: إن الكفل يكون مخصوصاً بالشر، والنصيب يكون مخصوصاً بالخير، وهذا الاطراد ليس بلازم، وقال الله تبارك وتعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28] فهنا الكفل أطلق على كفل الرحمة. فأحياناً يكون الاصطلاح موضوع لمعنى معين، قد ينتقل إلى معنى غيره، وهذا على النادر.

فمثلاً: في تفسير قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا [النبأ:24-25] ما معنى البرد؟

من العلماء من قال: البرد هو برد الريح الذي تتنفس فتسبب برداً في الأجواف، ومنهم من قال: البرد الراحة. إلى غير ذلك، فجاء من العلماء من قال: إن البرد المراد به النوم، واستدل ببيت شعر:

بردت مراشفها عليّ فصدنيعنها وعن قبلاتها البرد

أي: أنها نامت برأسها على صدره ونحو ذلك، وأراد أن يقبلها لكن النوم غلبها فتركها على حالها، والشاهد أنه قصد بالبرد النوم.

فـابن جرير الطبري رحمه الله تعالى يقول ما حاصله: وهذا وإن استجيز أحياناً أن يطلق على النوم البرد، لكنه ليس هو الأغلب المعروف من كلام العرب، وتفسير كتاب الله على الأغلب المعروف من كلام العرب دون غيره، إلا إذا أتت قرينة تحملنا على أن نختار القول الذي ليس بغالب وليس بمشهور، كما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31] فسياق الآية رجح وجهة من قال: إن المراد باليأس هنا: العلم، أي: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو أشاء الله لهدى الناس جميعاً.

فالكفل أحياناً يطلق على نصيب الخير، وأحياناً يطلق على نصيب الشر.

إذاً: يفسر معنى الكفل على حسب القرينة التي وردت.

وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85].

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ....)

قال الله: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] هذه الآية عامة وبعمومها أخذ فريق من أهل العلم كـزيد بن أسلم وسفيان بن عيينة وغيرهما فقالوا: حتى إذا سلم عليك كافر فرد عليه تحيته أو رد عليه أحسن من تحيته، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وبقوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44]، وبقوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] وبقوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف:89] ونحو ذلك من الآيات.

حكم رد التحية على الكافر

قال العلماء: إن صدرت تحية من كافر رددنا عليه تحيته أو أحسن من تحيته لقوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] بينما نازع في ذلك فريق قوي الوجهة من أهل العلم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام -وفيه- وإذا سلم عليكم فقولوا: وعليكم) وفي رواية: (إن اليهود إذا سلموا فإنما يقول أحدهم: السام عليكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام: ومعنى السام: الموت والهلاك (فقولوا: وعليكم) فاستدلوا بهذا: على أن اليهودي أو النصراني إذا سلم عليك رد عليه بعليكم ولا تزد عليها شيئاً.

ومن العلماء من ناقش هذا الدليل -وهو من ناحية الصحة ثابت وصحيح- فقالوا: إنه لا تعارض بين قوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (وعليكم) لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (وعليكم) رد للتحية بمثلها، فلا تعارض بين الآية والحديث، وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين واليهود، فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال بعض أهل العلم أيضاً: إذا تأكدت أن اليهودي قال: السلام عليكم رددت عليه تحيته، وعلل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على اليهود عهده يلوون ألسنتهم كما قال الله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء:46] فيلوون السلام بسام، فلا يكاد يتفطن الشخص لذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فقولوا: وعليكم)، قال فريق من العلماء: فإن تأكدت أنه لم يلو لسانه جاز لك أن ترد عليه تحيته أو بأحسن منها.

بينما اعترض آخرون وقالوا: إن الله قال على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48] وأن السلام على من اتبع الهدى، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل رسالة إلى هرقل قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى،).

هذا مجمل القول في ذلك وحاصله: أن هناك من العلماء من قال: إذا سلم اليهود أو النصارى أو الكفار علينا، فنرد بقولنا "وعليك" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم اليهود أو النصارى فقولوا: وعليكم)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم إذا سلموا فإنهم يقولون: السام عليكم فقولوا: وعليكم).

ومن أهل العلم من قال: إذا تأكدت من صحة كلامهم رددت عليهم السلام بما قالوا أو زد عليه، لقوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، ولقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] وللأدلة التي تقدمت.

أصل التحية والسلام

قال الله: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء:86]:

ما هي تحية المسلمين؟ تحية المسلمين: السلام عليكم. بدليل ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً ثم قال له: اذهب إلى هؤلاء الرهط الجلوس من الملائكة، فسلم عليهم وانتظر ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك، فلما أتى إليهم قال: السلام عليكم. فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله) وفي رواية (وبركاته) فكانت هذه تحية ذرية آدم.

ومن ثم قالها موسى عليه الصلاة والسلام للخضر لما رجع إلى مجمع البحرين ووجده مسجىً بثوب أخضر فقال: (السلام عليكم. فقال له الخضر: وأنى بأرضك السلام -أي: أنت جئت من عند الفراعنة وأنى بأرضك السلام- فقال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟...) إلى آخر الحديث، فتحية المسلمين هي: (السلام عليكم) فإذا قلت لشخص: السلام عليكم فلك عشر حسنات، وإذا زدت السلام عليكم ورحمة الله فلك عشرون حسنة، وإذا زدت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلك ثلاثون حسنة، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى.

يعني: كلمة واحدة لا تفرق المسألة، تدخل على قوم تقول لهم: (السلام عليكم) بعشر حسنات، ما هو الذي يحملك على أن تبخل على نفسك بعشرين حسنة أخرى، وتمتنع عن قولك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ من ناحية الجواز الكل جائز، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].

تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين .... سبيلاً)

خرج المنافقون للجهاد مع رسول الله في غزوة أحد أخذ ابن أبي بن سلول يخذل من خرج فرجع ومعه ثلث الجيش، فلما رجعوا مع عبد الله بن أبي حرموا ثواب الجهاد مع رسول الله، ولكن هذا الرجوع في الأصل هو من الله بسبب ما كسبوا من الذنوب.

يقول الله تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155] ما السبب في توليهم ليس قوة ولا كثرة العدو، إنما بسبب ذنوب عملوها فكانت سبباً في فرارهم يوم أحد.

ويقول بعض العلماء: إن الرماة لما كلفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بألا يغادروا مكانهم في الجهاد ولا يتعدوه ولزموا ذلك انتصر المسلمون أول الأمر، فلما خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالثبات وانقضوا على الغنيمة ودالت الدولة للمشركين فهجموا على أهل الإسلام، فقال فريق من الذين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: أفر خير لي من أن أقتل وأنا عاص، ففر من القتال بسبب الذنب الأول وهو عدم امتثال أمر رسول الله بالثبات في الأماكن، فجاء ذنب عقب الذنب الأول، وجاء الفرار نتيجة عدم امتثال أمر رسول الله.

وثم التماسات أخرى يلتمسها العلماء، والخلاصة: أن المعاصي سبب لزوال النعم، قال الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] تفيد أن الله ردهم عن الغزو مع الرسول بذنوبهم، لذلك لما قال الله لموسى وأخيه هارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:43-44] بدأ موسى عليه السلام يطلب من الله أن يشرح صدره ويغفر ذنبه حتى يستطيع مجابهة هذا الظالم الأثيم.

وكذلك طائفة طالوت لما برزوا لجالوت وجنوده طلبوا من الله أن يغفر لهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147] فالذنب يدمر الشخص أكثر من سلاح العدو، والطاعة تقوي الشخص أكثر من السلاح اليدوي الذي في يده.

قال الله: فَمَا لَكُمْ [النساء:88] أي: مالكم يا معشر المسلمين.

فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] أي: مالكم يا معشر المسلمين في أمر المنافقين مختلفين إلى فئتين: فئة منكم -يا أهل الإيمان- تقول: نقتلهم، وفئة تقول: نتركهم.

وهذا لما عاد المسلمون بعد أحد إلى المدينة، وتشاورا في أمر من رجع عنهم في الغزوة من المنافقين، واختلفوا فيما يفعلونه بهم، فقال فريق منهم: نتركهم لعلهم يهتدون، وقال فريق آخر: بل نقتلهم؛ لأنهم خذلونا، فالله عتب على المسلمين أن يحصل الخلاف بينهم بسبب هؤلاء المنافقين.

والآية أيضاً فيها حث على الائتلاف وتوحيد الكلمة، وأن هذا الذي حصل ما كان ينبغي أن يحصل.

الرد على المعتزلة

قال الله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] الله سبحانه هو الذي أضلهم لعلمه أنهم يستحقون الضلال.

وهذه الآية فيها رد على المعتزلة القائلين بأن الرب ليس له تدخل في إضلال العباد، ومنهج أهل السنة أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال الله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] كما في قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ [الأعراف:186]، وفي قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] فإن قال قائل: لماذا يضلني الله، نقول: الله أعلم بمن يستحق الضلال وأنت مكلف أن تعمل كما أمرك الله وليس لك وراء ذلك سؤال، فرب العزة يقول: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ [النساء:88]، المراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، فالمعنى: أتريدون أن توفقوا للإيمان وتحملوا على الإيمان قوماً أراد الله لهم الضلال، وهذا لا يستطاع أبداً، إنما الهداية التي نستطيعها هي هداية الدلالة، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي [الشورى:52] أي: لتدل إلى صراط مستقيم، فهداية التوفيق هي المعنية في هذه الآية: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].

أي: لن تجد أي مدخل أبداً تدخل به إلى قلب هذا الذي أراد الله له الضلال، كما قال نوح: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:8-9] لو تسلك كل الطرق: الهدوء، السر والجهر أمام الملأ من الناس للتألف فلن يهتدي؛ لأن من يرد الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً.

قال الله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:88-89] فلا يكتفون بكفرهم، بل يريدون منكم الكفر كما كفروا، كما قال تعالى: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118] وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27] وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9].

الأسئلة

حكم الصدقة الجارية عن الميت

السؤال: هل الصدقة الجارية للميت تكون قبل موته فقط أم تجوز بعد موته من قبل أهله؟

الجواب: تجوز قبل موته وتجوز بعد موته، وقد سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أمي افتلتت نفسها يا رسول الله -أي: ماتت- وأراها إن تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: تصدق عنها)، وهل يجوز أن تكون الصدقة من مال أبنائه أو أقربائه أو ما إلى ذلك أم يجب أن تكون من ماله الخاص؟ يجوز أن تكون من ماله أو من مال أقربائه أو من مال أصدقائه إذ لا دليل يخصص.

حكم قراءة القرآن للميت

السؤال: ما حكم قراءة القرآن للميت؟

الجواب: قراءة القرآن على الميت لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ورد في الحديث من قراءة (يس) فضعيف.

حكم زيارة النساء للمقابر

السؤال: ما حكم زيارة النساء للمقابر وقراءة القرآن فيها؟

الجواب: الحاصل في زيارة النساء للمقابر أنها إذا لم تصاحبها بدعة أو أمر محرم فهي جائزة، أما الدليل على الجواز فقول أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (ماذا أقول إذا أتيت المقبرة يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإن إن شاء الله بكم لاحقون)، وكذلك (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: اتقي الله واصبري) ولم يأمرها بمغادرة المقبرة.

أما المانعون فاستدلوا بحديث (لعن الله زوارات القبور) وبحديث فاطمة رضي الله عنها (أن النبي رآها مقبلة من مكان فقال: من أين أتيتي يا فاطمة ؟ قالت: يا رسول الله! من عند آل فلان كنت أعزي إليهم ميتهم، قال: هل بلغت معهم القدي -أي: المقابر- قالت: لا. قال: لو بلغتيها ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيكِ) فهذا الحديث الأخير بنى عليه بعض العلماء أن ذهاب النساء للمقبرة كبيرة من أكبر الكبائر، وسطروا ذلك في كتبهم، وهذا التسطير اجتهاد خاطئ، فالحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا شيء ثم إنه قرن زيارة القبور بالشرك بالله، فمن ناحية المعنى كذلك مخدوش فيه، أما حديث (لعن الله زوارات القبور)، فوجهت إليه بعض الاتجاهات والتأويلات.

أحدها: أن الحديث ابتداء ضعيف بلفظ "زائرات"، أما لفظ زوارات فهو محمول على اللواتي يكثرن من الزيارة ويصاحبن الزيارة بالبدع.

والاتجاه الثاني: أنه منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).

ومما قوى قول الذين ذهبوا إلى النسخ ما صح عن أم المؤمنين عائشة عند الحاكم وغيره: (أنها أقبلت من مكان فسألها سائل من أين أتيت يا أم المؤمنين؟! قالت: من عند قبر أخي عبد الرحمن ، قال لها: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم قد نهى ثم رخص لنا فيها) فهذه أم المؤمنين عائشة يصح عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لها في زيارة القبر وهي أعلم بشأن النساء من غيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم الصلاة عن الميت

السؤال: ما حكم الصلاة عن الميت، وقراءة القرآن عنه وهل تلحق بالصدقة والحج والصوم؟

الجواب: الأصل عند كثير من العلماء أن العبادات توقيفية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصدقة عن الميت، وفي قضاء النذر عن الميت، وفي قضاء صوم النذر عن الميت، وفي قضاء الحج عن الميت، لكن لم يرد لنا مع كثرة الميتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شخصاً صلى عن شخص قد مات، ولا أن شخصاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن عن شخص قد مات، فأصل العبادات توقيفية وما ورد فيه من نص فيخرج من هذا العموم، والذي لم يرد فيه نص لا يلحق بما ورد فيه النص.

حكم إعطاء هدية ما لغير من شريت له

السؤال: هل يأثم من اشترى شيئاً وعقد النية على إعطائه هدية لفلان من الناس ثم أعطاه لغيره؟

الجواب: لا يأثم، حتى أصل في أشد من ذلك وهو: إذا أعطيت الكتاب هدية لشخص ثم وجدت شخصاً آخر أحوج منه فأخذت منه الكتاب بعد أن أعطيته، فالسؤال هنا: قبل أن يعطيه الآخر هل يحرم عليه أخذه من الأول؟ هذه مسألة تناقش فيها الإمامان الجليلان أحمد والشافعي رحمهم الله تعالى وهي مسألة: الرجوع في الهدية، فقال الإمام أحمد : الرجوع في الهدية حرام، وقال الشافعي : بل يكره. فسأل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الإمام أحمد: ما مستندك يا أحمد في القول بتحريم الرجوع في الهبة أو في الهدية؟ فقال الإمام أحمد: مستندي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه) فقال الإمام الشافعي رحمه الله: وهل حرام على الكلب أن يرجع في قيئه؟ فقال الإمام أحمد : في الحديث : (ليس لنا مثل السوء الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه) فلم يقتنع الإمام الشافعي بمسألة الإمام أحمد (ليس لنا مثل السوء).

صحيح أن مثله مثل سيئ لكن هل يحرم عليه؟ الأصل أن الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه كما في صحيح البخاري، فهذا هو الوجه في هذا الباب، فالشاهد أن الأخ اشترى الهدية ناوياً أن يهديها لشخص فجاء شخص آخر فأهداها له، فليس هناك أي إثم إنما هو محسن، والله يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91].

حكم مخالطة أهل الكتاب بنية دعوتهم للإسلام

السؤال: بعض الناس يدعي أنه يجادل ويخالط أهل الكتاب وخاصة النصارى بغرض دعوتهم إلى الدين الإسلامي هل هذا يجوز؟

الجواب: على نيته. إن كان ينوي بذلك دعوتهم إلى الله جاز ولا إشكال في ذلك.

الوفاء بالنذر

السؤال: نذرت نذراً أني عندما أحصل على شهادتي وأعمل، أنَّ أهب أول راتب لي لله عز وجل، فقال لي بعض الناس: لا يجوز؛ لأن لك حقاً في هذا المبلغ، ولتعبك في تحصيله فتعطي جزءاً فهل هذا صحيح؟

الجواب: النذر يمضى، فيلزمها أن تدفع راتب أول شهر ولا تبخل، فالله يقول: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر القرون السيئة فقال: (ثم يأتي بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون).

حكم زيادة (تعالى) في السلام

السؤال: هل يجوز أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؟

الجواب: السنة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لكن هناك دائماً قوم أصحاب فلسفات أكثر من اللازم، تخرج بهم من الفاضل إلى المفضول، فالرسول عليه الصلاة والسلام -مثلاً- قال: (يا فاطمة ! ما يمنعك أن تقولي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً أو إلى أحد من خلقك) فيأتي من يدعو فيقول: ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ويزيد (ولا أقل من ذلك)، وهي زيادة لم ترد، والأولى أن نمتثل تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا.

مثال آخر: دعاء اللهم اهدنا في فيمن هديت، تسمع أحدهم يقول: اللهم اهدنا بفضلك فيمن هديت، فيزيد بفضلك، ويقول: وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فيزيد: واصرف عنا، فهذا ترك الفاضل إلى المفضول، فهدي محمد عليه الصلاة والسلام أكمل الهدي وقد يحدث هذا من أئمة وخطباء كبار، وهو بذلك يستدرك على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون قال في بداية الخطبة: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيكون الاقتصاد واتباع السنة أولى من الإحداث في الدين، ولعل كلمة واحدة من دعاء رسولنا عليه الصلاة والسلام تجمع لك شتات مائة كلمة، ولعل دعوة واحدة من دعوات رسول الله عليه الصلاة والسلام أبرك من مائة دعوة غيرها، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلمنا جوامع الكلم، وهديه أكمل هدي عليه الصلاة والسلام، فمن ناحية الجواز جائز لك أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لكن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل، فنقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إلى هنا بارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النساء [85-88] للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net