إسلام ويب

تعتبر الأسرة النواة التي يقوم عليها المجتمع، وإذا صان رب الأسرة أسرته عن المشاحنات والمنافسات فقد توطدت أركان هذه الأسرة؛ ولا يستقيم حال الأسرة إلا إذا أُعطِي كل فرد فيها حقه وأعطى ما عليه من حق، وتعتبر الحقوق المالية ركيزة مهمة تعتمد عليها الأسرة في المحافظة على كيانها في نطاق الشرع وحدود العرف.

حق قيم البيت على أهل بيته

اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن؛ قولك حق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق ، والنار حق.

ثم أما بعد:

فمحاضرتنا في الحقوق الأسرية، فللزوج حق وللزوجة حق وللابن حق، ويجب أن يعطى كل ذي حقه كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: (إن لزوجك عليك حقاً، وإن لولدك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً)، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26].

فجدير بكل منا أن يعرف ما له وما عليه في بيته، فما منا إلا أب أو ابن أو أخ أو أخت أو زوجة أو زوج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، فكل ينبغي أن يعرف ما له وما عليه في البنية الأسرية.

أولاً: بالنسبة للزوج أو للأب فهو القيم في البيت، وهذا المنصب نصبه الله سبحانه وتعالى فيه، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته).

فالقيم في البيت هو الرجل وهو الزوج، فله حقوق من أعظمها بل أولاها وأولها حق السمع والطاعة في البيت، فلابد أن يسمع أهل البيت وأن يطيعوا للزوج، وذلك في طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فطاعة الأبوين من طاعة الله سبحانه ومن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من البر بالوالدين، فقد أمر الله بذلك في كتابه الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة لوقتها. قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين)، وتعددت الآيات التي تثبت هذا المعنى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، والآيات في هذا الباب في غاية الكثرة ولا تخفى عليكم، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فمن حق الأب في البيت أن يسمع له ويطاع، ولكن السمع والطاعة هذه مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر الأب أو أمرت الأم بمعصية الله سبحانه وتعالى فلا سمع لهما حينئذٍ ولا طاعة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8]، ويقول الله سبحانه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم:29]، وقال سبحانه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال سبحانه في شأن الأب الكافر: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].

إذا أمر الأب أو أمرت الأم بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة لهما حينئذٍ، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إنما الطاعة في المعروف)، وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن ابنتي تمرق شعرها وإن زوجها يستحثني على الدخول بها، أفأصل شعرها يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لعن الموصلات) أي: اللواتي يصلن شعورهن بشعور أخرى، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (لعن الله الواصلة والمستوصلة)، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأم من وصل شعر ابنتها وإن طلب الزوج منها ذلك.

ولكن مع معصية الأبوين في دعوتهما إلى الحرام ينبغي بل ويجب أن يصاحبا بالمعروف كذلك، فإن الله يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فمع عدم الطاعة هناك مصاحبة بالمعروف كذلك.

وفي هذا المعنى يقول الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، وسلام عليك هنا معناها: أمان عليك مني، فلن أتعرض لك بأذىً ولن أمسك بسوء، فأنت أب وأنت والد وإن كنت مشركاً.

وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المتقون، ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: لهم رحم سأصلها بصلتها، أي: لهم حق الصلة.

وفي هذا أيضاً قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9].

وفي هذا قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، فقد جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله! إن أمي أتتني وهي راغبة -وهي مشركة- أفأصل أمي يا رسول الله؟! قال: صلي أمك) فالأب وإن كان مشركاً والأم وإن كانت مشركة لهما حق البر والصلة وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان:15]، فلا يطاعان في ذلك، ومع هذا لا تقطع صلتهما، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، إن أرسلاك إلى مكان سوء مثلاً فلا يطاعان، وذلك استنباطاً من حديث الساحر والراهب مع الغلام، فكان أهل الغلام يرسلونه إلى الساحر فيختلف إلى عابد فيستمع منه، ثم يرجع إلى أهله فيقول لهم: حبسني الساحر. وإذا تأخر على الساحر وأتاه قال: حبسني أهلي، فإذا أرسل إلى مكان فيه شر أو سوء فلا يستمع إلى الأبوين ولا يطعهما في معصية الله سبحانه وتعالى.

حق رب الأسرة في زواج أبنائه وطلاقهم

تأتي بين الأوامر بالطاعة والأوامر بالمعصية أوامر أخرى فيها نزاع بعض الشيء بين أهل العلم، فمثلاً: إذا أمر الأب ولده بتطليق زوجته، هل يطيع الولد والده في تطليق الزوجة أو لا؟ وكذلك إذا ما أمر الوالد ولده بالزواج من فتاة بعينها، هل عليه أن يطيع والده في الزواج بها؟ وكذلك إذا ما أجبرت الفتاة على أن تتزوج رغماً عنها هل تفسخ عقود الأنكحة؟ هذه مباحث نتعرض لها على وجه السرعة.

فإذا كان الأب صالحاً ومقصده مقصداً شرعياً في أمره بتطليق الزوجة لرؤيته لها تخالف أوامر الله، وتخالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الباعث له على الأمر بتطليقه هذه المرأة هو الوقوف على حدود الله؛ فيسمع له حينئذٍ ويطاع، قال ابن عمر : (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يبغضها، فذهب وشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لي: أطع أباك؛ فطلقتها) وبهذا أوصى الخليل إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل صلى الله عليه وسلم، أن يغير عتبة بابه، ألا وهي تلك المرأة التي كانت متسخطة لأقدار الله غير مستبشة بالأضياف وغير مكرمة لهم، فأوصاه أبوه بأن يغير عتبة بابه.

أما إذا كان الباعث للوالد على الأمر بتطليق المرأة هو عفتها وتحجبها وعدم اختلاطها بأبناء البنين، فلا يسمع له ولا يطاع؛ حينئذٍ فإن في السمع والطاعة له نوعاً من أنواع الشر، ونوعاً من أنواع الفساد، والله لا يحب الفساد، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. فهذا بالنسبة لمسألة التطليق.

أما بالنسبة لمسألة التزويج، فهل للأب أن يتدخل لتزويج ولده أم أنه ليس له الحق في ذلك؟ له الحق من جانب، وليس له الحق من جانب آخر، ليس له الحق في أن يفرض على ولده الزوجة التي يريدها، وقد ينفعل الأب أو ينجذب تجاه من يحب وليس الشخص مكلفاً بما يحب غيره، بل القلوب مردها إلى الله سبحانه وتعالى، لكن للوالد أن يشير، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (زوجني أبي من امرأة لها منصب وجاه فكان يتعاهدها فيسألها عن حالها مع زوجها، فقالت: والله ما كشف لنا ثوباً منذ أن دخلنا عليه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. )، فذكر الحديث وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكني أنام وأرقد وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وفي الحديث: (وإن لأهلك عليك حقاً) أو كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليس للأب أن يجبر ابنته بحال من الأحوال على أن تتزوج بشخص لا تريده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، قيل: إنها تستحي يا رسول الله! قال: إذنها صماتها) وقالت خنساء بنت خدام : (زوجني أبي بابن عم لي ليرفع به خسيسته، وأنا كارهة، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحي).

حق الزوج في تزين الزوجة له

هل من حق الزوج على زوجته أن تتزين له، أم أن ذلك من المستحبات وليس من الواجبات؟

ليس هناك دليل يوجب على المرأة أن تتزين لزوجها، إنما زينتها للزوج من باب المستحب لها فقط واتباع آثار السلف الصالح؛ فـعائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (استعرت قلادة من أسماء) والقلادة هي العقد، وذلك كي تتزين بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث الطويل الذي فيه فقدانها للقلادة، ثم عثورها على القلادة، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها لبعض التابعين: انظر إلى ثوبي هذا إن جاريتي هذه تستنكف أن تلبس هذا الثوب وما كانت امرأة بالمدينة تقيم -أي: تزف- لزوجها إلا أرسلت إليّ تستعيره مني، وهذه الجارية تأنف أي تستكبر أن تلبس هذا الثوب.

فيجرنا هذا إلى بحث فقهي سريع مختصر وهو: ما هو حكم استعارة الزوجة لثياب كي تتزين بها لزوجها؟ هل يشرع لها أن تستعير من امرأة أخرى ثياباً تتزين بها للزوج؟

الظاهر أن ذلك يجوز، لكن في أمر الثياب تفصيل، فثم ثوب من الثياب إذا استعارته امرأة كي تتزين به لزوجها وأخبرت زوجها لمن هذا الثوب، وخاصة تلكم الثياب الداخلية؛ فإن زوجها يتصور المرأة التي تلبس هذا الثوب، فيكون المنع من قبل حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها، ولا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) ففي مثل هذه الحالة عندما تصف له امرأة أخرى بهذا الفعل فقد تثير فيه الشر وتحرك فيه الفساد، فالنصوص العامة حينئذٍ تمنع من مثل هذا.

وإن لم يكن في المسألة نص خاص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ثم ثياب عامة تستعار كفساتين العرس أو الزفاف التي تزف بها المرأة، فإنها لا تكاد تصور امرأة ما بعينها وبشخصها، فالمناط مع هذا إن وجد الشر والفساد والوصف امتنعت الاستعارة، وإن لم يوجد ما يهيج على الفساد ويعين على الرذيلة فالأصل فيه الإباحة لما سمعتموه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومن فعل فعلها، فيجوز حينئذٍ للمرأة أن تستعير الثياب والقلائد، وأن تستعير الخواتيم، تتزين بها لزوجها، وليست نساؤنا بخير من نساء رسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

حق الزوج في خدمة زوجته له

هل من حق الزوج في البيت على زوجته أن تقوم بخدمته، أم أن هذا من الأمور المستحبة؟

يستحب للمرأة استحباباً شديداً أن تخدم في بيت زوجها، وذلك هو شأن النساء الصالحات وفضليات النساء من نساء الأنبياء وبنات الأنبياء رضي الله تعالى عنهن.

فهذه سارة كما ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، لما أقبل الأضياف على زوجها قال سبحانه: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ [هود:71] أي: قائمة على خدمة الأضياف.

وجاءت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعت بمقدم رقيق -أي: خدم- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ما تلقى في يديها من أثر الرحى التي كانت تطحن بها، وطلبت منها أن تنقل شكواها إلى رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت له عائشة ما لقيت فاطمة من أثر الرحى في يديها؛ إذ يداها تشقت من العمل الشاق المرهق المتعب في طحن البر وإدارة الرحى، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً وقال لهما (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ تسبحان عند النوم ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين، وتكبران أربعاً وثلاثين؛ فذلكم خير لكما من خادم)، استنبط منه العلماء أن ذكر الله يورث قوة في البدن تعوض عن الخدم. وقبل أن ننتقل من هذه المسألة يطرح سؤال مفاده: هل يشرع تواجد الخدم في البيت؟ أو أن الأولى ترك الخدم؟

ورد في باب الخدم الذي سمعتموه من قول رسول الله لـعلي وفاطمة : (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم) وأرشدهما الرسول إلى التسبيح والتحميد والتهليل، لكن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كان به الخدم، في قصة ذهاب النبي إلى بعض أزواجه فأتى الخدم بصحفة من عند بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقامت الزوجة التي عندها رسول الله فقلبت الصحفة وهي في يد الخادم. فأثبت هذا الحديث وجود الخدم في بيت رسول الله، وكذلك في بيت أبي بكر الصديق قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها -وهذا في باب خدمة المرأة لزوجها-: (كنت أسوس فرس الزبير وأجمع له النوى وأدق النوى.. قالت: ثم أتى إلى أبي بكر الخدم فأرسل إليّ خادماً فكأنما أعتقني). فالخادم يجوز اتخاذه إذا وجدت سعة في ذلك.

مع أن الأولى والأفضل ما أرشد إليه رسول الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختار لأهل بيته الأفضل خاصة ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، باعتبارها سيدة نساء أهل الجنة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار لها الأكمل والأفضل.

وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليها ذات ليلة فوجد على بابها ستراً موشياً فلم يدخل البيت ورجع مغضباً، فأرسلت فاطمة في إثره علياً تقول له: ماذا صنعت يا رسول الله، لم تدخل البيت؟ فقال: ما هذا الستر؟ قالت: يا رسول الله! مرني فأصنع به ما تشاء. قال: (أرسلي به إلى بيت فلان) أهل بيت لهم فيه حاجة، فأرسلت فاطمة رضي الله تعالى عنها بهذا الستر إلى أهل البيت؛ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار لأهل بيته الأفضل.

ففي باب خدمة المرأة لزوجها شكت فاطمة ما تجد من أثر الرحى في يديها لرسول الله، وقالت أسماء : كنت أسوس فرس الزبير وأعلفه، وأجمع له النوى وأدق له النوى، وكان ذلك على بعد ثلاثة فراسخ من مدينة رسول الله. وأيضاً في الباب قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـجابر : (يا جابر! تزوجت؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: بل ثيباً يا رسول الله! قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك. فقال: يا رسول الله! إن عبد الله قد توفي وترك لي تسعة أخوات بنات، فخشيت أن أجيهن بفتاة خرقاء لا تحسن صحبتهن، فتزوجت بامرأة ثيب تحسن صحبتهن، وتمشطهن وتقوم بخدمتهن) أخذ من هذا أيضاً أن حال النساء على عهد رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام كان في خدمة الأزواج.

وقال صلوات الله وسلامه عليه كذلك: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة: (أذات زوج أنتِ؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: كيف أنتِ منه؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه -أي: لا أقصر في حقه إلا في شيء لا أطيقه- قال: انظري أين أنتِ منه؟ فإنما هو جنتك أو نارك)، وجاءت فتاة إلى رسول الله مع أبيها وأبوها يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج، فقالت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أتزوج حتى تخبرني بحقي على زوجي وبحق زوجي عليَّ، قال: لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه، قالت: إذاً والذي بعثك بالحق لا أتزوج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنكحوهن إلا بإذنهن). وبهذا استدل فريق كبير من أهل العلم بل الجمهور على أن النكاح لا يجب على المرأة، حتى ابن حزم الظاهري الذي أبعد في مسائل النكاح مباعد شتى لم يقل بوجوب النكاح على النساء لهذا الحديث ولغيره.

ومن الأدلة التي سيقت في باب خدمة النساء للرجال في البيوت ما ورد عند ابن أبي شيبة بإسناد فيه ضعف فحواه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على علي رضي الله عنه بالخدمة الظاهرة، وقضى على فاطمة رضي الله عنها بالخدمة الباطنة) ولكن إسناد هذا الخبر لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ومما استدل به كذلك على مسألة خدمة المرأة لزوجها قول الله جل ذكره: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، هذه عمدة استدلالات من قال باستحباب خدمة المرأة لزوجها في البيت في حدود استطاعتها وفي حدود طاقتها.

وجمهور أهل العلم يرون أن هذه الخدمة على الاستحباب وليست على الإيجاب، فليس هناك نص صريح يوجب عليها الخدمة فهي إما نصوص تبين حال الفضليات، والصحابيات، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً صريحاً في هذا الصدد فقيل له: (يا رسول الله! ما حق أحدنا على زوجته؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه -في مجمل الروايات-: ألا تمنع نفسها وإن كانت على قتب) أي: إذا دعاها إلى الجماع لا تمنعه نفسها، وفي روايات أخر (وألا تجلس أحداً على تكرمته إلا بإذنه) وفي روايات أخر: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) أي: صوم التطوع.

قالوا: فهذه الحقوق وجبت بنصوص: (لا تمنعه نفسها وإن كانت على قتب)، (وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه) و(ألا تصوم إلا بإذنه)، وكذلك الخروج من البيت لا تخرج إلا بإذنه، قالت أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: (يا رسول الله! ائذن لي أن آتي أبوي، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، فدل ذلك على أن خروجها من البيت يكون بإذن، ودل على الاستئذان أيضاً قوله صلوات الله وسلامه عليه: (إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فائذنوا لهن).

بقي مبحث آخر يتعلق بما ذكر وهو إذا كان الزوج غائباً هل يلزم المرأة أن تستأذنه في صوم التطوع؟

للعلماء في ذلك وجهان:

أحدهما: لا يلزمها أن تستأذنه في صوم التطوع، وذلك لأن النبي قال: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) أي حاضر إلا بإذنه، فإذا لم يكن الزوج شاهداً فلا ينتحل هذا الحديث، ثم إن المعنى الذي من أجله تمتنع عن الصوم غير موجود.

أما الذين قالوا: تستأذن -وهم قلة- فقالوا: إن له الحق في أن تكون زوجته ذات جمال ووسامة، ومن حقه أن يؤدي بها إلى ما يتعفف به، فهذا هو الوجه في ذلك.

نرجع إلى الذي كنا بصدده وهو: مسألة خدمة المرأة لزوجها، فرأى فريق من العلماء وهو الجمهور: أن ذلك يستحب لها استحباباً شديداً، ورأى آخرون الوجوب، والقائلون بالاستحباب أكثر، والله سبحانه أعلم.

حكم تصدق المرأة من مالها أو مال زوجها

وهل من حق الزوج أن يمنع زوجته من التصدق من مالها الخاص بها إلا بإذنه؟

هذه المسألة جمهور العلماء فيها على أنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من أن تتصدق بمالها إذا شاءت أن تتصدق، وقد جاء في هذا الباب جملة من الأدلة العامة والخاصة، فمن الأدلة العامة على ذلك قوله تعالى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35] وقال في آخر الآية: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35] وعموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] وهي مخاطبة بقوله تعالى في الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .

وأدلة خاصة في هذا الباب منها ما ورد في الصحيح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم اتجه إلى النساء فقال: (يا معشر النساء! تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار، قلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير).

الشاهد: (فقامت المرأة تلقي خرصها في حجر بلال ، وبلال يجمع الصدقات) ونحوه في حديث جابر ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم جميعاً، فهذه الأحاديث أفادت أن النبي لما حثهن على الصدقة بادرن بالصدقة، ولم يرد أنهن ذهبن إلى الأزواج فاستأذن الأزواج للتصدق إنما بادرن بإلقاء الصدقة في ثوب بلال.

وقد ورد في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل للمرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها)، فهذا الحديث أشكل على بعض أهل العلم لتعارضه مع العمومات التي ذكرت من أن النسوة قمن فتصدقن في حجر بلال ، وبالنسبة لإسناد هذا الحديث فهو من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمقرر عند أهل الحديث أن هذا الإسناد حسن إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، أما إذا عورض بما هو أقوى منه، فالأمر كما قال الإمام أحمد : إن أهل العلم إذا شاءوا أن يحتجوا برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده احتجوا، وإن شاءوا أن يردوا رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ردوها.

هنا يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في خبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها) قال: هذا الخبر ليس بثابت عندنا، ثم هو مخالف للكتاب، ثم هو مخالف للسنة، ثم هو مخالف للأثر، ثم هو مخالف للمعقول، والأمر كما قال الشافعي رحمه الله تعالى.

وحمله بعض أهل العلم على الأدب لا على الإيجاب، وعلى التوادد والتراحم، فإن المرأة إذا تصدقت من مالها بغير إذن زوجها كان في نفس الزوج شيء، قالوا: قد يدفع هذا الشيء إلى التحسس إذ العلاقات بين الزوجين مبنية على التوادد والتراحم، كما قال الله سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

ثم ننتهي إلى شيء آخر: هل للمرأة أن تتصدق من مال زوجها من بيته بغير إذنه

التحرير يقتضي أن ذلك مبني على حجم الصدقة، وعلى الأعراف السائدة، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة فلها النصف، وللخادم النصف، وللزوج مثل ذلك) فقيد الإنفاق هنا بغير الإفساد، فمثلاً في اصطلاحاتنا إذا كانت المرأة تخبز خبزاً ومر بها فقير فناولته رغيفاً فلا بأس بذلك؛ إذ الأعراف قد جرت على ذلك، ثم إنها إن امتنعت وصفت في أوساط النساء بالشح، وبالبخل، وقد جاءت الشريعة الغراء بحفظ الأعراض من سيئ الأوصاف.

(وللخادم): الخادم الذي يكون في بيوت الأثرياء القائم على المخزن، أحياناً الزوجة تقول له: أعط هذا السائل كذا، فمن الخدم من هم بخلاء، ومنهم من هم كرماء يفرحون بأمر سيدهم لهم، أو بأمر صاحب البيت لهم بالإنفاق، أما الإفساد فالأمر فيه ليس على ذلك.

ثم: هل من حق الزوج أن يقبل من زوجته صدقة عليه؟ أي هل للزوجة أن تتصدق على زوجها، أو ليس لها ذلك؟

الأموال التي يأخذها الزوج من زوجته إما كهبات تهبها الزوجة لزوجها، جائز له أخذها، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4] وفي قوله هذا فقه للعطاء، فلا ينبغي للمرأة أن تعطي للزوج كل صداقها، بل إن أعطته تعطيه شيئاً وتدخر شيئاً لنفسها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) فقال: (دينار أنفقته على نفسك ودينار أنفقته ..) إلى آخر الحديث لكن أفضلها دينار (أنفقته على نفسك)، فإن وهبت المرأة شيئاً لزوجها فلا تهبه كل صداقها إنما تهبه بعض الصداق لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].

كذلك في قوله جل ذكره: فَإِنْ طِبْنَ [النساء:4] أي: إن طيبت المرأة نفساً بالعطاء فكله هنيئاً مريئاً، أما إذا احتلت أنت أو ضغطت عليها كي تعطيك الأموال أو ابتززت أموالها بأي صورة من الصور فالله يقول: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [البقرة:229] فلا يحل مال امرأة مسلم إلا عن طيب نفس منها، فليس للزوج أن يأخذ من مال زوجته شيئاً إلا عن طيب نفس، للآية الكريمة: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي صحح بمجموع طرقه: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) فإذا وهبت المرأة شيئاً من مالها لزوجها جاز للزوج أن يقبل هذا المال، إذا طيبت نفساً بذلك، لكن هذا هو الشق الأول من الأموال، أو النوع الأول من الأموال التي تعطيها الزوجة لزوجها.

ثم صدقة النفل: هل للزوجة أن تتصدق صدقة نفل على زوجها؟

نقل الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام الإجماع على جواز ذلك، أي: على جواز تصدق المرأة صدقة النفل على زوجها، أما صدقة الفرض ففيها شيء من الخلاف، والراجح أن صدقة المرأة صدقة الفريضة على زوجها جائزة إذا كان من المصارف الثمانية.

مشروعية إعطاء الزوجة زوجها زكاة مالها والعكس

بالنسبة لصدقة الفرض هل يجوز للمرأة أن تتصدق أو أن تخرج زكاة أموالها في زوجها؟

الراجح والله سبحانه أعلم من أقوال أهل العلم جواز ذلك، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، فإذا كان الزوج من المصارف الثمانية، فليس هناك دليل يمنع المرأة من أن تخرج الزكاة فيه. هذا شيء.

الشيء الآخر هو مجيء زينب امرأة عبد الله بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إن لي أيتاماً في حجري، وإن عبد الله -تعني: ابن مسعود - زعم أنه أحق هو وأولاده بالصدقة من غيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود هو وأولاده أحق من غيره).

وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (هل يحق لي يا رسول الله! أن أتصدق على زوجي وعلى أيتام لي في حجري؟ قال: نعم، ولك أجران؛ أجر الصلة وأجر الصدقة)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الاستدلال لجواز إخراج المرأة لزكاة أموالها لزوجها؛ إذ لا يجب عليها أن تنفق عليه، أولاً لعموم الآية الكريمة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] إلى آخر الآية، ثانياً: عدم وجود المانع، ثالثاً: حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنها في هذا الباب.

والأمر لا ينعكس، فلا يجوز للزوج أن يخرج زكاة أمواله في زوجته؛ إذ نفقتها واجبة عليه، واستثنى بعض أهل العلم هذه الحالات:

إذا كانت المرأة قد استدانت قبل الزواج فللزوج أن يخرج زكاة أمواله لسد الدين عنها، إذ لا يجب أن يسد الدين عنها، أو إذا استدانت في أمر لا يجب على الزوج، كأن تكون استدانت مثلاً لصلة أهلها ثم عجزت عن الوفاء، أو استدانت لإعطاء أبويها الفقراء، ثم لم تستطع سداد هذه الديون التي حلت وألمت بها، فلها حينئذٍ أن تأخذ من زكاة مال زوجها لسداد ما عليها من الديون في مثل هذه الحالة.

وهل يتصدق الرجل، أو يخرج الرجل زكاة أمواله في أبنائه؟ لا يجوز للرجل أن يخرج زكاة أمواله في أبنائه الذين تلزمه نفقتهم، وكل الذين تلزمه نفقتهم. قال العلماء أو جمهور أهل العلم: يجب على الأب أن ينفق على الأبناء الذكور من الولادة حتى سن البلوغ، وبعد سن البلوغ لا يجب، إلا إذا كانوا فقراء أو كانوا سيضيعوا بسبب عدم إنفاقه عليهم، أما إذا كان لهم أعمال يمارسونها فالجمهور على أن الإنفاق إلى البلوغ وعلى الإناث إلى عقد الزواج، وبعد عقد الزواج تنتقل النفقة من الأب إلى الزوج على رأي جماهير العلماء، ومن أهل العلم من يقول في شأن المعقود عليها وهم قلة: إن النفقة على المعقود لا تجب إلا بالتمكين، أي: إذا انتقلت عنده، لكن القول الذي عليه الأكثرون هو الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.

أما إذا كان للرجل ولد متزوج ومعيشته مستقلة، فلا يجب على الوالد الإنفاق عليه، فحينئذٍ للأب أن يخرج له عند فريق من أهل العلم زكاة أمواله، إذ الإنفاق عليه ليس بواجب.

كذلك إذا كان للأب بنت متزوجة وهي وزوجها فقراء، أو زوجها فقير؛ فللأب أن يخرج الزكاة في ابنته إذ لا يجب عليه أن ينفق عليها.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

الهبة للأولاد وأحكامها

فريق من أهل العلم على أنه يجب على الأب ويجب على الأم أن يعدلا في الهبة، وذلك لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (ذهبت أمي عمرة بنت رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نحلت ابني هذا نحلة، أي: أعطيته هبة -وكان معها زوجها بشير- فأردت أن أشهدك على هذه النحلة، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ألك ولد غيره؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: أكل ولدك أعطيته مثل هذا؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: ارجعي فأشهدي على هذا غيري) وفي رواية: (فإني لا أشهد على جور)، وفي ثالثة: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

فأخذ فريق من أهل العلم من هذه النصوص وجوب العدل بين الأولاد في الهبات، ورأى فريق من العلماء وهم الجمهور: أن العدل بين الأولاد في الهبات مستحب وليس بواجب، ومن عمدة أدلتهم على القول بالاستحباب: أن الرجل أحق بماله ويتصرف فيه كيف يشاء، وإنما قول الرسول: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) أمر ندب وإرشاد واستحباب حتى لا تتولد الضغائن بين المسلمين.

ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك: ما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بسند صحيح: (أنه رضي الله تعالى عنه أعطى عائشة رضي الله عنها عشرين وسقاً من تمر بالغابة، وهي على بعد أميال من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم لما حضرته الوفاة قال: يا بنيتي! إني كنت قد أعطيتك عشرين وسقاً -والوسق: ستون صاعاً كما هو معلوم- من مالي بالغابة فإن كنت جلبتيه فهو لك -أي: إن كنت أخذتيه إلى رحلك فهو لك- وإن كنت لم تأخذيه فإنما هو مال وارث فلا يحل لك أن تأخذيه)، ولم يكن أعطى سائر إخوانها مثل الذي أعطاها رضي الله تعالى عنها، حتى أسماء ما أعطاها.

فعمدة استدلالات الجمهور القائلين بأن العدل بين الأولاد في الهبات ليس بواجب وأنه مستحب: أن الأب أحق بماله، وأن احتياجات الأبناء تختلف، فهذا مثلاً ابن يدرس في الجامعة واحتياجاته تختلف عن ابن يدرس في الابتدائي، أو هذا ابن يدرس في الطب واحتياجاته تختلف عن ابن عامل، فهذا ينفق في العام ألفين أو ثلاثة آلاف، وهذا يدر دخلاً على الوالد، فمسألة التسوية في الهبات في مثل هذه الحالة تشق على الناس، فحينئذٍ قال جمهور العلماء: بأنها مستحبة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

لكن من أهل العلم من قال: إن الرجل عليه أن يعدل في الهبات قدر الاستطاعة، وما خرج عن وسعه وجهده فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما أمر رسول الله الصريح: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ؛ فلا يعدل عنه إذ هو حديث الرسول وهو كالنص في المسألة.. والله سبحانه أعلم.

ترد مشاكل ومسائل: رجل له أولاد تعلموا في كليات وأبناء آخرون لم يتعلموا، أو رجل له ولدان أحدهما عامل في شركة أو فلاح يدر على أبيه في كل يوم دخلاً، والآخر من الأبناء يأخذ من أبيه أضعاف هذا الدخل الذي يدره هذا الولد، فهذا عمل ودر دخلاً على البيت، وهذا يأخذ من الأب أموالاً كثيرة طائلة كي يتعلم بها، وهذه الأموال التي يدفعها الأب ليست بواجبة على الأب إنما هو من باب الفضل، فهل يجوز والحالة هذه أن يعطي الأب ولده العامل شيئاً من التعويض مقابل المال الذي أعطاه ؟

النصوص الشرعية والقواعد العامة تجيز ذلك إذا مكنه منه قبل الوفاة، أما بعد الوفاة فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث).

ومن أهل العلم من استثنى الزمنى من الأبناء، أي: الذين عندهم مرض مزمن، وقال: يجوز للأب أن يخص من عنده مرض مزمن من أبنائه -كالبنت الكسيحة أو العرجاء التي يظن أنها لن تتزوج- بشيء من المال كهبة يسلمها إياها في دنياها كي تستعين به على نوائب الدهر.

وهذا رأي له وجاهته، ومما يشهد له قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وقوله: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الحقوق الأسرية للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net