إسلام ويب

الصدق صفة من الصفات الكريمة، وخلة من الخلال الحميدة، أمرت الشريعة الإسلامية بالتحلي به، والصديقون يحشرون في زمرة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وبالصدق يشعر العبد بالطمأنينة، وينجو من الهلاك، وتحل به البركة. وقد حرم الإسلام الكذب بكل صوره، ولم يجزه إلا في ثلاثة مواطن: في الحرب، وبين الزوجين، وفي الإصلاح بين الناس.

الصدق من صفات الله تبارك وتعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

وبعد:

عباد الله: إن لله سبحانه وتعالى صفات يحب أن يتخلق بها عباده، ولله عز وجل صفات لا يحب أن يتخلق بها عباده، فهي له وحده سبحانه وتعالى، فمن الصفات التي هي لله سبحانه ويحب أن يتخلق بها عباده صفة الكرم، فهو كريم يحب الكرماء، وكذلك صفة العفو عن الناس، فهو عفو يحب العافين عن الناس، وكذلك صفة الجمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، وصفة الرحمة، فالله رحيم يحب من عباده الرحماء.

ومن هذه الصفات أيضاً صفة الصدق، وعليها مدار الحديث إن شاء الله، فالله سبحانه وتعالى قال عن نفسه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وقال عن نفسه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] ، وقال عن نفسه: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95]، فالله سبحانه وتعالى فيه هذه الصفة، فهو سبحانه وتعالى صادق فيما وعد، وصادق فيما أخبر، وصادق في كل شيء سبحانه وتعالى، وليس أحد أصدق من الله قيلاً أبداً، وليس أحد أصدق من الله حديثاً، وأمر الله نبيه أن يقول هذه الكلمة فقال تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:95] .

الصدق من صفات الأنبياء والمرسلين

إن رسل الله عليهم الصلاة والسلام اتسموا بهذه الصفة وهي صفة الصدق، كما قال تعالى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:37]، وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:41]، وقال عن إسماعيل: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وقال عن إدريس: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:56]، وقيل عن يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك أيضاً بشهادة الكفار كما حكى الله تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46].

حث الشريعة على الصدق والتحذير من الكذب

صفة الصدق في الحديث حث الله عليها، وحث عليها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، فقوله: (عليكم بالصدق) أي: الزموا الصدق، ولا تنحرفوا عنه، ولا تحيدوا عنه، وإن كان في ظاهره المضرة عليكم، وقوله: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) أي: على المرء أن يمرن نفسه ويعود نفسه أن يكون صادقاً، فإن كذب مرة يستغفر ويتحرى أن يصدق في المرة القادمة، وبعد الصديق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإياكم والكذب -يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب-؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

ثمار الصدق

الشعور بالطمأنينة

الصدق سبب للطمأنينة، فإذا كذبت قذفت إلى قلبك الشك والوساوس، وجلست في هموم وفي غموم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (دع ما يريبك -أي: ما تتشكك فيه- إلى ما لا يريبك) فأي شيء تشعر أن فيه إثماً وتحتار في أمره اتركه، واعمد إلى الشيء الذي لا شبهة فيه ولا ريب فيه، فقوله: (دع ما يريبك)، أي: ما يشكك ويجعلك توسوس قائلاً: هل هو حلال، هل هو حرام فأحياناً شيطانك ينتصر ويحل لك الحرام، وأحياناً تنتصر أنت وتجنح إلى أنه حرام فعلاً، فحينئذٍ (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) كما قال عليه الصلاة والسلام.

حصول البركة

الصدق -يا عباد الله- سبب للبركة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما)، فإن قلت للمشتري: سلعتي فيها من العيوب كذا وكذا وكذا وبينت له بارك الله في بيعكما، واعلم أن بيانك له العيب لن يمنع رزقاً ساقه الله إليك أبداً، فرزقك مكتوب لك وأنت في بطن أمك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عبد الله بن مسعود عنه: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فرزقك مكتوب وأنت في بطن أمك، فلا تظن أبداً أن الصدق -الذي هو طاعة لله سبحانه وتعالى- سيسبب لك نقصاً في الرزق، ولا تظن هذا الظن السيئ أبداً، بل على العكس، فالصدق بركة والكذب ممحق للسلعة مذهب للبركة، والذي يخبر بأن البركة ستحل هو رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما).

ومن الناس من يغش في كل شيء، حتى إن بعضهم عند بيعه البقرة ونحوها يخزن اللبن في ضرعها ثلاثة أيام حتى يوهم المشتري أنها غزيرة اللبن، وأقوام آخرون عند بيعهم الدجاج يطعمونه طعاماً مليئاً بالملح حتى يشرب الدجاج ماءً كثيراً فيزن وزناً أكبر، فصور الغش والخداع لا تنتهي، ومن صور الغش، من يتاجر في اللبن فيخلط اللبن البقري بغيره ويغش الناس ويقول: أنا أبيعه بالبنط. والعامي لا يفهم البنط، وإنما يذهب العامي يشتري على أنه لبن من لبن أهل بلده فإذا به مغشوش، والبائع يقول: أنا أبيعه بالبنط ويحترف النصب على الناس.

فيا عباد الله: كلٌ يتفنن كيف يصل إلى المال عن أي طريقٍ حلالٍ أو حرامٍ، ولا يهمه إلا جمع أكبر قدر من المال، ويحتال بأي حيلة، ويلتمس أي سبب يخادع به نفسه، ويغش به نفسه أولاً، وماذا يضير المشتري إذا شرب لبن بقر مخلوط بغيره؟! لكن أنت -يا غشاش- ستقف بين يدي ربك عز وجل، ويسألك: لماذا غششت العباد؟ ويؤخذ من حسناتك إلى إخوانك، ويطرح من سيئات إخوانك عليك؛ لأمر قد تراه يسيراً.

ظهور الصدق على وجه صاحبه

الصدق يظهر على وجه صاحبه، والكذب يظهر على وجه صاحبه، قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما سمعت بمقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة أتيت فنظرت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ليس بوجه كذاب، إنما هو وجه رجل صالح صادق. فالصدق يظهر على وجه صاحبه، والكذب والغش والخيانة كل ذلك يظهر على وجه صاحبه كذلك، وإن حاول أن يرسم على وجهه الابتسامات ليسترها إلا أن الله عز وجل يفضحه لغشه وخيانته -والعياذ بالله-، ولأكله أموال الناس بالباطل.

النجاة

الصدق نجاة وإن ظننت أنه هلكة، ولا تخفى قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما رجع الرسول سالماً غانماً آمناً من غزوته جلس في المسجد بعد أن صلى فيه ركعتين -وهذه سنته إذا رجع من الأسفار-، ثم جلس في المسجد فجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم، وجاء المعذرون يلتمسون المعاذير الكاذبة المنتحلة، فما جاءوا يستغفرون بل جاءوا يختلقون الأكاذيب أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يعفو عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى يقبل معذرتهم، فكلٌ التمس سبباً.

وانظر كيف جاء أهل الصدق وأهل الإيمان، فقد جاء كعب بن مالك، فلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلفك يا كعب عن الغزوة؟ -وهو الرجل الصادق رضي الله عنه- قال: والله -يا رسول الله- لم يكن لي عذر في التخلف عنك، ووالله -يا رسول الله- لو جلست بين يدي أي رجل من أهل الدنيا لاستطعت أن أخرج منه بمخرج، ولكني أخشى إن كذبت عليك أن ينزل الله فيَّ قرآناً يفضحني الله به -أو كما قال كعب - فاقض فيَّ يا رسول الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في شأن كعب -وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أعذار المنافقين-: أما هذا فقد صدق، فامكث حتى يقضي الله فيك).

وهُجر كعب بن مالك خمسين ليلة لا يكلمه أحد من أهل الإسلام، ولا يردون عليه السلام، ولا يبايعونه، ولا يشترون منه، إلى أن جاء أمر أكبر، حيث أمره النبي أن يترك زوجته، حتى اشتد به البلاء، واشتد به الكرب، وكما هو موجود في كل عصر، فإنك إذا صدقت يأتيك شيطان من شياطين الإنس يقول لك: لماذا تصدق؟ كنت ستتكلم بأي كلمة وتخرج من المأزق، وشياطين الإنس لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، وضعاف الإيمان لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، فجاءه بعض أقاربه وقالوا: يا كعب ! ما منعك أن تكون ذهبت إلى رسول الله فقلت له: خلفني كذا وكذا! وبعد ذلك سيستغفر لك الرسول كما استغفر لفلان وفلان من المنافقين، قال كعب: فمن شدة مقالتهم عليَّ هممت أن أذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأكذب نفسي، وأقول له: يا رسول الله كان لي عذر وأختلق الأكاذيب، قال كعب بن مالك : ولكني سألت -وهنا تنفع مجالسة الصالحين والتأسي بهم- هل هناك أحد من الناس قال مثل مقالتي؟ قالوا: نعم. قال مثل مقالتك هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال: فذكروا لي رجلين صالحين لي فيهما أسوة أتأسى بهما، فهما قد شهدا بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: وهل لقيا مثل ما لقيت؟ قالوا: نعم، لقيا مثل ما لقيت من رسول الله، يهجرهم الناس وأزواجهم كذلك، إلا أن امرأة هلال استأذنت رسول الله فقالت: (يا رسول الله: إن هلالاً شيخ كبير ضائع لا يستطيع أن يخدم نفسه، فهل عليَّ جناح أن أخدمه؟ قال: لا. ولكن لا يقربكِ قالت: والله -يا رسول الله- ما له في النساء من حاجة، والله -يا رسول الله- منذ أن قلت له ما قلت ما زال يبكي).

فانتبه كعب بن مالك إلى أن له أسوة، وصبر حتى أنزل الله عز وجل التوبة عليه، قال الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118] أي: تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، قال كعب بن مالك : والله لقد نفعني الله بالصدق، فإن الله تاب عليَّ.

أما أهل النفاق فقال الله فيهم شر مقالة، ووصفهم شر وصف، قال تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96] فهكذا وصفهم الله، ومعنى: (إنهم رجس) أي: نجس.

فانظر إلى عاقبة الصدق، وقد ذهب كعب إلى رسول الله وقال: إن من توبتي يا رسول الله أن انخلع عن كل مالي صدقة لله وصدقة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، هكذا علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام.

شهادة أهل الكفر بصدق النبي عليه الصلاة والسلام

يجب عليك -يا عبد الله- أن تتحلى بهذه الحلة الكريمة، وتتمثل بهذه الخصلة القويمة خصلة الصدق، فهي دعوة رسولك، فقد سأل هرقل أبا سفيان: بماذا يأمركم محمد؟ قال: يأمرنا محمد بالصدق فـهرقل الكافر علم أن الصدق من خصال الرسل، فقال: والله ما كان ليصدق مع الناس ويكذب على الله، فإذا كان محمد يعلمكم الصدق فكيف يصدق في حديثه مع الناس ويكذب على الله؟! فما كان -عليه الصلاة والسلام- ليكذب على الله، وشهد له بذلك أهل الكفر من المشركين، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزلت: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبل الصفا ونادى: يا معشر قريش، يا بني عبد المطلب، يا صفية عمة رسول الله، فاجتمعت له قريش، فقال عليه الصلاة والسلام لهم: يا معشر قريش: لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد غزوكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط -عليه الصلاة والسلام- قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).

فالزم هذه الخصلة -يا عبد الله- مهما كلفتك، والزم هذه الخصلة الطيبة، وتخلق بهذه الخصلة الجميلة تسعد في الدارين، وتعرف نفسك -إذا كنت صادق الحديث- بأن ترى الرؤيا في الليل فتصبح وقد تحققت الرؤيا كما رأيتها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً)، أي: إذا كنت صادقاً في الحديث فرؤياك تتحقق، ولما كان نبينا محمد أصدق الناس لهجة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

الحالات التي يجوز فيها الكذب

من العلماء من ذكر بعض المباح من الكذب بناءً على حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث رخص في الكذب في ثلاثة مواطن: الكذب في الحرب؛ إذ الحرب خدعة، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين حيث تذهب إلى فلان فتقول له: فلان ما قال فيك إلا خيراً، وقال فيك كلاماً طيباً وتلتمس أي كلمة طيبة خرجت من في خصمه حتى تصلح فيما بينهما، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً).

لكن هناك قوم يذهبون إلى الإفساد بين الناس بالكذب والخيانة، وقوم يفسدون الزوجات على أزواجهن غدراً وخيانة، فيكون هناك خلاف بين زوج وزوجه، ويدخل رجل مرتدياً ثوب الإصلاح وثوب الحريص المشفق على الزوجين، يريد أن يدخل -بزعمه في الظاهر- ليصلح بين زوجين، وفي باطنه يسعى سعياً حثيثاً لتدمير الأسرة حتى يتزوج هو تلك المرأة التي تطلق، فهذا ملعون، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، فهو يسعى سعي الواشين المكرة المفسدين الظلمة للإصلاح في الظاهر وفي ثنايا كلامه يقول لزوجته: اصبري عليه فإن فيه كذا، ويطعن بما يريد تحت مقولة: (اصبري عليه)، ويسرد كل العيوب التي فيه، عياذاً بالله.

فأنى يبارك لمثل هذا المفسد؟ فالكذب شرع للإصلاح، ولم يشرع الكذب للتفريق بين الزوجين، ألا فليستبشر هذا بأنه من ورثة هاروت وماروت، ومن جند هاروت وماروت اللذين يفرقون بين المرء وزوجه، فليبشر من كان على هذه الخصلة الذميمة للتفريق بين الأحبة، وللتفريق بين الزوجين، ولتشتيت الأسر بالطلاق، فليبشر هذا بأنه من سرايا إبليس الذين يبثهم لفتنة الناس، وأنه أقرب جنديٍ إلى إبليس؛ فإن إبليس يضم من فرق بين الزوجين ويدنيه ويقول: أنت أنت أي: أنت الرجل أنت الرجل.

فللإصلاح بين الزوجين أن يكذب الرجل على زوجته لإرضائها، لا بوعد وإخلاف وأكل حقوق وتضييع حقوق، وإنما يبالغ لها -مثلاً- في وصف حبه لها، وتبالغ له هي الأخرى في وصف حبها له، ويبالغ في وصف جمالها أمامها، وتبالغ في وصف رجولته أمامه، فالكلمة الطيبة صدقة تطمئن القلب وتخمد الشيطان، فالكذب يباح في ثلاثة مواطن: في الحرب، وبين الزوجين، وللإصلاح بين الناس.

وقد قال بعض أهل العلم: إن هناك صدقاً مذموماً، وفي الحقيقة لا نوافق من قال بأن هناك صدقاً مذموماً، فالصدق كله خير، وإن كان معنى كلامهم صحيح، كاغتياب الناس وإن كان فيهم ما تقول إن كنت صادقاً فيما تخبر عنه، كأن تذهب إلى شخص وتقول له: فلان قال فيك كذا وكذا وكذا وأنت صادق، لكنك مذموم تأكل النتن، وتأكل الجيف، وتأكل لحم أخيك ميتاً، وإن كنت صادقاً في نقلك، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة فقال رجل: (فإن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).

ألا فالزموا الصدق يا عباد الله، وادعوا ربكم أن يحشركم مع الصديقين، واستغفروه إنه كان غفاراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الصدق والصادقون للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net