إسلام ويب

الموت أقرب إلى المرء من شراك نعله، وهو هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وقد أدرك ذلك من هم خير منا ممن كانوا يعملون للآخرة في كل أوقاتهم، ولهذا يجب علينا أن نتذكر الموت ونعمل لما بعده.

أسباب قسوة القلب

أحبتي! قسوة القلب مرض عظيم ابتلينا به في هذا الزمان، فأصبحنا نسمع القرآن ولا نتأثر، وندفن موتانا ولا نعتبر، ونسمع المواعظ والعبر ولا نتذكر، والسبب قسوة القلب.

وما من داء إلا وقد أنزل الله له دواء، فدواء قسوة القلب -يا رعاك الله- هو مداومة النظر في كتاب الله بتدبر وتفكر، فإن هذا الكتاب لو أُنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] كم فيه من المواعظ والعبر، كم فيه من الآيات والسور؟ لكن كما قال الله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74].

موعظة بليغة وكلام موجز وعظنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أجمع أهل العلم على أن هذه الموعظة من أبلغ مواعظه صلى الله عليه وسلم.

لقد أبلغ في الموعظة وأوجز في الكلام، كلام يسير ولكنه يحملُ معاني كثيرة، ولا عجب فإنه صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامع الكلم، يقول الكلام القليل فيه من المعاني الشيء الكثير.

فمن مواعظه البليغة صلوات ربي وسلامه عليه قوله: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات).

نعم أيها الغالي!

يوم أن غفلنا عن الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والسؤال وشدته، ويوم القيامة وكرباته، والصراط وحدته؛ يوم أن غفلنا عن هذه الأشياء قست القلوب -يا رعاك الله- فأصبحت كالحجارة بل هي أشد قسوة.

لذلك قال بأبي هو وأمي: (أكثروا من ذكر هادم اللذات).

ما ذُكر الموت في قوي إلا ضعفه، وما ذُكر في عزيزٍ إلا أذله، وما ذُكر في كثير إلا قلله، الموت:

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب

متى حُط ذا عن نعشه ذاك يركبُ

نشاهد ذا عين اليقين حقيقة

وكأنا بما علمنا يقيناً نكذبُ

إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا

كل يوم واعظ الموت يندبُ

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها

وعلّ الردى مما نرتجيهِ أقربُ

الموت كما قال أهل العلم: مفارقة الروح الجسد والحيلولة بينهما، انتقالٌ من حال إلى حال، وانتقالٌ من دار إلى دار.

سمّى الله الموت مصيبة، كما قال جل في علاه: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106].

لكن المصيبة الأعظم من الموت -يا رعاك الله- الغفلة عن الموت.. عدم تذكر الموت.. عدم الاستعداد للموت، أعظم من مصيبة الموت يا رعاك الله.

لذلك قال أهل التفاسير في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] قالوا: يعني أكثركم للموت ذكراً؛ لأنه من كان للموت ذاكراً كان للموت مستعداً.

قال أبو علي الدقداق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاث: أكرم بتعجيل التوبة، ونشاط في العبادة، وقناعة في القلب، ومن نسي الموت عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وكسل في العبادة، وعدم قناعة القلب.

إذاً مما يرقق القلوب التفكير في الموت وفي أحواله وفي القبر وظلماته.

لذلك قال بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه: (ألا إني قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).

يوم غفل الناس عن الآخرة قست القلوب وعُطّلت الصلوات، وارتُكبت المحرمات، وتكاسل الناس في فعل الطاعات.

فيا غافلاً عن العمل

وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة

والقبر صندوق العمل

قل لي بالله العظيم.. قل لي يا رعاك الله.. هل تفكرت يوماً وأنت تخرج في الصباح أنك لن ترجع إلى بيتك مرة ثانية؟!

هل تفكرت أن اليوم قد يكون آخر يوم لك في الحياة؟!

إذا أتاك ملك الموت في هذا اليوم فهل أنت راضٍ عن نفسك؟!

لا تغفل يا رعاك الله! ممن أعرفهم اتصل على أهله في الواحدة ظهراً قال لهم: لقد استأذنت من العمل مبكراً فما هي طلباتكم؟ قالوا: نريد كذا ونريد كذا ونريد كذا، قال: ساعة واحدة وأكون عندكم.

مرت ساعة مرت ساعتان ومرت ثلاث ولم يظهر له أثر، اتصل متصل قُبيل المغرب بقليل يقول: عظم الله أجركم في فلان، في الساعة التي خرج فيها من مكان عمله ارتطمت سيارته بسيارة أخرى وانتقل من هذه الحياة إلى حياة ثانية.

قل لي بالله العظيم: هل كان يظن يوم اتصل على أهله أنه لن يصل إليهم؟!

هل كانوا هم يظنون يوم أملوا عليه الطلبات أن الطلبات لن تصل؟! بل الذي يحمل الطلبات لن يصل؟!

كان أحد الصالحين يقوم في هزيعِ الليل الأخير، يرقى أعلى مكان في قريته، ثم ينادي بأعلى الصوت:

الرحيل.. الرحيل.. الرحيل.. كل يوم يكرر هذه الكلمات القليلة: الرحيل.. الرحيل.. الرحيل.. حتى جاء يوم وانقطع ذلك الصوت.

فقال أمير القرية: أين فلان؟ قالوا: مات. قال: لا زال يذكر الناس بالموت حتى مات هو.

نعم. كان يذكرهم بالموت فأتاه الموت، لكن على أي حال أتاه؟!

لا زال يلهج بالرحيل وذكره

حتى أناخ ببابه الجمّال

فأتاه متيقظاً متشمراً

لم تلهه الآمال

قال أحدهم لصاحبٍ له وكانت حاله سيئة: أبا فلان! الحال التي أنت عليها أترضاها للموت؟! قال: لا والله. قال: وهل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟! قال: ما اشتاقت نفسي إلى هذا بعد، قال: وهل بعد هذه الدار دار معتمل؟! قال: لا والله. قال: وهل تظن أن لا يأتيك ملك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال: لا والله. قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال!

ستنقلك المنايا من ديارك

ويبدلك الردى داراً بدارك

وتترك ما عنيت به زماناً

وتُنقل من غناك إلى افتقارك

وفي عينيك دود القبر يرعى

وترعى عينُ غيرك في ديارك

نعم أيها الغالي!

لا تغفل عن الموت، فلقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له مكان معين، ولا زمن معين، ولا سبب معين، ولا عمر معين، يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] يعني ذلك ما كنت منه تفر وذلك ما كنت منه تهرب.

طال الزمان أو قصر لابد أن يأتي الموت.

والناس عند الموت على حالين يا رعاك الله.

إما محب للقاء الله فيحب الله لقاءه، وإما كارهٌ للقاء الله فيكره الله لقاءه.

قالت عائشة : (يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: لا يا عائشة ليس ذاك، لكن هو العبد الصالح تأتيه ملائكة الرحمن تبشره بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فيفرح بلقاء الله، فيفرح الله بلقائه).

أما العبد العاصي.. أما العبد الغافل.. أما الذي تناسى الموت وسكراته، فتأتيه ملائكة الرحمن، تبشره بسخط وعذاب من الله، فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.

قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: أشترط عليكم شروطاً ثلاثة لمن أراد أن يجلس في مجلسي، شروط ليتنا اشترطناها في مجالسنا اليوم، قال: إذا جلستم في مجلسي فأنا أشترط عليكم شروطاً ثلاثة:

أولها: لا تتكلموا في الدنيا.

ثانيها: لا تغتابوا أحداً في مجلسي.

ثالثها: لا تمزحوا عندي أبداً.

فكانوا يتذاكرون الموت وسكراته، والقبر وظلماته، حتى إذا انفضوا كانوا كمن قام عن جنازة.

لا عجب! في آخر اللحظات ودع وهو يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، سيأتي اليوم الذي ستُمدد فيه على فراشك تريد أن تودع الصغير فلا تستطيع.. تريد أن تودع الكبير فلا تستطيع.. وحيل بينهم وبين ما يشتهون.

ليت شعري كيف يكون الحال في تلك الساعة، يوم تشخص العينان وتبرد الأطراف واليدان، وتلتف الساقان، تريد أن تتكلم فلا تستطيع، تريد أن تقول فلا تستطيع..

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:19-21].

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

فاتقوا الله عباد الله.. ابكوا على أنفسكم قبل أن يُبكى عليكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، احملوا أنفسكم على الطاعات قبل أن تحملوا على الرقاب، استعدوا للموت قبل أن ينادي بأعلى الصوت رباه ارجعون فلا يستجاب لنا.. لساعة تجلس تحاسب فيها نفسك خير من أيام وساعات تهدر فيها الأعمار.

هذه الأيام مطايا

أين العدة قبل المنايا؟

أين الأنفة من دار الأذايا؟

أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟

إن بلية الهوى لا تشبه البلايا

وإن قضية الزمان لا كالقضايا

يا مستورين ستكشف الخفايا.. إن ملك الموت لا يقبل الوساطة.. ولا يأخذ الهدايا

أيها الشاب! ستُسأل عن شبابك.. أيها الشيخ تأهب لعتابك.. أيها الكهل تدبر أمرك قبل سد بابك.. يا مريض القلب قف بباب الطبيب.. يا منحوس الحظ اشك فوات النصيب.. بالجناب قليلاً وقف على الباب طويلاً.. واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً..

يا من نذرُ الموت عليه تدور.. يا من هو مستأنس في المنازل والدور.. لو تفكرت في القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور.. كانت عينُ العين منك تدور..

يا مظلم القلب وما في القلب نور.. الباطن خراب والظاهر معمور.. إنما ينظر للبواطن لا للظهور..

يا من كلما زاد عمره زاد إثمه.. يا من يدور في المعاصي فكره وهمه.. يا قليل العقل وقد رق عظمه.. يا قليل العِبَر وقد تيقن أن القبر عمّا قليل يضمه.. كيف نعظ من مات قلبه لا عقله وجسمه..

نعم أيها الغالي! لابد من الرحيل طال الزمان أو قصر، سيأتي ذلك اليوم الذي ستودع فيه الحياة، لكن قل لي بالله كيف سيكون الحال عند ساعات الرحيل؟!

إنك ميت وأنهم ميتون

موت النبي صلى الله عليه وسلم

الذي أخر الناس عن التوبة والصدق والاستعداد للآخرة طول الأمل، ولقد قال الله عنهم: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].

الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

الكل سيموت لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] ولأن الله قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].

مات الحبيب الذي كان يقول في آخر لحظات الحياة: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

من وصاياه في ساعات احتضاره وفي ساعات وداعه، أنه كان يقول: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).

صعد المنبر آخر ما صعد فقال: (من أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، من سببت له عرضاً فهذا عرضي فليقتص منه، من ضربت له جسداً فهذا جسدي فليقتص منه؛ إن رجلاً خيره الله بين ما عنده وبين زينة الدنيا فاختار ما عند الله؛ فبكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: ما الذي يبكي هذا الشيخ الكبير؟!) لقد علم أنها آخر ساعات الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه..

في آخر ساعات احتضاره أخذ يضع يده في ركوة من الماء ويمسح على وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات.. إن للموت لسكرات.. اللهم هون علي الموت وسكراته.. اللهم هون علي الموت وسكراته.. فلما رأت فاطمة شدة البلاء على أبيها أخذت تقول: واكرب أبتاه.. واكرب أبتاه.. واكرب أبتاه.. فأخذ يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم.. لا كرب يا فاطمة على أبيك بعد اليوم، ثم أخذ يشخص ببصره إلى السماء ويرفع بيده السبابة وهو يناجي ربه ويقول: اللهم اغفر لي.. اللهم ارحمني.. اللهم تب علي.. اللهم الرفيق الأعلى.. اللهم الرفيق الأعلى.. اللهم الرفيق الأعلى).

ثم سكتت الأنفاس الطاهرة، وتوقف القلب الكبير؛ لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] لأن الله قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].

فلما فارقت الروح الحياة وسكت ذلك الجسد الطاهر الشريف أخذت فاطمة تقول: واأبتاه.. واأبتاه أجاب رباً دعاه.. واأبتاه أجاب رباً دعاه.. واأبتاه جنة الفردوس مأواه.. واأبتاه إلى جبريل ننعاه.. فلما دُفن، قالت فاطمة لـأنس : أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟! يقول أنس : فقلت في نفسي: والله ما طابت، ولكننا ألجمناها إلجاماً.

مات الحبيب لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

موت أبي بكر الصديق رضي الله عنه

ثم يموت الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة الحبيب، وفي ساعات احتضاره وكانت ساعات احتضاره بليل.. أخذ يقول لـعائشة : في أي يوم نحن؟ قالت: يوم الإثنين. قال: في أي يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الإثنين، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً في منامه، سألوه في أيام مرضه: عرضت نفسك على الطبيب؟ قال: نعم قالوا: ماذا قال؟ قال: قال إني فعال لما أريد.. فلما اشتدت عليه السكرات، ورأت عائشة سكرات الموت على أبيها، أخذت تستشهد ببيت تقول فيه:

أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاقت بها الصدر

فقال: يا عائش ! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].

نعم أيها الغالي! قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].

أوصى أبو بكر عمر وصية في آخر حياته ليتنا فهمناها، قال: يا عمر إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل.

مات الصديق لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة الجبروت.

موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ثم يموت الفاروق رضي الله عنه وأرضاه وهو يصلي الفجر، هل لسبب شرعي ضُيعت صلاة الفجر؟! أم بسبب المكوث ساعات وساعات أمام الشاشات والقنوات؟

طعن وهو يقرأ قوله جل في علاه: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].

نعم أيها الغالي! طعن شهيد المحراب، فلما أفاق كانت أول كلمة قالها: أصلى الناس؟

اسمع -يا رعاك الله- أول كلمة تلفظ بها عمر يوم أفاق من غيبوبته، قال: أصلى الناس؟ ثم رأى الدم ينزف منه نزفاً، تيقن أن الموت قد اقترب، كان هناك شغل يشغله وهم يهمه، قال يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: يقرئك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست أميراً للمؤمنين بعد اليوم..

قل لها: يبلّغك عمر السلام ويستأذنك أن يُدفن مع صاحبيه.

يريد أن يكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الممات.

فذهب عبد الله بن عمر وطرق الباب على عائشة وقال لها: يقرئك عمر السلام، ويقول لك: أتأذنين له أن يدفن مع صاحبيه؟

فقالت الصديقة بنت الصديق : والله إني كنت أريده لنفسي، ووالله لأوثرن عمر على نفسي..

فلما رجع عبد الله بن عمر ورآه عمر قد أقبل، قال: أجلسوني، فقال: ما الخطب يا عبد الله بن عمر ؟

قال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد رضيت.

فتهلل وجه عمر رضي الله عنه وأرضاه.. لأن القضية كانت تشغله وتهمه.

ما كان يوصي بمال ولا بعيال ولا بحلال، القضية قضية مرافقة في الدنيا وفي الآخرة.

فقال عمر : إن أنا مت فغسلوني وكفنوني ثم احملوني واطرقوا عليها الباب، وقولوا: يستأذن عمر مرة ثانية، فإن أذنت وإلا فخذوني إلى مقابر المسلمين.

فلما حانت ساعة الاحتضار وبدأت تتنزل عليه كربات الموت، أخذ عبد الله بن عمر رأسه ووضعه على فخذه، فقال عمر : ضع وجهي على التراب علّ الله أن يرحم عمر ، ليتني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي، وددت أن أمي لم تلدني.. ليتني كنت ورقة تعضد..

من هو؟!

عمر الصوام القوّام يقول: وددتُ أني خرجتُ منها كفافاً لا لي ولا علي.

مات عمر .. مات عمر لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

موت عثمان رضي الله عنه

ثم يموت عثمان رضي الله عنه وأرضاه، يموت وقد رأى في منامه في تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: تفطر عندنا غداً، فأصبح صائماً رضي الله عنه وأرضاه، تسلقوا عليه البيت وطعنوه وهو يقرأ القرآن، فتدفقت تلك الدماء على لحيته الطاهرة، ثم أخذ يدعوا ويقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.. اللهم اجمع شمل أمة محمد.. اللهم اجمع شمل أمة محمد.

عثمان وما أدراك ما عثمان ؟! تلك اللحية التي لطالما تبللت بالدموع من خشية الله، تلك اللحية التي لطالما تبللت بكاء وخشية من الله جلّ في علاه.

عثمان الذي إذا ذكرت الجنة والنار يبكي، وإذا ذُكر القبر يبكي بكاءً شديداً، فإذا قيل له: لا تبكي للجنة والنار كبكائك للقبر؟! قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (القبر أول منازل الآخرة) إذا كان الذي فيه هيناً فما بعده أهون، وإن كان الذي فيه شديداً فما بعده أشد.

مات عثمان قارئ القرآن الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم) عثمان الذي نفس بأمواله كربات المسلمين، عثمان الذي كان أباً للأرامل والفقراء والمساكين.

مات لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

موت علي رضي الله عنه

وبعد ساعات الفجر تحلو دقائق الاستغفار فخرج علي مستغفراً ربه بعد قيام الليل منطلقاً إلى صلاة الفجر، فيطعن وهو في طريقه إلى المسجد.

شتان بين خواتيم وخواتيم، شتان بين من يقتل وهو يسير إلى المسجد، وشتان بين من يسير إلى معصية الله.

ثم يوم علم علي أنها النهاية قال: أبقوه، فإن أنا بقيت قتلت أو عفوت، وإن أنا مت فاقتلوه وعجلوه فإني مخاصمه عند ربي جل في علاه؛ ولم يتلفظ بعدها بكلمة إلا قول: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. حتى فارق الحياة.

علي المجاهد العنيد والمقاتل الصنديد يموت وهو يسير إلى صلاة الفجر.

مات لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

موت أبي هريرة رضي الله عنه

مات أبو هريرة راوي الحديث والمرافق للنبي صلى الله عليه وسلم في روحته وجيئته.

ماذا يقول في ساعات الاحتضار؟! يقول: آه من قلة الزاد وطول الطريق، راوي الحديث ناقل السنة وناقل العلم الشرعي للأمة، يقول: آه من قلة الزاد وطول الطريق.

فماذا يقول المفرطون أمثالنا؟! ماذا يقول المقصرون أمثالنا؟! ماذا يقول المذنبون والمضيّعون؟!

مات أبو هريرة لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

موت معاذ بن جبل رضي الله عنه

ثم يموت أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ رضي الله عنه وأرضاه، كانت ساعة احتضاره بليل، فقال لابنه: أصبحنا؟ قال: ليس بعد. ثم سأله مرة ثانية: أصبحنا؟ قال: ليس بعد، ثم سأله مرة ثالثة قال: أصبحنا؟ قال: نعم، قال: أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار.. أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار.. ثم أخذ يدعو ربه ويناجيه ويقول: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء.

انظر على ماذا يبكون.. انظر على ماذا يتحسرون، ونحن:

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنهاإلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنهوإن بناها بشر خاب بانيها

مات لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

امرأة من الصالحات أُلقي في روعها أنها تموت، فقالت لزوجها: أريد أن أذهب إلى مكة، أريد أن أرى بيت الله جلّ في علاه، ودّعت الصغير والكبير كأنها تودعهم لآخر مرة، طافت وسعت ودعت وتضرعت، ثم في طريق العودة انقلبت السيارة وأصيبت في رأسها إصابة بالغة، فنزل زوجها ومددها على جانب الطريق فإذا هي رافعة إصبعها السبابة تتشهد وتقول: لا إله إلا الله، أقرئ أهلي مني السلام وقل لهم الملتقى الجنة.

ماتت لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] ولأن الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

خاتمة السوء

شتان بين موت الصالحين وبين موت أهل السفور وأهل الفجور.

شاب من الشباب أعرفه تمام المعرفة، فيه من الحياء شيء قليل لا يكفي لأن يردعه عن الحرام، فكم مررنا على بيت ذلك الشاب والشباب عنده مجتمعون في لهو وضياع للأوقات والأعمار.

كنت أمر عليهم في أوقات الصلاة وأقول: يا شباب! لله حق فأدوا حق الله ثم اصنعوا ما تشاءون، عل الله أن يتدارككم برحمته.

كانوا لا يستجيبون، ثم جاءت الأخبار أنهم قد نووا السفر إلى بلاد الكفار، حيث يحارب الله بالمعاصي، ذكرناهم.. خوفناهم.. ولكن تمكن منهم الشيطان وزين لهم أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جارٌ لكم، ذهبوا ورجعوا بعد ثلاثة أيام يحملونه في تابوت، ما الخبر؟ ما القصة؟ ما الخطب؟

أكثروا من اللهو والضياع والمعاصي فأصابته نوبة قلبية وخر ميتاً في مكانه، ذهبوا وهم يسيرون جميعاً على الأقدام ورجعوا وهم يحملونه على أكتافهم، هل كان يظن يوم أن سافر أنها آخر سفرة يسافرها في حياته.

وقفتُ على قبره.. تذكرتُ الأيام الماضية، وكم ذكرناهم وكم قلنا لهم ولكن لا تحبون الناصحين، كم قلنا لهم وكم وعظناهم، ولكن إنّا لله وإنا إليه راجعون.

أهكذا يموت الشباب؟! قلت في نفسي: ما جاء من أرض جهاد حتى نكون به من الفرحين، ما جاء من أرض علاج حتى نكون عليه من المشفقين، ما جاء من أرض يطلب فيها العلم حتى نكون به من المباهين.

الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.

فاتقوا الله عباد الله.. اتقوا الله عباد الله

فالعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة.

أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات، ومؤتم البنين والبنات، زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة، أكثروا من مجالس الذكر فإنها تحيي القلوب.

فإذا قسا القلب فلابد من الإكثار من ذكر الله، وتذكر الآخرة وتذكر الموت، وتذكر النهاية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].

اللهم اجعل خير عمرنا آخره، وخير عملنا خواتيمه، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم أطل أعمارنا، وأصلح أعمالنا.

اللهم امنن علينا بتوبة نصوح قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا رب العالمين!

لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، بها نحيا وبها نلقى الله.

اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.

اللهم هون علينا الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والسؤال وشدته، والقبر وضمته، ويوم القيامة وكرباته.

اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.

اللهم اغفر ذنبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا يا قوي يا عزيز! على القوم الكافرين.

أستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مفرق الجماعات للشيخ : خالد الراشد

https://audio.islamweb.net