اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أولئك لهم الأمن وهم مهتدون للشيخ : ناصر العمر
أما بعد:
أيها الإخوة! فقبل أن أواصل الدرس مع سورة يوسف أبدأ في الموضوع الذي وعدتكم به، وأستميح الإخوة عذراً بأننا قد نضطر أن نؤخر الصلاة بضع دقائق على خلاف العادة؛ لأهمية الموضوع المطروح أولاً؛ ولأهمية استمرار المواصلة فيما يتعلق بسورة يوسف، فمن كان لديه عذر ولا يستطيع أن يتأخر فبإمكانه بعد دقائق أن يخرج ويدرك الصلاة مع أي مسجد مقارب.
ترددت كثيراً! هل أتحدث عما يجرى الآن، أو لا..؟!
وقد طلبت مني بعض وسائل الإعلام وألحت على أن أدلي بتصريحات في هذا الموضوع فاعتذرت بشدّة، ولكنني في درس علم، وسمعت أموراً لا يجوز السكوت عليها، فرأيت ونحن في درسنا هذا الذي أسأل الله أن يجعله مباركاً أن أتحدث عنها؛ ولأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فسأقول هذه الكلمات وإن وجدت أن من المصلحة الرجوع إلى الموضوع مرة أخرى في درس قادم فسأفعل إن شاء الله.
وسبب حديثي عن الموضوع ما سمعته ورأيته في الصحف ووسائل الإعلام وبعض الإذاعات مما لا يجوز السكوت عليه.
واليوم فقط اطلعت على جريدة واحدة من هذه الصحف ووالله تألمت، وسترون ما أقوله بعد قليل فما بالك ببقية الصحف.
وسوف أفصل الموضوع بما يلي:
أقول: لا أريد أن أكون موسمياً، ولا أن أتحدث عن حدث معين، ولست في المقام الذي يجوز لي أن أتحدث عن فلان أو فلان، إنما أنا هنا كي أقعد قواعد وأصولاً ومنطلقات لطلاب العلم، ولست أسوق خبراً من الأخبار، أو أتحدث عن فرد معين بذاته، وأتجاوزه بلا غيبة، إنها قضية ما يتعلق في مفهوم الجهاد والتفصيل فيه؛ فمنذ سنوات وأنا أطرحه، وكنت أنبه عليه وقبل أكثر من عشرين سنة وهذا الكلام ليس دعوى, وليس ادعاء، وإنما هو موجود في بعض رسائلي وأشرطتي ومحاضراتي ودروسي, وأنتم سمعتموه مني في هذا المسجد مراراً وفي بيتي تكراراً وهو أنني أقول: يجب أن نجنب بلادنا وبلاد المسلمين ما مرت فيه بلاد إسلامية أخرى, كما حدث في سوريا ، أو مصر، أو الجزائر ، أو غيرها، وكيف كانت النتائج؟!
هذا الكلام لا أقوله الآن، بل كنت أقوله وارجعوا إلى محاضرة: (على رِسلكم). قبل عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة، وارجعوا إلى رسالة: (العلم ضرورة شرعية ) وإلى غيرها وكلكم تعرفون هذا الموضوع.
الجهاد أمل من آمال الأمة، والله لا أقول هذا تنظيراً -أيها الإخوة- وإنما أقوله حقيقة، الأمة كما في الأحاديث الصحيحة: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين يقاتلون) كما في بعض الروايات، لكن مع من؟! مع الكفار، الجهاد في موضعه كما هو الآن في فلسطين ، والشيشان، وأفغانستان، وكشمير، والفلبين وفي مواطن كثيرة، هذا جهاد حقيقي يجب أن ندعمه وأن نقف معه.
أما أن يُنقل الجهاد إلى داخل بلاد المسلمين، فأقول: هذا الذي أعلنت موقفي فيه بوضوح وصراحة منذ سنوات ولا أزال عليه، وأشرت إلى هذا الأمر، وإلى أن موقفي واضح وأدلتي فيه بينة.
يجب أن نناقش الأمور بموضوعية واتزان وعقل، وسأقف -إن شاء الله- مع آخر هذه الكلمة بما هو الواجب علينا.
اسمعوا إلى بعض هذه الظواهر، وما سأذكره لكم ليس إلا نزراً يسيراً مما حدث خلال أربعة أو خمسة أيام فقط، ما سَلِمَ من هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض أحد، خذوا الأدلة أو بعض الأدلة:
فأعجبني رد المذيع عليه أو المقابل، حيث قال: هل تريد أن يُرشح لخطبة الجمعة الحداثيون؟!!
حتى خطب الجمعة! طبعاً هو ساق هذا في سياق أن الأحداث -كما يقولون- التي جرت سببها خطباء الجمعة، يعني: حمّلوا خطباء وأئمة المساجد مسئولية ما حدث.
وأيضاً: رأينا منهم تحميل للعلماء، حتى في جريدة اليوم، أقول: في بعض الجرائد التي صدرت اليوم ولا أعني جريدة بعينها، ما سلمت هيئة كبار العلماء ولا الدعاة وحُمِّلوا هذه المسئولية.
وأذكر في عام ستة عشر، وأنتم تعلمون أين كان بعض مشايخكم عندما وقعت أحداث الخبر، وقرأت تصريحاً ليس لعلماني ولا مناصر، بل رجل محسوب على طلاب العلم، والتصريح موجود والصحيفة موجودة، يقول بعد انفجار الخبر : من الغد نحن نعلم من الذين وراء هذا الحادث، واتهم فيه الإخوة الذين كانوا في خلوتهم -كما تعلمون- مع أنه اتضح بعد ذلك أن الذين قاموا بتفجيرات الخبر هم من الرافضة حتى ليسوا من أهل السنة , لماذا هذه الاتهامات مباشرة؟!!
يعني: بعد أربعة وعشرين ساعة من وقوع الحدث يصرح فماذا يقول؟! ماذا يقول إذا وقف أمام الله جل وعلا يوم القيامة وقيل له: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة:111]؟ إذا كان أفلت في الدنيا ولم يعاقب على كلامه، ولم يُطالب هؤلاء المتهمون بحقوقهم واتهامهم وهم في عزلتهم وخلوتهم، ويتضح من قام بهذا الأمر لم يفلت يوم القيامة، فيقال له: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
الآن في الصحف اتهامات لعلماء ولطلاب العلم واللمشايخ، كما قلت لكم حتى هيئة كبار العلماء اليوم في إحدى الصحف لم يسلموا.
حتى أحدهم أمس في مقابلة إذاعية يقول: إن في مناهجنا أنه سأل رجل أحد السلف هل أُسلِّم على نصراني؟ قال له: سلِّم عليه بقدميك. أعوذ بالله!! هل رأيتم هذا في مناهجنا؟!!
والله يا إخوان يكذبون جهاراً عياناً صراحة، وأمام الملأ، ولا يستحون! أنا والله لا أعرف أن في مناهجنا مثل هذا الكلام، سبحان الله! وينسب إلى السلف! إلى مناهجنا!
هذا شأن الذين في قلوبهم مرض أيها الإخوة! المناهج الآن الهجوم عليها شديد جداً، وبالذات على المناهج الشرعية وأخُص ما يتعلق بالولاء والبراء؛ لأنها سبب ما حدث على حد زعمهم.
ما دخل الجهاد في هذه الأمور؟!! ما دخل المجاهدون في هذه الأمور؟!!
فليتق الله هؤلاء، وليرعووا عما هم فيه.
وأمر مذهل أن الذي يُنشئ الغلو والتكفير هي كتب الدعوة وكتب أئمة الدعوة كما يقول، ألا فضَّ الله فاه! أمور وصلت إلى حد عجيب أيها الإخوة، وينعى على الذين يقولون: إن سبب ما يقع في بعض أبنائنا من غلو بسبب أفكار وافدة، مع أنني لا أسلم بهذا الكلام، لا يُفهم أنني أسلم بقضية الأفكار الوافدة بإطلاقها، المسألة فيها تفصيل: فبعضها أفكار وافدة باطلة وخاطئة وبعضها قد تكون صحيحة، فـصحيح البخاري ألفه رجل من بخارى، وصحيح مسلم ألفه مسلم القشيري النيسابوري، وكذا الترمذي والنسائي وغيرهم.
كلمة الوافدة ما معنى وافدة؟! إن كنت تقصد وافدة عن ديننا وخارج ديننا، فنحن معك، أي شيء يخرج عن ديننا فهو وافد, سواء كان من داخل هذه البلاد أو من خارجها.
أما إن كنت تقصد الحدود الجغرافية، فهذا خلل، فمؤلف لسان العرب ابن منظور أفريقي . فهذا المصطلح يحتاج إلى تحرير.
ومع هذا يقول هذا الرجل: لا ليست المشكلة من الأفكار الوافدة، بل مشكلتنا من داخلنا، وفي داخل كتب أئمة الدعوة ففيها الغلو، والذين تربوا عليها يحدث عندهم الغلو والتكفير.. إلى آخر ما قال.
هذه حقائق وأنا لا أتكلم عن أسرار.
فأقول: هذا بلاء أيها الإخوة، ومن هنا أردت أن أشير إلى هذه القضية، وجاءني أناس يكادون أن يبكوا مما يرون.
وأقول: إن استمر الأمر على ما هو عليه فإنه يزيد الأمر سوءاً، والله لا يعالج هذه المشكلة هؤلاء الذين يطرحون هذه القضايا، فهم أكذب الناس في بحثهم عن حل المشكلات، إنما هم كما كان المنافقون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أشعال الفتن، ما جاء المنافقون بحل مشكلة أبداً، وإن تباكوا، وإن فعلوا ما فعلوا فهم من أكذب الناس، وهم الذين أثاروا الفتن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يثيرون الفتن في مجتمعنا الآن، وهم الذين يسببون الغلو.
لماذا يطلق الكلام على عواهنه؟!!
لماذا تُتهم المناهج؟!!
لماذا تُتهم كتب أئمة الدعوة؟!!
لماذا يُتهم العلماء؟!!
لماذا يُتهم الخطباء؟!!
لماذا تُلمز السنة؟!!
أين نحن أيها الإخوة؟!! وفي صحفنا وإذاعاتنا؟! هذا كلام يجب أن نكون منه على مستوى من الوعي، وأن نحذر من أمثال هؤلاء الذين طالما حذرنا عنهم وحذرنا منهم، فهم لا ترتفع رءوسهم إلا عند الفتن -والعياذ بالله- ليخرجوا ما في صدورهم من غل وحقد على كتب السنة، وعلى هذا البلد وأهله ومجتمعه، وإن زعموا الإصلاح، لا يوجد أحد أبداً يدعي الإفساد حتى فرعون، فرعون يقول: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] بل يخاف على قومه من موسى: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] فرعون يرى أنه هو المصلح وأن موسى عليه السلام هو الذي يخشى على قومه منه، سبحان الله! والمنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينزل القرآن يقول: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12] وهذا الكلام قلته في محاضرة عام (1410)هـ في مسجد الملك خالد محاضرة موجودة بعنوان: المصلحون المفسدون ، كيف المصلحون المفسدون؟ أي: يدعون الإصلاح وهم المفسدون حقيقة، كاتهام ولمز السنة، وكتب الدعوة وأئمة الدعوة -كالطعن في دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب - فهم يتفقون مع أسيادهم في أمريكا وغيرها على الوهابية وغيرها، فالطعن في مناهجنا وعلمائنا ودعاتنا ومشايخنا وخطباء المساجد لمصلحة من؟!! وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].
واجبنا كبير وعظيم ألخصه بما يلي؛ محافظة على وقتكم، وقد أضطر هذا اليوم -كما قلت- للاختصار مراعاة لهذا الوقت:
ما حدث وما يحدث فتنة عظيمة، وعندما قلت قبل أكثر من سنة وجلست فترة أُبين ما هو واجبنا في فقه الأزمات والفتن؛ سألني بعض الإخوان: لماذا أنت تركز على هذا الأمر؟
قلت: إن مدَّ الله في عمركم كما نرى من مقدمات ليس تنبؤاً ولا علم غيب، فالأمر خطير، وها هي تتلاحق الأحداث كما تلاحظون، هذه فتنة نسأل الله أن يقينا وأن يقي بلادنا كل سوء ومكروه.
أيها الإخوة: اضبطوا ألسنتكم، أحكموا قلوبكم، ابتعدوا أن تقعوا في هذا الأمر في أيديكم، وقد نجاكم الله عن الوقوع في هذه الفتن، والسلامة, كما ذكرنا في حديث أبي داود الذي صححناه قبل قليل، أو أشرنا إليه كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السعيد لمن جنب الفتن) ثلاث مرات يقولها النبي صلى الله عليه وسلم.
تابعت ما يكتب أو بعض ما يكتب، وهناك بعض العلماء والأخيار تحدثوا في الموضوع ولهم اجتهادهم، لكن لفت نظري أننا نتلمس مظاهر المشكلة ولم نصل إلى حقيقة السبب، هذه مشكلتنا عن الأزمات، لا نتلمس الأسباب الحقيقية للحدث، ما الذي يجعل فلاناً أو فلاناً يفعل هذا الفعل؟ قد يكون بعض ما يذكر صحيح، لكن الأسباب الحقيقية من المعاصي، واستثارة المنافقين والعلمانيين، والبعد عن شرع الله، لا نناقشها مناقشة صريحة، واجبنا أن نناقش هذه المسائل وبخاصة من طلاب العلم ومن العلماء حتى نصل إلى ما يقطع دوابر الفتن بكل مكان في بلادنا وفي غيرها، بدون معالجة الأسباب الحقيقية لن نصل إلى نتيجة، بل قد يزداد الأمر سوءاً، واتخاذ بعض الخطوات التي قد لا تعالج الموضوع من أصله قد لا يحد من المشكلة.
يا أخي الكريم! المسألة دين، جنة أو نار، حياة أو موت، فإياك أن تقدم على عمل لم تحرره شرعاً، وأن ترجع إلى من تعلم ومن تثق في دينه وعلمه وعقيدته: هل هذا العمل مشروع، أو غير مشروع؟ وألا نُستدرج، هذه مسألة أؤكد عليها دائماً وأكررها, حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
الشيء الذي أقوله لكم -أيها الإخوة- عندما اخترت هذا البحث من أجل أن أبحث، وتفرغت له سنة كاملة من أجل بحثه، وقدمت مشروعاً للجامعة وذكرت فيه عدداً من الآيات كنت أتصور أن آيات الوسطية في القرآن عشرات الآيات، ولكن فوجئت وأنا أبحث في الموضوع إلى أن الآيات بالمئات إن لم يكن القرآن من أوله إلى آخره يرسم منهج الوسطية، إما تصريحاً، وإما اقتضاءً ملازماً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] هذا منهج الوسطية.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29] هذا يرسم منهج الوسطية.
وجدت منهج الوسطية منهج قرآني في كل شيء؛ في العقيدة، والعبادة، وشئون الاجتماع، والأكل، والشرب لا تسرف ولا تقتر.
منهج الوسطية منهج متكامل نحتاج أن نصوغ عليه حياتنا، وأن نربي أبناءنا وأمتنا على هذا المنهج، وليس منهج الوسطية -كما قلت لكم- كما شاع عند بعض الناس بمعنى: التنازل، أو التساهل، يقال: فلان يأخذ بمنهج الوسطية، لا. هذا لم يأخذ بمنهج الوسطية، هذا أخذ بموضوع التمييع والتنازل والتساهل.
ولا أريد أيضاً أن يوصف كما يصف البعض أنه ممن يأخذ منهج التيسير، لا يا إخوتي الكرام! مع كل أسف أحياناً يوصف بعض الأشخاص وينقل أنه يأخذ بمنهج التيسير، لا يا أخي الكريم! القرآن والسنة هي التي ترسم منهج التيسير: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185] .. (إنما بعثتم ميسرين) .. (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا).
التيسير هو سمة هذه الشريعة، أما أولئك أحياناً الذين يوصفون بالتيسير، في الحقيقة ليسوا ميسرين بل مشددين، ويميعون قضايا هذا الدين، ويتساهلون ويتنازلون، ويتتبعون الرخص، هذا ليس منهج التيسير، إن منهج التيسير هو منهج الإسلام، ومنهج أهل السنة والجماعة ، وهذا بينه العلماء قديماً وحديثاً.
فلنربي أمتنا على هذا المنهج بعيداً عن الإفراط والتفريط، ثم لماذا يُتكلم دائماً إذا تُكلم عن الغلو والإفراط ولا يُتكلم عن التفريط؟ إذا أطلق لفظ التطرف فإنه يطلق على فئة معينة، الآن إذا أطلق أن فلان متطرف، ماذا يفهم الناس؟ يفهم الناس أنه من مدرسة الغلو؛ لأنه ليس في مصطلح الشرع منهج تطرف، إنما مدرسة الغلو، أو الإفراط والتفريط.
لكن تعالوا أذكر لكم مثالاً: هذه الماسة التي أمامكم لها طرف، هذا طرف وهذا طرف، فلماذا دائماً نركز على هذا الطرف وننسى هذا الطرف؟ أصحاب الغلو عندهم تطرف، وأصحاب الإفراط عندهم تطرف، وأصحاب التفريط عندهم تطرف، وأصحاب الجفاء عندهم تطرف، فلماذا إذا أطلق التطرف الآن في وسائل الإعلام لا يطلق إلا على أصحاب الغلو، بينما الأمر له طرفان كعدوتي الوادي وفي وسط الوادي، الآن أنا جالس في مقابل وسط الماسة، والأجهزة في الوسط، هذا طرف وهذا طرف، فليس من العدل أن نتكلم عن طرف ونترك الطرف الآخر، فالذي يغلو متطرف، والذي يفرط متطرف، والذي يجفو متطرف، وأصحاب الذنوب والمعاصي متطرفون، وأصحاب الغلو متطرفون؛ بُعدنا عن المصطلحات الشرعية هو الذي يوقعنا في هذه الإشكالات.
فيا أيها الإخوة! منهج الوسطية وتربية الأمة على هذا المنهج باعتدال واتزان يبعدها عن كثير من هذا البلاء، ويبعدنا عن منهج المنافقين والعلمانيين والغلاة، كما حدث من الخوارج ومن غيرهم، وكذلك مدرسة المرجئة، ومدرسة الجهمية وغيرها، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، منهج القرآن يطرح ويؤصل ويثبت منهج الوسطية قولاً وعملاً، وهكذا سار عليه صلى الله عليه وسلم.
أيضاً المربون والمعلمون مسئوليتهم عظيمة في هذا الجانب، وكذلك أئمة الجُمع والمساجد، المدرسون والمدرسات، المسئولون عن الإعلام، علينا أن نربي النشء على طاعة الله تعالى، والبعد عن الانحراف أياً كان: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
انظروا يا إخوان! أي طريق في الأرض تجد له طرقاً عن يمينه وعن شماله، كما رسم النبي صلى الله عليه وسلم الطريق، ورسم الجوانب عن يمين وشمال، والمهم أن نسير على الطريق: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
أن نربي أبناءنا وبناتنا.. مسئولية كبار العلماء، الأئمة، الخطباء، المدرسون، الآباء والأمهات، المسئولية جماعية -أيها الأحبة- ليست على فئة دون أخرى فيما يتعلق بالإفراط والتفريط.
مسئوليتنا أمام هؤلاء الشباب الذين نجدهم في الشوارع والمقاهي، ويسافرون إلى الخارج، لاحظوا في الصحف الآن تركيز شديد على الذين يسافرون إلى بعض جبهات الجهاد، لكننا لا نجد أدنى تركيز على الذين يسافرون إلى تايلاند وإلى مواخير الفساد والبلاء، سبحان الله! أي ظلم هذا؟! أي بلاء هذا؟! هذا خلل في المنهج وفي معالجة المشكلة أيها الأحبة.
فلا بد من إشغال الشباب فيما ينفعهم من العلم والتعليم، وأن يكونوا منتجين لأمتهم، هذا مما يعالج المشكلة.
الأمن في القلوب، والأمن -مع كل أسف- عندنا فيه خلل، وأقصد في فهمه، الأمن ليس فقط أمن الأجسام، فأعظم أمن هو أمن القلوب؛ لأن الرجل إذا صلح أصبح رجل أمن، مع أهمية أمن الأجسام، وبعض الناس لا ينفع معه إلا أمن الأجسام وما تؤديه أجهزة الأمن في هذا الأمر، لكن أمن القلوب أهم عندما يكون الإنسان على عقيدة والتزام وصلاح:
لو كنت في البر وفي مكان فيه شيء من الخوف، ثم رأيت رجلين: رجل أمن عليه لباسه، ورجل تعرف أنه من خيار المستقيمين، تفرح بالاثنين، كل منهم يؤدي دوراً كبيراً، ولكن فرحك بالمستقيم أعظم! فأمن القلوب أمر عظيم ومهمتنا عظيمة.
فالأمن -أيها الإخوة- واجبنا في جميع بلاد المسلمين، وأنا لا أتحدث عن بلد معين فقط، نعم. أمن في بلادنا وفي غيرها من بلاد المسلمين، عندما تحدثت قبل سنوات عن واقع إخواننا في مصر، أو الجزائر، أو سوريا، أو غيرها أتحدث عن بلد من بلاد المسلمين ووجوب توفير الأمن فيه، فتوفير الأمن مطلب شرعي، وهو عبادة وليس وظيفة مادية، لا. فنحن نتعبد الله جل وعلا بمحافظتنا على أمن المسلمين في كل مكان.
من الأمن إبعاد وسائل الانحراف، ومحاربة الرذيلة والفساد، وتحكيم شريعة الله جل وعلا، وتعليم الناس كتاب الله جل وعلا وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجود رجال يحمون الأمة في بيوتهم ويسهرون والناس نائمون، كل هذا من الأمن.
إذاً: نحن نحتاج إلى مفهوم الأمن بمعناه الشامل المتكامل؛ لأننا نخطئ في مفهوم الأمن؛ فنقصره على بعض أجزائه، والأمن أشمل، فهو أخطر من السارق هذا الذي ينتهك حرمات المسلمين! وأخطر من الذي يستخدم المخدرات! هذا الذي يبث الفكر الفاسد كأفكار المنافقين والعلمانيين في الأمة، كل هؤلاء بمقتضى الأمن، بل المقتضى الشرعي لمفهوم الأمن كل هؤلاء يجب أن يُحاربوا؛ حتى تعيش الأمة في أمن وسعد ورغد كما كان مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة.
نحتاج إلى الأمن وكل منا رجل أمن، كما قلت لكم في المفهوم الشامل المتكامل الواسع كما هو في القرآن والسنة، أما أن نأخذ جزءاً من مفهوم الأمن وندع الباقي هذا خلل، ولا نستطيع أن نعالج الخلل معالجة جزئية، بل المعالجة تحتاج ولا بد أن تكون شاملة، وأن نعيد النظر في كثير من قضايانا، في داخل بيوتنا، ومسيرتنا؛ حتى يعود للأمة عزها وسؤددها ومكانتها، وأن نبتعد عن أي شيء يثير الخلل والأمن.
تعرفون كيف كنا قبل أربعين أو ثلاثين سنة نعيش في أمن ورغد، يستطيع الواحد أن يأخذ زوجته وبناته ويذهب إلى أي مكان وينام مطمئناً مرتاحاً.
الآن لا تستطيع! تخشى أن يأتيك إنسان يستخدم المخدرات، أو لصوص، أو قطاع طرق، لماذا حدث هذا؟ حدث لبعد الناس عن الله جل وعلا.
ولذلك في قصة محاورة إبراهيم عليه السلام مع قومه، قال الله جل وعلا وبين من هو صاحب الأمن: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] هذا هو أدق تعبير لمفهوم الأمن: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] أن نخلي مجتمعنا من الظلم الصغير والكبير على المستوى الفردي والجماعي من المعاصي: آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
بهذا نستطيع أن نعالج هذه القضايا، وأن نحافظ على أمن بلادنا وبلاد المسلمين، وأمن بيوتنا وبيوتهم.
مرت حادثة الحرم مع ما فيها من خطأ وتكلم العلمانيون والمنافقون الذين في قلوبهم مرض، بل بعض الناس جلس يتباكى على الإسلام، لا يا أخي الكريم! انظروا كيف كانت الأحوال، هذه الفتن تصهر الأمة، وتخرج وتصفي معدنها، أبشروا وتفاءلوا، المهم أريد التفاؤل الإيجابي لا التفاؤل السلبي، التفاؤل الإيجابي: التفاؤل الذي يكون فيه قلبك مطمئناً بوعد الله وبنصر الله مع العمل الجاد لخدمة هذا الدين، وللمحافظة على مجتمعك وعلى أمتك، وأن نرسخ هذا المنهج، وأن ندع الغفلة والتكاسل والنوم والتراخي والتلاوم، وبهذا أبشروا والله، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] دين الله منصور وعزيز، وهؤلاء والله لن يستطيعوا أن ينالوا من دين الله مهما فعلوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يكفي أمتنا شر أصحاب الشر أينما كانوا وحيثما حلوا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أولئك لهم الأمن وهم مهتدون للشيخ : ناصر العمر
http://audio.islamweb.net