إسلام ويب

لو تأملنا تربية الرسول لأصحابه لعرفنا المنهج الذي ساروا عليه، وبه علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقد نكون بحاجة لطرح سؤال حول التربية المتكاملة، إلا أن الصحابة قد تركوا لنا من تاريخهم ومعاشرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعتهم وصدقهم مع الله ما يكفي لأن يكون منهجاً لنا، ونكون قد حصلنا على موضوع كامل عن التربية المتكاملة.

التربية المتكاملة للصحابة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الشيشان، اللهم انصرهم في أفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان، وادحر عدوهم عدو الدين، اللهم مهلك الجنود وفرعون وثمود أهلك اليهود، وأهلك أعوان اليهود، ودمر الصليب وأمم الصليب، ودول الصليب، وأهلك الهندوس والمجوس والروس، وسائر أعداء الملة والدين، وافضح المنافقين ورد كيدهم إلى نحورهم، وأبطل سعيهم، واهتك أستارهم وأسرارهم، اللهم اكف المسلمين شرهم يا حي يا قيوم! اللهم آمين.

أما بعد:

فكما سمعتم في العنوان مما ذكر أخي أبي يزيد وهو من كل خيرٍ يزيد، ومن كل شرٍ بعيد، أسأل الله أن يكون كذلك ولا نحسبه إلا كذلك، والله حسيبه، فإنه هو وإخوانه ممن نشكر لهم جهودهم الطيبة المباركة، وفضلهم بعد فضل الله على أحبابهم، وأبناء عمومته، وقبيلته وإخوانه في الله كثيرٌ وكبير، ومثله في هذا الزمان نادر.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما يقدم في موازين عمله الصالح يوم يلقاه هو ومن معه من المشايخ والأحبة، فإن المرء ليس إلا بالله ثم بإخوانه.

عنوان اللقاء: التربية المتكاملة.

دعاني إلى الحديث عن هذه المسألة سؤالٌ يطرحه كثيرٌ من الإخوان، وكثيرٌ منهم جاد، وبعضهم يطرحه من باب التبرير لنفسه والتعليل لتقصيره، وهو في ذلك غير جاد بل هو هازل، وهو السؤال التقليدي والاعتيادي الذي كثيراً ما نواجه به.. بأي شيءٍ أبدأ؟ وماذا أعمل؟ وماذا أقدم من الأعمال الصالحة؟

فبعضهم يقول: هل أشتغل بالعبادة؟ وبعضهم يقول: هل أبدأ بالعلم؟ وبعضهم يقول: هل أسلك طريق الجهاد؟ وهكذا تأتي الأسئلة من أناسٍ كثر.

والجواب: هو ما ستسمعون في هذه المحاضرة إن شاء الله تعالى.

وبادئ ذي بدء أقول: ما كان هذا السؤال معروفاً عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أفضل جيل، وأكمل رعيل، الجيل الفريد الذي اختاره الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.

نظر الله في قلوب الخلق فوجدهم أبر الناس قلوباً، وأتقاهم أفئدة، وأعمقهم علوماً، فاختارهم الله سبحانه عن حكمةٍ وعلمٍ لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وجعلهم أولياءه، وحوارييه، وأنصاره، والمهاجرين معه، وهم الذين على أكتافهم قامت تبعات الدين، وعلى سواعدهم رفعت ألوية الجهاد في سبيل الله، وعلى تيار دمائهم سارت سفينة الإسلام، وعلى أشلائهم قامت قلاع الدين، فضربت رايات الجهاد التي ساروا وراءها مشرقةً ومغربةً، ومجنبةً ومشمئلةً.. ضربت في أقطار الدنيا، وجزر البحار، ولو كانوا يستطيعون أن يصلوا إلى الأجواء، أو يغوصوا في البحار كما استطاع أهل هذا الزمان ما تركوا إلى ذلك سبيلاً، وما تركوا وسيلةً لتبليغ دعوة الله إلا فعلوها.

أحد الإخوان ذكر أنه بعد تأمل وبحث توصل إلى -وانتبهوا لهذا جيداً- أن نسبة (82%) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه ورضي عنهم وأرضاهم ماتوا جهاداً في سبيل الله. (82%) ماتوا على ظهور الخيل وتحت سنابكها، ماتوا في أودية الدنيا وشعابها، وعلى رءوس الجبال، وتحت أسوار الصين .. قُتلوا تحت أسوار القسطنطينية، وفي أدغال أفريقيا، ومجاهل النوبة .. قتلوا في البحار أو ماتوا فيها، قليلٌ منهم من مات في البقيع وهم معدودون ومحسوبون، ومن مات في المدينة كثير منهم مات قتلاً، وتبقى نسبة تبقى (18%) ولا يعني أنهم لم يجاهدوا بل جاهدوا، ولا يعني أنهم لم يحرصوا على الموت بل حرصوا، ولا يعني أنهم لم يطلبوا الشهادة بل طلبوها، ولكنهم ماتوا بالطاعون أو بموت الفجاءة.

هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا عجب ولا غرو -يا شباب الأمة!- أن يختارهم الله لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمنافق في زمانهم قليل، والفاسق نادر، وأكثرهم استجابوا وأجابوا، ولله أنابوا وانقادوا، وقاموا ونصروا، ووفوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من انتظر، ولكنهم كلهم ما بدلوا تبديلاً، بل سلموا تسليماً، حتى لقوا الله سبحانه وتعالى متمسكين مسلمين، غير مبدلين ولا مغيرين، ولا مخالفين ولا مبتدعين، فاللهم نسألك أن تلحقنا بهم في الصالحين يا رحمن يا رحيم!

تربية الصحابة على أعمال الخير

هؤلاء الصحابة ما كان هذا السؤال عندهم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن أعمال الخير بعدد الأنفاس، والخطرات، والحركات، والنبضات، والنظرات، والتقلبات والتصرفات، واللفتات، وأعمال الخير بعدد الجيات والخرجات والدخلات، فأعمال الخير على قارعة الطريق، والمساجد، والأسواق، وساحات الجهاد، وبين الأهل والأولاد والأحباب.. فالمسلم لا ينفك من عبادة.

ولهذا ما كان هذا السؤال وارداً، وإنما إن سألوا: أي الأعمال الصالحة نعمل؟ وكثرت أعمال الخير حتى احتاروا بأي عملٍ يبدءون، فكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم لا عن فراغ وحيرة، ولكن عن حيرةٍ من كثرة الأعمال الصالحة أمامهم، فيسألون عما قَلَّ ودَلَّ، وخف عملاً وثقل أجراً وحسنات، فلذلك تكاملت تربيتهم وشخصيتهم.

وأنا دائماً أحب أن آخذ الإخوان معي إلى سياحةٍ روحية، وأن أنتقل بهم إلى عالم الأموات الذين ماتوا على السنة والشهادة، فإن العيش مع الأموات من خلال الأحاديث والتذكرة والكتب والقراءة؛ خيرٌ وأفضل من عيش كثيرٍ من الأحياء الذين أكثرهم لا يزهدوا بدنيا، ولا يرغبوا بآخرة، بل تقسي مجالسهم القلوب إلا ما شاء الله ورحم.

فلنعش مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لدقائق معدودة.

حينما ننظر مثلاً -يا إخواني- إلى هذه الأوامر الأربع التي جاءت في بواكير الدعوة، وهي:

الأمر الأول: اقْرَأْ [العلق:1].

والأمر الثاني: قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:2].

والأمر الثالث: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:2] .

والأمر الرابع: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52].

هذه الأوامر، وهذه الجوانب هي تقريباً أفضل الأعمال وخيرها، فالدعوة، والجهاد، والقراءة والتعلم والعلم، والعبادة والتزود من الطاعة هي المحاور التي كانت تدور عليها حياة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ولهم منها أوفر الحظ والنصيب، والمسلم إذا لاحظها كلها ونظر إليها نظرة سواء، ولم يغلب منها واحداً على آخر، أو يقدم واحداً على آخر، فإنه بإذن الله يهدى إلى كل خير، ويتوازن في مسيره إلى الله عز وجل.

الصحابة .. طلاب علم وعباد

فمثلاً لو أخذنا الأمر الأول وهو (اقرأ) لوجدنا للصحابة في ذلك نصيباً عظيماً وكبيراً وكثيراً، ولا نذكر بعض أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن البعض يقول: هذا رسول وأين نحن منه؟ لكن نذكر بعض أعمال الصحابة وحرصهم على: 1- تحقيق هذا الأمر. 2- طلب العلم ما داموا أحياء، ما دامت هذه النفس تتردد بين الجوانب في الصدر، فإنهم كانوا يطلبون العلم ويسعون إليه ويرتحلون، ويبذلون، ويكدون، وينصبون، ويجهدون حتى ربما سافر أحدهم مسيرة شهر لطلب حديث واحد كما فعل جابر رضي الله عنه وأرضاه، فقد سافر مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس ، وقيل القصة لـأبي الدرداء ، ذكرها البخاري رحمه الله، وعلَّقها في صحيحه وذكرها في الرد على الجهمية ، وذكرها غير واحد من أهل العلم، وسندها صحيح.

وذلك أن جابراً سمع أن حديثاً عند الصحابي في الشام بلغه أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه هو، وكان بإمكانه أن يرسل بريداً، أو يوصي أحداً، أو ينتظر حتى يلتقي به في موسم حجٍ أو غيره، لكنه لم يفعل، وإنما شد على راحلته، وقطع المسافة شهراً حتى وصل إلى الشام ، فلما طرق الباب خرجت الجارية، فقال: أين فلان؟ قالت: من أقول له؟ قال: جابر ، فقال: ابن عبد الله صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. فخرج واعتنقه، وقال: ما جاء بك؟ قال: حديثٌ بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن أموت قبل أن أسمعه.

لم ينتظر الحج، ولا انتظر أن يجمعهم به مجلس، أو جهاد، أو سفر، أو مناسبة، خشية أن يموت وما سمعه، ولعله يكون فيه شيء يرشد إليه أو يهديه إلى خير، أو ينبهه إلى معصية قد يكون واقعاً فيها، فمن حرصه فعل ذلك، ولهذا كان طلب علو الإسناد -كما سيأتي- مطلباً عند السلف وعند الصحابة، وإلا فإنه يستطيع أن يكلف أحداً أو يبعث كتاباً، لكنه أراد أن يسمع بأذنه ويقف بنفسه.

فقال له: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه يجمع الأولين ويحشر العباد يوم القيامة غرلاً بُهْماً، ويناديهم الله سبحانه وتعالى بصوتٍ يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب) ثم ذكر الحديث، ثم قال: (فينادي الله سبحانه وتعالى: من كان له عند أحدٍ مظلمة فلا يدخل الجنة حتى يستوفيها، فيقتص الإنسان حتى اللطمة باللطمة…) وذكر الحديث إلى آخره.

فرجع إلى بلده بمجرد أن سمعه، وما كان له بغية غير هذا.

ابن عباس وطلبه للعلم

لو رأينا مثلاً من الصحابة الصغار، ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يعتبر من الصحابة المتميزين، ولهذا يقال: إنه من المؤلفين، أي الذين رووا الحديث بالآلف، (1650 حديثاً تقريباً) رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في مسنده. مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما مات كان عمره اثنتي عشرة سنة وبضعة أشهر -أي: عندنا خريج ابتدائي- وينقل هذا العلم العظيم.

قال الإمام محمد بن عثمان الذهبي رحمه الله: صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثين شهراً فقط. فتعجب إذا كانت صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم أو ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثين شهراً فقط، هذا الصحابي الذي ملأ الدنيا علماً! بحر الأمة وحبرها، وترجمان القرآن، والأحاديث التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر حديثاً مباشرة، وأكثر أحاديثه يأخذها عن الصحابة.

ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان صغيراً كما ذكرنا قال لأحد الأنصار: [هيا بنا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتفارطوا نأخذ علمهم، فقال له الأنصاري: يا بن عباس ! وما عسى أن تبلغ مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه وجاهدوا؟ يقول: فجعلت أتردد وأذهب إلى الواحد منهم، أغدو الغدوة إلى الرجل من الأنصار فأجده نائماً فلا أزعجه، وربما توسدت إزاري فنمت على عتبته، فتأتي الريح وتسفي على وجهي التراب، حتى يخرج إليَّ ضحىً من النهار، فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا كنت آذنتني فآتيك؟ فيقول: سبحان الله! العلم يؤتى إليه].

ويرى زيد بن ثابت صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم فيأخذ بلجام دابته يقودها، فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنزل وتركب أنت ابن عمه، أنت من آل بيته، فيقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا -تواضع لله- فيكب عليه ويقبل يده، ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

يقول هذا الأنصاري: فما زلت وما زال ابن عباس على عمله حتى رأيت الناس قد اجتمعوا عليه -انفرد بالعلم- يقول الأنصاري: إن لهذا لعقلاً. حينما أدرك أن الإنسان لا يسود إلا بالعلم، فاجتهد فيه، وبعد سنوات يحصل على هذا العلم، ويصبح مرجعاً للأمة، يقول أبو وائل شقيق بن سلمة : [لقد رأيت ابن عباس في الموقف -يعني في الحج- على الناس يفسر سورة النور تفسيراً لو سمعته الروم والفرس والترك والديلم لأسلموا كلهم] أوتي بياناً وبلاغةً وفصاحةً وصدقاً، وكان يقول كما روي عنه وعن الشعبي : [إن أقل بضاعتي من الشعر، ولو ذهبت أنشدكم من الشعر شهراً لا أعيد ما قلت لفعلت] ويحفظ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير، ويحفظ القرآن من قرآته وأهله.

ولما عمي ما ضره؛ لأنه جمع العلم، كان يقول:

إن أذهب الله من عيني نورهما>>>>>ففي لساني وقلبي منهما نور

عقليٌ ذكيٌ وفكري غير ذي دخلٍ>>>>>وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثور

ولهذا لما قيل له: بما حزت هذا العلم؟ قال: [بقلبٍ عقول، وبلسانٍ سئول].

كان عمر يقول: [هذا صاحب القلب العقول واللسان السئول، هذا فتى الكهول].

هذا ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

وهكذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حريصين على العلم، ومجالس العلم، ولهذا لا يقوم من مجلسه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مجلسه إلا التفوا حوله واجتمعوا عليه.

عمران بن حصين وحرصه على العلم

يقول عمران بن حصين : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أعقل ناقتي -والحديث في البخاري - فجاء وفد تميم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني تميم! اقبلوا البشرى فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل أهل اليمن ، فقال: يا أهل اليمن ! اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أهل تميم، فقالوا: قبلنا يا رسول الله! جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام: كان الله ولم يكن شيء معه -أو غيره- وكان عرشه على الماء، وقدَّر مقادير كل شيء…) إلى آخر الحديث، فقال رجلٌ: يا بن حصين ! ناقتك انفلتت أدركها، قال: فخرجت فإذا هو ينقطع السراب دونها، فوددت أنني تركتها ولم أترك مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام.

إذاً: أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا في العلم وطلبه والرحلة إليه مثلاً، فلم يكن هذا السؤال وارداً عندهم؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يسير إلى الله، ويصحح عبادته، وطاعته، وعقيدته، فيصل إلى الجنة، وإلى بر السلام وساحل الأمان إلا بالعلم النافع فهو النور، والجهل موت والعلم حياة.

وفي الجهل قبل الموت موتٌ لأهله>>>>>وليس لهم حتى النشور نشور

وأرواحهم في وحشةٍ من جسومهم>>>>>وأجسادهم قبل القبور قبور

فلا تستطيع أن تصلي كما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالعلم، ولا أن تتوضأ إلا بالعلم ومعرفة السنة، ولا أن تحج، وتعتمر، وتبايع، وتشاري، وتعمل العقود والمبايعات، والمعاملات، والشركات، والتجارات، والصلح، ولا تستطيع أن تعرف مسالك القضاء، ولا أن تتجنب المحارم والمآثم والمظالم والمغارم إلا بطلب العلم، فالعلم نور، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].

وأخبار الصحابة رضي الله عنهم كثيرة في طلب العلم، والسلف من بعدهم اقتدوا. فـأحمد بن حنبل ماذا جرى له؟ والبخاري ماذا جرى له؟

وعلى كل حال فليس المقام مقام تفصيلٍ في هذا الجانب، لكن القصد بيان أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يظنون أن تفرغهم للعلم سيتناقض مع الأعمال الصالحات الأخرى.

تفاني ابن عباس في معرفة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم

وإذا جئت مثلاً لمقام العبادة، وجدت للصحابة العجب العجاب من الأخبار والآثار، والقصص، وهم يقتدون في ذلك برسولهم عليه الصلاة والسلام الذي قام حتى تفطرت قدماه.

وتعلمون في ذلك قصة عبد الله بن عمرو بن العاص لما تعاهد مع بعض الصحابة، ومثله قصة ابن عباس .

وما دمنا تكلمنا عن ابن عباس في العلم فلنتكلم عنه في العبادة، فقد وردت عنه قصةٌ عجيبةٌ وغريبة، سمعتموها لا شك، لكن لا بأس أن نكررها على المسامع.

فقد جاء في الصحيحين أن ابن عباس أحب أن يعرف كيف كان يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل، لقد عرف كيف يصوم، وعرف كيف يجاهد معه، وعرف كيف يصلي الفريضة، لكن الشيء الذي بقي علمه مطوياً عن ابن عباس هو: كيف يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليله؟

وكان ابن عباس يستطيع أن يسأل أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهن خالته ميمونة بنت الحارث ، أخت لبابة بنت الحارث ، أخت أم الفضل أم ابن عباس ، وأختهم الثالثة لبابة الصغرى ، وأخت أم خالد بن الوليد ، كان يستطيع أن يسأل خالته ميمونة أم المؤمنين، لكنه لم يفعل؛ لأن الصحابة حريصون على علو الإسناد، وإلا فإنهم يستطيعون أن يسألوا ثم يقولوا: حدثنا فلان.

فلذلك بلغت همة هذا الصحابي -وكان عمره إذ ذاك عشر سنوات تقريباً- أن ضحَّى بليلةٍ كاملة حتى يعرف كيف يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم الليل، ولفرط ذكائه انتظر حتى دار الرسول صلى الله عليه وسلم على خالته، ولما رآها من بعيد لا تصلي علم أنها حائض.

ولا عجب إن توسم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الذكاء والنبوغ فدعا له، فقد كان يوماً عند ميمونة ، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً، فأتى بالماء وقربه.

قال أهل العلم: ما جعله بعيداً؛ لأنه لا يستفيد منه، ولا أدخله عليه في الخلاء؛ لئلا ينظر إلى ما يخشى وما يكره أن ينظر إليه من عورته، فجعله عند الباب، فأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الذكاء، فلما خرج قال: (من صنع هذا؟ قالت ميمونة : ابن عباس ، فضمه إليه وقال: اللهم علمهم الكتاب، اللهم علمهم التأويل) وفي رواية أحمد : (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).

فالرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن يكافئ بالدعاء، مثلما ما قال لـربيعة بن كعب الأسلمي لما قرب له الوضوء كما في مسلم : (سلني حاجتك؟ قال: مرافقتك في الجنة يا رسول الله! قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) ودعا له.

وكذلك أنس لما خدم الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، قالت أمه-أم سُليم -: (يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له، قال: فصلى ودعا لي وما ترك خيراً من الدين والدنيا إلا دعاه، قال: اللهم كثر ماله، وأطل عمره، وأكثر ولده، وأدخله الجنة) قال أنس : [فلقد رأيت ثلاثاً، وأنا أنتظر الرابعة، طال عمري، أي:من آخر الصحابة موتاً، وبعده أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي ، وكثر ولدي، يقول: حدثتني ابنتي أمينة أنه دفن من ولدي لصلبي زمن مقدم الحجاج البصرة بضعةٌ وعشرون ومائة -من أولاده وأولاد أولاده ماتوا بالطاعون أو غيره- وأنا انتظر الرابعة] والحديث في البخاري.

فـابن عباس دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك لما رأى أن خالته لا تصلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! أريد أن أبيت عندك الليلة، قال: لا بأس، فقال لخالته: أريد أن أبيت عندكم الليلة، قالت: ما عندنا من فراش، أمهات المؤمنين ما عندهم احتياطي، لا طعام ولا شراب.

قالت: عائشة لما جاءت المرأة تسأل كما في الصحيح فما وجدت إلا ثلاث تمرات في بيت النبوة.

الله المستعان! نخشى أن نكون عجلت لنا خيراتنا، اللهم لا تجعله استدراجاً.

قالت: ما عندنا من فراش، فقال: لا أحتاج إلى فراش؛ لأنه مكافح أنام على ردائي أو إزاري، أفرشه وأنام عليه، ويبقى نصف جسمي عارياً.

فانتظر لما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم سبقه إلى البيت حتى يغطي الحدث تغطيةً كاملة -كالوفود الإعلامية تسبق الحدث حتى لا يفوتهم من الحديث شيء- فجعل ينتظر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم قال: فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى بيته فصلى -وفي رواية أربعاً- قال: ثم تحدث مع أهله ساعة -لاحظ أن كل كلمة فيها فائدة وحكمة، ولهذا يبوَّب البخاري على كل كلمة تقريباً.

وعندنا حديث أبي برزة : (كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) ففهمنا أنه لا بأس أن يتحدث الرجل مع أهله، أو يسمر مع الأهل أو لطلب العلم.. جائز، قال: (تحدث مع أهله ساعة) هذا من باب التبسط مع الأهل، والمؤانسة لهم، وحسن العشرة، بدلاً من أن يأتي الإنسان وينام مباشرة، فالأهل لهم حق، خاصة والرسول صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً مع أصحابه بالعلم والجهاد، فمن حق الأهل عليه خاصةً أنه لا يأتي المرأة إلا بعد تسع ليال أن يتبسط معهم وهذا من الحديث غير المذموم إن شاء الله تعالى.

قال: (فتحدث مع أهله ساعة، ثم قال: نام الغليم) أو كلمةً نحوها، وهو لم ينم لكن يتظاهر بالنوم.

يقول: [حتى إذا كان نصف الليل أو قبله أو بعده بقليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم] انظر الاحتياط في الدقة في الرواية، ليس عنده ساعة، لكنه يقدر بتقديراتهم السابقة، يقدر بحلب شاة أو نحر جزور، ثم صاروا يقدرون بقدر ثلاثين آية، أو بقدر خمسين آية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ورده الراتب نصف الليل، يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، يقول أهل العلم: إذا تساوى الليل والنهار -يعني وقت اعتدال الربيع والخريف- كان مقدار قيامه نصف الليل، فإذا طال ليل الشتاء كان قيامه ثلث الليل، وإذا قصر ليل الصيف كان قيامه ثلثي الليل عليه الصلاة والسلام.

قال: فنام الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله في طول الوسادة ونمت في عرضها، وهو لم ينم، بل جلس ينتظر نصف الليل، ما غمضت عينه لحظة حتى لا يفوته شيء؛ لأنه يريد أن يروي للأمة، فروى هذا الحديث الذي خرجه الأئمة ونفع الله به الناس إلى يوم القيامة.

يقول: [فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يمسح النوم عن وجهه بيده] لم يقل: هذا شيء لا يفيد، لا. نقل كل حركة، ففي كل شيءٍ سنة [ثم نظر إلى السماء، وتلا العشر الخواتيم من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190-191] الآيات] وهذه الآيات يناسب قراءتها إذا قام الإنسان من ناشئة الليل، وجوف الليل، حيث تنام العيون، وتهدأ الأنفاس، وتقل الحركة، ويخلو كل حبيبٍ بحبيبه، فالليل فرصة لكل أحد، ولهذا تقول العرب: الليل أخفى للويل، وقال الله عز وجل: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] فصاحب الخمر مع خمره، وصاحب القين مع قينته.. كلٌ يتربص بالليل، واللص يخرج في الليل، وهذه القوارص والأفاعي والعقارب تخرج بالليل، والجن ينتشرون في الظلام، فلهذا استعيذ بالله من شره، لكن المسلم له مع الليل شأنٌ آخر، فهو فرصته التي لا أحلى منها. يتهجد، ويقوم بين يدي الله عز وجل، فلهذا المؤمن صمته ذكر ونطقه ذكر، يتقلب بين العبادتين، ولهذا قال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران:190] -هذه الآن تتأملها عندما تكون في ناشئة من الليل وخلوة، والناس نيام، وأنت قائم تناجي الله عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ [آل عمران:190-191] يذكرون ويتفكرون فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:191-194] (الذين) لفظة جميلة، هادئة، لطيفة، رقيقة مع رب العالمين، رب السماوات والأرض، كم قالوا ربنا ربنا ربنا ثم في النهاية لما طرقوا وطرقوا فتح لهم الباب فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران:195]، الذين قالوا: ربنا. فاستجاب: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].

لكن لمن هذه البشارة التي يستحقها بجدارة، ليست لكل أحد، ليست لأصحاب الشهوات، والأماني الكاذبة، لاحظ يا أخي! خمس بخمس، أو أربع بأربع، (ربنا) بشروط ثقيلة، وإنها يسيرة على من يسرها الله عليه.

قال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195].

هذه الآيات التي يسن أن يقرأها قائمٌ الليل.

قال: (ثم توجه إلى شنٍ معلقة، فتوضأ منها وضوءً خفيفاً، ثم قام يصلي) ولما قام ليصلي هل قال ابن عباس هذا الفتى الصغير: الآن انتهت مهمتي، فإني سهران إلى نصف الليل، وسآخذ قليلاً من النوم، لا. ما أراد أن يفوته حركة واحدة مما جاء لأجله، كما قلنا يغطي الحدث تغطية كاملة.

فلذلك قال: (قمت، فصنعت كما صنع، يعني ذكرتُ وتوضأت ثم قمت عن يساره، قال: فأخذني بيدي، وفي رواية برأسي وفي رواية بشحمة أذني، فجعلني عن يمينه). ونحن نعرف أن السنة هي مشروعية قيام الليل جماعةً أحياناً، وكذلك عرفنا أن موقف المأموم إذا كان مع الإمام وحده عن يمينه، وليس عن يساره.

يقول ابن عباس : (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين طويلتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة).

وقبل هذا نذكر نكتة لطيفة، يقول: [لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قمت فتمطيت: -يعني: مثلما يفعل القائم من النوم- لماذا هذا؟ قال: كراهية أن يعلم أني كنت أرقبه] حتى يظن أني نائم مع أنه ما كان يتجسس إلا لخير، فتمطيت، ثم قمت فصنعت كما صنع، قال: فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة.

وفي هذا فائدة، يعني: لولا رواية ابن عباس لبقينا على قول عائشة في الصحيح: [ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره في قيام الليل على إحدى عشرة ركعة] لكن ابن عباس قال: ثلاث عشرة ركعة، قال: [فكنت كلما أغفيت قرصني أو قرص شحمة أذني، فانتبهت] يعني: كلما أغفيت من شدة السهر، وطول القيام، يصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفتى الذي تربى في بيت النبوة.

ولهذا يذكر بعضهم، وأنا لا أستطيع أن أُجازف، ولا أقول إنها معلومة محققة، لكن كان بعضهم يقول: إن هناك علاقة بين انتباه أعصاب المخ وقرص شحمة الأذن، ولهذا كان المربون وأساتذة القرآن يقرصون شحمة الأذن لأنها تحر ولا تضر -يعني: تنبه- حتى يقولون: تنبه حتى يكون الإنسان أوعى، ويستعد للفهم، ولهذا ابن عباس حفظ.

يقول: لما قام عليه الصلاة والسلام قال: في الاستفتاح: (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والملائكة حق، والنبيون حق، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، ولك أنبت، وإليك حاكمت، وبك خاصمت، وإليك أنبت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيءٍ قدير) قال: وكان من دعائه: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً) وفي رواية ذكر قال: (اجعل في عصبي نوراً، وفي نوراً، وفي مني نوراً).

يقول الراوي: فلست أدري مما أتعجب! أمن جلده، أم طموحه، أم من حافظته على سهره وصغره، فقد حفظ لنا كل هذا الحديث خلال ليلةٍ كاملة، فروي بالروايات الطويلة التي لو جمعت لبلغت الصفحات، رضي الله عنه وأرضاه.

قال: فلما صلى اضطجع عليه الصلاة والسلام على شقه الأيمن من كثرة الصلاة حتى نفخ -وفي رواية: حتى سمعت غطيطه- حتى جاءه المؤذن فآذنه بالصلاة، فصلى ركعتين ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فقلت: يا رسول الله! تصلي ولم تتوضأ، قال: (إنه تنام عيني ولا ينام قلبي) وهذا خاص بالأنبياء، حتى الواحد منا لا يأخذ غطة وبعد ذلك يقول: تنام عيني ولا ينام قلبي، والقلوب نائمة والعين مستيقظة، لكن هذا خاص بالأنبياء، لماذا يا إخواني؟

علل أهل العلم أنهم تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم لأجل الوحي؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي وحق، فهم في حالة اتصال دائم بالسماء في اليقظة، حتى لا يقول قائل: هذه رؤيا، لا.

حديث البخاري : قالوا: الرجل نائم، قال: العين نائمة والقلب يقظان، فالقلب على اتصال دائم، وتلقِ مستمر للوحي، ولهذا رؤيا الأنبياء حق؛ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، يقول عليه الصلاة والسلام لـعائشة : (رأيتك في المنام محمولةً مغطاة بسرقة حرير، فأكشفها فيقول الملك: هذه زوجتك، فأكشف فإذا هي أنتِ، فقلت: إذا كان من عند الله يمضه) أو كما جاء في الحديث، فرؤيا الأنبياء حق، وهي أحد أنواع الوحي.

عباد بن بشر وحبه للعبادة

للصحابة أنباء عجيبة في العبادة، تعرفون قصة عباد بن بشر ، وهي عند الإمام أحمد وسندها حسن، عباد غزى مع الرسول صلى الله عليه وسلم وعندما جاءوا في فم الوادي قال: (من يحرسنا؟) قال: أنا، فقام يصلي فجاء رجلٌ من المشركين، وقد سبيت زوجته، فأراد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد الرجل يصلي فأخذ سهماً من كنانته، وفوَّقه تجاه هذا الرجل الذي هو قائم حتى يقتله فيهجم، ويستغل غرة القوم، فأصاب صدره، ثم رماه بسهمٍ آخر، فرماه وقام يصلي، ثم رماه بثالث فرماه حتى أثخنته الجراح، فقام على رجليه ويديه، قال: أقبلت زحفاً على الركبتين فثوباً لبسته وثوباً أجره، وأيقظ صاحبه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحمك الله ألا أيقظتنا عند أول سهم؟ قال: كنت عند سورةٍ كرهت أن أقطعها).

هكذا حبهم على سفر، وسهر، وجهاد، مع ذلك قام يصلي، وتضربه السهام فيقوم يصلي، لا يفوِّت على نفسه لذة العبادة.

الصحابة وحالهم مع الجهاد في سبيل الله

إذا طوينا هذه الصفحة وفتحنا صفحة الجهاد، وجدت الجيل العظيم، ممن كانوا يضعون أرواحهم على أكفهم، جيل الفداء، جيل التضحية الذي ضحى وقدم روحه رخيصة في سبيل الله.

إنا لنرخص يوم الـروع أنفسنا>>>>>ولو نسام بها في الأمن أغلينا

***

تجود بالنفس إذ ضن الكريم بها>>>>>الجود بالنفس أقصى غاية الجود

استبسال الصحابة في الجهاد حتى الرمق الأخير

لقد جاهد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام رجالاً ونساءً، وكباراً وصغاراً، وشيباً وشباباً، وخفافاً وثقالاً، أبو طلحة يقرأ الآية: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] فيقول لأولاده: ما أرى الله إلا ندبنا خفافاً وثقالاً.. جهزوني! يقول أولاده: غزوت مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي يكفيك. فيقول: جهزوني! ويموت في البحر ولا يجدون جزيرةً يرفعونه إليها ليدفنوه إلا بعد تسع ليالٍ كما في صحيح مسلم ، فيدفنونه ولم يرح ولم يتغير، كرامة لهذا الصحابي الجليل.

ثم أبو أيوب الأنصاري على كبره، خالد بن زيد النجّاري الأنصاري، أوخالد بن زيد بن ثعلبة وابن عبد عوف الأنصاري النجّاري رضي الله عنه الذي بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، ونزل إلى بيته أول ما قدم حتى بني بيت سودة رضي الله عنها وأرضاها يقرءون الآية: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] فما تصبر نفوسهم، ألفوا الجهاد، وترعرعوا، ونشأوا عليه، وهو كبير.

أقول: أبو أيوب الأنصاري بعد جولةٍ من الجهاد والكفاح، ولما سقط من الكبر، يقرأ الآية: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] فيقول: ما أرى الله إلا ندبنا، هل تعلمون أن غازيةً في سبيل الله ستغزو؟ فيقولون: غازية بعيدة -يعني: هي ليست بـالجزيرة - ستركب البحر، وتغزو القسطنطينية مدينة هرقل، فيقول: جهزوني، فيجهزونه في أول حملةٍ لغزوة القسطنطينية بقيادة من؟ يزيد بن معاوية، كانت عام (52هـ)، فتغزو الغازية ومعها أبو أيوب، وتنزل إلى البر الأوروبي عند القسطنطينية غزاة في سبيل الله، ويتحامل على نفسه هذا الرجل الكبير المسن لله وجهاداً في سبيله، ويظل صادعاً بالحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مصوباً لكل خطأ.

جاء في الحديث أنه خرج صفٌ من الروم فدائي من الأسوار، فخرج بإزائه صفٌ من المسلمين، فانطلق رجلٌ من المسلمين وألقى بنفسه -هذه عملية كما يسمونها انتحارية- بين الروم، فقطعته سيوفهم ومزقته، فصاح الناس: سبحان الله! يلقي بنفسه إلى التهلكة، فصاح أبو أيوب : [لا. إنكم تتأولون هذا الآية على غير تأويلها، إنها نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أهل حرث وزرع، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فتركنا زروعنا وجاهدنا معه، حتى إذا فتح الله البلاد ومكن لدين رسوله، اجتمع بعضنا إلى بعض، فقلنا: لقد أظهر الله رسوله ونصر دينه، فلو جلسنا فأصلحنا ثمارنا وزروعنا، فنزل قوله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]] فكان ترك الجهاد والركون إلى الدنيا هو التهلكة، هو الذل والمهانة، وفعل الكفار بالمسلمين هذه الأفاعيل المنكرة من سفك دماء المسلمين، وانتهاك أعراض المسلمات كما كان ابن المبارك يقول:

كيف القرار وكيف يهنأ مسلمٌ>>>>>والمؤمنات مع العدو المعتدي

القـائلات إذا خشين فضيحهً>>>>>جهد المعذب ليتنا لم نوجد

هذا الذل، يطبخ الإنسان على نارٍ هادئة، حينما يرى فعل اليهود والنصارى بالمسلمين، هذا العذاب الأليم الذي لا خلاص منه إلا الجهاد في سبيل الله.

ويموت أبو أيوب الذي لم يتحمل السفر، إنه رجل كبير مسن، فقال للناس: [إذا أنا مت فخذوني واجعلوني تحت قوائم الخيل، كان يريد أن يمرغ ويمزق في سبيل الله، ثم قال: أدنوني من العدو ما استطعتم] فأدنوه ودفنوه تحت جدار القسطنطينية رضي الله عنه وأرضاه.

تربية صغار الصحابة على الجهاد

هذا مع الكبار، فماذا مع الصغار؟

الصغار كانوا يتنافسون ويتسابقون، كان أحدهم يبكي ولا يملك دمعته إذا رد لصغره، كان أحدهم يرفع حمائل السيف حتى لا يخط بالأرض، وكان أحدهم يقف على رءوس أصابعه إذا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يفتش الجيش حتى لا ينظر إلى سيفه ينزل في الأرض فيستصغره فيرده.

وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، قال: [لما كان يوم بدر صف الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للقاء العدو في أول صِدام مسلح بين المسلمين والمشركين، قال: التفت عن يميني، فإذا أنا بغلامٍ صغير لم يبلغ الحلم، ثم التفت عن يساري فإذا أنا بمثله، فقلت في نفسي: لو كنت بين شابين جلدين كان أولى، قال: فما هو إلا قليل حتى غمزني الذي عن يميني، فقال: يا عم! قلت: نعم. قال: تعرف أبا جهل ؟ قلت: نعم. ما تريد به؟ قال: إن رأيته فأرني إياه، قال: وماذا تريد أن تصنع به؟ قال: بلغني أنه كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم - هذا أنصاري لا يعرفه، وهذا مهاجر من أهل مكة - وإني عاهدت الله إن لقيته لأقتلنه أو ليقتلني.

قال: فغمزني الذي عن يساري، فقال لي مثلما قال، قال: يا عم! أتعرف أبا جهل ؟ قلت: وما تريد به؟ قال: بلغني أنه كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم وإني عاهدت الله إن لقيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا موتاً. قال: فعظما في نفسي].

فما هو إلا قليل حتى بدأت المعركة، وحمي الوطيس، وخرج الرجال، وجاء أبو جهل عدو الله يرتجز على جملٍ كأنه جمل أورق، وهو يقول:

ما تنقم الحرب الضروس مني

بازي العامين حديث سني

لمثل هذا ولدتني أمي

بازي العامين: يعني الجمل الشاب. على عادة العرب يرتجزون يشجعون أنفسهم وغيرهم.

يقول: وإذا هو يهدر، وإذا حوله غابةٌ من الرماح؛ لأنه القائد وإذا قتل القائد انتهى الجيش، فلذلك حوله كتيبة مدربة، جيدة التسليح، عادةً تكون حول القائد، قال وهو يرتجز: فقلت دونكما صاحبكما.

انظر يا أخي! هذه الهمة العظيمة، إن الإنسان في حال القتال يقاتل على ضحضاح بعيد على جنب، لكي يكر ويفر، فيدخل الأتون، حتى إذا أراد أن يفر لا يصده واحد من العدو، فهو يقاتل من بعيد، ولا يقصد قلب المعركة إلا الأبطال، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ويصدق عليهم أكثر من غيرهم قول عمرو بن كلثوم:

بفتيانٍ يرون الموت فخراً>>>>>وشيبٍ في الحروب مجربينا

وكنا الأيمنين إذا التقينا>>>>>وكان الأيسرين بنو أبينا

فصالوا صولةً فيما يليهم>>>>>وصلنا صولةً فيما يلينا

فآبوا بالنهاب وبالسبايا>>>>>وأبنا بالملوك مصفدينا

أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قطعاً من موت تمشي على وجه الأرض، لكن يبتغون القتل في سبيل الله، قال: فقلت: [دونكما صاحبكما، فابتدراه، وانقضا عليه كأنهم صقران، ودخلا بين المقاتلين حتى وصلا إلى عدو الله فرعون هذه الأمة، وكانا شابين صغيرين، حتى إن الواحد لا يبلغ عدوه وهو على فرسه، أو على جمله، فعدوهم كان على فرسه، وهذان راجلان، فما كانا يبلغان منه إلا موضع الركبة أو الرجل، قال: فرفع أحدهما السيف وضرب رجل عدو الله ضربةً عصماء، قال: فبتر ساقه -أي: رجله من ساقها- فأطن قدمه، فما شبهتها حين طارت إلا كالنواة تطير من تحت المرضحة). حيا الله هذا الساعد، وهذه الضربة.

يا ضربةً من تقيٍ مـا أراد بها>>>>>إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً

فمثلها كالنواة التي كانوا يرضحونها بالمراضح، وهذه مثل السيارة إذا وطأت طرف حصاة.

يقول القائل:

تنفي يداها الحصى في كل هاجرة>>>>>نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

وامرؤ القيس يقول:

كأن الحصى من تحتها وأمامها>>>>>إذا نجلته رجلها حذف أعسر

الأعسر: حذفته قوية شديدة، وهو الذي يرمي باليسرى، يقول: إذا وطأت الناقة الحصى تكسرت فتطايرت، يقول: فما شبهتها إلا كالنواة تطير من تحت المرضحة، ثم الآخر ضربه وسقط وأجهز عليه ابن مسعود.

كان حارسه الشخصي هو عكرمة ابنه قبل أن يسلم، فهذا المشهد آلم عكرمة، فانتقم لأبيه وضرب هذا الصحابي ضربةً على عاتقه فقطعت يده من الكتف، يقول صاحبنا هذا عمرو بن عفراء ، يقول: فتعلقت يدي بجلدة جنبي من ضربة عكرمة، وجعلت أقاتل وتعوقني عن القتال، فطأطأت ووطئتها بقدمي وتمطيت فقطعتها ومضيت أقاتل بيدٍ واحدة سائر اليوم.

الله أكبر! أخبار لولا أنها رويت بالأسانيد الثابتة والصحاح لكانت أقرب إلى الخيال.

وهكذا يا إخوان! نجد العجب لو ذهبنا نتتبع أحوال وأخبار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وحرصهم على الدعوة إلى الله، حتى الجن منهم ممن صحب الرسول صلى الله عليه وسلم وولوا إلى قومهم منذرين.

وهكذا هم كباراً وصغاراً، وإماءً، وشباباً وشيباً، كان هاجس الدعوة والجهاد متشكلاً في نفوسهم بمثابة الهواء الذي يتنفسونه، والماء الذي يشربونه، والغذاء الذي يطعمونه، وكانت شخصيتهم متكاملة، وتربيتهم منسجمةً متناغمة، ما كان يطغى جانب على جانب.

هذا ما يحضر في هذه العجالة القصيرة وما أردنا أن نطيل أكثر.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التربية المتكاملة للشيخ : محمد الفراج

https://audio.islamweb.net