إسلام ويب

تحدث الشيخ رحمه الله عن أهمية استغلال أيام الإجازة الصيفية، وذكر أن الناس في الإجازة على قسمين: منهم من استغل وقته بما يكون سبباً لرضا الرب جل جلاله، ومنهم من أمضى وقته في المعاصي، فخسر الدنيا والآخرة، ثم أجاب الشيخ بعد ذلك عن الأسئلة التي طرحت عليه.

نصيحة لاستغلال الإجازة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأخير من شهر رجب عام (1414هـ)، وهو اللقاء الأسبوعي الذي يكون كل خميس، وسيكون هذا آخر لقاء قبل الإجازة، وتستأنف اللقاءات -إن شاء الله- بعد استئناف الدراسة في آخر شعبان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح.

كنا بصدد أن ننتهي من تفسير سورة الأعلى، ولكن لعل المناسب في هذه الجلسة أن يكون هناك توجيه للناس لما سيفعلونه في هذه الإجازة.

فنقول ومن الله تعالى التوفيق: لا شك أن ساعات العمر أغلى من الدنانير والدراهم؛ لأن ساعات العمر تفوت ولا يمكن استرجاعها أبداً، وكل يومٍ يمضي فإنه يبعدنا من الدنيا ويقربنا إلى الآخرة، فتسير الأيام وتنقضي الساعات وتمضي السنوات وإذا بالإنسان ينتهي إلى الأجل المحتوم الذي قال الله تعالى عنه: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49]وإذا كانت هذه منـزلة العمر وساعاته؛ فإن الواجب على العاقل فضلاً عن المؤمن أن يستغل هذه الساعات فيما خُلق له، والذي خلقنا له جميعاً هو عبادة الله عز وجل، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

والعبادة: اسم لكل ما يقرب إلى الله تعالى من قول أو عمل؛ سواء كان عمل الجوارح الظاهرة أو عمل القلب، وسواء كان قول اللسان الذي ينطق به أو قول القلب الذي هو الاعتقاد، فكل ما يقرب إلى الله فهو عبادة، والله تعالى لا يريد منا أن نبقى دائماً في صلاة، أو نبقى دائماً محبوسين في المساجد للذكر والقراءة؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقد بلغه أن قوماً من أصحابه قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ألا إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه).

وعلى هذا فنقول: إنه لا حرج على الإنسان أن يمتع نفسه بما أحل الله تعالى له من النعم؛ حتى يذهب عنه السآمة والملالة والتعب، لكن بشرط أن يكون فيما أحل الله له، وهذه الإجازة التي قررت للدارسين والمدرِّسين في أثناء العام ما هي إلا لهذا الغرض؛ لدفع الملل والسآمة والتعب، ولإعطاء النفس حظها مما أباح الله لها.

ينقسم الناس في هذه الإجازة إلى أقسام:

- منهم من يستغلها بالسفر إلى بيت الله الحرام وإلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل التحية والسلام.

- ومنهم من يستغلها بالسفر لزيارة الأقارب والأرحام.

- ومنهم من يستغلها للتجول في الدعوة إلى الله عز وجل وإرشاد الناس وتوجيههم.

- ومنهم من يستغلها للتفرغ في استعادة ما مضى من طلب العلم، واستذكار ما نسي من القرآن.

- ومنهم من يستغلها في مساعدة أبيه في بيع أو شراء أو حرث أو غير ذلك.

- ومنهم من يستغلها في الخروج إلى البر والتنـزه على وجهٍ يكون مباحاً.

- ومنهم من يستغلها في الخروج إلى البر والتنـزه لكن على وجهٍ محرم، يمضون أوقاتهم إما في مشاهدة ما يعرض في التلفاز من البرامج التي ترد إلينا من الخارج، إما عن طريق أشرطة الفيديو، أو عن طريق الدش الذي يلتقط كل شيء مما يفسد الأديان، ويهدم الأخلاق.

فهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة.. خسروا الدنيا لأنهم لم يعملوا في هذه المدة فيما يرضي الله عز وجل، اللهم إلا في أداء الفرائض التي لابد منها كالصلاة والطهارة.

وخسروا الآخرة؛ لأن هذه المعاصي تكون سبباً لتعذيبهم وعقوبتهم في الآخرة، وربما تتراكم المعاصي على القلب حتى يختم عليه والعياذ بالله، كما قال الله تبارك وتعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المطففين:13] أي: إذا تلي عليه القرآن وما فيه من عبر وعظات قال: هذا كلام مجالس وقصص لا حقيقة لها، كَلَّا [المطففين:14] أي: ليس القرآن أساطير الأولين بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] حتى لم يذوقوا طعم القرآن -نسأل الله العافية- فالمعاصي بريد الكفر كما قال العلماء رحمهم الله.

- ومن الناس من يستغل الإجازة في أخبث من هذا؛ في السفر إلى الخارج إلى بلاد الفساد والمجون، فيفعل هناك ما شاء من أنواع المعاصي، وغالباً أنه يدع الصلاة؛ فيخسر خسارة فادحة -والعياذ بالله- فيرجع وقد خسر الدنيا والآخرة، مظلم الوجه مسود القلب.

فالمهم أن الناس لهم نزعات وطرق في قضاء هذه الإجازة.

فالواجب على الإنسان العاقل أن يستغل وقته بما يكون سبباً لرضا ربه عز وجل، حتى إذا أتاه الموت أتاه وهو على أحسن ما يكون؛ لأن من ابتلي بالمعاصي في حال صحته وعنفوان شبابه ربما يستمر على هذه المعاصي، فإذا جاء وقت الحاجة إلى الطاعة إذا هو مفلس صفر اليدين، لا يتمكن من نطق الشهادة حال الموت.. نسأل الله العافية!

فالإنسان العاقل ينظر في أيامه ولياليه بماذا أمضاها .. هل في طاعة الله تعالى أم في معصيته؟ فإن كان في طاعة الله فليحمد الله على ذلك، وليستمر عليه، وليسأله الثبات على ذلك إلى الموت، وإن كان على خلاف ذلك فليسارع بالتوبة والإنابة في وقت الإمكان؛ لأنه حين الموت لا ينفع الندم، ولا تفيد التوبة.

فأدعوكم ونفسي لاستغلال هذه الإجازة فيما يرضي الله عز وجل، وقد عرفتم ما يسر الله لنا ذكره من الأقسام التي يتوزع الناس عليها في هذه الإجازة، فأحث نفسي وإياكم على استغلالها فيما يرضي الله، بعبادة الله، وبنفع الخلق، وإعطاء النفس شيئاً من المتعة على وجهٍ مباح.. وهكذا.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن عمروا أوقاتهم بطاعة ربهم، وأن يثبتنا على ذلك حتى الممات، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.

الأسئلة

وسطية أهل السنة تجاه مرتكب الكبيرة

السؤال: فضيلة الشيخ جزاكم الله خيراً: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسمٍ فسمه بيده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ماذا يقصد بهذه الأبدية؟ هل هي خاصة بقاتل نفسه؟ وهل يجوز الترحم على من فعل ذلك بنفسه؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

هذا سؤال مهم جداً، وذلك أنه يأتي في الكتاب والسنة أحياناً نصوص فيها فتح باب الرجاء والأمل الواسع، مثل أن تكون أعمال صالحة يترتب عليها تكفير السيئات، أو دخول الجنة أو ما أشبه ذلك، فيفرح الإنسان ويستبشر بذلك ويقول: إذاً لا تضرني معصية ما دام هذا العمل اليسير يكفر عني السيئات، أو يكون سبباً في دخولي الجنة، فأعمل ما شئت من المعاصي، وتأتي أحياناً نصوص فيها وعيد شديد على بعض المعاصي أو بعض الكبائر، بل هي كبائر في الواقع ولكنها لا تخرج من الإسلام، فتجد الرجل يستحسر ويتوقف ويقول: ما هذا؟

ولذلك انقسم أهل القبلة -أي: المسلمون الذين ينتسبون إلى الإسلام- تجاه هذه النصوص إلى ثلاثة أقسام:

- قسم غلَّب جانب نصوص الرجاء وقال: لا تضر مع الإسلام معصية، وهؤلاء هم المرجئة ، يغلبون جانب الرجاء على جانب الخوف، ويقولون: أنت مؤمن، اعمل ما شئت فلا يضرك مع الإيمان معصية.

- وقسم غلب نصوص التخويف والزجر وقال: إن فاعل الكبائر مخلد في نار جهنم أبداً، ولو كان مؤمناً، ولو كان يصلي ويزكي ويصوم ويحج، وهؤلاء هم الوعيدية من المعتزلة والخوارج، قالوا: إن الإنسان لو فعل كبيرة كقتل نفسه مثلاً، أو قتل نفس غيره، أو زنا، أو سرق، فهو خالدٌ مخلد في نار جهنم .. وكل هؤلاء جانبوا الصواب، لا الأولون ولا هؤلاء.

و أهل السنة والجماعة وسط في ذلك، قالوا: نأخذ بالنصوص كلها؛ لأن الشريعة واحدة وصادرة عن مصدر واحد وهو الله عز وجل، إما في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكمل بعضها بعضاً، ويقيد بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، فيأتي نص عام ونص خاص؛ فيجب أن نحمل العام على الخاص ونخصصه به، ويأتي نص مطلق ونص مقيد؛ فيجب أن نحمل المطلق على المقيد؛ لأن الشريعة واحدة، والمشرع واحد، فإذا كان كذلك فلا يمكن أن نأخذ بجانب دون آخر.

وبناءً على هذا يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة، فيقال: إنه ورد في القرآن قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93] هذه خمس عقوبات:1- جزاؤه جهنم.

2- خالداً فيها.

3- غضب الله عليه.

4- لعنه.

5- أعد له عذاباً عظيماً.

عندما تقرأ هذه الآية تقول: إن قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار، ولا يمكن أن يخرج منها؛ لأن الله قال: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] ومن لعنه الله فقد طرده وأبعده من رحمته، وهذا يقتضي أنه لا يمكن أن يخرج من النار إلى الجنة أبداً، وكذلك ما أشار إليه السائل فيمن قتل نفسه، أنه خالد مخلداً أبداً، صرح في الحديث بالتأبيد، وهذا يقتضي ألا يخرج منها؛ لأن هذا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وخبر الرسول صدق لا يمكن أن يعتريه الكذب، ولا يمكن أن يتخلف مدلوله.

ولهذا نقول: هذه الأشياء تكون سبباً لذلك، قتل النفس سبب للخلود المؤبد في نار جهنم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك موانع من الخلود دلت عليها النصوص الشرعية؛ منها: أن يكون الإنسان معه شيء من الإيمان ولو أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فإنه لا يخلد في النار، فنحمل هذه النصوص على هذه النصوص، ونقول: نصوص الوعيد جاءت عامة من أجل التنفير من هذا العمل والهروب منه، ولكن ليس هناك خلود مؤبد إلا للكافرين.. هذا وجه.

الوجه الثاني: قال بعض العلماء: هذه النصوص على ظاهرها، وذلك أنه قد يصاب الذي يقتل نفسه بالانسلاخ من الإيمان، فيكون حين قتل نفسه غير مؤمن، وإذا كان غير مؤمن فهو كافر خالد في النار؛ لأنه إذا نحر نفسه فإن كان مجنوناً فلا شيء عليه، وإن كان عاقلاً فلابد أنه فعل ذلك لسبب، وهذا السبب في الغالب لكي يستريح من النكبة أو الضائقة التي ألمت به، ومن زعم أنه إذا قتل نفسه نجا من الضائقة التي ألمت به فقد أنكر البعث، وأنكر عقوبة الآخرة، وإذا أنكر البعث وعقوبة الآخرة كان بذلك كافراً، فيكون مستحقاً للخلود المؤبد في النار؛ لأنه ليس من المعقول أن شخصاً يعدم نفسه ليستريح مما هو فيه إلا لظنه أن ينتقل إلى ما فيه الراحة له، ولا يمكن أن يكون أريح له وقد قتل نفسه، فيكون شاكاً أو متردداً أو جاحداً لعذاب الآخرة، وبذلك يكون كافراً.

وعلى كل حال يجب أن نعلم أن الكتاب والسنة صدرت من عند الله وحده، منها ما هو من كلامه جل وعلا وهو القرآن، ومنها ما هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نصوص الكتاب والسنة بعضها يقيد بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، ولا تناقض بين نصوص الكتاب والسنة أبداً.

وأما مسألة الترحم عليه فيجوز الترحم عليه؛ لأنه ليس بكافر.

معنى حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)

السؤال: فضيلة الشيخ: نسأل الله العلي العظيم أن يمد في عمرك على طاعته .. نرجو منك إعراب هذا الحديث مع بيان معناه بارك الله فيك: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).

الجواب: إعرابه كالتالي:

(لا): نافية.

(يقبل): فعل مضارع مرفوع وعلامة الرفع ضمة ظاهرة في آخره.

الاسم الكريم (الله): فاعل يقبل.

(صلاة): مفعول يقبل. و(صلاة) مضاف، و(أحدكم): مضاف إليه، و(أحد) مضاف، والكاف: مضاف إليه، والميم علامة الجمع.

(إذا): ظرف للزمان.

(أحدث): فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو.

(حتى): حرف غاية.

(يتوضأ): فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد (حتى)، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو. هذا إعراب الحديث.

أما معناه: فهو أن الله تعالى لا يقبل الصلاة من الإنسان إذا أحدث حدثاً أصغر؛ لقوله: (حتى يتوضأ) دل على أن المراد بالحدث هو الأصغر، ولو أراد الحدث الأكبر لقال: حتى يغتسل. (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وظاهر الحديث أنه لا فرق بين الناسي والذاكر والجاهل والعالم، فلو أن الإنسان أحدث ثم صلى ناسياً أنه أحدث، وجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة، ولو صلى الإنسان وهو محدث لكنه جاهل بالحدث؛ مثل أن يأكل لحم إبل ولا يدري أنه لحم إبل، ثم يقوم ويصلي، ثم أخبر بأنه أكل لحم إبل فيجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة.

حكم طاعة الوالدين في الأمر بطلاق الزوجة

السؤال: فضيلة الشيخ: كثير من الإخوة يشكون من أن الأم قد لا تحب زوجة الابن، ويكون الابن قد تعلق بزوجته وأحبها، فتأمره الأم بطلاقها، وكذلك قد يأمره الأب، فهل إذا رفض طلاق زوجته يعتبر عاقاً لوالديه؟

الجواب: لا يلزم الابن أن يطيع أبويه إذا أمراه بطلاق زوجته؛ لأن هذه تتعلق برغبة خاصة بالإنسان، ولا يلزمه أن يقبل ما أمره والداه به من مفارقة الزوجة، كما لو قالا له: لا تأكل من هذا الطعام، لا تأكل لحماً، لا تأكل أرزاً، لا تأكل الشيء المعين، وهو مما يشتهيه، فلا يلزمه طاعتهما في ذلك؛ لأنه لا مصلحة لهما في ذلك، وفيه ضررٌ عليه لفوات محبوبه.

فكذلك إذا قالا: طلق زوجتك. لا يلزمه طلاقها إلا بسببٍ شرعي معلوم يقر به الزوج، فهنا يلزمه -لا من أجل أمرهما- حتى لو كانا لم يأمراه بذلك، وربما يورد مورد علينا قصة عبد الله بن عمر مع أبيه رضي الله عنهما، حيث أمر عمر ابنه عبد الله أن يطلق زوجته، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يطلقها.

والجواب عن هذا: أن هذا الإيراد أورد على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الإمام المشهور حيث سأله سائل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي. فقال له: لا تطلقها. فأورد عليه حديث عمر، فقال له الإمام أحمد جواباً سديداً، قال: وهل أبوك عمر؟ أي: هل أبوك مثل عمر لا يأمر إلا بشيء لابد منه؟ فالجواب: لا، وإذا كان الجواب بالنفي فلا يصح القياس.

وعلى الوالدين أن يتقيا الله عز وجل، وألا يفرقا بين الرجل وزوجه؛ لئلا يكونا مثل السحرة الذين يتعلمون من الشياطين ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وإذا رأى الابن أن الحال لن تستقيم بوجود الزوجة مع الأم في بيت واحد، ففي هذه الحال يخرج من البيت هو وزوجته وينفردان عن الأم، قد يقول: لا ترضى الأم أن أنفرد بزوجتي في بيتٍ آخر، نقول: وإن لم ترض فيقال لها: إما أن تحسني العشرة وإما أن أخرج.

ولكن مع ذلك لا يظن الظان أننا نرجح في هذه الحال جانب الزوجة، فلو فرض أن الزوجة تسيء إلى الأم، فإن الواجب على الزوج أن ينهاها ويؤدبها.

حكم الأشياء التي يشمها الكلب أو يلمسها

السؤال: فضيلة الشيخ: جميع الإخوة والأخوات في المنطقة الشرقية يسلمون عليك، وسؤالي هو: أنه يوجد نقاط تفتيش في بعض المؤسسات الكبرى يستخدم فيها الكلاب المدربة، فتدخل في مقدمة السيارة ثم تبدأ بالشم واللحس. فهل تتنجس بذلك المقاعد والأماكن التي قام الكلب بشمها أو لحسها؟ وجزاكم الله خيراً.

الجواب: أما الشم فإنه لا يضر؛ لأنه لا يخرج من الكلب ريق، وأما اللحس فيخرج فيه من الكلب ريق، وإذا أصاب ريق الكلب ثياباً أو شبهها فإنها تغسل سبع مرات، ولا نقول: إحداها بالتراب؛ لأنه ربما يضر، لكن نقول: يستعمل عن التراب صابوناً أو شبهه من المزيل ويكفي مع الغسلات السبع.

حكم من جعل جوائز لمن يشتري من عنده سلعة معينة

السؤال: فضيلة الشيخ: عندنا في دولة الكويت أنواع من البيوع منتشرة الآن، يقوم التاجر بعرض بضاعته ويوزع كوبونات على المشترين بحسب قيمة شراء كل واحد، وهذه الكوبونات تدخل في سحب الجوائز، ثم تعمل بعد ذلك قرعة ويفوز بعض الناس بجوائز يوزعها عليهم هذا التاجر، فما حكم ذلك جزاكم الله خيراً؟

الجواب: هذا نوع من البيع نخاطب به البائع والمشتري، فنقول للبائع: هل أنت ترفع سعر السلعة من أجل هذه الجائزة أم لا؟ فإن كنت ترفع السعر فإنه لا يجوز؛ لأنه إذا رفع السعر واشترى الناس منه صاروا إما غارمين وإما غانمين، إما رابحين وإما خاسرين، فإذا كانت هذه السلعة في السوق -مثلاً- قيمتها عشرة فجعلها باثني عشر من أجل الجائزة فهذا لا يجوز؛ لأن المشتري باثني عشر إما أن يخسر الزائد على العشرة وإما أن يربح أضعافاً مضاعفة بالجائزة، فيكون هذا من باب الميسر والقمار المحرم، فإذا قال البائع: أنا أبيع بسعر الناس، لا أزيد ولا أنقص؛ فله أن يضع تلك الجوائز تشجيعاً للناس على الشراء منه.

ثم نتجه إلى المشتري فنقول له: هل اشتريت هذه السلعة لحاجتك إليها، وأنك كنت ستشتريها سواء كانت هناك جائزة أم لا، أم أنك اشتريتها من أجل الجائزة فقط؟ فإن قال: الأول. قلنا: لا بأس أن تشتري من هذا أو من هذا؛ لأن السعر ما دام أنه كسعر السوق وأنت ستشتري هذه السلعة لحاجتك فحينئذ تكون إما غانماً أو سالماً، ففي هذه الحالة لا بأس أن تشتري من صاحب الجوائز.

وأما إذا قال: أنا أشتري ولا أريد السلعة، وإنما أشتري لأجل أن أحصل على الجائزة. قلنا: هذا من إضاعة المال؛ لأنك لا تدري أتصيب الجائزة أم لا تصيبها.

وقد بلغني أن بعض الناس يشتري علب اللبن وهو لا يريدها، يشتريها ويريقها لعله يحصل على الجائزة، فهذا يكون من إضاعة المال، وقد ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال).

بقي شيء ثالث: إذا قال قائل: هذه المعاملة ربما تضر بالبائعين الآخرين؛ لأن هذا البائع إذا جعل جوائز للمشترين وكان سعره كسعر السوق اتجه جميع الناس إليه، وكسدت السلع عند التجار الآخرين، فيكون في هذا ضرر على الآخرين، فنقول: هذا يرجع إلى الدولة، فيجب عليها أن تتدخل، فإذا رأت أن هذا الأمر يوجب اضطراب السوق؛ فإنها تمنعه إذا رأت أن المصلحة في منعه، أو إذا رأت أنه من التلاعب في الأسواق، والتلاعب في الأسواق يجب على ولي الأمر أن يمنعه منها.

العمل فيما إذا تعارضت آراء العلماء

السؤال: فضيلة الشيخ: إذا تعارض رأي عالم مع رأي عالم آخر من أهل السنة والجماعة في مسألة ما فمن أتبع؟ علماً بأني لا أستطيع أن أرجح بين الأدلة، فما رأيكم؟ وجزاكم الله خيراً.

الجواب: أسألك: ماذا يفعل المريض إذا اختلف طبيبان كل منهما يصف دواء غير الآخر؟

في هذه الحال يرجح المريض من يطمئن إليه قلبه أنه هو الأعلم والأوثق، وكذلك الأمر هنا، إذا ذهبت إلى شخصين من أهل العلم وتساويا عندك في العلم والثقة؛ لأنه ليس كل عالم يكون ثقة، فالعلماء ثلاثة: علماء ملة، وعلماء دولة، وعلماء أمة.

أما علماء الملة -جعلنا الله وإياكم منهم- فهؤلاء يأخذون بملة الإسلام، وبحكم الله ورسوله، ولا يبالون بأحد كائناً من كان.

وأما علماء الدولة فينظرون ماذا يريد الحاكم، يصدرون الأحكام على هواه، ويحاولون أن يلووا أعناق النصوص من الكتاب والسنة حتى تتفق مع هوى هذا الحاكم، وهؤلاء علماء دولة خاسرون.

وأما علماء الأمة فهم الذين ينظرون إلى اتجاه الناس .. هل يتجه الناس إلى تحليل هذا الشيء فيحلونه، أو إلى تحريمه فيحرمونه، ويحاولون -أيضاً- أن يلووا أعناق النصوص إلى ما يوافق هوى الناس.

فأنت -على كل حال- إذا اختلف عندك رأي عالمين فانظر أيهما أوثق في نظرك من حيث العلم، ومن حيث الدين، وخذ بما اطمأن قلبك إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) فإن لم يوجد عندك اطمئنان ولا ترجيح فبعض العلماء قال: تخير بين أن تأخذ بقول هذا أو بقول هذا، وبعض العلماء قال: تأخذ بالأشد لأنه الأحوط، وبعض العلماء قال: تأخذ بالأيسر لأنه الأوفق لروح الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة الإسلامية مبنية على اليسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين يسر) وهذا لفظ البخاري، فما دمنا لم نعلم أن الدين منع هذا الشيء أو أوجب هذا الشيء فنحن في حل.

حكم مراعاة الطالب أثناء وضع الدرجات لأدبه وسلوكه

السؤال: فضيلة الشيخ: هل يجوز للمدرس أثناء تصحيح أوراق الطلبة أو أثناء الاختبار الشفوي أن يراعي سلوك الطلبة في الفصل، فإن كان جيداً زاد له الدرجات ونحو ذلك؟ وأيضاً هل يجوز في أعمال السنة أن يزيد المدرس الطلاب درجة أو درجتين خوفاً من الظلم أو نحو ذلك، لأنكم تعلمون أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن دعوة المظلوم مستجابة، وأن كثيراً من المدرسين يظلمون الطلاب ظلماً كبيراً دون أن يشعروا، فيخاف المدرس من هذا؟ أفيدونا وفقكم الله.

الجواب: هذا السؤال مهم بالنسبة للمدرسين، وأنا أعلم أنهم يجعلون درجات لسلوك الطالب وأخلاقه داخل المدرسة، فيجب على المدرس الذي يحدد هذه الدرجات أن يحكم بالعدل، وأن يتقي الله عز وجل، فإن كان أحد الطلبة أحسن سلوكاً وأخلاقاً فإنه يعطيه درجته التي يستحقها، وينقص من الطالب السيئ الأخلاق من درجات السلوك ما يستحقه، ولا يحابي في ذلك أحداً.

أما درجة العلوم والرياضيات والمستوى العلمي فلا يزيد فيها ولا ينقص منها نظراً لسلوك الطالب، وإنما يعطي كل طالب ما يستحقه من الدرجات .. أرأيت لو تحاكم رجلان إلى قاض أحدهما كافر والآخر مسلم فهل يهضم حق الكافر لأنه كافر؟ لا. فمسألة الإجابة هي على حسب ما قدم لك من معلومات، سواءً كان سيئ الأخلاق أو حسن الأخلاق.

المسألة الثانية: إذا كان المدرس قد ظلم الطالب فهذا لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أنه كان يظن حين معاملة الطالب أنه على صواب، وأنه مجتهد، وهذا الذي أداه إليه اجتهاده، مثل أن يوقفه في الفصل أو يضربه أو يطرده أو ما أشبه ذلك، لكنه في ذلك الوقت يرى أنه على صواب، ثم بعد التفكير يرى أنه أخطأ؛ فهذا ليس فيه ظلم، ولا يعاقب عليه الإنسان؛ لأنه في ذلك الوقت كان مجتهداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر).

ولو أننا قلنا لكل متصرف في شأن غيره: إنه إذا أخطأ بعد اجتهاده تحمل هذا الخطأ ووقع عليه العقاب؛ ما قبل أحد أن يتصرف في شأن غيره، ولتعطلت مصالح العباد، لكن من رحمة الله أن المتصرف لغيره كولي اليتيم والوكيل وناظر الوقف وغيرهم، إذا تصرفوا وهم حين التصرف يرون أن هذا هو الصواب بدون تفريط منهم، ثم بعد هذا تبين خطؤهم؛ فإنه لا شيء عليهم، لا ضمان في الدنيا ولا إثم في الآخرة.

الحال الثانية: أن يعلم أنه قد ظلم الطالب ظلماً حقيقياً، وهو في ذلك الوقت يعرف أنه إنما عاقبه انتقاماً لنفسه فقط؛ فحينئذ يسترضي الطالب دون أن يزيد في درجاته وإنما يعطيه حقه فقط؛ لأنه إذا زاد في درجاته أوقع الظلم على الطلبة الآخرين، وحصل من ذلك تشويش، وربما أدى ذلك إلى فقدان الطلبة ثقتهم في معلميهم، وهذا من أخطر الأمور؛ لأن الطالب إذا فقد ثقته في معلمه لم يهتم بأوامره، ولم يستفد منه حتى وإن أظهر أنه يستمع إليه وينصت إلى شرحه.

حكم إتمام صيام كفارة القتل بعد رمضان

السؤال: أثابك الله يا شيخنا: لي قريب صدم شاباً فمات هذا الشاب، ولكن هذا القريب تهاون في صيام الشهرين حتى مات، وقد تطوعت أخته فصامت عنه الشهرين، لكن بقي منهما يومان وقد دخل شهر رمضان، فكيف تصوم هذين اليومين؟

الجواب: أقول: لا حرج عليها -إن شاء الله- إذا دخل رمضان وبقي عليها يومان أن تصومهما بعد رمضان، في اليوم الثاني والثالث من شهر شوال.

الجمع بين قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي ) وبين مراجعة الرسول لربه في تخفيف الصلاة ليلة الإسراء

السؤال: فضيلة الشيخ: كيف نوفق بين قول الله عز وجل: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29] وبين مراجعة الرسول لربه في حديث الإسراء في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات؟ وجزاك الله خيراً.

الجواب: لا تعارض بين قوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [قّ:29] وبين ما ذكرت، فهل قال الله تعالى: ما نبدل القول؟ لا. إنما قال: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29] فإنه: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64] لا أحد يستطيع أن يبدل كلمات الله.

وإذا قلنا: الآية مبنية لما لم يسمَّ فاعله، وأنه هو نفسه لا يبدل ما قال عز وجل؛ فنقول: إن ما حدث من مراجعته عليه الصلاة والسلام ربه في الصلاة كان لإتمام القول الذي ارتضاه أولاً أنها خمس، لكنه عز وجل شرع لنبيه خمسين لحكمة، وهي ظهور مدى تقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ما يفرضه الله عليه .. هذا من وجه.

والوجه الثاني: أن يكتب لهذه الأمة أجر خمسين صلاة؛ لأننا الآن نصلي خمساً لكننا كالذي يصلي خمسين، ليس من باب أن الحسنة بعشر أمثالها، فكل عمل صالح الحسنة فيه بعشر أمثالها، لكن من باب أن الصلاة الواحدة تكتب لنا عشر صلوات، وهذه نعمة كبيرة، وهي من حكمة الله عز وجل ورحمته.

فيكون الأصل هو القول الأول الذي ارتضاه الله عز وجل وقضى بأنها ستكون خمس صلوات، لكنه فرضها خمسين لهذه الحكمة؛ أولاً: ليظهر مدى تقبل الرسول صلى الله عليه وسلم لفرائض الله تعالى، وإن كانت في صورة شاقة، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس قبولاً لما ألزمه به ربه تبارك وتعالى.

وثانياً: من أجل أن يكتب للأمة أجر خمسين صلاة مع أن الأمة تؤديها خمساً بالفعل، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة.

حكم توكيل شخص لاستخراج منحة مالية على نسبة تعطى له

السؤال: يا شيخ! أحسن الله إليك وأمد في عمرك .. هناك بعض الناس يتوسطون لبعض الأشخاص في المناخ السنوي أو ما يسمى بالعادة السنوية، وهذا الذي يتوسط يشترط على ذلك الشخص إذا خرج اسمه أول السنة أن يكون له نصف المبلغ المقرر، وبعضهم لا يشترط ولكن يعده صاحب الطلب أنه إذا خرج اسمه أن يعطيه نصف ما يتقرر له أو ربعه، فهل هذا جائز؟

الجواب: أولاً: طلب المناخ أو العادة إذا كان الإنسان في حاجة فلا بأس، وأما إذا لم يكن في حاجة فلا يجوز أن يطلب ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)، ولأن الإنسان الغني لا يجوز له أن يسأل الناس ليستكثر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر).

ثانياً: إذا كان فقيراً أو محتاجاً فلا بأس أن يؤجر شخصاً يطالب له، ويقول: لك نصف المبلغ، أو ربع المبلغ، حسب ما يتفقان عليه.

الإنكار في المسائل الخلافية

السؤال: فضيلة الشيخ: هل ينكر على المرأة التي تكشف الوجه، أم أن المسألة خلافية والمسائل الخلافية لا إنكار فيها؟

الجواب: لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق لذهب الدين كله؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين العلماء، نضرب مثلاً: رجل مس امرأةً بشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي، وقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحالة .. فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين؟ هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي بطلت على مذهب الإمام أحمد؛ فيضيع دين الإنسان.

والمسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى: أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذه لا إنكار فيها على المجتهد، أما عامة الناس فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم؛ لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمر عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: العوام على مذهب علمائهم. فمثلاً: عندنا هنا في المملكة العربية السعودية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا بذلك، حتى لو قالت لنا امرأة: أنا سأتبع المذهب الفلاني وكشف الوجه فيه جائز، قلنا: ليس لكِ ذلك؛ لأنكِ عامية ما وصلتِ إلى درجة الاجتهاد، وإنما تريدين اتباع هذا المذهب لأنه رخصة، وتتبع الرخص حرام.

أما لو ذهب عالم من العلماء الذي أداه اجتهاده إلى أن المرأة لا حرج عليها في كشف الوجه، ويقول: إن امرأتي سوف أجعلها تكشف وجهها. قلنا: لا بأس، لكن لا يجعلها تكشف الوجه في بلاد يسترون الوجوه، يمنع من هذا؛ لأنه يفسد غيره، ولأن المسألة فيها اتفاق على أن ستر الوجه أولى، فإذا كان ستر الوجه أولى فنحن إذا ألزمناه بذلك لم نكن ألزمناه بما هو حرام على مذهبه، إنما ألزمناه بالأولى على مذهبه، ولأمر آخر وهو ألا يقلده غيره من أهل هذه البلاد المحافظة، فيحصل من ذلك تفرق وتفتيت للكلمة.

أما إذا ذهب إلى بلاده فلا نلزمه برأينا، ما دامت المسألة اجتهادية وتخضع لشيء من النظر في الأدلة والترجيح بينها.

القسم الثاني من قسمي الاختلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه، فينكر على المخالف فيه؛ لأنه لا عذر له.

من اعتمر ونسي أن يتجرد من السراويل

السؤال: فضيلة الشيخ: مواطن من أهل مدينة جدة ذهب إلى العمرة، فلما أتمها أخذ شيئاً من شعره، وعاد إلى بيته في جدة، فعندما خلع الإحرام وجد أنه لم يتجرد من السراويل، فما حكمه؟

الجواب: هذا ليس عليه شيء، وأنا سأعطيكم قاعدة تهتدون بها إن شاء الله تعالى: جميع المحرمات إذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا إثم عليه ولا كفارة ولا أي شيء؛ لأن الله تعالى قال: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] فقال الله تعالى: (قد فعلت) ثبت ذلك في صحيح مسلم ، وقال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، وقال في الكفر وهو أعظم المحرمات: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

فإذا كان الإنسان محرماً، ونسي السراويل عليه حتى انتهى من الإحرام فلا شيء عليه، وكذلك لو أكل أو شرب وهو صائم ناسياً فلا شيء عليه، وكذلك لو ارتكب محظوراً جاهلاً؛ كإنسان حلق رأسه وهو محرم قبل أن يحل، أو غطى رأسه وهو محرم؛ فلا شيء عليه ما دام جاهلاً.

فأي شيء محرم في العبادة إذا فعله الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا إثم عليه ولا كفارة.

الحجامة للصائم

السؤال: فضيلة الشيخ: نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن ابن حزم أنه قال: صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أنس : (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً.. انتهى.

وذكر الحافظ -أيضاً- حديثاً عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمها إبقاءً على أصحابه) وهذا أيضاً ذكره ابن حجر رحمه الله تعالى وقال: إسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر، فكيف نوفق بين هذه الأدلة وبين ما ذهبتم إليه -حفظكم الله- من إفطار الصائم بالحجامة؟

الجواب: نرد على هذا بما رد به الإمام أحمد: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وحديث أنس بن مالك الذي أشرت إليه فيه ضعف.. هذا أمر.

الأمر الثاني: إن قولنا بالإفطار هو من مصلحة الصائم في الواقع؛ لأن من المعروف أن الإنسان إذا سحب منه الدم فسوف يلحقه هبوط ومشقة وتعب، فإذا قلنا: إنه يفطر بالحجامة، معناه أنك لا تحتجم إلا للضرورة، فإذا كنت صائماً صيام فرض واحتجمت للضرورة فكل واشرب واقض ذلك اليوم، والآخرون يقولون: إذا احتجمت للضرورة فلابد أن تبقى على صومك ولو كنت في غاية ما يكون من الضعف.

فصار القول بأنه يفطر هو الأيسر الذي تقتضيه مصلحة الصائم وتدل عليه الأدلة الشرعية؛ لأننا نقول: إن كنت لا تحتاج إلى الحجامة فلا تحتجم إلا في الليل، وإن كنت تحتاج إليها ولابد -كما لو هاج عليك الدم- فنقول: احتجم، ونرخص له أن يأكل ويشرب حتى يستعيد قوته؛ فتبين بهذا أن القول بأنها تفطر هو القول الموافق للحكمة، وقد حقق شيخ الإسلام رحمه الله ذلك في رسالة له صغيرة تسمى: حقيقة الصيام ، ومن أحب أن يتسع له الجواب فليرجع إليها فإنها مفيدة.

والتبرع بالدم مثل الحجامة؛ لأنه كثير، فيحصل به من الضعف ما يحصل بالحجامة، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتبرع بالدم وهو صائم صيام الفرض إلا للضرورة، فإذا كانت ضرورة تبرع بدمه وأفطر ذلك اليوم.

حكم الاختلاط بين الرجال والنساء، وحكم قيادة النساء للسيارات

السؤال: فضيلة الشيخ: في بلادنا الكويت كثر الاختلاط في الجامعات؛ فالمدرس أحياناً يخلو بالبنت، وكذلك بالنسبة لتعليم النساء قيادة السيارات، نجد أن المدرب يخلو بالبنت وهو يدربها ساعة أو ساعتين، فما حكم ذلك جزاكم الله خيراً؟

الجواب: أقول بالنسبة للطالبات: الواجب عليهن أن يغطين وجوههن، وأما النظر إلى المدرس فهذا لا بأس به إذا لم يكن لشهوة أو لتمتع بالنظر إليه، وإنما كان من أجل التلقي منه، هذا لا بأس به؛ لأن نظر المرأة إلى الرجل ليس حراماً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـفاطمة بنت قيس : (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده) وكان صلى الله عليه وسلم يستر عائشة وهي تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد.

فالقول الراجح من أقوال العلماء: أن المرأة لا بأس أن تنظر إلى الرجل بشرط ألا يكون نظرها لشهوة أو تمتع.

وأما بالنسبة لتدريب الفتاة على قيادة السيارة وانفرادها برجلٍ يدربها فهذا لا يجوز، وهو أكبر فتنة مما لو انفرد بها في حجرة؛ لأن من المعلوم أن النفس تحب من أحسن إليها، وهذا المدرب إذا عامل الفتاة باللطف واللين يكون هناك فتنة كبيرة لا يتصورها الإنسان، وكيف عندما تجد الطالبة نفسها بجانبه يريها كيف يعمل عجلة القيادة، وكيف يعمل بالفرامل، وكيف يعمل كذا، فهذا خطير جداً جداً.

ثم إن من رأيي أنا أن المرأة لا تقود السيارة .. هل قلَّ الرجال وما بقي إلا أن نضطر إلى النساء؟!! أبداً ما قل الرجال، فهم كثيرون، وقيادة السيارة للمرأة فيها أخطار كثيرة، إذا كنا الآن نخشى من شبابنا إذا ذهبوا في السيارات إلى البر وغيره نخشى عليهم من الفتنة، فكيف بالمرأة؟ من يضبط المرأة إذا أخذت السيارة وخرجت إلى البر أو إلى أي إنسان تريده؟!

الحقيقة أني أتعجب من بعض الناس كيف ينظرون إلى الأمور بظواهرها! يقولون: إن المرأة لا بأس أن تقود السيارة كما كانت النساء تركب الجمال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول: نحن لا ننكر أصل قيادة المرأة للسيارة، فليس هو في ذاته منكراً، لكن لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة العظيمة نمنعه، والشريعة الإسلامية جاءت لسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات ثم ليس هناك ضرورة؛ فالشباب كثيرون والحمد لله، والمرأة إذا تعود أخوها أو ابنها قيادة السيارة كفاها.

فالواجب منع المرأة من قيادة السيارة؛ لا لأن ذلك حرام عليها، وإنما هو من باب سد الذرائع الموصلة إلى الحرام، ولما يترتب على ذلك من مفاسد محققة.

وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لقاء الباب المفتوح [49] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net