إسلام ويب

في هذه المادة تكلم الشيخ عن مفهوم الولاية، وبين صفات أولياء الله الذين اصطفاهم لولايته، ثم ذكر بعض خرافات الصوفية المتعلقة بالولاية.

الخسارة الحقيقية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعــد:-

فبفضل الله تعالى وتوفيقه، نكمل شرح الحديث العظيم الذي ذكره الإمام الشارح ابن رجب ضمن حديثه عن الولاية، وهو حديث الولي الذي ذكرنا طرفاً منه والحِكم فيه، وقرأنا طائفة من شرح الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، وكان آخر ما وقفنا عنده، هو ما كان يتحدث عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله من أوصاف الذين يحبهم الله ويحبونه، بعد أن تحدث عن الفرائض التي تقرب إلى الله تعالى، وذكر الآية وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

قال الشارح رحمه الله: ''من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً '' وهذا كلام عظيم لا يقدر قدره إلا من عرف الله عز وجل وعرف قدر الله، وعظَّم الله حق تعظيمه وقدره حق قدره.

يقول: '' من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً -على فرض أنها الجنة- فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة'' .

هذه الدار التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) فكلها لا تعدل جناح بعوضة، ويستمتع فيها الكفار من قديم الزمان إلى نهاية هذه الدنيا، فكم نصيب الكافر الواحد من هذه الدنيا كلها التي لا تعادل جناح بعوضة؟

نسبة عجيبة جداً لو تأملها الإنسان بذهنه وخياله، فهذا آثرها على الله والدار الآخرة، وباع حظه من الآخرة، وحظه من محبة الله، ومعرفته بهذه الفانية العاجلة الحقيرة التافهة.

صفات أولياء الله

ثم قال: '' ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه '' قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] فذكر الله صفات هؤلاء وهي:

أولاً: أنهم يحبهم الله ويحبون الله.

ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين ''فقال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح (أعزة على الكافرين) يعني: أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة والغلظة، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] '' والوصف الآخر هو أنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم.

ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد أن أكمل هذه الآيات ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله فقال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].

ثم حذر بعدها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57] إذاً: قبلها آية التحذير، وبعدها آية التحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار.

تأتي صفة المؤمنين الذين يستبدل بهم الله تعالى من يترك دينه، ويعرض عنه، ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.

عاقبة الأمة التي تختلف فيها هذه الصفات

فإما أن تكون الأمة المؤمنة التي أمر الله بها في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وتنصر الحق موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله تعالى لن يضيع دينه، وسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفاتهم.

وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى الله عنها ويعاقبها بما يشاء، ويسلط عليها أعداءها، ويسلط عليها الفرقة فيما بينها فيشتت جمعها، ويذلها بمن يشاء من عباده المؤمنين أو الكافرين، فيبتليهم بالخوف، ويبتليهم بالجوع، وبما ذكر من المصائب والعذاب الذي حلَّ بالأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.

أذلة على المؤمنين

لما كان هذا الموضوع -موضوع الولاية- بهذه الأهمية، والتحذير عن موالاة الكفار بهذه المثابة وبهذه المنزلة، ذكر من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، فذكر من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، ومن أهل اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم أذلة معه يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وهمه ومراده وهو الله واتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم فإنهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه لقوة صلته بالله ومحبته له، ومن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات.

حتى لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ -أي كتاب- فوجدت سيرة رجل عالم عابد داعٍ إلى الله، آمرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر أحببته وليس بينك وبينه أي صلة، وقد يكون من بلاد الهند، أو الترك، أو أطراف الدنيا، لكن لما وجدت سيرته بهذه الحال، فإنك تحبه، وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة.

وكذلك لو لم يكن هناك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم هذا حاله وشأنه من البعد عن الله أو محادة الله ورسوله وارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه.

إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فكلما عظمت محبة الله تعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فيكون خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، ولاحظوا كلمة (ذِلة) والذل هل هو صفة محبوبة عند الإنسان أو مكروهة؟

إنها مكروهة فلا يوجد أحد يريدها، أو يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في وصف هؤلاء، ولم يقل رحماء، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم، جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنسان لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعظم من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم، ودقيق، وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم.

وعليه فإذا وجدت إنساناً غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه، أو خالفوه في رأي، أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله عز وجل إلا مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.

أعزة على الكافرين

إذا كان الإنسان ذليلاً للمومنين، وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم، فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، ولا يعني الغلظة على الكافر أنه ظالم للكافر بل هو العدل، ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9]، وقال: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123].

فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق لا تعني الظلم، ولا تعني البغي، حتى ونحن نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمرنا الله بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق.

إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن الإنسان يسب أو يشتم وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه.

وأما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله، وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله، ويدفع الجزية؛ فإنه يقاتل حتى يقتل.

الخلل في تحقيق هاتين الصفتين

هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتان، ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثير من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، من أغلظ على المؤمنين؛ فإنه يؤدي به الأمر إلى أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في نفس الإنسان هذان العاملان:

أحدهما: الحب ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة.

والآخر: البغض ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة....إلخ.

فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار، ووادهم، وأحبهم، وخالطهم بحيث إذا جاء إنسان وتكلم في الكفار، وحذَّر منهم، وبيَّن أنهم أعداء الله؛ أغلظ وأنكر عليه.

وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين.

فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا تجده يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين، ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى.

فقوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى، وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عزٌ له عند الله عز وجل، وهذا يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد ترى أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟

ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنه يستشفع إليه بمن يحب، حتى ولو كان بينه وبين الرجل أي مشكلة فيعفو عنه لأنه تشفع له من يحبه ذلك الرجل.

محبة الله ورسوله فوق كل محبة

وهل هناك من يُحَب أعظم من الله عز وجل، فكل محبوب في هذه الدنيا تحبه فيجب أن يكون الله أحب إليك منه، لماذا؟

لأنك إن أحببت الوالد، فمن الذي خلق الوالد والوالدة؟

ومن الذي سخرهما لك؟

ومن الذي حفظهما لك حتى ربياك؟

ومن الذي أودع في قلبيهما الرأفة والحنان والشفقة بك؟

إنه الله.

لو أحببت الزوجة، فمن الذي خلقها؟

ومن الذي أعطاها الصفات التي أحببتها من أجلها في خَلْقِها أو في خُلُقِها؟

ومن الذي سخرها لك؟

إنه الله.

وقد تحب شيخك، أو معلمك، أو أستاذك، فمن الذي أعطاه العلم؟

ومن الذي سخره ليعلمك؟

ومن الذي عقد بينك وبينه هذه المحبة؟

إنه الله.

إذاً: كل من تحبه في هذه الدنيا، وتقدِّره، وتعظمه، فالفضل أولاً وآخراً لله تعالى، فوجب أن تحب الله أكثر من محبتك لهؤلاء جميعاً، ولهذا أشد محبة يجب أن يحبها الإنسان هي محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -هل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

لا- قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من كل شيء حتى من نفسك، قال: الآن يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي } وهذه حقيقة الإيمان، لأن من كان يريد أن يكون في مثل درجة عمر، فلا بد أن يصل به الحال إلى هذا المستوى، ألَّا يحب وألَّا يؤثر على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء؛ حتى نفسه التي بين جنبيه، لأن هذه النفس إنما جاءها الخير والصلاح والهدى من غيرها، وإلا فمن أين جاءنا الخير والصلاح والهدى؟

من أين الوسيلة التي نصل بها إلى النعيم الأبدي الخالد عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟

إن ذلك كان من طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى

يجب أن يكون الله عز وجل أحب إلينا من أنفسنا؛ إن أردنا أن نكون من أهل الدرجة العليا، وهكذا هي محبة الله تعالى، والذلة للمؤمنين والغلظة على الكافرين شرط في حصول ذلك، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى، ولذلك عقب على الغلظة بالجهاد كما قال تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54].

يقول: '' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب ''.

إذا كنا نحب الله، فكيف نرضى ونسكت عمن يقول: إن لله تبارك وتعالى ولد؟

كما قال ذلك اليهود والنصارى، وكيف نرضى عن قول اليهود كما حكى الله عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] وعندما يقول اليهود: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] وعندما يكذِّبون رسل الله، وعندما يدعي النصارى أن لله ولداً، تعالى الله وتنزه عن هذا القول المنكر المفترى العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدَّا، فهكذا يقول النصارى واليهود.

والمشركون يعبدون مع الله حجارة وأصناماً، ويظنون أنها تقربهم من الله، وأنها واسطة بينهم وبين الله، فحق الله الذي خلقهم ورزقهم يصرفونه إلىهذه الحجارة وهذه الأوثان والأشجار والقبور، وغير ذلك، وهذا أمر عظيم، فمن عرف الله، وأحب الله، فإنه يجب عليه أن يتقرب إلى الله بقتال هؤلاء -أعداء الله- الذين تركوا عبادته والإخلاص له الذي أمرهم به، كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] فتركوا ذلك وذهبوا إلى عبادة غير الله، والافتراء على الله، وادَّعوا لله تعالى ما ليس له.

وأقول: -ولله المثل الأعلى- هل يعقل أن تحب أحداً من الناس وتقول: أنا أحبه غاية المحبة، ولا تعادي من يفتري عليه أعظم الافتراء، ويبهته أعظم البهتان؟ مستحيل، حتى إن الواحد من الناس يقال له: ألم يكن فلاناً حبيبك، فيقول: نعم، هو حبيبي وأخي، لكن لما رأيته أبغض فلاناً، وافترى عليه، وكذا وكذا كرهته، فلسان حاله يقول: ليس بيني وبينه أي شيء، لكنه أبغض من أُحب، وكَذَب على من أحب، واتهم من أحب، وأبطل حق من أحبه محبة عظيمة؛ فكانت العاقبة أن أقطع ما بيني وبينه.

إذاً: هكذا المؤمنون لو أحبوا الله تعالى حق المحبة؛ لعادوا الكافرين أشد العداوة، وأحبوا المؤمنين أشد المحبة، ومنتهى العداوة أن يجاهدوا باليد بعد المجاهدة بالبيان، يجاهدون بالسنان مع إقامة الحجة عليهم بالدعوة والبرهان، وينتقلون معهم من حال المجادلة إلى حال المجالدة، وهذا لا بد منه، ولذلك تأتي هذه الصفة كأنها صفة لازمة.

فإنك لو تأملت السياق: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] فهل المحبة صفة لازمة أو عارضة للمؤمن؟

لا شك أنها لازمة، وكذلك قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] هل هي لازمة أم عارضة؟

أيضاً لازمة وثابتة، إذاً يجاهدون في سبيل الله لازمة، لماذا؟

لأنه من المستحيل أن تكون بهذه الدرجة، وأن تدعو إلى الله، ولا تجاهد في سبيل الله؛ فلابد من المجاهدة.

هذه الأمة في مجموعها لا بد لها أن تجاهد؛ لأن من سنة الله تعالى أنه ما قام أحد بأمر هذا الدين إلا عودي، وهذا ما علمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورقة بن نوفل، فأول ما نزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، لم يكن قد قرأ عن أخبار الأنبياء من قبل، ولا علم ولا عرف ما ابتلوا به، فأتت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلاً كبيراً قد أسنَّ، فذكرت له ذلك، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ومات، فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سمع ذلك فقال: {أو مخرجي هم} لماذا يخرجونني؟

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] هل فيها شيء يتطلب الإخراج أو الأذى؟

فقال له ورقة {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} وهو لا يعلم الغيب، ولكنه يعلم أنها قاعدة وسنة ماضية للرسل من قبل؛ لأنه يقرأ لأهل الكتاب أنه ما جاء نبي من الأنبياء ودعا إلى الله إلا عودي وحورب وأوذي؛ فمنهم من قتل، ومنهم من طرد، أو أوذي، أو حبس، أو... إلى آخره.

فلابد من نوع من الأذى والابتلاء يصيب الداعية إلى الله، ولهذا يقول الله تعالى لعبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] فليس فيه جديد كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] نفس العبارة أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53] هل كتب قوم نوح وثيقة وقالوا: يا عاد. إن بعث إليكم رسول يقول لكم اعبدوا الله فقولوا له كما قلنا؟

وهل كتبت عاد إلى ثمود إذا جاءكم وبعث فيكم رجل ودعاكم إلى مثل ما دعانا إليه هود فقولوا له كما قلنا؟

أبداً. لم يتواصوا به، إنما هي سنة واحدة، الطغيان واحد، والإعراض واحد، والرد واحد؛ لأنه كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا [الفرقان:31]، إذاً: ما دام الأمر كذلك فكل من تصدَّى لهذا الدين لا بد أن يجاهد.

الطائفة المنصورة

الطائفة المنصورة الموعودة بنصر الله تعالى من صفاتها أنهم يجاهدون ويقاتلون في سبيل الله، كما في الروايات الصحيحة (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم).

أقسام الناس تجاه الطائفة المنصورة

والناس تجاه الطائفة المنصورة على قسمين:

الأول: أعداء؛ فهؤلاء يقاتلون.

الثاني: طائفة أخرى يقرون ويوافقون الطائفة المنصورة، لكنهم يخذلونهم ولا يعاونونهم، فهاتان ليستا من الطائفة المنصورة.

الدعوة والجهاد من صفات الطائفة المنصورة

الطائفة المنصورة: تدعو، وتأمر، وتنهى، وتجاهد، فمن خذلهم فليس منهم، ومن قاتلهم فهذا عدوهم، ومن المستحيل أن يكون منهم.

ومن العقبات السبع التي ذكرها ابن القيم رحمه الله العقبة السابعة: عقبة المراغمة، والمراغمة هي الجهاد فلا بد منه، فعندما ذكر العقبات مثل: عقبة الشرك، وعقبة الكبائر فإنه يوجد لله عباد لا يرتكبون الكبائر، لكن العقبة التي لا يستطيع أحد أن يتداركها أو يتجاوزها هي المراغمة، لا بد أن يسلط الله تعالى عليه عدواً أو يسخر من يعاديه ومن يؤذيه.

ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله عن نفسه في الفوائد قصة سلمان الفارسي عندما قال له أبوه: إما أن تعود إلى ديننا أو القيد، فقال: [هذا هو الخطاب الذي قالته الأمم لأنبيائهم من قديم] قال الإمام: ''وهو الخطاب الذي خوطب به الإمام أحمد عندما رفض القول بأن القرآن مخلوق، وهو الخطاب الذي قيل لـابن تيمية شيخنا شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، وهو الخطاب الذي قيل لنا'' .

فهذا لابد منه، وهذا هو الجواب الأخير: إما أن يعود في ملتهم وإما يناله من الأذى ما يستطيعون: رجماً، أو طرداً، أو إخراجاً، أو أذى، وربما وصل الحال كما فُعِل بأصحاب الأخدود، هذا شيء عجيب، وحالة نادرة أن يصل الأمر إلى أن يُحرق المؤمنون، ويرجع الملك إلى ملكه، وتبقى الأمور مستمرة، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أنه لابد من هذا، كما قال: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

لا يخافون لومة لائم

قوله: ((وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] فيه معاني حكيمة وعجيبة، وكل القرآن فيه ذلك لمن تدبره وتأمله، لكن قوله: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))[المائدة:54] ووصفهم بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، كلها صفات نستطيع أن نقول: إنها معروفة، لكن لا بد منها وهي ضرورية للإنسان المستخلف الذي يريد أن يمكنه الله تعالى وأن ينصر به دينه.

الخوف من قول الحق

لكن قوله: وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] كثير من الناس لا يمنعه من قول الحق، أو السير في طريق الدعوة والاستمرار فيه؛ إلا لوم اللائمين، فإن كان قريباً أو صديقاً أو محباً قال: يا فلان أنا أحبك، وأعزك، وأشفق عليك، ولا أريد أن تؤذى، ولا أريدك أن تهان ولا أريدك أن تُخذل، أريدك أن تقعد محترماً، وفعلاً قد يكون يحبه، ولكن هذا من لوم اللائمين.

وآخر قد يقول له أبوه أو أمه: تريد الجهاد، أخاف عليك أن تموت فمن يبقى لنا؟

أين نذهب من بعدك....إلخ.

وهذه حرب أخرى تسمى في مصطلحات الناس اليوم: الحرب النفسية وحرب الأعصاب، والمهم أن هذا اللوم من المهم جداً أن يتجنب، وقد يقال لك: ألا يوجد إلا أنت حتى تقاتل الكفار وتجاهد، وأنت تريد الجنة، كلنا نريد الجنة، ونقاتل، وندعو، ونأمر، وننهى، ولو أوذيت أو عذبت لصبرت لكن المشكلة هي في أن يأتيك اللوم.

واللوم ليس شرطاً أن يكون من العدو؛ لأنه لو كان من العدو فلن يؤثر، لكن المشكلة إذا جاءك من المحب، ومن الموافق، وفي صورة الناصح المشفق الحنون الدءوب على مصلحتك، لكنك لو أطعته لتركت أمر الله تعالى، وتركت الجهاد في سبيل الله، ونزلت عن الدرجة التي يريدها الله تعالى لك؛ فالله تعالى يصطفى هؤلاء الأصناف بدرجة عالية عظيمة المقام، كمقام الأنبياء، بحيث يقفون ويقومون مقام الأنبياء، ويرثون ميراث النبوة، ويدعون إلى الله، هذه الدرجة العظيمة ينزلك عنها، نعم هو لا يريد أن يخرجك من الدين، ولا يريدك أن تترك الحق والخير، لكن ينزلك عن هذا المقام إلى مقام بعيد بالنسبة لهذا وإن كنت من المؤمنين، ومن الأخيار، ومن الصالحين الذين هم على خير ويدخلون الجنة، لكن ليس هذا هو الغرض الذي أنت تريده، ولا هو الشرط أو الصفة التي يريدها الله عز وجل فيمن يريد أن يمكنه وأن يستخلفه وأن ينصر به دينه ويظهره.

لماذا لا يخاف الإنسان في الله لومة لائم؟

لا بد أن يهتم الإنسان دائماً بهذا الجانب: وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] ولا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة.

فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك بأني لا أخاف في الله لومة لائم.

أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: '' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد الدعاء إليه بالحجة والبرهان، فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه'' كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل. وهذا من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله، ومن محبته لله لا يريد أن أحداً يغضب الله أو يتعدى حدود الله، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل.

فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصي الله أويتجاوز حدوده، قال: ''فمن لم يجب الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف: {عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل} وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه، رضي من رضي، وسخط من سخط'' .

وابن رجب عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، وكأنه لا يتكلم بكلام الفقيه أو المؤصل لأنها لا تكفي، فينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر هذه التعبيرات الأدبية الجميلة، ويقول: '' لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة ثم أتى بهذه الأبيات:-

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم '' وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، وقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ، لكن يقال في حق هذه الأبيات أو هذه القصيدة: إنها أبلغ ما قيل في المحبة وفي الحب:

ثم قال في البيت الآخر:

وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً>>>>>أين المهان لديك ممن يكرم

أي: من أجلك أهنت نفسي، ثم قال:

أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم

كل من يلوموني أفرح؛ لأنه يلوموني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول:

لقد نقل الواشون عنك >>>>>فقد سرني أني خطرت ببالك

وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك أنك لا تحبني، أنا أفرح به لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، سبحان الله! لكن كيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد الذي يقول: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] يقول: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} أي حبيب في الدنيا كهذا، وبدون واسطة يعلم أن هذا ذكره، ثم قال: {وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} فمهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى -المقربون عند الله تعالى- هم خير من هذا، ولهذا لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابي أبي بن كعب: { إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: أو قد سماني الله عز وجل وذكرني باسمي، قال: فبكى}.

هكذا يكون المحبُ المحبةَ الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب.

فالعملية واحدة،والتضحية واحدة، والتعلق والتعب والمشقة لا بد منها، ولذلك لا تجد أحداً حتى من أكثر الناس تطفلاً على الحب -كما يسمونه- وعلى الغزل، إلا ويكتب: الحب عذاب على سيارته، وعلى أوراقه، وعلى كتاباته، فما دام عذاباً فلا تتعذب من أجل أي شيء، بل ينبغي إذا أحببت شيئاً وتعبت من أجله، فليكن مِنْ مَنْ يستحق ذلك الحب، ولا شيء يستحق أن يُحب على الحقيقة إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن والاه عز وجل، فلهذا يقول العلماء الربانيون، ومن يعرفون الله عز وجل: إن مثل هذه الأبيات التي تقال في حق المحبوبين -لغير الله- لا يليق أن تقال لغير الله عز وجل.

مثلاً: أبو فراس له أبيات عظيمة جداً في الحب، يقول:

فليت الذي بيني وبينك عامر>>>>>وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين>>>>>وكل الذي فوق التراب تراب

فهذا كلام عظيم جداً، لكن لمن تقول هذا يا أبا فراس؟

كتب الرسالة إلى سيف الدولة، وسيف الدولة ابن عمه وكان يحبه؛ لكن لما اختلفا على الملك تقاتلا فكتب له هذه الرسالة، وكم تقاتل من إخوة وآباء وأبناء على الملك والدنيا، إذاً لا يستحق أحد أن يكون الذي بينك وبينه عامر ولو خرب ما بينك وبين العالمين، وأن تراقب وتراعي رضاه، ومحبته، ورغبته، وما عدا ذلك فكل ما فوق التراب تراب إلا الله عز وجل فقط، أما ما عداه فلا، ولو دققت النظر فإنك تجد أن هذا الكلام يقال على سبيل المبالغة التي لا تصل إلى درجة الحقيقة.

لكن بالنسبة لله عز وجل يمكن أن يكون وأن يوجد على الحقيقة.

الانحراف في مفهوم قوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)

وهنا مدخل للصوفية الذين يكثرون من هذه الأشعار، ومن هذه الدعاوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة عملاً في قلوبهم وأحوالهم، أما الصوفية فادعوها دعوى -فقط- بغض النظر عن الزندقة، والكذب، ودعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والوجد والهيام والشوق لوجدناها كلها دعاوى، وأشعار تقرأ وتنشد ويبكى عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والأوجاد فقد عاشها الصحابة رضوان الله عليهم حقيقة، والتابعون، وأولياء الله العباد الصالحون، وإن لم يتمثلوا بها شعراً.

فهؤلاء الصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، هكذا الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب.

فهذه الأبيات إنما تليق بالله تعالى، على تعديل بعض العبارات أحياناً، فقوله:

وقف الهوى بي حيث أنت

يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تكون متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال الحسن: [وسط بين الجافي عنها والغالي فيها] فلا تتقدم ولا تتأخر عن ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثم قوله:

أجد الملامة في هواك لذيذة

نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة.

وقوله:

حباً لذكرك فليلمني اللوم

فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا، لماذا؟

لأن غاية ما يقولونه، هو نفس ما ذكره شعراء الغزل:

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

أي أنه يقول: دعهم يسبوني وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أنا أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك، إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله؟

فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟

هذا هو التعرض للوم الحقيقي.

وتعلمون أن طائفة من الصوفية سمت نفسها الملامتية، وألف فيهم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه الملامتية، وهؤلاء الملامتية لماذا سموا بذلك؟

لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص واجتهد؛ لكي يلومك الناس من أجل العبادة، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون مجنون، وقد ووصل الحال ببعضهم إلى أن يشبه المجانين، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس وحتى يسقط من أعينهم.

فهذا فهم ضال في اجتناب الرياء، واجتناب الغرور، أو الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة؛ وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا.

ولكن تدرج الحال فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونهم أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: إذا كان أن الأمر كذلك فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركونا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق وأخذ يأكلها فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه.

فيقول أصحاب الملامتية، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور وما إلى ذلك.

المفهوم الصحيح لقوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)

يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- وهو من أعطاه الله من الفقه والحكمة-: ''عجباً لهؤلاء، أطع الله تجد من يلومك'' أي: لا تحتاج أنك تعصي الله حتى يلومك الناس، أطع الله، واتق الله، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر؛ تجتمع الدنيا كلها عليك لوماً.

فقد ليم الإمام أحمد، وتعرض للوم أيضاً شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فأوذي وعذب وسُجِن وشُهِّر به، وكُفِّر وضُلِّل وبُدِّع، كل هذا تعرض له؛ لأنه استقام.

فيقول: ليس هذا حقاً، بل استقم على دين الله، ومن غير أن تطلب اللوم فسوف تلام، وعندها يجب عليك أن تصبر، أما أن تخالف شرع الله من أجل أن تلام فتحتسب هذا اللوم، أو تخالف حتى يدفع عنك الغرور والعجب، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإنهمُ استقاموا على دين الله ولامهم الخلق وعُذِّبوا، وأوذوا، واضطُهِدوا، حتى أقرب الناس إليهم لامهم، فهذا أبو طالب يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمد إن قومك فعلوا كذا، وعرضوا كذا، وقالوا كذا، فلم يأبه بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

إذاً: أنت استقم على الدين، وافعل الخير، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وسيأتيك اللوم، وحينئذٍ لا تأخذك في الله لومة لائم، لأن هذه الصفة، هي كما قال الله تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

حقيقة الولاية

وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54] أي: هذه الصفات لا يمنُّ الله تعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم.

إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم، والذي لا يريد أن يقدم هذه التضحيات، فلن ينال هذه الدرجة وهذا الاصطفاء وهذا الكرم وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم، ولذلك يقول الشيخ ''وقوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه قال: ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً، وكان داود عليه السلام يقول في دعائه: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد.

وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتاني ربي عز وجل -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد، قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك) وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب) وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو: (اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر عيني بعبادتك) فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هَمٌ، إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه -أي: أهل هذه الدرجة همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تعالى- قال: قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور'' وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عملك كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط.

إذاً: فتغييب جانب الخوف قد يغير الرجاء، وقد يضعف الرجاء، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله).

قال: ''والعمل على المحبة لا يدخله الفتور'' وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه، وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتنشغل وتسهر، واليوم الثاني إذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض... وهكذا، فالعمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تعالى؛ لأن العبد يعمله من محبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص عند الله تعالى.

قال: ''ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطَّالون من بطالتهم، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.

قال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمَّر على الأمراء -الله تعالى يجعله أميراً مؤمراً على الأمراء- زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك. والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه'' لاحظ كيف أنه يحبهم ويحبونه!

ضرورة تحبيب الله عز وجل إلى الخلق

وقد أضاف الشيخ هناك عبارة عظيمة جداً، وهي: ''ويحببونه إلى خلقه'' وكثير من الدعاة وطلاب العلم ينسى هذا المعنى، يقول: أنا أحب الله ويكتفي، لكن لا تبغض الله تعالى إلى الخلق، وحبب الله تعالى إلى الخلق، كيف يحببون الله إلى الخلق؟

بالرفق، واللين والنصح، وبحسن المعاملة مع الخلق، وإذا أحب الناس هذا المخلوق ورأوه يدعو إلى الله، أو أنه عالم، أو مفتي، أو أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

فاعلم أن فيه صفة من صفات أولياء الله لأنه عمل الأعمال التي تقرب إلى الله، وعاملهم بالمعاملة اللينة الحسنة التي يحبونها، من غير تنازل أو تهاون أو مداهنة في الدين، فيحبب الله إليهم فأحبوا الله وأحبوا ذلك المخلوق.

ولهذا نوصي إخواننا في خطب الجمعة وفي المواعظ: أن تكون من موضوعاتها أو مما تستفتح به موعظتك هو تحبيب الخلق إلى الله، وبيان نعم الله، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، فإذا ذكرتهم بنعم الله عليهم؛ أحبوا الله، واستشعروا التقصير والتفريط، وأنه لا يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعم بتلك المعاصي والذنوب، وهذا من الحكمة في الخطابة، مع التخويف أيضاً والوعيد، لكن هذا جانب قد يُغفل عنه؛ لأن كثيراً من الوعاظ يقول: عندما تقول هذا حرام، والله تعالى توعد عليه بكذا، ومن فعله فقد تُوعِد بكذا، فإن الناس ينتهون، وهذا حق لكن لا ينسى الجانب الآخر، وهو أن تذكر الناس بالنعم، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها).

إذاً: علينا أن نعلم الناس أن الله تعالى أحسن إلينا بنعم عظيمة جداً، فإذا عرف ذلك أحب الله، ولذلك يجب أن نكون جميعاً ممن بِخُلُقِه وبتعامله يحبب الله إلى الخلق.

حقيقة عمل الدعاة

يقول: ''يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم -يوم القيامة- يوم تبدو الفضائح'' فعمل الدعاة في هذه الأمة هو النصح، كما قال تعالى حاكياً عن رسله: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68] وفي الآية الأخرى: وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62]، وفي الآية الأخرى عن أحد الدعاة: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُون [يس:21].

فهم لا يريدون شيئاً كما حكى ربهم عنهم: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص:86] وفي الآية الأخرى مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] وفي سورة هود: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً [هود:29].

هكذا قال رسل الله الكرام: أنهم هم ومن يتبعهم لا يريدون من الخلق مالاًً، ولا دنيا،ولا منصباً، ولا جاهاً، إنما نصحاً لهم، وإشفاق، ومحبة وحرص أن يكون هؤلاء الناس على طريق الخير، الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

راحة المؤمن

يقول: ''أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، وأولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه'' كما قال الإمام أحمد رحمه الله: ''لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه'' .

فترتاح من أي شيء قبل أن تلقى الله، نعم. ما أمرك الله تعالى به فهو شاق، فقد أمرك بقول الحق، وقد يكون هذا مراً وصعباً وعظيماً على النفس، وأمرك بالجهاد، وهذا شاق عليك ومجهد لك، وأمرك بالصلاة، تقوم لصلاة الفجر، وإن كنت تؤثر النوم والفراش والدفء، فتقوم إلى الصلاة لتلبي داعي الله تعالى، وإن كان فيها مشقة عليك، وتنفق من مالك الزكاة الواجبة، أو الواجبات غير الزكاة كالصدقات، والمال أحب إليك، وتقاطع ابنك أو أخاك أو قريبك؛ لأنه أعرض عن طاعة الله، وهكذا فلا راحة في الدنيا.

ثم إن أعداء الله لا يتركونك ما دمت حياً. متى ترتاح؟

لا يجد المؤمن الراحة الحقيقية إلا إذا تنزلت عليه الملائكة، كما قال تعالى: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] فدون لقاء الله لا يستطيع الإنسان أن يرتاح، حتى لو سلم من كل شيء فرضاً، فإنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة، فيخاف والعياذ بالله أن يختم له بخاتمة السوء، فهو دائم الخوف من الله، والخوف مما أمامه.

فإذا بشر بهذه البشرى، ولقي الله عليها اطمئن، ولهذا كانوا كما حكى الله عنهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] كانوا مشفقين، فأصبحوا بعد ذلك آمنين مطمئنين، بدَّل الله تعالى عنهم هذا بهذا والنتيجة هي: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35]: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] إذاً: كانوا في الدنيا حزينين مشفقين، وكانوا وجلين وخائفين، فجاءت الجنة لا حزن فيها ولا خوف ولا وجل، وإنما الطمأنينة، يلقون فيها تحية وسلاماً، ويبشرون بنعم الله تعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله، وإلى لقاء أو مجالسة أحباب الله، الذين كانوا يحبونهم في الدنيا ولم يروهم، والآن يرونهم.

لأنك أنت في الدنيا تحب كثيرين، ولا تستطيع أن تراهم لأسباب كثيرة جداً، أما من مات ممن تحب فهذا أمر قد سبق.

فهل نستطيع أن نرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة؟

لا نستطيع ذلك في الدنيا، لكنك تحب هذا، وأيضاًً يأتي أقوام من بعدك تحبهم لكنك ما رأيتهم، ولا تستطيع أن تعيش حتى تراهم، ففي الدنيا لا تستطيع أن تحصل فيها على كل شيء تريده، فهي ضيقة دائماً.

لكن في الآخرة من نعيمها: أن الله يجمع لك بين هؤلاء وبين هؤلاء، فتجد وتلتقي بمن تحب، وأعظم محبوب هو الله عز وجل، فالمؤمنون يرون ربهم -عز وجل- في الجنة، وهو أعظم نعيم على الإطلاق.

وترى من تحب من الماضين وإن كانوا قبلك بقرون، فلو أحببت أن ترى آدم عليه السلام، أو نوحاً عليه السلام، أو المؤمنين ممن نجوا مع نوح في السفينة، أو الصحابة، أو الأئمة كالإمام أحمد -مثلاً- وأئمة الإسلام وكل من تحب أن تراه وكذلك الذين لم يأتون بعد، فإنك تراهم هناك.

فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {وددت لو أنا رأينا إخواننا -كان يتمناها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك، قال: لا، أنتم أصحابي، لكن إخواني قوم لم يأتوا} هم الذين نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، هم الذين وجدوا الكتاب والسنة فاتبعوهما ولم يروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهذا يحصل في الجنة بإذن الله تعالى، والشاهد: أن المؤمن لا يجد راحة دون لقاء ربه.

قال: ''قال فتح الموصلي: المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين'' وبعض هذه الأقوال والآثار المنهج فيها معروف، فهي تحكى ولا يعني أن تلتزم بالدقة.

''وقال محمد بن النظر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله،وما يكاد يسأم من ذلك'' ولا شك أن من أحب الله تعالى حق المحبة، فإنه لا يمل القرب إلى الله ولا يسأم، ولا يكاد يسأم، لكن النفس البشرية بطبيعتها أنها تمل وتسأم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن ينوع في العبادة، فهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ألَّا يتكلف في العبادة ما لا يطيق: {فإن الله لا يمل حتى تملوا} فإذا سئمت أو مللت، أو كدت تسأم وتمل من قراءة القرآن أو صلاة أو أي عمل فكف عنه، فإن الله لا يمل حتى تملوا.

قال: ''وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دأباً وشوقاً'' .

ولذلك قال الله في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} فهكذا المحب لله لا يزال يتقرب إلى الله بكل شيء، قال: ''وأنشد بعضهم:

وكن لربك ذا حب لتخدمه >>>>> إن المحبين للأحباب خدام ''

وهذا أيضاً مما ينبه عليه وهو: إطلاق الخدمة على العبادة، وقد تجدون أحياناً في كلام بعض العلماء ذلك، وأكثر من يستخدم ذلك الصوفية، والصحيح أن العبادة أجل من الخدمة.

والأفضل في حق الله تعالىألا نستخدم إلا الألفاظ الشرعية، فنقول: عبادته، ولا نقول: خدمته.

قال: وأنشد آخر:

ما للمحب سوى إرادة حبه >>>>> إن المحب بكل برٍّ يضرع

وهذا أيضاً يؤكد ذلك، فهذا كله في محبة الله تعالى.

كيف تنال ولاية الله؟

ثم قال الشيخ: ''ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من النوافل: كثرة تلاوة كتابه، وسماعه بتدبر وتفكر وتفهم''

إذاً: هذا أمر عظيم جداً؛ لأن الكلام عن كيف تنال ولاية الله، وكيف تنال محبته عز وجل، وكيف نتقرب إلى الله.

فالتقرب إلى الله بالصلاة، وهذا قد سبق في قوله رحمه الله: ''وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة'' .

فأعظم الفرائض البدنية للتقرب إلى الله هي الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن، وهذا من فقه الإمام ابن رجب -رحمه الله- أنه جعل أعظم الفرائض الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن.

يقول: ''قال خباب بن الأرت لرجل: [تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه].

وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً قال: (ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه) يعني: القرآن، لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم'' وإذا رجعنا للقاعدة -قاعدة المحبة الدنيوية- فكل من تحب، تحب كلامه، وتحب أن تقرأ له، وتحب رسائله، وتحب أن يخاطبك، أو تقرأ كلامه مكتوباً، وهذه حقيقة نفسية.

فالواجب أن يكون أحب شيء إلى العبد هو القرآن، يشغل وقته به، بل يتغنى، ومعنى يتغنى: يغتني به عما سواه، أو يتغنى به: كما أن أهل الدنيا تعجبهم الأشعار فيتغنون بها، ويترنمون بها، ويتذكرونها فيكون هو كذلك، بحيث يكون على لسانه، يقرأه، ويتلوه، ويتلذذ به.

قوله: ''لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم، قال عثمان رضي الله تعالى عنه [لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]'' وهذا معيار عجيب اختبر به قلبك، وقلوب الناس.

ويوجد كثير من الناس لا يستطيع أن يستمع إلى صفحة مثلاً أو عشر آيات، ولو قلت له: اجلس نقرأ عشر آيات أو استمع لهذا الشريط، فإنه لا يطيق أبداً، إما أن يقفله، وإما أن يقول لك: أنا مشغول -والعياذ بالله- لأن قلبه مطموس كما قال الله عنه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].

ومعنى: (ران) أي: مطبوع مختوم عليه، وأُغلق بحيث لا ينفذ إليه شيء من الحق فنعوذ بالله.

ومن أعظم مايجعل العبد كذلك، أن يدمن على سماع الأغاني، والأشعار الخالية عن ذكر الله، التي كما جاء في الحديث: (لأن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خيراً له من أن يمتلأ شعراً) فلو أن مدمناً على سماع الأغاني، أو هذه الأشعار الخالية من ذكر الله، قلت له استمع هذه الآيات؛ لا يستطيع ذلك، وإن كانت ذنوبه أقل فإنه يتحمل بقدر أقل... وهكذا.

فعباد الله الصالحون يقول لهم: [لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم] لماذا الإنسان يقرأ ويقرأ، ثم يتعب ويمل أو يضعف؟

لشيءٍ في قلبه، فهذا هو المعيار، فانظر لنفسك فإذا وجدتها لا تطيق القرآن أو لا تستمع إليه، فاعلم أن داءً ومرضاً خبيثاً يداخلك فاجتنبه، وسارع إلى العلاج. وبادر إليه.

وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الشباب أرسل إلي رسالة يشكو ويقول فيها: إنني كنت أحب طلبة العلم، وأطلب العلم، وأحب المساجد، وقراءة القرآن، والآن لا أستطيع، حتى أصبحت أتخلف عن الجماعة، وأصبحت كذا؟

نسأل الله أن يرده إلى الحق والصواب.

فأقول: علينا جميعاً أن نبادر إلى العلاج قبل أن يستفحل الداء، انظر كم من مريض يذهب إلى الطبيب فإذا به بعد فترة قد مات، لماذا؟

لأن المرض قد انتشر واستشرى في جسده.

ومرض الأرواح والقلوب ليس مثل المرض البدني، ومن فضل الله أن جعل الإنسان حتى لو كان منغمساً منهمكاً إلى أقصى شيء، يمكن أن ينتشل نفسه بتوبة صادقة إلى الله، فالمهم أن تتدارك نفسك قبل أن تحاول أن تتوب فلا يقبل منك عياذاً بالله.

قال: ''وقال ابن مسعود: [من أحب القرآن أحب الله ورسوله]'' .

قال: ''وقال بعض العارفين لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: واغوثاه با لله! مريد لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه تعالى؟!'' .

وهذا وإن كان من كلام الصوفية، ولكن هذا القول صحيح، فالذي يريد أن يسلك طريق الله، وأن يتعلم ويتأدب وهو لا يحفظ القرآن فبم يتنعم! وبم يترنم! وبم يناجي الله!

انحرافات في الولاية

من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الصوفية وغيرهم ممن لا يدري: أنهم وضعوا أدعية، وأوراداً وأذكاراً في كتيبات، أو في أوراق، ونشروها بين الناس، ويقال: من قرأها فإن له كذا وكذا، مما لا أصل له في الدين، فيشتغل الناس بها عن القرآن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الكفر والعياذ بالله.

فـالتيجانية يقولون مثلاً: من قرأ صلاة الفاتح خيراً له من أن يقرأ القرآن ستة آلاف مرة، وهذا كفر لا شك فيه، وكلما وجدوا شيئاً غير القرآن يجعلون قراءتها خير منه؟

مادام هو مذنب قولوا فرضاً: من قرأها خير له من أن يتصدق بألف دينار -مثلاً- لكن تقول: خير من أن يقرأ القرآن، هل يعقل هذا؟!!!

إنك مهما ابتدعت أو اخترعت أو اختلقت من أذكار، فلا يمكن أن تكون أفضل من القرآن، ولا يمكن أن تأتي بشيء أفضل من القرآن أبداً.

وأقول: كثير منهم لا يصل إلى هذه الدرجة من الكفر -والعياذ بالله- لكن واقع الحال عندهم أنهم يأتون بأدعية وأوراداً يقرءونها في الصباح والمساء، ومن هذه الأحراز الجوشن الكبير، والجوشن الصغير، والحصن الحصين، والحصون المنيعة، والعهود السبعة، وأشياء كثيرة منها ما لا أصل له، ومنها ما له أصل، لكن ليس بهذه الكيفية وبهذه الهيئة، ومنها ما يكون جملة من الآيات اختارها صاحب الحرز، لكن لم يرد الشرع بتحديد هذه الآيات، فيشتغل بهذه الآيات عن بقية القرآن أو عما فضله الله، نعم هو من القرآن، لكن هل يستطيع أحد أن يفضل شيئاً من القرآن على شيء من غير أن يبينه الله.

فمثلاً: الله عز وجل هو الذي أخبرنا أن آية الكرسي أفضل الآيات، وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وأن الفاتحة أفضل السور، فنحن حتى في هذه نتبع ولا نبتدع، ولكن نقرأ القرآن، ونتلذذ به كله.

وإن من أكثر ما يحول بين الناس وبين الخير إما صاحب فجور وشهوة، فيحول بين الناس وبين القرآن، بالغناء، والمزامير، والموسيقى، والأشعار، والقصص وما لا خير فيه، كما تشاهدون الإذاعات في آخر الليل، إذا قرب الثلث الأخير، تجد فيها الغزل والأشعار والهوى والحب سبحان الله العظيم؛ لأن قلوب الناس، ترق في تلك الساعات، فهم جاءوا إليها يرققوها بشيء رقيق، لكنه شهوة وفتنة، هذا هو الجانب الأول.

أما الجانب الثاني: الذي يأتي ليسد الحاجة لكن بغير الحق،كالذي يطعم الجائع نشارة الخشب، أو يطعمه ما لا يغني ولا يشبع.

فهؤلاء الذين وجدوا الناس محتاجين إلى الذكر ويريدون المناجاة، أعطوهم هذه الأوراد البدعية، والأذكار غير المشروعة، وقالوا لهم: اقرءوها في الصباح، واقرءوها في المساء، واقرءوها إذا قمتم في الليل، واقرءوها قبل أن تناموا...إلخ، فأطعموهم مالا يغذي.

والحق: أن القلوب إنما يكون غذاؤها وترنمها، وحياتها، وروحها، وريحانها، وشفاؤها بقراءة كلام الله عز وجل.

حتى وإن قل التعبد بشيء من الحق ومن الخير فلو لم يقم العبد إلا بعشر آيات، ولو لم يقرأ إلا قل هو الله أحد، ولو لم يقرأ إلا آية الكرسي فهذا خير، لكن كلما زاد فهو خير له، ولهذا جعل الشيخ رأس النوافل قراءة القرآن.

نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلني وإياكم ممن يتلونه حق تلاوته ويتلذذون بذكر الله تعالى به، وبمناجاته بقراءته إنه سميع مجيب.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وقفات مع آية الولاية للشيخ : سفر الحوالي

https://audio.islamweb.net