إسلام ويب

بدأ الشيخ حفظه الله بالكلام عن حقيقة الولاية لله عز وجل وبيّن الفرق بينها وبين الولاية للشيطان، ثم أوضح من هم أهل ولاية الله تعالى، مبيناً حالهم من حيث الدعوة والعلم والعمل، وتحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة في أي زمان ومكان.

حقيقة الولاية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ وسلم عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعـد:

فنسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول.

إنَّ أولياء الله عز وجل هم كما قال الله تبارك وتعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فلا يكون الكافر ولياً من أولياء الله، فالكافر هو عدوٌ لله وهو الطاغوت ووليه الشيطان وهم حزبه وجنده وأعوانه، وكذلك لا يكون المجنون أو من يعتريه الجنون في حال جنونه ولياً لله -تبارك وتعالى- كما يزعم ذلك الصوفية الضلال وأمثالهم، وكذلك بالنسبة للصبي ومن لم تبلغه الدعوة.

فنقول: إن المقصود والمراد من الآية هو الرد على من يظنون أن لله تبارك وتعالى أولياء من غير المسلمين، قد يزارون أو يقصدون في بلاد نائية، أو جبال بعيدة، أو مغارات يذهب إليها بعض الناس، فيجدون بعض العباد والزهاد، ويظنون أنهم أولياء لله وهذا من تلبيس الشيطان وتلاعبه بعقول كثير من الناس سواء من الصوفية أم غيرهم نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يثبتنا وإياكم على الحق والإيمان والسنة إنه سميع مجيب.

الأسئلة

عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء

السؤال: هل من الممكن أن يكون عوام أهل السنة والجماعة من أولياء الله، أم لا بد أن يكونوا علماء أو طلبة علم؟

الجواب: الحمد لله، من خلال ما تقدم نعلم الجواب إن شاء الله، وهو: أن أولياء الله -تبارك وتعالى- لا يشترط فيهم أن يكونوا علماء أو طلبة علم كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله.

فالأولياء هم من عموم هذه الأمة، فمنهم: التجار، ومنهم الصناع، ومنهم الزراع، ومنهم المجاهدون، ومنهم القراء، ومنهم العلماء، فالولاية: هي إيمان وتقوى الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] فكل من حقق الإيمان والتقوى فهو ولي لله تبارك وتعالى بالمعنى الخاص، وكل من آمن بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو ولي لله بالمعنى العام؛ لكن تنقص ولايته بمقدار ما يكون فيه من تقصير أو ارتكاب لما حرم الله، أو تفريط فيما أوجب الله تبارك وتعالى.

والعلماء إنما يفضلون على بعض العوام بأنهم يعلمون ما جاء عن الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتفصيل، وإلا فقد يوجد في بعض العوام من قوة الإيمان والصدق والإخلاص واليقين والرغبة والرهبة والإنابة وكل الأعمال الإيمانية الظاهرة أو الباطنة كما عند العلماء، أو ما هو أكثر من بعض العلماء؛ لكن المزية: أن العلماء يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله تفصيلاً، وهذه لا شك أنها مزية، ولكن لو تجرد العلم من التقوى لم ينفع صاحبه.

وكذلك العامي لو عبد الله تبارك وتعالى بغير علم بل على جهالة ولم يسأل عن دينه في ضرورات الدين لكي يتعبد بها فإنه لا ينفعه ذلك، فلا بد للعامي من العلم ولو كان عن طريق السؤال كما قال تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، والعالم لا بد أن يعمل، وإن لم يعمل بعلمه فلا خير فيه، بل هو كما ضرب الله تبارك وتعالى المثل له بقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]، وهذا من أسوأ الأمثلة.

وفي مثل آخر في آية أخرى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] هذا إذا لم يعمل العالم بعلمه ولم يؤد به علمه إلى تقوى الله عز وجل، كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

فالعلماء هم الذين يخشون الله أكثر خشية من غيرهم؛ لأنهم يعلمون ويعرفون عن الله عز وجل ما لم يحط به غيرهم.

إذاً: عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء، ونستطيع أن نوضح هذا بشكل أكثر فنقول: إن المؤمنين هم الأولياء، وكلمة الولاية من الألفاظ الشرعية؛ فإذا قلنا: الأولياء أو الأبرار أو المتقون أو المهتدون أو المستقيمون أو أهل الجنة أو أتباع السنة أو أي اسم من هذه الأسماء أو الأوصاف الشرعية فالمعنى واحد.

إذاً: فالأولياء فيهم العامة وفيهم الخاصة، والمتقون والصالحون والمهتدون منهم العامة ومنهم الخاصة، وهكذا هذه الأوصاف الشرعية تترادف، فعلى ذلك يكون عوام أهل السنة والجماعة من عوام الأولياء، وعلماء أهل السنة والجماعة -أي: العلماء العاملين- هم من خاصة الأولياء أو من علماء الأولياء، ولا إشكال في هذا إن شاء الله.

لمز الملتزمين بالدين بالجنون

السؤال: جاء في كتاب كنز الدعاء أن أناساً ذهبوا يستسقون وهناك شخص يقولون: إنه مجنون، فقالوا له: ادعُ لنا، فقال لهم: أتيتم بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية، ودعا لهم فنزل المطر! فما التعليق على ذلك؟

الجواب: عبارة [ يقولون: إنه مجنون ] إذن لم يجزم القائل -بغض النظر عن صحة الرواية من عدمها- بأنه كان مجنوناً، ومن يقال له: إنه مجنون، قد يكون من أعقل الخلق، بل إنَّ الملاحظ الآن والمشاهد أن كثيراً من الناس يطلقون على الشباب المتدين المتمسك المستقيم الذي يترك الحرام ويبتعد عن الشبهات والشهوات، ويخاف الله عز وجل ويقف عند حدوده يسمونه مجنوناً، ولا غرابة فقد قالوا ذلك للأنبياء وحتى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهكذا قالت كل أمة لنبيها إنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون... إلى غير ذلك؛ فإطلاق مجنون قد يكون تهمة، فربما يكون هذا الشاب أو هذا الرجل من أولياء الله الصالحين المستقيمين قد اعتزل ما عليه أهل هذه القرية من ظلم، وفساد، وفجور، وانحراف فسموه المجنون، فلما أرادوا الاستسقاء والدعاء، قالوا له: ادعُ الله، فدعا الله فمطروا، ولا غرابة في ذلك.

فهذا هو الاستسقاء المشروع: أن يدعو من يرى الناس أنه خيرهم أو أبرهم، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ثم بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي زمن عمر رضي الله تعالى عنه لما خرجوا يستسقون أمر عمر رضي الله تعالى عنه العباس عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو، ثم في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه وفي جميع عصور الإسلام من السنن المتبعة أن يكون الداعي ممن يرى أنه من خير الناس وأفضلهم وأتقاهم فيستجيب الله تبارك وتعالى دعاءه، ويمطر ويسقى القوم جميعاً، فهذا لا غرابة فيه إن شاء الله.

إذاً: لا تعارض مع ما تقدم من أن المجنون لا يكون ولياً؛ لأن هذا قيل: إنه مجنون وليس مجنوناً على الحقيقة، ودليل ذلك: أنه ذهب معهم ولا بد أنه تطهر وصلَّى ودعا فهذا لا يكون مجنوناً؛ لأن المجنون غير مكلف ولا يعي ولا يستطيع أن يقوم بهذه العبادات.

المفاضلة بين أهل السنة وأهل البدع

السؤال: ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في بعض كتبه: أن علماء أهل السنة أفضل من علماء غيرهم، ومتكلميهم أفضل من متكلمي غيرهم، وصوفيتهم أفضل من صوفية غيرهم، أو كما قال رحمه الله تعالى، فماذا كان قصده بذكر متكلمي أهل السنة وصوفيتهم وجزاكم الله خيراً؟

الجواب: كلام شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله هذا كان في مقام المفاضلة، وليس في مقام الثناء على المخالفين، فهناك فرق بين مقام الثناء على المخالفين للسنة -فهؤلاء لا يثنى عليهم ولا يمدحون- وبين مقام المفاضلة، ويشرح هذا الكلام أنه قال رحمه الله: كل خير عند أهل الكتاب أو بقية الأديان ففي هذه الأمة منه أكثر، وكل شر في هذه الأمة أو من المنتسبين لهذه الأمة ففي أهل الكتاب والملل الأخرى منه أكثر ثم نأتي إلى هذه الأمة منها أهل السنة ومنها أهل البدع، فأي شر قد يكون في أهل السنة فهو في غيرهم أكثر منهم، فلو قارنا بين أهل السنة والرافضة الشيعة وهما القسم الأكبر في الأمة، ولهذا يقال الآن: المسلمون سني أو شيعي، ولكن القسمة في الحقيقة ليست هكذا، وإنما هي قسمة بين السنة وأهل البدع، وأهل البدع فرق كثيرة منها الخوارج والمرجئة والصوفية، والفرق هي الاثنتان والسبعون فرقة فلماذا يقال: سني أو شيعي؟

وذلك لأن تخصيص الشيعة بهذا الوصف لكثرة شرهم وفتنهم وبلائهم على الأمة، فجرى العرف على أن الأمة لا تخرج عن أحد هذين الوصفين، ولهذا لا تصلح كلمة سني في مقابل الشيعي، ولا تكون بهذا مدحاً لأنه قد لا يكون شيعياً، ولكنه على بدعة أخرى، وكذلك قد يكون صاحب معاصٍ وفجور وإن كان منتسباً لـأهل السنة.

فاصطلاح أن كلمة سني مقابل كلمة شيعي؛ هذا اصطلاح في الكتب وفي الواقع، فإذا قارنا بين أهل السنة وبين الشيعة؛ فإن عند الشيعة كل ما عند الطوائف من الأوصاف فـالشيعة فيهم المتكلمون، وفيهم الصوفية وفيهم العباد إلى آخره، وكذلك السنة بهذا المفهوم، فـأهل السنة بمعنى الذين ليسوا شيعة نجد أن عبادهم خير من عباد الشيعة، وأن متكلمي أهل السنة خير من متكلمي الشيعة، وإن كان أهل الكلام من أهل السنة يعدون مبتدعة.

لكن بما أنه ليس متكلماً شيعياً وإنما هو متكلم سني بالمفهوم العام فهو أفضل، فكل طائفة من أهل السنة وإن كان فيها ما فيها من خطأ أو انحراف أو بدع، فهي خير من أهل الرفض والتشيع مهما زعموا ومهما ابتدعوا، فهذا هو المقصود.

فمصطلح أهل السنة يطلق بمعنيين:

المعنى العام: وهو كل من ليس رافضياً، وقد يقال أحياناً في مقابل أيضاً من ليس معتزلياً محضاً، أو خارجياً محضاً، يعني المتمحض بالبدعة بالكلية، فمن كان على شيء من البدعة أو مقابل هؤلاء يقال: إنه من أهل السنة وإن كان متلبساً ببدعة.

أما أهل السنة بالمعنى الخاص وهم الممدوحون والمفضلون، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؛ فهم الذين لم يتلبسوا بهذه البدع، ولم يكونوا على منهج اعتقادي بدعي، وإن وقع منهم شيء من ذلك فيقع على سبيل الخطأ لا على سبيل المنهج المتبع، وإنما يقع منهم خطأ؛ لأنه ليس شرطاً ليكون الرجل من أهل السنة أن يكون معصوماً، فقد يخطئ، لكن هناك فرق بين من يخطئ فيوافق كلاماً لأهل البدع، وبين من يتبع أهل البدع في منهجهم الذي يعلم أنه مخالف لمنهج أهل السنة.

هذا الذي يحمل عليه مثل هذا القول، أما أن يفهم منه بعضهم أن أهل السنة فيهم الصوفية وفيهم المتكلمون، وهم يقرون على ذلك وهم ممدوحون وهم من الفرقة الناجية والطائفة المنصورة فهذا فهم خاطئ، وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بل كل واحد وليس فقط شَيْخ الإِسْلامِ لا بد أن تضم بعض كلامه إلى بعض، فلو أخذت جانباً من كلام أي واحد، فقد يظهر لك أنه خطأ أو تحكم عليه بالخطأ، لكن إذا ضم الكلام إلى بعضه فُهِمَ المقصود.

فلو جئت إلى كلام شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في مواضع أخرى يتكلم فيها عن المتكلمين وعن الصوفية وما فيهم من الضلال والبدع فإنه ينتقدهم ويذمهم، ويعيبهم، ويبين ضلالهم، وانحرافهم وإن كانوا ليسوا من الشيعة، وإن كان بعضهم يدعون أنهم من أهل السنة، فلا بد للحكم على أي إنسان أن تضم كلامه بعضه إلى بعض، وأن ترد المتشابه من كلام أي أحد إلى المحكم، وهذا عام حتى في غير القرآن أو السنة، فالكلام المحكم الجلي بمعنى القطعي وهو النص تحاكم إليه ما قد يشتبه عليك، أما أن تأخذ المتشابه من كلام أي أحد، فبهذا ضل النصارى والعياذ بالله، ويمكن أن يضل به -أيضاً- أي إنسان أو يجور في حكمه على من يقرأ كلامه أو يستمع إليه.

صبر الصحابة

السؤال: ذكرتم أن الصحابة كان عندهم قوة في تحمل الواردات، كما كان لديهم من الله فتح ما لم يكن لمن كان بعدهم، ولكن كما تعلمون قصة وقوع عمر بن الخطاب مغشياً عليه من إحدى الآيات التي كان يقرؤها في الصلاة فكيف توجهون ذلك؟

الجواب: هذا لا إشكال فيه، وإنما المقصود أن من تقرب إلى الله تبارك وتعالى وقرأ القرآن وأكثر من تلاوته وأكثر من ذكر الله عز وجل فإن الله يفتح عليه معاني الإيمان، وتجِدُّ على قلبه حقائق إيمانية، فإذا سمع الآيات من القرآن ازداد إيماناً ويقيناً، وفتح له أمور أو حقائق قد لا يستطيع أن يعبر عنها أكثر الناس، لكنه يجدها في نفسه.

وهكذا كلما تفكر المسلم في خلق الله، وكلما ذكر الله، وكلما تذكر الآخرة والموت، وما أعد الله، ازداد إيماناً، وتجلت له حقائق ومعانٍ عظيمة، فمن الناس من يحتملها لقوة أعطاها الله إياه وهم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- الذين كانوا في جاهليتهم لا يُذكرون ولا يُعدون شيئاً؛ فلما هداهم الله تعالى للإيمان، أحيا الله قلوبهم بهذا القرآن فأصبحت ينابيع الحكمة تتفجر في قلوبهم، ويظهر ذلك في أقوالهم وأعمالهم وسمتهم وهديهم ودلّهم، بما لا يشك عاقل أن هذا من أثر النبوة ومن أثر القرآن.

ولهذا لما رآهم أهل الكتاب في دمشق ومصر وغيرها، قالوا: نشهد أنَّ هؤلاء يتخلقون بأخلاق الأنبياء الذين يقرءون عنهم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، أن كانت لهم هذه المعاني وهذه الحقائق، فالصلاة -مثلاً- في مظهرها الخارجي يصلونها مثلنا ركوعاً وسجوداً، والقرآن يقرؤنه كما نقرؤه نحن إن كان مجرد أداء حروف، لكن الحقائق الإيمانية التي هي الأساس تختلف عندهم.

فإذن أوتوا مع ذلك قوة التحمل، وجاء من بعدهم من التابعين فكانوا إذا وردت عليهم بعض هذه الواردات لا يتحملون، فتجد أن المعنى نفسه لو ورد على قلب أحد التابعين لسقط -مثلاً- مغشياً عليه، أو تأثر، أو قد يصاب بعضهم بشيء؛ لأن بعض الناس قد يصاب بما يشبه الجنون، أو لا يستطيع أن يتحمل، ليس لأنه مجنون، لكنه ما استطاع ذلك، وقد يعتريه ما يفقده صوابه من شدة استشعاره لهذا المعنى.

فمثلاً: الوقوف بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة فيقف يتذكر هذا اليوم وهذا الهول، فما يستطيع أن يتحمل، كما نشاهد في واقعنا العادي أن بعض الناس قد لا يتحمل أن يرى -مثلاً- منظر قتل أو حد قصاص يقام يوم الجمعة فيسقط، وبعضهم يراه فلا يتأثر، فالله أعطى النفوس قدرات مختلفة في التحمل.

فالمهم أن أكمل الناس تحملاً في الجملة هم الصحابة ومن جاء من بعدهم؛ ولا نقول: إنهم أكملهم تحملاً للواردات، ولكن لَوْ ورد شيء مما يرد على الصحابة عليهم، لما استطاعوا أن يكونوا أكمل تحملاً، وعلى سبيل المثال ما نقل عن عمر -رضي الله تعالى عنه- إن ثبت أنه مرض أو حُمَّ أياماً لأنه سمع آيات من سورة الطور أو غيرها -مثلاً- هل هذا يناقض ذلك؟ نقول: لا، لأن هذا حالة عابرة عارضة، وإنما كان كلامنا على العموم، فالإنسان القوي الشديد قد يغلب أحياناً، وقد يضعف أحياناً ولاينافي ذلك وصفه بالقوة والشدة والتحمل.

لكن الأصل في ذلك ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعامة الصحابة، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، كأنه القدر الذي يغلي من شدة ما يفتح الله عليه من معارف وعلوم وأسرار، نحن لا نستطيع أن نعبر عنها بالألفاظ التي نستخدمها، إنما ثمرة قراءة الآيات وتأملها وتفكرها وتدبرها تعطي الإنسان مثل هذه الأمور، ومع ذلك فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسقط ولم يغم عليه من أجل آية من الآيات، أما الصحابة فقد وقع ذلك لبعضهم -أحياناً- ولا ينافي الحالة العامة، أما في التابعين فكثر ذلك، ثم في من بعدهم.

وهذا المشاهد في الصوفية، فقد أصبح الواحد منهم يسقط إذا سمع -مثلاً- آية، أو إذا سمع كلاماً عاماً، بل حتى صار بعضهم من شدة ضعف احتماله ورقة حسه، إذا سمع بيتاً من الشعر يسقط مغمياً عليه، يتذكر الأحباب أو الأوطان أو كذا، ويقول: أنا تذكرت الجنة، أو ينوي بهذا البيت الجنة أو دار المقام هناك؛ فيسقط. وينبغي لنا أن نقتدي بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان عليه الصحابة بقدرما نستطيع فنتفكر في آيات الله وفي ملكوت السماوات والأرض، ونكثر من ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ملأ أو خالين مع أنفسنا، وفي الحديث: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فهذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ففضل عظيم أن نذكر الله وحدنا، وفي الحديث: (إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).

فيجب أن نقتدي بهؤلاء، ومع ذلك نقتدي بهم في قوة التحمل، فإذا قرأت آيات من كتاب الله عز وجل وحصلت لك هذه المعاني الإيمانية، فاحمد الله واثبت، ولا تضعف واجتهد أن تكون كذلك من باب:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبه بالكرام فلاح

وإلا فلن نحصل على ما يرد على قلوبهم من المعاني الإيمانية العظيمة ولن نكون مثلهم في التحمل، لكن فليكونوا هم قدوتنا الذين نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا أتباعاً لهم، وفي زمرتهم إنه على ذلك قدير.

دخول الكفار إلى بلاد المسلمين

السؤال: ما رأيكم فيما ظهر في الأسواق مؤخراً من ألعاب وصور تحمل شعارات الكفر والصلبان والنجمة السداسية وغيرها؟

الجواب: لو كنا ندعو إلى الله عز وجل كما ينبغي لأسلم العالم كله إلا من كتب الله عليه الشقاوة، ومع ذلك كما ترون يأتينا دائماً من يذكرنا بعمل أعداء الله مثل هذه المسألة البسيطة -عند الكثير- هذه نجمة سداسية ملونة بعضها حمراء تأتي في بكلات الشعر، وفي الملابس، يريدون أن يغزونا، إن لم نجاهر بالكفر، فهؤلاء الكفار قبحهم الله، يرضيهم منا أن نتزيا بزي أهل الكفر، وأن نلبس شعار أهل الكفر من صلبان ونحوه، فنحن الآن مغزوون، وأصبحنا مستهدفين من هؤلاء الكفار حتى في الشعائر الظاهرة.

وهذه ألعاب على صورة ملونة وجميلة من الممكن أن يجعلها الذي لا يدري بروازاً، ويعلقها، مع أنها وهي صورة كنيسة، والصليب واضح فيها ومع ذلك تدخل البلاد وتنتشر.

وأنا أكرر وأقول: لا نقول المؤاخذون هم الجمارك فقط، أو الرقابة فقط، فهؤلاء جزء منا، فالتقصير عام، ويجب أن نعلم ذلك جميعاً.

وهناك دعاية واضحة للكنيسة الألمانية الغربية، -فلم يخفوا حتى الكتابة؛ لأنهم أمة تدين بهذا الدين- جعلوا شعارهم الكنيسة، وكتبوا ذلك، فهي بضاعة لها شعار مقصود ومتعمد أن يكون رمزاً لدعوة كنسية، فهل اللوم على صاحب الدين الذي يريد أن ينشر دينه؟ أم اللوم على أهل الإيمان وأهل التوحيد الذين طمع فيهم الطامعون، وجعلوهم هدفاً لنشر دينهم وملتهم؟

ومثل هذه النجوم السداسية التي تأتي على الملابس وتوضع في بكلات الشعر وتوضع في أي شيء فيجب أن نحذر منها؛ لأنهم يبدءون بالشعار ثم ينتقلون إلى الشعائر بعد ذلك.

كذلك جاءتني هذه الرسالة وتحتوي على صورة، وعلى رسالة، وهذه الصورة يزعمون أنها للمسيح عليه السلام، وأتوا بكلام من الكلام الذي نقرأ منه أحياناً -كما لا يخفى عليكم- تقول الرسالة: يا ابني الحبيب الغالي، سلام مني، أنا ملك السلام، أنت لا تعرف اسمي، هذا هو اسمي: عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، أنا الرب. ولو تتبعتم بشائر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأناجيل لوجدتم أنه هو الذي يدعى مشيراً وعجيباً.

لكنهم جعلوا هذه الصفات للمسيح، وأدخلوا معها كلمات إلهاً ورباً وقديراً إلى آخره، وآخر التوقيع بالخط الكبير أنا الرب يسوع المسيح، تعالى الله عما يصفون كما قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] الإله يأكل الطعام! ومن أكل الطعام فإنه يحتاج إلى الخلاء! لا يمكن ذلك للإله أبداً، ولذلك أول ما أنطقه الله قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [مريم:30] لا ألوهية فالله تعالى بيـَّن لنا هذا، ولكنهم يزعمون ذلك.

والمهم أن ذلك مما في الرسالة ولا نطيل بقراءتها، فالأربع صفحات منها تشتمل على تعليمات، مفادها في آخرها أن يؤمن العبد بأن الرب هو يسوع المسيح، ملك الملوك، ورب الأرباب، خالق الكل تعالى الله عما يشركون، ما أضل عقول النصارى وما أسفه أحلامهم!!

وذكر ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان أن أحد ملوك الهند قال: إن النصارى سُبَّةٌ وعار على الإنسانية عموماً، مع أنه من حكماء الهند وما كان على دين كتابي؛ لكن العقل يرفض أباطيلهم وخرافاتهم فكيف يقولون إنه هو الله والرب، ثم يقولون: إنه ولد ونشأ طفلاً ثم في النهاية صلب وقتل، ويرضى أن أعداءه يتسلطون عليه ويصلبونه.

وبعد ذلك يقولون: إنه وهو على الصليب قال: إيلي إيلي لماذا سبقتني؟ ومعناها: إلهي إلهي لم تركتني، لم تخليت عني؟ إذاً هذا عبد مخلوق؛ يقول: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ على كلامهم وإلا فعيسى عليه السلام لم يصلب، كما قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، والذي صُلب هو رجل شبه لهم أنه المسيح؛ لأن جند الرومان ما كانوا يعرفونه، فلما رفع الله المسيح وألقى شبهه عليه قالوا: هذا هو المسيح فذهبوا به، فهو عبد كأي عبد لله وهو يتأوه على الصليب وعند ما أرادوا قتله كان يقول: يا آلهي لماذا تركتني؟ يدعوا الله كأي إنسان حتى لو كان كافراً يدعو، فهذا الذي يقول: إلهي إلهي لم تركتني؟ يقولون: إنه رب الأرباب وخالق الكل، وأعداؤه سلطوا عليه وقتلوه! تعالى الله عما يصفون!

وبعد ذلك يقول: وضعوه في القبر ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام خرج، سبحان الله! من كان يدبر أمر السماوات والأرض ويرزق ويعطي ويمنع، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، في خلال هذه الثلاثة الأيام، وهو في القبر وهو فوق الصليب يشكو، سبحان الله عما يصفون!!

فالمقصود أن هؤلاء النصارى لا يتورعون، ويرسلون هذه الأوراق إلى أي أحد، وأرسلوا -أيضاً- مع هذه الصورة صورة آخر اللحظات عندما كانوا يضعون الصليب ليصلبوه، وجاءوا بكلام من الإنجيل في ظهرها.

وطباعتها طباعة أنيقة كيف أنه في "لوقا" قال المسيح: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك. وكيف أنهم لما سألوه: احضروا شهود الزور، قال رئيس الكهنة: هل أنت المسيح ابن الله؟ فأجابه: نعم، فحكموا عليه بالموت، فيقول: تفرست جارية في بطرس، فقال : إنك مع يسوع، فخاف بطرس، فأنكر يسوع ثلاث مرات.

فانظر سخافة العقول، بطرس كبير الحواريين باتفاق جميع طوائف النصارى، ورئيس الحواريين وأكثرهم التصاقاً وقرباً من المسيح عليه السلام فينكر معرفته به ثلاث مرات ويتنكر له، ويقولون: إن المسيح قال له قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات فوقع ذلك، فهم يستدلون بذلك على أن المسيح يستطيع أن يعرف أو يعلم ما سيكون أو أخبر بشيء فوقع، ولكن ما هو الذي وقع على فرض أن هذا وقع؟ يقول: لكبير حوارييه وأصحابه قبل أن يصيح الديك تنكرني وتتبرأ مني، فالنتيجة أن هذا لا يصلح أن يكون حوارياً، ولا يصلح أن يكون من المقربين لدى عيسى عليه السلام، بغض النظر عن قضية دعوى الألوهية.

فهذا طعن إذاً في الحواريين؛ لأنه أنكر علاقته به خوفاً من أن يصلب، وقال: لا أعرفه، فهذا ليس من مقامات المدح بل هو في مقام الذم والطعن والتنقص، لكن هؤلاء لا عقول لديهم، إنما القضية عندهم تقليد واتباع، فإذا كانوا بهذه المنزلة وبهذه العقلية وطمعوا فينا، فمعنى ذلك أنهم يتصورون أنه ليس لنا عقول لو آمنا بهذا الكلام الذي لا يقبله عقل.

فلهذا قال لهم زويمر: لا تطمعوا أن تخرجوا المسلمين من الإسلام فتدخلوهم في نور النصرانية فهذه درجة عظيمة لا يستحقها كثير من المسلمين، لكن يكفيكم أن تخرجوهم من دينهم، وأن تجعلوا المسلم بلا دين فإن عمل فلشهواته، وإن جمع المال فلشهواته، وإن رضي فلشهواته، وإن غضب فلشهواته في كل شيء، فيكون مسلماً بالاسم لكنه بلا دين.

فيكفي من المنصرين هذا العمل وهذه المرحلة الأولى التي يراها المنصرون أكثر ما يُعمل، وهي إخراج المسلم من دينه، والمرحلة الثانية: إدخاله في النصرانية، هذه مرحلة لاحقة فيما بعد.

فهم إذن يحقروننا، ولا يرون لنا عقولاً وإلا لما كان سفهاؤهم هؤلاء يطمعون في أن ينصرونا، ولذلك هل طمعوا فينا أيام قوة عقيدتنا وإيماننا؟ والله ما طمعوا بهذا الشكل أبداً.

نظرة الغربيين للإسلام

هذا أحد الإخوة الغيورين نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يبارك فيه، وأن يكثر من أمثاله من المقيمين في فرنسا، كتب هذه الرسالة المطولة عن نظرة الغربيين للإسلام، وما جمعه من حقائق حول ذلك، منها: السعي الغربي لتذويب المسلمين فيه باسم الاندماج، ومنها مظاهر العنصرية الدقيقة جداً، وعلى أبسط صورها، ومنها: الجار الغربي واختلافه عن الجار العربي، أو أسلوب التعليم إلى آخر الأشياء التي جمعها جزاه الله خيراً، وتدل على ما يكنه هذا الغرب للإسلام والمسلمين.

ولا يخفى عليكم الآن، وكلنا نعلم ذلك أن الغرب الذي يفتخر أنه عرف العدالة والحرية، والمساواة، ومعاني الإنسانية، الآن من إيطاليا إلى أسبانيا إلى فرنسا إلى بريطانيا يغيرون قوانين الهجرة وقوانين الإقامة ليضيقوا على المسلمين، وليسلموا المسلمين إلى من يطلبهم من حكوماتهم، كيف يسلم فلان من أمريكا؟ وكيف يسلم فلان من ألمانيا؟ والقانون لا يسمح، فليغير القانون، فالغرب الذي يفتخر بأنه قانوني أو نظامي وأنه لا يتعدى القوانين والأنظمة، وأنه لا أحد فوق القانون، ولا شيء فوق القانون -كما يزعمون- لكنه يغير القانون، إذا كان في تغييره تحقيق مضرة بالمسلمين أو بمسلم أو بداعية من دعاة الإسلام قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] والأخص منهم المتسلطون وأصحاب الرأي وأصحاب القرار، وإلا ففيهم لا شك من ينكر ذلك، لكن الأغلب وأصحاب القرار والمتنفذين هم بهذه الصفة كما نسمع هذه الأيام.

ومن تشنيعهم وتشهيرهم أنهم ينشرون مثل هذه الصورة المزرية، صورة نوع من القردة، وهو لابس عقالاً عربياً وبيده خرطوش الأنبوبة (البنزين)، يعني أن العربي عندهم وفي نظرهم قرد كالح الوجه يلبس هذا العقال الذهبي، ورأس مالهم هذا البترول، وطبعاً رأس الأنبوبة ليس بنزيناً، إنما هو عملات ورقية، أي: أن أكثر الفئات قيمتها عشرون دولاراً، أو خمسون، فالمهم أن هذا هو العربي أو هذا هو المسلم في نظر الغربيين.

فهذه الصورة صورة عادية عندهم، ونجد الآن في المكتبات لديهم أنها تباع ككروت مراسلات طريفة، فيمكن اختيارها وإرسالها إلى زميل، ليضحك إذا رآها ويرفه عن نفسه، وأن هؤلاء هم العرب وهؤلاء هم المسلمون، وقد قرأنا قبل فترة في إحدى الجرائد المحلية مقالاً بعنوان "عاصمة النور" وإذا به يتكلم عن باريس عاصمة النور -كما يسمونها- وهي بلاد الفسق، والدعارة، والكفر، والظلمات، والفجور، فهذه هي عاصمة النور!!

فأي نور جاءنا من الغرب؟! ومتى؟ وفي أي مرحلة من تاريخنا جاءنا النور من الغرب؟ ما جاءتنا إلا الحروب الصليبية، وما جاءنا إلا الاستعمار القديم، والآن يأتينا الاستعمار الحديث وهو أخبث الثلاثة، أما النور فما رأينا أي نور على الإطلاق جاء من الغرب، وإنما يسمي الغربيون باريس عاصمة النور في نظرهم، لأن الثورة الفرنسية قامت ونادت بأن الناس سواء، وأن لهم حقوقاً متساوية، وألغت بعض الظلم الموجود، وهذا أمر معلوم عندنا.

فحتى العرب في جاهليتهم لم يكن عندهم صورة من المظالم، كتلك التي كانت في أيام الإقطاع في أوروبا، بل كان العربي يأنف أن يستعبده أحد، أو يذله، ويقاتل عن حريته إلا إذا أُسِر فهذا مغلوب على أمره، فالنظام الإقطاعي البغيض الفظيع بمظالمه وظلماته التي كانت في أوروبا، لم نعرفه في جاهليتنا، فما بالك بعد أن منَّ الله علينا بالإسلام، وأنار قلوبنا، وحَرْرْنا العالم بالإسلام، والحمد لله.

ولو أنصفوا لعلموا أن الثورة الفرنسية التي لم يمر عليها إلا 200 سنة وقليل من السنوات، إن كانت دعت إلى خير أو إلى مساواة أو إلى عدالة، فهي جزء من تأثرهم بالإسلام، ولا شيء غير ذلك، والمسلمون علموهم ذلك، لكنهم ينكرون ويجحدون كل فضل، ويصورونا بهذه الصورة الشنيعة.

وحتى لا نظلمهم، فهل يقصدون بهذه الصورة الشنيعة صورة الإنسان المسلم دائماً وأبداً؟ لا ندري ولا نجزم، لكنهم يقصدون أقرب شيء يحتجون به على الإسلام أو على المسلمين وهو واقع المسلمين المعاصرين الآن، فلا نقول: إنهم يريدون بهذه الصورة الصحابة أو الجيل الأول أو الثاني ولا نستطيع أن نجزم، لكن الجيل الحاضر الآن هو الذي تنطبق عليه الملامح وتنطبق عليه الملابس التي صوروها وجعلوها.

ولنا دور كبير جداً، في الإساءة إلى أنفسنا وإلى ديننا، وكما قال الشاعر:

ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل

هكذا قالت العرب في حكمتها: ذموه بالحق وبالباطل؛ لأنه دعا الناس إلى ذمه، فمن يذهب إلى تلك البلاد -وهم كثير خاصة في هذه الأيام، وقد قلنا: ذكِّروا الناس وعِظُوهم من السفر إلى بلاد الكفر- فإنه يدعو الناس إلى أن يذموه، وأن يذموا بلاده، دينه وحضارته وتاريخه بما يفعل من موبقات.

إن سكر الغربي قليلاً فيسكر هذا أضعافه، وإن زنا الغربي أحياناً، فهذا لا يذهب إلا ليزني -والعياذ بالله- ولا نتكلم عن الأخيار الذين يذهبون لغرض شرعي محدود، وهذا قليل، ولكن أقصد من ذهب وهذا حاله فهم يتفننون؛ بل نقول: يخرجون عن الحدود المألوفة حتى في الفجور والفساد، والفسق، والكفر، ولدى كل واحد منهم مجموعة من الشيكات أو حزمة من الدولارات، وينفق ويبذِّر ويتلاعب كما شاء، والعالم المتحضر حين يرى هؤلاء تتحسر قلوبهم.

ولذلك لا نقول: أين الضمير الغربي عندما يرى أموالنا تهدر، وعندما يأخذ خيراتنا، ويسيطر على كل مقوماتنا، لا نقول: أين ضمائرهم؟ لأننا -يا أخي- نحن سلبناه ضميره، فأي ضمير عنده؟ لو رأيت مجنوناً أو طفلاً أو عابثاً يرمي الذهب ويكسره، أو يقطع الريالات ويرميها، لقلت: أنا آخذها وأستفيد منها، أو أعمل بها مشروعاً خيرياً، أو أي شيء أحسن من هذا العابث اللاعب، فأعمالنا وتصرفاتنا هنالك تغريهم بأن ينسوا ضمائرهم وأن يتخلوا عنها.

ثم أي ضمير يبقى مع الحقد الذي تؤججه وسائل الإعلام ليلاً ونهاراً؟ وأي ضمير يبقى مع الدعاية الصهيونية والصليبية العريضة التي تلبس كل جريمة ثوب الإسلام؟ فإذا قبض على مجرم في نيويورك أو في أي مكان قالوا: متطرف إسلامي.

فكم مجرماً سمعتموهم قبضوا عليه ونسبوه إلى دينه؟ قبضوا على بعض المجرمين في مصر، مع أنهم جاءوا إلى مصر في عمل تنصيري خبيث، وكان من جملة ما يعملون، أنهم يوزعون مصاحف محرفة فيها تغيير الآيات التي فيها المسيح وغيره، ليوافق دين النصارى ويوزعونها بين الجهال في مصر، واكتشفوا القضية ثم سفروهم وانتهى الأمر؛ وكأنه لم يحدث شيء.

ولم يقولوا: إنهم كفار بروتستانت أو نصارى أو كذا، وإنما: مجموعة من الأمريكان، وكانوا كذا، وانتهى الأمر، سبحان الله! حتى الجرائد التي نشرت هذا الخبر ليست من الجرائد الرسمية إنما هي إحدى الجرائد المعارضة -كما يسمونها- الوفد أما نحن فنلبَّس ذلك.

حتى إن واحداً منهم في إحدى المجلات الإسلامية انتقد هذا، وكان عنده شيء من العدل، وقال: إن تحميل المسلمين لحادث تفجير المركز التجاري العالمي -جميع المسلمين- ذلك يشبه كما لو أن كوروش حمل النصارى جميعاً ما عمله، وقال: لماذا نحمّل الإسلام؟ ليس من العدل.

فهكذا هم، ونحن الذين دعوناهم إلى مثل ذلك، ونشكر الأخ الذي أرسل هذه الرسالة، ونرجو إن شاء الله أن يوافينا بالمعلومات الأكثر؛ لأننا في حاجة أن نعرف هؤلاء ونعرف كيف نقاومهم، وكيف نجابههم، خاصة من فرض عليه أن يقوم هنالك؛ لأن الإخوة هنالك يقولون: كيف نعمل؟ وكيف يمكن أن نقاوم هذا؟ ونحن يجب علينا أن نمدهم بأي شيء نستطيعه، ليدرؤا الشر هناك في منابعه، وليروهم صورة الإنسان المسلم الطاهر التقي العفيف الورع الحكيم الذي لا يسرف في نفقته، وفي ماله، وفي مظهره ولا يقتر، نريد أن يروا الصورة الحسنة للإنسان المسلم، فيسلم منهم كثير بإذن الله، وهذا شيء طبيعي جداً أن يتقبل كثير منهم بإذن الله الإسلام، إن رأوا هذه الأخلاق -أخلاق النبوة-، فمن الواجب أن يكون بيننا هذه الصلة وهذا التعاون.

تسلل الصليب إلى أطفالنا

نشرت جريدة المدينة يوم الخميس 25/ 1 / 1414هـ مقالاً بعنوان " الصليب يتسلل إلى أطفالنا " ونقول: الحرب ضد الإسلام والمسلمين تزداد عنفاً، والأعداء لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها لهدم عقول المسلمين في كل مكان، حتى الأطفال لم يسلموا من هذا الغزو، فشعار الصليب كما هو واضح تم إقحامه على لعب الأطفال في أسواقنا. إن الأمر يحتاج إلى وقفة صادقة لمعرفة المسئول عن هذا التهاون.

وهو كما ذكرت، ونشكر الجريدة والأخ المحرر الذي اهتم بهذا، ويجب أن نعلم أن مهمة الإعلام هي حماية العقيدة أولاً، ثم حماية الخلق وحماية كل مصالح الناس أيضاً بعد ذلك، لكن الأساس هو العقيدة.

تنمية المواهب والقدرات

السؤال: لماذا لا يكون هناك محاضن ومراكز تهتم بأصحاب المواهب والقدرات وتنميها كما هو الحال عند الغرب؟

الجواب: أنا أشكر كل الإخوان الذين يتقدمون باقتراحات أو آراء حتى إن بعض الإخوان أحياناً يتقدم باقتراحات ليس لي دخل فيها ولا أستطيعها، فمثلاً: قد يكون هناك اقتراح تعنى به -مثلاً- شؤون الحرمين أو أي إدارة أخرى، فالمهم أن الذي يفكر ويهتم بالإصلاح هذا فيه خير.

ولعل هذا الاقتراح إن شاء الله يصل إلى من يهمه الأمر، فينفع الله به، وإن كان -مثلاً- غير عملي أو لا يمكن فعله فأجر من قدَّمه وأيضاً من قرأه يكتب إن شاء الله، فمثل هذا الأخ اقترح اقتراحاً -جزاه الله خيراً- في تخصيص محاضن تعتني بأصحاب المواهب، ويريد تنمية أصحاب المواهب والقدرات، وكيف أن هناك في الغرب الكافر المتمرد على الله، ويرى تكريمهم لأصحاب القدرات وأصحاب المواهب، ونحن أولى بالتكريم منهم، والحكمة ضالة المسلم فأنَّى وجدها فهو أحق بها، فهو يقترح صورة معينة وقد تكون هناك صور أخرى حول قضية كيف نستفيد من هذه المواهب.

ولا توجد أمة في العالم لديها من المواهب والطاقات العقلية ما لدى هذه الأمة، وإن شئتم أن أضرب مثلاً على ذلك، فلنفرض أننا وهم سواء -ولا أقصد العنصرية- من الناحية الجسدية والتكوينية، فإننا سنـتميز عليهم لأننا لسنا مثلهم لأن الخمر والزنا وفقدان الأم والأب تأخذ من عقولهم وأفكارهم كثيراً جداً، فالطفل عندهم ينشأ بلا تربية أسرية سليمة وبلا تربية اجتماعية قويمة، ثم يدمن على الزنا والعياذ بالله، والفسق، والفساد، والمخدرات، والخمور لسنوات من شبابه، وقليل منهم من يسلم من هذا، أو يسلم له عقله.

إن هذا الذي يشتغل بنصف عقل أو بربع عقل وبهذه التربية المنحرفة أنّى يكون أفضل من أمة لديها -والحمد لله- تربية قويمة مهما كان عندنا من خلل، فنحن أفضل منهم من جهة التربية، ومهما كان عندنا في التربية الأسرية من انحرافات أحياناً، فنحن أفضل منهم على أية حال وعلى أية صورة، نحن أفضل من الغرب في الجملة، لا نعني آحاد الناس، ونحن -والحمد لله- نخطط ونفكر بعقل كامل، فكيف يغلبنا هؤلاء.

المشكلة أننا نملك طاقات مهدرة ضائعة فمن ينميها ويربيها ويكتشفها؟! هذه هي المشكلة، فالنابغ مظلوم، وأحياناً نقول بلسان الحال إن لم نقل بلسان المقال: لا نريد النبوغ، فلنأخذ مثالاً صغيراً محدوداً:

فمثلاً المدرسة أحياناً يكاد المدرس يقول: لا أريد أن يكون من طلابي من يرد عليَّ ويصحح أخطائي، أنا لا أريد طلاباً نابغين، بحيث إنه يكتشف أخطائي ويلاحظ علي، وكلما كانوا وسطاً أو أغبياء كانوا أحسن لي، والمدير -أيضاً- يريد أن يكون المدرسون كلهم -أيضاً- أغبياء أو وسطاً، حتى لا يكون هناك من هو أفضل منه.

وكذلك -مثلاً- رئيس إدارة أو شركة لا يريد أحداً أن يأتي برأي أفضل من رأيه، فكأننا نقول: لا نريد النبوغ والنابغين! فيأتي أحدهم برأي جديد كتطوير فكرة معينة، فيقال له: هذا كلام فارغ ولا يصلح! ودع كل شيء مثلما هو! إياك أن تطور شيئاً! وإياك أن تُبدع، أو تفكر، أو تقترح، اتركه كما هو، ودع الأمور تسير مثلما هي، مهما كان فيها من الأخطاء!

هذه مشكلة ولا يمكن أن تنهض الأمة وهذا حالها، وهذا شأنها، أما لو فتح المجال للإبداع وللفكر، وقيل لصاحب الفكرة نشكرك يا أخي الكريم مثلاً أو يا بني، أو يا تلميذي، أو يا أخي، أو يا زميلي في العمل على الفكرة، لكن -مثلاً- لا نستطيع أن ننفذها لهان الخطب، لكن مع هذا، فينبغي أن تشكره لأنه فكر.

فنحن من ضيق أفقنا، وضيق تفكيرنا أصبحنا نضيق وننفجر بالضحك بمجرد معرفة الاقتراح وأنه لا يوجد بل ولا نريد تغيير، بل ربما يصل الأمر إلى الاتهامات وتركب على الشخص ألف تهمة، فنقول لهؤلاء: إن لم يعجبك الاقتراح -على الأقل- فلا توجد مشكلة، اسمعه وافتح صدرك له ولغيره من الناس، وفكر بعقل غيرك لا بعقل واحد تريد أن تسيِّر عليه كل الإدارة.

ولذلك الغرب الخبيث الكافر المارد، وبالذات أمريكا تفوقت على غيرها لأنها لا يهمها أن يأتي هذا العقل من أي بلد، اذهب إلى مستشفياتهم ومؤسساتهم، تجد الصيني والهندي، والأفريقي، والمصري، والتركي، والياباني، والألماني، وكل جنس تجده في أمريكا في الأمور المهمة الحساسة القوية العميقة، سبحان الله!

لم يُنَمِّ المواهب التي عنده فقط، بل يشتري العقل من أي مكان، ويغريه بأعظم الإغراءات، وأي طالب يأخذ الامتياز، ويتخرج بدورة الامتياز، فيحق له أن يأخذ الإقامة الدائمة، ويبقى عندهم لأنه أخذ الامتياز.

ونحن نستغرب من تلك الأمة تريد أن تتفوق، وتحرص على الامتياز، وعندها من أبنائها من يكفي ومع ذلك أعطت المجال لقير أبنائها أيضاً، لأنها تريد أن توظف هذه الخبرات لها في باطلها وفي كفرها وفي كبريائها وفي تسلطها على عباد الله، فنحن أولى بذلك.

فالمهم أنه اقتراح جيد ونشكر كل أخ يحاول أن يقترح ليطور الدعوة، ويحرك التطوير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النواحي العلمية، وفي المجالات التربوية، وأكثرنا له علاقة بالأمور التربوية إن لم يكن مدرساً فبدعوته، فكل داعية هو مربٍ إلى أن يطور فكره لكي يعمل أفضل.

والحكمة ضالة المؤمن فعسى أن يفتح الله تبارك وتعالى عليك بأمر، وكم من أفكار عظيمة تتبناها مجالس عليا أو قيادية انبثق أصلها من فكرة إنسان عادي جداً طورها ونقحها، ثم قدمها إلى من أضاف إليها أو عدل فيها حتى صار لها قيمة وفائدة.

وثيقة جون ميجور

هذه الوثيقة لـجون ميجور تكلمنا عليها فيما مضى، فالنص الإنجليزي موجود، ولا نجزم بالنص، ويمكن أن نقول: إن الوثيقة مزورة، فنحن لا يهمنا أن نجادل أنه كتب هذا الكلام أم لا، لكن هل لهذه الحقائق واقع أو لا؟ هذا الذي يهمنا.

ما قيل في هذه الوثيقة هو حقائق واقعية وهذه مجلة المجتمع وغيرها نشرت هذا وهو منشور أصلاً في صحيفة ليليان البسنوية، والمصادر التي نسبت إليها هي مصادر إسلامية استطاعت أن تصل إلى هذه الوثيقة، فعلى أي حال هذا جزء مما تحدثنا عنه آنفاً في أن العدو عدو ولا تلمه.

وهذا عمر أبو ريشة عندما قال:

لا يلام الذئب في عدوانه>>>>>إن يكنِ الراعي عدو الغنم

وهي قصيدة معروفة بعد الهزيمة التي يسمونها النكسة أو النكبةومطلعها:

أمتي هل لك بين الأمم>>>>>منبر للسيف أو للقلم

فلا تلمِ الذئب؛ لأن الذئب إنما خلقه الله، وكانت له تلك الأنياب والمخالب ليفترس، وإنما المشكلة فينا نحن أننا فرطنا، وجعلنا أمتنا فريسة لهؤلاء في البوسنة أو في أي مكان.

القرارات الدولية والكيل بمكيالين

وفي الصفحة الأخرى من مجلة المجتمع نقرأ تأديب عيديد وتدليل كراديتش.

وهذا شيء عجيب جداً أن نتعاطف مع عيديد، وعيديد علماني مهما قال: الإسلام أو الجهاد، فالمصلحة بالنسبة له هي نفعية، ولكن حتى على معيارهم هم، لماذا هذه المعاملة غير المتوازنة؟

فهذا يجب أن يقبض عليه ويؤدب وأن يفعل به وهو في بلده، وأما ذلك فيخالف القرارات الدولية، والشرعية الدولية والإجماع الدولي ويتحدى الجميع، ويدلل، فكل مرة تأتي خطة أفسد وأضعف مما قبلها، وتعطي الفرصة.

لكن قضية المسلمين في البوسنة والهرسك تثير العجب، ولو تأملت أي نشرة أخبار أو تصريح غربي، أو أي كلام على ما سوف يفعلونه، لوجدت فحوى الكلام دائماً كالذي يقول: أيها الصرب عجلوا عجلوا ما فعلتم شيئاً، انتهوا سوف نعقد مؤتمراً، نجعل كذا، ونجمع كذا، ونقرر.

كل هذا وكأنهم يقولون للصرب: هل انتهيتم من المسلمين؟!

فيقولون: ليس بعد، فيقولون: حسناً نغير الخطة، ويدعون المسلمين إلى خطط أخرى ومؤتمرات، ثم يقولون بلسان حالهم: هل انتهيتم منهم أيها الصرب، فيقولون: تبقَّى القليل، فيدعونا الغرب من جديد إلى مؤتمرات وحلول وخطة أخرى وهكذا، ونحن المسلمين لا نعمل شيئاً إيجابياً.

إن مشكلتنا من أنفسنا، والله تعالى قال عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فمشكلتنا في البوسنة والهرسك من عند أنفسنا.

وليست المشكلة وليدة الآن، فعندما دخلت الجيوش التركية فاتحة، وفتحت تلك البلاد، بدأ الخطأ من تلك الأيام، فالحرب بين الصرب والترك قديم، وتدخل الإنجليز والأوربيين فيه قديم، ولو قرأنا تاريخ البوسنة فسنجد العجب كله، وإن ما يدور الآن هو صفحة من ماض، على وتيرة واحدة، وعلى منوال واحد، وعلى منهج واحد، والسبب فيه هو نحن أصلاً.

فلم يدخل العثمانيون والأتراك فاتحين مسلمين بالمعنى الكامل الصحيح، إنما كانوا يقاتلونهم فإذا غلبوهم دعوهم في الجملة إلى الإسلام، وإلا بقوا مسيطرين عليهم بالقوة، ويقي أولئك على دينهم.

وإلا فـاليونان والبلقان ويوغسلافيا هذه الجمهوريات وما حولها وجزء كبير من الدول الشرقية ورومانيا كلها دخلها العثمانيون فاتحين، فلو نشروا العقيدة الصحيحة واللغة العربية وأدخلوا الناس في دين الإسلام، لكانوا مسلمين جميعاً.

حكومة مسْلِمة تحكمهم (400) سنة ثم تخرج عنهم، فإذا بالمسلمين أقلية!!

نحن أصلاً ما كنا حملة عقيدة، ولا حملة رسالة بوعي.

صحيح أن الدولة العثمانية كانت دولة قوة وجهاد لا ينكر ذلك أحد، والحمد لله أنها دفعت شر أوروبا فحولت المعركة من بلاد الشام ومصر، إلى أن صارت المعركة في قلب أوروبا نفسها، وهذا لا شك عمل كبير.

لكن المشكلة أن الجهاد بلا عقيدة ولا علم ولا فقه لا يصلح، لا للأمم ولا حتى للأفراد.

فالجهاد لا بد أن يكون على عقيدة وعلى علم، وعلى معرفة تفصيلية بما أنزل الله تبارك وتعالى، كما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد أصحابه، فيفتحون البلاد وإذا بهذا البلد المفتوح، يفتح الله قلوب أهله، فيدخلون في دين الله أفواجاً، ويأتون إلى هؤلاء الرجال الأخيار يتعلمون منهم الدين، ثم ينشرون هم الدين، ويصبحون مجاهدين ولكن قوة الحديد والنار والسيطرة العسكرية وحدها لا تدوم إلى الأبد، وهذا ما وقعت فيه الدولة العثمانية من خطأ كبير.

فلما جاءت الشيوعية وجاء تيتو صديق العرب!! وانظروا من أصدقاؤه من العرب: جمال عبد الناصر، وحزب البعث، وأمثالهم ممن بعضهم باقٍ وبعضهم أهلكه الله.

وتيتو هو الذي قتل المسلمين في يوغسلافيا، ومحا معالم الإسلام أيضاً.

كوشيجين وخرباتشوف واستالين الذين فعلوا بالمسلمين ما فعلوا في روسيا.

ونيريي الذي قتل المسلمين في زنجبار، ونهرو الذي فعل بالمسلمين في الهند وما حولها ما فعل، ومكاريوس الذي قتل المسلمين في قبرص، وأعداء الإسلام جميعاً كانوا كلهم أصدقاء للقومية العربية.

فالمقصود من الحديث أن ما بنا فهو من عند أنفسنا فعلاً، فقد صادق القوميون العرب أعداء الإسلام، وأعانوا على قتل إخوانهم المسلمين، وأمدوهم بالمال وبكل أنواع العلاقات.

وأبيد من المسلمين من أبيد، وفرقوا ومزقوا، ثم لما ذهبت الشيوعية وتهاوت -لا ردها الله- وأخذ المسلمون يبحثون عن الذات، والعالم كله بدأت فيه عودة إلى الدين، أراد المسلمون أن يرجعوا إلى دينهم، وقامت لهم دولة اعترف بها العالم، فكانت المأساة وبدأنا ندفع ضريبة قرون وعقود من المآسي والجهل والانحراف والضياع.

وأحدنا يتعجب من الكروات! لم يصمدوا أمام الصرب ولا ساعات، والمسلمون الآن سنة وهم صامدون شيء عجيب، وهم بهذا الضعف وفيهم هذا الانحراف وهذا الخلل، وهذا القصور، وهذا التمزق، فلو أننا أمة مؤمنة حقاً، لكان من يقاتل الآن في البوسنة في إمكانه أن يهزم أكبر جيش أوروبي، وأن يفتح أوروبا بإذن الله؛ لأن قوتنا نحن في عقيدتنا وفي إيماننا، كما قال عمر رضي الله عنه: [إنما يغلب المسلمون أعداءهم بتقواهم وإيمانهم، وبكفر أعدائهم، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم فضل علينا في القوة].

فسبحان الله! انظروا هذا الصبر العجيب للبسنويين الآن وهذا الصمود وأحياناً تتحقق لهم انتصارات، وهم في أول طريق العودة والأوبة إلى الله، وهذا هو السر المزعج الذي يزعج الغرب، ويجعله يفقد توازنه.

فنجد أن كراديتش مجرم الحرب قد قتل من جنود الأمم المتحدة قرابة (50) فرداً، ويمنع قوافل الأمم المتحدة من المرور ويطلق عليها النار كل يوم، ومع ذلك يتنقل بين عواصم العالم ويستقبل كزعيم يقابله الممثلون الدوليون وكأن شيئاً لم يكن.

وهذا عيديد عندما قتل مجموعة من الباكستانيين، هرب الأمريكان، فصار المسلم يقتل المسلم ولم نستفد شيئاً، لكن مع ذلك لم يقتل عيديد جنود الأمم المتحدة، فإذا به يضرب ويُدمر، وأصبح يُقْتل حتى العوام في الصومال، وحتى المستشفى يدمر؛ لأن النار أطلقت على جنود الأمم المتحدة، والذين في البوسنة أليسوا جنوداً للأمم المتحدة، فانظر كيف المعيار.

إن أعداء الدين يعرفون خطر هذا الدين، وأن خطره عليهم يكمن في العقيدة وفي الجهاد وما يسمونه الأصولية والتطرف، فعندهم هيبة ورعب يقذفه الله تعالى في قلوبهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وهذا ليس لشخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسب بل لجيوشه ولكل من يدافع لنصرة دينه، وذلك مثل ما جاء في الحديث (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

هذا أيضاً من آيات الله ومن فضل الله ومن مزايا هذه الأمة وتفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو له ولهذه الأمة كلهم. والمقصود أن هذا جانب من جوانب الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الأعداء.

كما أنهم يمتلكون قوة حقيقية غريبة لا يستطيع الكفار أن يواجهوها، وإلا فلماذا يذهب الشاب المسلم إلى أمريكا ويدعوا إلى الله على نافلة الوقت، ولا يرجع بإذن الله إلا وقد أسلم على يديه مجموعة من هؤلاء، وعن رضا وطواعية واختيار ومحبة في للدين، ويصبح قلبه وولاؤه إسلامياً، سبحان الله!

وهم يبعثون آلاف المنصرين من أجل هذا، ومن تنصر فهو لجهله صحيح أنهم ينصرون بالملايين ولا نقلل من أهميتهم، لكن لا يستطيعون أن يملكوا قلبه وشعوره ولبه، فسبحان الله! فرق كبير بين الأمرين، وإن كان في الظاهر أن هناك نجاح.

إذاً هذا الدين سره العجيب أنه حق، وأنه من عند الله عز وجل، وأنّ الله عز وجل تكفل أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

ولكن مهما أيقنوا أن الله مظهر دينه فإنهم لا يكفون عن محاربته بأنفسهم أو بعملائهم أو بأجهزتهم، فأي شيء أنت تراه عادياً جداً يخيفهم؛ لأن أهل الباطل دائماً يخافون من الحق.

فلو أن عصابة اجتمعت من أعتى الدهاة فكرياً وسرقوا مالاً لأحد، ورآهم طفل، لظلوا يخافون من هذا الطفل الصغير أن يتكلم عليهم ويدلي بأوصافهم لأنهم على فجور وباطل، وذلك الطفل على حق، فلذلك نحن مهما كان ضعفنا؛ فإنهم يخافون من أي عمل نعمله، ويخافون من أي داعية يدعو، ومن أي كتاب، ومن أي فكرة وإن كانت صغيرة، يخافون منها؛ لأنها حق، وهم يعلمون أنهم على باطل.

فمن هنا نعرف أن أول وأهم غرض يجب أن نسعى إليه هو أن نزرع هذه العقيدة والإيمان والولاء والبراء في نفوس هذه الأمة، فالعقيدة ليست كلاماً مجرداً ونظريات مجردة.

بل لا بد أن تظهر العقيدة عملياً في صورة الولاء والبراء، بأن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعلن ذلك وتجتهد فيه.

ومن هنا يجب أن نعلم أن أي حدث يقع في أي بلد من بلاد المسلمين لا يصح أن يفسر بأي تفسير، ولا ينبني إلا على أصل العقيدة والطاعة والمعصية.

والقاعدة التي علمنا الله تبارك وتعالى إياها في كتابه وعلمناها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه المصائب، وهذه المحن وتسليط أعداء الله علينا، لا تفسر إلا بمعصيتنا لله لنرجع إلى الله، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا تبايعتم بالعينة واشتغلتم بالزرع وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، هذا هو الأساس الذي يجب أن يكون معلوماً لدينا إن شاء الله.

النقل الجماعي والشريط الخبيث

السؤال: نرجو من فضيلتكم توجيه نصيحة لشركات النقل الجماعي التي توظف عمالاً أو سائقي باصات من النصارى، وقد وجد مؤخراً شريط يباع في عدة تسجيلات يحمل الكثير من الخبث ويباع بريال واحد؟

الجواب: هاتان قضيتان الأولى تتعلق بشركة النقل الجماعي، وقد بلغنا أن بعضاً من الحافلات قد يكون السائق فيها نصرانياً، ويفتح المسجل ويضع فيه شريطاً تنصيرياً.

وبعض الحافلات على الطريق الطويل فيها تلفزيون أو فيديو وتعرض أفلاماً غير لائقة، فهذه بعض الملاحظات على النقل الجماعي، نرجو التأكد منها والتثبت من ذلك، وعلى أية حال فالمهم أن التناصح واجب بيننا وبينهم.

وأنصحهم بنصيحة أخرى وهذه منذ زمن وأنا أتحين الفرصة لها، أن شركة النقل الجماعي توظف في بعض ورشها، أو في كثير منها النصارى، وأسوأ من ذلك أن بعضهم إذا أسلم، فإنه لا يعامل المعاملة اللائقة، فلعل هذا الصوت يصل إليهم إن شاء الله، ولعل من فيه غيرة منهم -ونرجو أن يكونوا كثيرين إن شاء الله- أن يهتم بهذا الموضوع.

والموضوع الآخر يقول الأخ: إن هذا الشريط كما ترون وهو شريط مغلف وملون بشكل جميل، يبدو أنه باللغة التركية -والله أعلم- يقول: وهذا الشريط يباع بريال واحد في تسجيلات -ذكر اسمها- وهو من أقبح الأشرطة، وهو وسيلة لمحاربة دين الله.

علماً بأنه لا توجد أي تسجيلات إسلامية تبيع بهذا السعر، كيف يعقل أن تكلفته وتسجيله ريال واحد؟! إذاً الأشرطة مدعومة، ولها أغراض خبيثة، أو وراءها ما وراءها، وإلا كيف يكون بريال واحد لاغير؟ كل واحد يحللها بما يشاء.

والمقصود هذا الخبث والخلاعة، والفجور، والتنصير وبريال، هذا ريال للمفرد، والذي يأخذ بالجملة، فبكم سيكون؟ معنى ذلك أن هناك أيادٍ خبيثة تريد أن تهدم الإسلام والعقيدة الصحيحة، ولنفرض أنه لا يشتريه أو لا يسمعه إلا من يفهم هذه اللغة -إن كانت تركية أو أي لغة- أليس من الواجب علينا- وهؤلاء بين ظهرانينا- أن نعلمهم العقيدة الصحيحة وندعوهم إلى الله.

كم عندنا من الدروس باللغة التركية في جدة؟، لا أعرف درساً، مع أن الأتراك في جدة بالآلاف، فانظروا المطاعم، وهناك شركات كثيرة وغيرها ولا يوجد درس واحد لهم!

إذاً فنحن قد تركناهم فريسة لهؤلاء، فيأتي هؤلاء بهذه الأشرطة، وأشرطة الفيديو أخبث، ومجلات تأتي من تركيا أخبث، وليست تركيا وحدها، هذا مثال فحسب، وهناك أيضاً الفلبين وتايلاند وعندك من هم أشد، ونحن المقصرون في هذا الواجب، نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يوفقنا لتلافي ذلك، وأن لا يجعل حديثنا دائماً على سبيل أن نلوم أنفسنا أو بعضنا يلوم بعضاً، نريد أن يدفعنا كل ما يأتي من هذه الأمور للعمل، فلنفكر جميعاً على الأقل فيما نستطيع.

أنا آخذ كتيبات باللغة التركية، وأعطي صاحب المطعم الذي بجواري في الحي، واشتري منه، إن كان يفهم اللغة العربية أيضاً أكلمه بها.

وبالمناسبة -أيضاً- لو كان عندكم بعض الكتب عن الرافضة أو عقائدهم فاعطوهم إياها؛ لأن كثيراً من الأتراك المتكلمين باللغة العربية، والذين يعملون بالمطاعم والمسالخ هم نصيرية علوية، فهم من أقبح أنواع الرافضة من جنس النصيرية الذين في سوريا.

إذاً لا بد أن ندعوهم إلى الله ونعرفهم العقيدة الصحيحة، وإلا حرمت ذبيحتهم علينا وأكلهم وطبخهم، ولا ندري فهم -أيضاً- يتعمدون أن يفسدوا علينا شيئاً من ذلك.

وللأسف أن المرء منا يأتي بالعمال أياً كانوا، فيهمه أنهم متميزون في نظره ويقومون بالواجب في الشغل، ولا يسأل عن دينهم ولا عن عقيدتهم، وأيضاً الزبائن من أمثالنا، يهمه أن يشتري ويمشي، ولا يفكر كيف يدعوهم، وهكذا نصبح نحن المقصرين بكل حال، ونحن مسئولون بأي حال.

هذه العبر سواء ما يتعلق منها بالواقع العالمي، أم بالواقع المحلي، أم ما نراه من مثل هذه النشرات والأشرطة والدعايات والبضائع، وكل هذه تذكرنا أن عقيدتنا مستهدفة، وأن الواجب علينا أن نحافظ عليها، ولا يكفي أن نقول -الحمد لله- نحن مسلمون وطيبون وموحدون ونحن ما قلنا: إننا مشركون، لكن قد ننسى هذا ونضيعه، وقد نصير إلى حالة، كما ذكرها الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] شَعَرَ أو لم يشعر.

تنتشر شعائر الكفر وتنتشر معالمه وتنتشر دعاياته، ويحبب إلى نفوس الناشئين من الأجيال، غير ما في البث المباشر ومصائب الدشوش وغير ما في الصحف وغير ما في الإعلام الذي أصبح مفتوحاً للعالم كله، ونحن ما قمنا بالواجب لا في المسجد، ولا في الإدارة، ولا في العمل الذي نعمل فيه.

فبارك الله فيكم اجتهدوا في هذا، ولا تملوا أن يكرر عليكم هذا الكلام؛ لأن الأعداء يستفزوننا كل حين، والشيطان عدونا يعمل كل حين، فيجب أن نذكر أنفسنا أيضاً، ونعمل كل ما نستطيع، ولا يقول الواحد منا: إنه لا يستطيع أن يتكلم أو يعظ.

فمثلاً خذ كتاباً أو نشرة أو شريطاً وأعطه من يستفيد منه.

نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من الدعاة إليه على منهج رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أولياء الله وأولياء الشيطان للشيخ : سفر الحوالي

https://audio.islamweb.net