إسلام ويب

إن الله عز وجل قد خلق الإنسان لعبادته، ثم جعل له أدلة في طريقه لتدله على طريق الحق، وهي: الفطرة، والآيات الكونية، والعقل. وهذه كلها حجة على العبد باعتبارها دلته على طريق الحق، ثم لما لم تكن هذه الحجج قاطعة أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الآيات السمعية، وبها تكون الحجة قد اكتملت.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من تكذيب المكذبين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة في الله! هذا الدرس يلقى بمدينة جدة في جامع الشعيبـي، بعد مغرب يوم السبت الموافق (28 ربيع الآخر عام 1416) للهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وعنوانه: (تأملات قرآنية) وكما قلنا في أول درسٍ من هذه السلسلة: إن هذه التأملات ليست تفسيراً للآيات التي نتلوها، وإنما هي نظرات ووقفات وتأملات نسترشد فيها بهدي تلك الآيات، ونسير في الايحاءات القرآنية التي تهدف إليها تلك الآيات التي يتم اختيارها من بعض سور القرآن الكريم.

وتأملاتنا هذه الليلة ستكون لآياتٍ من سورة النساء، هذه الآيات يقول الله عز وجل فيها: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:163-166].

نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه موجةً عارمة من التكذيب، والرد، والرفض في كل الجبهات، وعلى كل الاتجاهات، فالكفار مغالطون ومعاندون، يجحدون هذه الرسالة ويأبون أن يصدقوا بها، رغم أن لديهم علم اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق، ولهذا يقول الله تعالى له في سورة الأنعام: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ أي: هم يعرفون أنك صادق وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وقضية العناد هذه لا تملك لها علاجاً، قد يصر شخص على ألا يقبل منك ولا يصدقك ولو كنت صادقاً .. فكيف تتصرف معه؟

بل لم يكن عندهم شك في أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق.

موقفه صلى الله عليه وسلم من تكذيب قريش له

عندما بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب والرسل إلى ملوك أهل الأرض، بعث برسالة إلى هرقل -عظيم الروم- وقبل أن يقرأها كان عنده علم بصدقه صلى الله عليه وسلم، ويعرف أيضاً أنه زمن خروج نبي، فأراد أن يتثبت فقال: هل من جماعته أو عشيرته أو قرابته أو من العرب أحد في تلك الديار موجود عندنا؟ قالوا: نعم. فجاءوا بمجموعة من تجار العرب ومعهم أبو سفيان ، فوضع أبو سفيان أمامه وصف البقية خلفه، وقال للذين معه: قفوا وراءه صفاً واحداً، وسوف أسأله أسئلة، فإذا كذب أشرتم إشارة تدل على أنه كذاب، يقول أبو سفيان: [والله لولا أنه يؤثر عني أني كذبت لكنت كذبت] لكن العربي لا يكذب حتى لو كان كافراً، فكيف يكذب وهو مسلم؟

ولقد أصبح اليوم المسلم لا يتمسك بعروبته ولا بإسلامه، فلقد أصبح أكذب شخص في الدنيا هو المسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لكن العربي وهو كافر، يقول: خشيت أن ينقل أو يؤثر عني أني كذبت، فوقف أمامه وجعل يسأله الكثير من الأسئلة، والشاهد من هذه القصة: أنه سأله في النهاية: هل جربتم عليه كذباً؟

فقال: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله!

الكذاب كذاب على الناس وعلى الله، والكذاب كذاب من يوم يولد وهو يكذب ويتعلم الكذب ولا يصل إلى الأربعين سنة إلا ومعه شهادة الكذب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف الكذب في حياته، أي: ما كذب كذبة صغيرة ولا كبيرة، لا في جاهليته ولا قبل البعثة ولا بعدها، صلوات الله وسلامه عليه، ثم يكذب بعد أربعين سنة؟! لا. ما كان ليكذب صلى الله عليه وسلم، ولما نزل قول الله عز وجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] صعد على الصفا ودعا بني هاشم وبني عبد المطلب وقال: (إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم) ثم قال: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً قط -معروف أنك صادق، أو بعد أربعين سنة تكذب؟!- قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد) قالوا: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟! قالها أبو لهب ، فأنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].

فلم يكن عندهم شك في صدقه صلى الله عليه وسلم، ولكنه العناد والإباء والرفض والاستكبار .. من هم؟ كفار مكة ومشركوها.

موقفه صلى الله عليه وسلم من تكذيب اليهود له

أما الفئة الثانية: فئة اليهود: اليهود يعرفون أنه نبي، يقول الله عز وجل: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] هل عندك شك في أولادك؟ أي: لو دخلت مجمعاً، أو مدرسة، أو ملعباً ورأيت ملايين الأولاد، هل تخطئ أولادك؟! والله إنك تعرف أولادك من بين ملايين الناس، كذلك اليهود يعرفون سماته وصفاته وعلاماته الموضحة في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، ثم قال الله تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] وبعد ذلك لماذا كذبوا؟

حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] يعرفونه ولكن الحسد بدأ يأكل قلوبهم، يقول الله تعالى فيهم: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109] كيف تنتقل الرسالات من بني إسحاق إلى بني إسماعيل؟! الرسالات كلها كانت في إبراهيم، ثم في ولده إسحاق، ثم في ولده يعقوب، ثم في ولد يعقوب، ثم تسلسلت الرسالات على هذا المنوال، ثم نقل الله هذا الشرف من بني إسرائيل -وهم بنو يعقوب- إلى بني إسماعيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم .. لِمَ نقله؟

لما حصل من اليهود من الرفض، والتكذيب، ونقض العهود، وقتل الأنبياء، والحيل، وارتكاب المعاصي حتى لعنهم الله تعالى، قال الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

فالله عز وجل لما تمادوا في غيهم وطغيانهم قال فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13] لعنهم الله؛ لأنهم يعاهدون ثم ينقضون المواثيق، ويحتالون على الله، أي: يحرم الله عليهم الحرام فيصطنعون حيلة على الله ليحلوا ما حرمه. ومما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، فقالوا: نحفر حفراً يوم الجمعة، ويأتي السمك في هذه الحفر يوم السبت، ونمسكه يوم الأحد!!

هذه حيلة على من؟! على من يحتالون؟!

قال الله تعالى عنهم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ... [الأعراف:163] حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، ولهم أن يصيدوا يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، لكن في هذه الأيام لا توجد الأسماك؛ ويوم السبت يمتلئ البحر بالسمك، بل تأتي شرعاً، أي: تقلب بطونها لهم لتريهم، كأنها تقول لهم: إني موجودة، قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ [الأعراف:163] فلما أخذوا منها، قال الله عز وجل: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] مسخهم الله تعالى قردة.

فهؤلاء عندما انتقلت الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس من نسل إسحاق بن إبراهيم، ولكنه من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام .. امتلأت قلوبهم حقداً وحسداً فكذبوا ورفضوا، أي: شككوا في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رغم علمهم ويقينهم أنه رسولٌ من عند الله.

حزنه صلى الله عليه وسلم لمصير المكذبين

كان النبي صلى الله عليه وسلم إزاء هذا التكذيب، وهذا الرفض والاستهزاء والإيذاء والمحاربة يكاد قلبه يتفطر؛ لأنه ليس أصعب على النفس البشرية من أن تكذب وهي صادقة، فلو أتيت بخبر إلى الناس تقول: إني رأيت بسيارة مقلوبة بسبب حادث فقالوا: كذاب. ما رأيك؟ ماذا تفعل؟ يتقطع قلبك، تقول: كيف كذاب؟! قالوا: كذاب كذاب، تقول: رأيت بعيني، يقولون: كذاب .. ماذا يحصل لك؟ وما هي ردة الفعل عندك؟ صعبة جداً لا تتحملها.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، والكفار يقولون: هو من الجن، ولو تيقنا أنه من الجن لعالجناه، وإن كان هذا الذي يأتيه خبال داويناه .. سبحان الله! صادق مصدق يأتيه الوحي من السماء بالقرآن المبين، ومع هذا يكذب! فكانت نفسه من داخله تتقطع أسىً وحسرة، ويعزيه الله عز وجل ويقول له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6] أي: لعلك مهلك نفسك؛ تريد أن تقتل نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن .. لا عليك: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان:23].. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [الزخرف:83].. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ [الحجر:3] اتركهم .. إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كان يتألم أن يكون هؤلاء في النار، كان يريد أن ينقذهم من النار، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش تتقحم في هذه النار وأنا آخذ بحِجزكم) أي: أنا أبعدكم عن النار وأنتم تتزاحمون للوقوع فيها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.

ما أرحم هذا النبي! وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فتأتي هذه الآيات في سورة النساء لتثبته، وتشعره بأنه نبي، وأنه يوحى إليه، وأن هذا الوحي ليس خاصاً به، وإنما سبقه فيه سلسلة من الأنبياء ممن اختارهم الله عز وجل، وجعلهم وسطاء وسفراء بين السماء والأرض، فاصطفاهم الله عز وجل، قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] الله يصطفي ويختار؛ فاختار هؤلاء الأنبياء ليكونوا رسلاً يهدون الناس.

قصة نوح عليه السلام

قال الله عز وجل: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163].

ونوح هو أول الرسل؛ أول رسول بعثه الله إلى الأرض هو نوح عليه السلام، بعد أن بدل الناس دينهم، وعبدوا الأصنام، وعبدوا غير الله عز وجل، بعث الله عز وجل نوحاً عليه الصلاة والسلام، فمكث يدعو في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومارس ألواناً متعددةً وصنوفاً كثيرة من أساليب الدعوة: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح:5] كان دءوباً في عمل الدعوة، أي: ما كان يدعو بمحاضرة في الشهر مثلنا، لا. بل ليلاً ونهاراً.

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [نوح:5-7] حتى لا يسمعوا وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ حتى لا يروه وَأَصَرُّوا أي: على الشرك وَاسْتَكْبَرُوا أي: على الآيات اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً [نوح:8] أي: دعوة علنية ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:9] دعوة سرية، أي: كل واحد يدعوه لوحده فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [نوح:10] وهذا من أعظم أساليب الدعوة أن تذكر الناس بنعم الله، فإنك إذا ذكرت الناس بنعمة الله أشعرتهم بحب الله لهم الذي تفضل عليهم بهذا الفضل إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:10-18] إلى آخر الآيات.

ورغم كل هذه الأساليب والطرق والوسائل والمدة الزمنية الهائلة -ألف سنة إلا خمسين عاماً- قال الله تعالى له: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36] وقال عز وجل: وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] قال المفسرون: كان نتيجة هذا العمر الطويل والجهد الكبير اثني عشر رجلاً فقط.

ألف سنة ليلاً ونهاراً ثمرتها اثني عشر رجلاً! وبعد ذلك لما قال الله تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] أي: لم يعد هناك من سيدخل في الدين، فدعا نوح ربه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] أي: إذا لم يعد هناك من سيدخل في الدين فما الفائدة التي تنتظر من هؤلاء. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ [نوح:27] إن كنت يا رب لم تعذبهم وتهلكهم فسَيُضلوا هؤلاء الاثنى عشر الذين معي ويزعزعوهم ويردوهم عن دينهم، وإذا ولدوا لا يلدون إلا فاجراً كافراً: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27].

قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:11] انظروا إلى الاستجابة الربانية! جاءت بعد بذل الجهد البشري .. وهكذا الأنبياء ما كانوا يدعون على أقوامهم مثل ما نفعل الآن؛ بمجرد أن تدعو واحداً ولم يستجب تقول: أهلكه الله .. سبحان الله! أنت تريده على مرادك؟! وهدايته ليست على مرادك، بل بإرادة الله، فإذا أذن الله له بالهداية نزلت، ولهذا نوح ما دعا من أول أسبوع، ولا أول سنة، ولا أول مائة سنة بل لم يدع بعدها إلا لما قال الله تعالى له: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ [هود:36] قال: يا ربِ! ما دام أنه لن يؤمن أحد فما فائدة بقائهم؟ إنك إن تذرهم لا يؤمنوا، أنا يا رب لا أصبر عليهم إلا رغبة في إنقاذهم، لكن ما دمت قد أخبرتني بعلمك السابق أن هؤلاء لن يؤمنوا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح:27] لم يبق منهم إلا الإضلال وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27].

فالله عز وجل علم صدقه، وجهده فعذبهم، قال الله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12] أي: التقى ماء السماء مع ماء الأرض وحصل الطوفان والغرق! أغرق الله عز وجل أهل الأرض كلهم، ولم ينج من تلك الفيضانات وذلك الطوفان إلا من ركب في السفينة، وكان الله عز وجل قد أوحى إليه أن يصنع الفلك، وكان يصنعه في الصحراء -لا يوجد بحر- وكلما مر عليه ملأ من قومه سألوه، قالوا له: ما هذه السفينة يا نوح؟ قال: هذه السفينة سوف أركب فيها وأنجو وأنتم سوف تغرقون كلكم، قالوا: أين البحر؟ -أتصنع السفينة في الربع الخالي؟ السفينة تصنع عند البحر- قال تعالى: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38] يعني: ضحكوا عليه، ولكن كان عنده ثبات على الحق، وكان على يقين من أمر الله تعالى، وما كان ضعيفاً، وهكذا يجب أن يكون المسلم حتى ولو سخر منه.

إذا سخر منك أحد؛ لأنك تمسكت بالدين، أو بالسنة، أو سلكت الطريق الصحيح، فيجب أن تثبت ولا يحملك هذا الاستهزاء على أن تتراخى، أو أن تضعف، أو ترى أنك على شيء غير طيب .. لا. قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38] أي: نحن أولى بالسخرية منكم، أنتم تسخرون منا ونحن على الحق، فنحن أولى بالسخرية منكم؛ لأنكم على باطل.

ثم نزل الماء وحملت السفينة كل المؤمنين من أهله في العقيدة؛ لأن الله تعالى قال له: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] يعني: أهله في العقيدة لا من النسب، ولكن نوحاً عليه السلام كان يظن أن معنى أهله: زوجته وأولاده وجماعته كما نظن نحن، فأركب المؤمنين وقال نوح لولده وكان كافراً: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا [هود:42] لكن عقلية الولد عقلية مادية، قال: سأذهب إلى جبل! يظن أن المسألة سهلة، والحقيقة أن هذا طوفان من رب العالمين، لا ينجو منه أحد: قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43] فقام نوح وتذكر أن الله قد وعده أن ينجي أهله: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] أي: أنت قلت لي: أركب الأهل وهذا ابني من أهلي، قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46] إن الأهلية -أيها الإخوة- هنا أهلية الدين، فإذا كان ولدك ليس على الإسلام فليس ولدك، وإنما رابطة العقيدة هي أعظم رابطة تربط بينك وبين الناس، والله تعالى يقول: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ [المجادلة:22].

تتابع الأنبياء من بعد نوح

أوحى الله إلى نوح وإلى النبيين من بعده، وعدد الأنبياء والرسل كثير، لم يقص الله علينا في القرآن إلا قصة أربعة وعشرين نبياً ورسولاً؛ جاء منهم ثمانية عشر في سورة الأنعام من قول الله عز وجل: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ... [الأنعام:83] وستة جاءوا متفرقين في ذكرهم في القرآن الكريم، قص الله عز وجل في القرآن بعضهم وبعضهم ما قصهم، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [النساء:163] ابن إسحاق. وَالْأَسْبَاطِ [النساء:163] أولاد يعقوب. وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً [النساء:163] الزبور الكتاب الذي أنزل على داود كان وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النساء:164] أي: في القرآن وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وموسى مختص بهذا، كل الرسالات كانت تنزل وحياً إلا رسالة موسى فقد كلمه الله تعالى، يقول الله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] فهو كليم الله وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] إلى آخر الآيات.

والرؤية المنفية هنا رؤية الناس لله في الحياة الدنيا، فإنهم لا يستطيعون ولا يقوون على مواجهة نور الله عز وجل، ولكن يوم القيامة يرون الله تبارك وتعالى كما صحت بذلك الأحاديث، وجاءت بذلك الآيات، وعقيدة أهل السنة والجماعة : أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يرى ربه، وأن يمتع أبصارنا وإياكم برؤية وجهه الكريم في الدار الآخرة.

وهذا خلافاً لعقيدة المعتزلة وبعض الخوارج كـالإباضية فإنهم لا يرون أن الله يرى، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد رد عليهم العلماء، فقالوا: نعم. لا ترونه؛ لأنكم في الدار الثانية؛ لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ من هم هؤلاء؟ هم أهل النار يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وهذه الآية فيها دلالة على أن الله لما أخبر أن الكفار محجوبون عن الله، فيدل على أن أهل الإيمان ليسوا بمحجوبين عن الله سبحانه وتعالى، ويقول الله تعالى في آية أخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] يستدل أهل السنة والجماعة على إثبات الرؤية بهذه الآيات، وكذلك الأحاديث في الصحيحين : (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) هذا حديث في الصحيحين، وهو صريح ولا مجال لتأويله.

هذا كليم الرحمن موسى عليه السلام، ثم قال عز وجل بعدها: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164].

وظيفة الأنبياء وأتباعهم

بين الله عز وجل وظيفة الأنبياء ودورهم، ودور أتباعهم إلى يوم القيامة فقال: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء:165] هذه وظيفة الداعية، سواء كان رسولاً أو وارثاً للرسول صلى الله عليه وسلم.

التبشير بالجنة لمن عمل صالحاً

هم مبشرون برحمة الله وبما أعده الله لأهل الإيمان من السعادة في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر وفي أرض الحشر، وفي دار السعداء في جنةٍ عرضها السماوات والأرض: (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

فهؤلاء الأنبياء يبشرون الناس بهذا، ويتصور بعض الناس أن آثار الدين والإيمان فقط في الآخرة! وهذا ظن خاطئ، إن بشرى الدين وآثاره معك في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا بشرى الأمن والطمأنينة والسعادة والراحة والرزق والتوفيق والهداية والسداد، كل هذه تأتي في الدنيا، والله إنه لا سعادة في الدنيا إلا في دين الله، يقول الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] ما هي الحياة الطيبة؟ حياة الدين، والقلب، والإيمان .. حياة شرح الصدر! والتوجه إلى الله، ومحبته، ومحبة رسوله ودينه وبيوته وكتابه، والاستعلاء على النفس، والانتصار على الشهوات، والترفع عن النزوات .. هذا هو الدين، وهذه هي الحياة! ليست الحياة الطيبة زنا، أو كأس خمر، أو غانية، أو سهرة، أو رحلة، أو تمشية، أو أكلة؟! هذه حياة البهائم والحيوانات، والله تعالى يقول في الكفار: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول الله عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

فالرسل يبشرون الناس بهذه الحياة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [النحل:30] أي: حسنة في الدنيا. ما هي هذه الحسنة في الدنيا؟ أنك تعيش مربوطاً بربك، أي: تعيش وأنت تتلقى توجيهاتك وتعليماتك في كل جزئية من جزئيات حياتك من الله، أي تكريم أعظم من هذا التكريم؟ أنت تتلقى كل توجيه حتى وأنت تأكل أي مادة، شهوة من شهوات النفس، تأكل باسم الله، وتأكل بيمينك، وتأكل مما يليك، بل تأتيك التعليمات الربانية التي جاءت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنت تمارس شهوتك؛ تأتي أهلك، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يأتي أهله فيقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق ولداً إلا عصمه الله من الشيطان) الله أكبر! ما أعظم هذه الحياة، أن تعيش في الأرض مربوطاً بالسماء؛ في كل حركة قبل أن تعملها تسأل نفسك: ماذا أصنع؟ ماذا قال الله سبحانه وتعالى؟ ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لكن بغير القرآن والسنة كيف يعيش الإنسان؟

يعيش ضائعاً ضالاً، تتخبطه الشياطين، وتتقاذفه الأهواء، وتلعب به الفتن، لا يدري إلى أين يتجه، ضال .. يقول الله عز وجل: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] أهذا مثل هذا؟ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]؛ شخص يمشي في ظلمة الليل ومعه نور كلما مر على حفرة، أو مطب، أو شوكة، أو مسمار، أو أي شيء اهتدى بالنور الذي معه، وشخص آخر يعيش في الظلمة لا يدري أين يسير .. يتخبط كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:122] ليست ظلمة واحدة ولكنها ظلمات إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

فتعيش في الدنيا بالإيمان بهذه الحياة -حياة الدين- وعند الموت إذا مت تجني ثمرات الإيمان، وأولها الثبات على لا إله إلا الله، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) يعني: من علامات حسن الخاتمة أن تقول عند الموت: لا إله إلا الله، هذه تعتبر جواز سفر وبطاقة مرور إلى الجنة، لكن من الذي يقولها هناك أيها الإخوة؟! هناك لا يتكلم اللسان إلا بتثبيت من الرب، يقول الله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] فمن ثبته الله على لا إله إلا الله في الدنيا ثبته الله عليها في الآخرة؛ لأن العلماء يقولون: إن أول واجب وآخر واجب هي: لا إله إلا الله، بمعنى: أن الشخص إذا أراد أن يدخل في الإسلام ماذا يلزمه أن يقول؟ لا إله إلا الله. ولو صلى قبل أن يقول: لا إله إلا الله، فما حكم صلاته؟ غير مقبولة، ولو زكى، وحج، وجاهد ومات في سبيل الله قبل أن يقول: لا إله إلا الله فإنها لا تنفع، فلابد أن تقول: لا إله إلا الله قبل أي عمل، لماذا؟ قالوا: لأن هذا عهد، أي: هذه اتفاقية توقعها مع الله قبل أن تدخل في الدين، تقول: لا إله إلا الله -أي: توقع الاتفاقية مع الله- وبعد ذلك تنفذ أحكام لا إله إلا الله، فإذا نفذتها فإنك عند الموت تقول: لا إله إلا الله، لماذا؟ لأنك صادق في كلمتك الأولى، ونفذت الاتفاقية، وأوفيت بالعهد، فكان على الله أن يثبتك عليها. ولكن إذا قلت: لا إله إلا الله، وبعد ذلك خنت العهد ولم تنفذ الاتفاقية، لم يثبتك عند الموت، لماذا؟ لأنك ساقط في الاتفاقية.

شخص كان يدخن، وعندما مات قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: أعطوني دخاناً، قالوا: ما معك دخان، الرجل يريد أن يدخن حتى في القبر، لا يريد أن يمشي إلا بدخان، قالوا: سوف تموت الآن، قل: لا إله إلا اله، قال: أنا بريء منها، والله لا أقولها! بريء من لا إله إلا الله؛ لأنه ما عاش عليها.

وآخر كان يسير بسرعة جنونية والسيارة ترقص على نغمات الأغاني، بل بعضهم يركب (ديسك) موسيقى صاخبة -غربية- ولا يدرك ما يقال، لا يدري أهو كلام إنجليزي أو فرنسي، ولكن فقط يراه مع الناس -(ما الخيل يا شقراء)- فكان يسير بسرعة جنونية فحدث له حادث مروري، وجاءوا عليه وقد قطع (الدركسون) بطنه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال له الناس: قل لا إله إلا الله، قال: هل رأى الحب سكارى مثلنا، وكان الشريط يغني هذه الكلمة، قالوا: قل لا إله إلا الله، ستموت الآن لا يوجد معك سكارى ولا حب، قال: أعطني حريتي أطلق يدي، يقول: فكوني! لكن لن يفكوك فهؤلاء ملائكة ليس عندهم لعب، أنت الآن مطلوب للمحاكمة عند رب العزة والجلال، أين المفر؟ كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة:11-12].

فهذه الكلمة: (لا إله إلا الله) هي العهد الذي بينك وبين الله، إذا وفيت بها عند الحياة تثبت عليها عند الموت، وإذا ثبت على لا إله إلا الله كانت هذه هي أول علامة من علامات حسن الخاتمة -نسأل الله وإياكم من فضله- والله كم هو شرف لك أن تقول: لا إله إلا الله عند الموت، وكم هو عار أن يصرف لسانك عن لا إله إلا الله، فتعيش ستين أو سبعين سنة وتموت ولا تقدر أن تقول: لا إله إلا الله! والذي لا يقدر أن يقول هذه الكلمة عند الموت كيف ستكون خاتمته؟ نعوذ بالله وإياكم من ذلك.

وفي القبر يسأل ويثبت، وفي الحشر يثبت ويفرح، الملائكة عند رأسه تقول: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] وبعد ذلك في الجنة يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ أي: نظراؤكم تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:70-72] الأنبياء والرسل هم المبشرون بهذا كله.

الإنذار من عذاب الله في الدنيا

منذرون، أي: من لم يستجب ينذرونه من عذاب الله في الدنيا، ولا يتصور أحد أنه إذا عاش في لذة وبسطة أنه في نعيم، لا والله. إنه في عذاب ولو ملك الملايين، يقول الله عز وجل: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة:55] بعض الناس يتصور أن الأموال الحرام عذاب في الآخرة فقط، لا. بل هي عذاب في الدنيا أيضاً؛ عذاب في التجميع، والحصر والمحافظة والإنفاق في الحرام، وعذاب إذا مات، ويراها أمامه وإذا به يُجن.

رجل من الأثرياء زرته لأطلب منه المساهمة في مشروع خيري، فقال: هذه الملايين ما جاءت إلا وأنا قريب من الموت، قلت: ما بك؟ قال: مصاب بالسكر، ولا آكل إلا الحبوب، حبة في الصباح وحبتين في المساء، وخبز يابس، وكوب من الحليب، لا شحم ولا لحم ولا أرز ولا فواكه ولا خضروات ... ولا أي شيء، قلت: قدمها أمامك، قال: أنت مجنون؟ ذهب عقلك؟! قلت: والله إنك أنت المجنون .. فلا أنك ستقدمها ولا ستأكلها، محروم فقط!

محافظ عليها حتى يموت.

أجل -يا أخي الكريم- عذاب هذه الدنيا إذا لم يكن فيها دين! والأنبياء والرسل ينذرون ويحذرون الناس من عذاب الدنيا إذا تركوا الدين، ولا نقول للناس: دعوا الدنيا، لا. إذا جاءتك الدنيا وأنت على دين فنعم المال الصالح في يد العبد الصالح، تستعين به على الطاعة، وتخرج منه الزكاة، وتؤدي فيه الحقوق، وتساهم في أعمال البر .. هذا مطية إلى الآخرة، بل يوجد ركن من أركان الدين لا يقوم إلا بالمال، وهو ركن الزكاة، وعثمان رضي الله عنه لما جهز جيش العسرة بثلاثمائة بعير، قال عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم) مال لكن نعم المال الصالح في يد العبد الصالح، ودعوتنا ليست لترك المال، ولكن لجمع المال من الحلال وإنفاقه في وجوه الخير والحلال، ولا مانع من التمتع بشيءٍ منه في الحلال؛ لأن الله تعالى يقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) إذاً: لا مانع أن تشتري سيارة جيدة فارهة ولو كانت غالية، لكن تجعلها في طاعة الله؟ فتذهب بها إلى العمرة، ومجالس الذكر، والمساجد، وتزور بها الأرحام، ولا مانع أن تذهب بها إلى المسجد النبوي، أو إلى النزهة بأهلك إلى الجنوب .. أو إلى أي منطقة، أو تقضي بها حوائجك، لا مانع، فهذا طيب.

كذلك لا مانع أن تسكن في عمارة واسعة ومكيفة وجميلة، لكن تعمرها بذكر الله وبطاعة الله، ولا مانع أن تتزوج بزوجةٍ جميلة أو اثنتين إذا رزقك الله، ولكن تربيهن على الدين .. وهكذا.

لكن المصيبة، واللعنة، والخسارة، والدمار، أن يعيش الإنسان في دنياه بمعزلٍ عن الدين؛ مال لكن من الحرام، وصرف لكن في الحرام، وعمارة لكن مملوءة بالحرام، وسيارة ولكن تستخدم في الحرام، ما قيمة السيارة هذه؟ بعد السيارة نعش، وبعد العمارة والقصر قبر، وبعد الحياة والنور ظلمات، وبعد التحصيل والأوامر سؤال، يقول الله عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93] .. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع) الأقدام مثبتة في عرصات القيامة لا تتحرك حتى تجيب، فإذا أجاب سمح له بالتحرك إلى الجنة، وإذا لم يجب يسحب على وجهه إلى النار. (... وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) انظروا كلمة (أفناه) للعمر، لكن (شبابه أبلاه) مثل الثوب الذي كان جديداً ثم بلي، كذلك الشباب يبلى، أين أبليت شبابك؟ في طاعة الله؟ بعض الناس يقول: اتركني أبلي شبابي في المعاصي وإذا صرت شيخاً كبيراً تبت إلى الله، لا. يا أخي! فلعلك لا تتوب، فالذي يشب على شيء يشيب عليه، ويموت عليه، كم رأينا الآن كباراً في السن أعمارهم سبعين أو ثمانين سنة وهم ألعن من الشياطين! فالذي لا يوجد فيه خير في شبابه لا يوجد فيه خير في شيبته:

إن الغصون إذا عدَّلتها أعدلت>>>>>ولا تلين إذا صارت من الخشب

فشبابك كالغصن تستطيع أن تلوي فيه نفسك على الدين، لكن إذا خشبت فلن تستطيع، خشب على قل الدين والعياذ بالله.

أجل أنت -يا أخي في الله- يوم أن تعمل بطاعة الله تدخل الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:70-72] فالدنيا إذا لم تستقم على منهج الله، ورفضت إلا أن تعيش في الدنيا على المعاصي، فترقب عذاباً في الدنيا، وعند الموت، وما هو العذاب عند الموت؟

قال العلماء: الحرمان من نطق الشهادة، حتى إن الرجل ليقول: رب ارجعون. من أجل أن يعمل الصالحات ويقول: لا إله إلا الله، فتقول الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ ما الذي تملكه هناك؟ قال: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:100] لم يقل: لعلي أرى أولادي، أو مؤسستي، أو رصيدي، أو العمارة ما أغلقتها، والمزرعة ما رأيتها، والماسة مملوءة بالمعاملات، لا. هذا كلام فارغ، فقد عرف أن هذا لا ينفع، فقال: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:100] حسناً.. لماذا لا تعمل عملاً صالحاً من الآن؟ تبقى على السيئات حتى يضرب رأسك في القبر، ثم تقول: ردوني؟ ما معك إلا ما عملت؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:100-104].

الإنذار من عذاب الله في القبر

ثم ينذرك الأنبياء والرسل من عذاب القبر.

وعذاب القبر -أيها الإخوة- كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول بعد فراغه من التشهد في الصلوات: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من عذاب القبر).

وكان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر عذاب القبر بكى، وإذا ذكر الجنة والنار لا يبكي، فقيل له في ذلك: قال: [إن القبر أول منازل الآخرة، فإن كان حفرة من حفر النار فمن بعده أشد، وإن كان روضة من رياض الجنة فما بعده أفضل] ولهذا كان يخاف من عذاب القبر؛ لأنه المنزلة الأولى، فإن كان قبرك روضة فما بعده الجنة، وإن كان القبر حفرة من حفر النار كان ما بعده النار؛ لأنه المقدمة، والوجبة الأولى، والوجبة الثانية والأخيرة في جهنم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالقبر تنجو منه بإذن الله عز وجل يوم تستجيب لأمر الله، لكن إذا عييت ...!

يسأل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: هاه. لا أدري، وبعد ذلك في عرصات القيامة يبعث والخوف يغشاه، يقول الله عز وجل وهو يصور لنا هذا المشهد حتى كأننا لنراه رأي العين: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج:43-44] ترهق، أي: تعلوه الذلة والخوف ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:44] وبعدما يتورط في ورطات يوم القيامة يمر على الصراط فيسقط على أم رأسه، ويأخذ كتابه بشماله، ويطرد من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مظلة الرحمن، ويوزن فيطيش ميزانه؛ لأنه تافه ورخيص لا قيمة له عند الله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105] يسحب على وجهه إلى النار، لا يمشي مشياً، هل يريد أحداً أن يمشي إلى النار؟ لا. لكن الله عز وجل قال: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48] ويقول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97] وبعد ذلك إذا وصلوا إلى النار يدفعون فيها: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:13-16] نعوذ بالله وإياكم من سخط الله.

وفي النار -أيها الإخوة- ما لا يتصوره العقل، يقول الله عز وجل: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] يبدو لهم من العذاب ما لم يخطر لهم في بال .. وكما أن في الجنة ما لا يتصوره العقل وكذلك أيضاً ففي النار ما لا يتصوره العقل من العذاب، نعوذ بالله وإياكم من عذاب النار.

حجج الله تعالى على عباده

رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء:165] أيها الإخوة! ألا يكفي هؤلاء الرسل، وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام؟! لكن الله تبارك وتعالى جعل الحجة بالرسل، قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] يعني: لا توجد حجج بعد الرسل؟ بلى. ولكن رحمة الله واسعة، فالله عز وجل قد أقام الحجة على الناس بأشياء كثيرة:

أولاً: الفطرة

فطرهم على الدين، وهذا هو العهد الذي أخذه الله عز وجل على آدم وذريته في الأزل، يقول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] هذا الميثاق الأول شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا: يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:172-173] فالله عز وجل أخذ علينا العهد في الأزل، فقد ورد في الحديث: (إن الله عز وجل مسح بيده على ظهر آدم، فنثر ذريته كالذر، ثم أشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) وهذه يسميها العلماء: الفطرة التي غرسها الله سبحانه وتعالى في طبع كل إنسان، فهو يعرف أن هناك خالق ومعبود وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا فالإنسان عابد بفطرته، لكن المشكلة أن من الناس من عبد غير الله؛ لأن الناس كلهم يعبدون، ولا يوجد أحد في الدنيا إلا وعنده إله، حتى في زمن الأولين عبدوا الهياكل، والكواكب، والنجوم، والشجر، والحجر، والبقر، والشيطان ... لكنها معبودات باطلة إلا الله فعبادته حق. ونتصور الآن أكثر من ألف مليون هندوسي يعبدون البقرة! انظروا إلى العقول الضالة .. بقرة لا تدري أين رأسها من عفاسها، وهم جلوس عند استها يعبدونها .. ما هذه العقول؟!

ذهب أحد الإخوة إلى الهند، يقول: دخلنا في معبد من معابدهم وقت عبادتهم -ينظر ما هم عليه- يقول: فوجد مجموعة من كبارهم، دكاترة، وبريفسورات، وعظماء، عندهم عقول، وهم يحنون رقابهم مستسلمين خاضعين عند البقرة، والبقرة تستجر، تأكل ولا عرفت من الذي عند رأسها أو استها، أو من الذي يعبدها أو لا يعبدها، ومن الذي يحلبها أو يذبحها، لكنها عقول أضلها الشيطان -والعياذ بالله- وعبدوا الحجارة، يقول إبراهيم عليه السلام: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] كيف تعبدون هذه، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] .. الَّذِي خَلَقَنِي [الشعراء:78] هذه حجارة ما خلقت، وبقرة ما رزقت، لكن الذي يستحق العبادة هو الخالق الرازق: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:80-81].. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:77-82] هذه هي خصوصيات الرب، اذكر لي واحداً من الآلهة تفعل هذا؟ من الذي يحييك ويميتك إلا الله؟ من الذي إذا مرضت يشفيك إلا الله؟ من الذي يطعمك ويسقيك إلا الله؟ لو أرد الله أن لا تطعم من في الأرض، وأرادت البشرية كلها أن تطعمك ما يطعمك إلا الله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَم [الأنعام:14].

فهذه الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله ليس لها مقام، والله عز وجل قد خلق للناس فطرة العبودية، ولهذا جاء في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في الصحيحين -: (كل مولود يولد على الفطرة -أي: الإسلام- فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل في الحديث: أو يمسلمانه؛ لأنه مسلم بفطرته، وفي الحديث القدسي في صحيح البخاري يقول الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين) فهذه حجة العهد والميثاق الأول.

ثانياً: الآيات الكونية

بث الله عز وجل آيات وعلامات تدل عليه في السماوات والأرض والنفس البشرية، وهذه كافية، يقول الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] والله عز وجل في هذه الآيات يدعونا إلى التأمل والنظر: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:5-6].. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ [آل عمران:190-191] وإذا استعملت النظر والتأمل والتبصر والتفكر كانت سبباً للهداية، ولهذا خاطب القرآن أصحاب العقول، فالأعرابي الذي فكر قبل الرسالة يقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وأرضٌ ذات فجاج، وسماءٌ ذات أبراج، وبحارٌ تزخر، ونجوم تزهر، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟!! فهذه الآيات الموجودة حجة أخرى.

ثالثاً: العقل

إن الله سبحانه وتعالى زود الإنسان بالعقل من أجل أن يعرف ربه، يقول عز وجل: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ويقول: في آية أخرى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26] لماذا؟ قال: إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26] ألغوا العقول، والعقل نفسه حجة، ولهذا جعل الله العقل مناط التكليف، بحيث إذا سلبك العقل رفع التكليف عنك: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق) لو أن شخصاً مجنوناً ليس عنده عقل فإن الله لا يؤاخذه يوم القيامة، لماذا؟ لأنه ليس له عقل. (والنائم حتى يستيقظ) لأن النائم لا يملك العقل، فهو يتصرف تصرفات وهو لا يدري، وإذا استيقظ، قالوا له: أنت تكلمت وفعلت .. قال: والله لا أدري. (والصغير حتى يبلغ) لأن تصرفات الصغير غير مسئولة، فالصغير ليس عنده ضوابط، ومتى يكتمل عقله؟ إذا بلغ: سِنَّ الرشد، والنضج، والتكليف، فإذا بلغ فإنه يؤاخذ، وأما قبل البلوغ فلا يؤاخذ.

لماذا جعل الله مناط التكليف هو العقل؟ لأنه يعتبر هادياً ودليلاً، لكن هذه الأدلة وهذه الحجج غير كافية بالنسبة لرحمة الله، لماذا؟ قال العلماء: لأن الفطرة قد تمسخ؛ ولأن الآيات الكونية والدلالات الموجودة في الآفاق والأنفس قد تغطى؛ ولأن العقل قد تغلب عليه الشهوة، الآن هذا كله لا يعقله الناس ولا يستجيبون له؟

أعطيكم مثالاً: الدخان: كل شخص من الناس يعرف أنه مضر، حتى المدخن نفسه تقول له: أسألك بالله من ناحية عقلية، هل الدخان مضر أم مفيد؟ ماذا يقول لك؟ لا يقدر أن يقول لك: إنه مفيد، أي فائدة في الدخان؟ مضر اقتصادياً، وصحياً، واجتماعياً .. كل شيء فيه مضر -أي: لا توجد أي مصلحة- وإذا قال لك: نعم. إنه مضر، إذاً كيف تشتري المضر؟ أنت ألغيت عقلك؟ قال: نعم، لماذا ألغى عقله؟ لغلبة شهوته: شهوة العادة والألف والتعود. إنه يشعل (سيجارة) ويمصها وينفخها وإن رائحتها تغير مزاجه وتريحه قليلاً! جعلت هذه الشهوة سلطاناً عليه أعظم من سلطان عقله، ولهذا يلغي عقله.

ولهذا فالعقل ليس كافياً ليكون حجة لوحده، انظر العقل كيف يشتغل عند الأطعمة: عندما تأتي الآن لتشتري لبناً من السوق وتنظر تاريخ الصلاحية -مثلاً- أمس (27) واليوم (28) وأنت اشتريتها وهي من يوم (27) هل تسكت؟ تدعو صاحب (البقالة) -أو سوبر ماركت- وتقول له: كيف تبيع هذا القديم، سأبلغ عنك البلدية، وفعلاً من حقك أن تبلغ البلدية؛ لأن هذا طعام غير صالح للاستهلاك -أي: طعام فاسد- وصاحب البقالة إنسان لا يهمه مصلحة ولا صحة الناس، أي: رجلٌ مادي يريد أن يمتص دماء الناس ولا يبالي بمن يموت! وبعض الناس يقول: هذه لا تضره (من رأى منكم منكراً فليغيره) هذا منكر، ومن المفروض أن يراجع صاحب (البقالة) كل الأطعمة التي عنده، ويتأكد من صلاحيتها البلدية أو الغرفة التجارية، لماذا؟ لأنه مؤتمن (ومن غشنا فليس منا).

فإذا رأيت طعاماً منتهٍ صلاحيته فلا تتناوله، وكل طعام -في الدنيا- موجود في الأسواق له تاريخ بداية ونهاية إلا الدخان! الدخان ليس له تاريخ صلاحية، خربان منذ صنع، وكتبوا عليه في العلبة: التدخين يضر صحتك، يعني: خربان، ومع هذا لا أحد يشتكي ولا أحد يقول: هذا فاسد، بل يشتريه بأربعة ريالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا؟ لأن العقل مرفوض لطغيان الشهوة، وكذلك المخدرات، والزنا، فلو أن شخصاً مارس الزنا، وقارن بين جريمة الزنا وما يترتب عليها من آثار في الدنيا والآخرة وبين لذتها، لوجد أنه لا يوجد نسبة ولا تناسب، لذة لا تتجاوز عشرين دقيقة أو ساعة، وبعد ذلك كم تعقبك إذا اكتشفت وقبض عليك على أنك زانٍ .. سقوط الاعتبار، والعار، والفصل من الوظيفة، والجلد في السوق إن كان الإنسان أعزباً، أو الرجم بالحجارة إن كان سبق أن تزوج أي: محصن، بعد ذلك يوصف بين الناس بأنه زانٍ .. بعض الناس يقول: سأختبئ ولا أحد يكشفني! لكن أين تختبئ من ربك؟!

وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ>>>>>والنفس داعية إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لها>>>>>إن الذي خلق الظلام يراني

إن الله يراك يا أخي! أين تذهب من ربك؟ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [النساء:108] ألا تعلم أن الله محيط بعملك هذا وأنه يراك؟ أين خوفك من الله؟ لم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟ لو أن أحداً يراك ألا تستحي؟ إنك لا ترضى أن تمارس الجريمة أمام طفل عمره سنة، تخاف أن يخبر، أو يشير إذا كان لا يتكلم، تقول: يمكن أن يشير لكنه ضعف الإيمان والعياذ بالله.

رابعاً: إرسال الرسل بالبينات

فالعقل ليس كافياً لإقامة الحجة، رغم أنه وسيلة من وسائل إقامة الحجة ومناطاً للتكليف، لكن ما هي الحجة القاطعة التي اقتضتها رحمة الله؟ هي إرسال الرسل ببيانات أو لمصالح:

أولاً: أن العبد لا يمكن أن يعرف مراضي الله ومحابه، ولا مساخطه، ولا مكارهه إلا عن طريق الأنبياء، فقد يؤمن الإنسان بالله ويهتدي، لكن لا يعرف ماذا يحب الله حتى يأتيه، وماذا يكره الله حتى ينتهي منه؟ لابد من رسالة، فأرسل الله الرسل؛ لكي يعلموا الناس: هذا حرام وهذا حلال .. هذا يرضي الله وهذا يسخط الله.

ثانياً: إقامة الحجة حتى لا يأتي من يقول: يا رب أنا لم أعلم، قال الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] فاقتضت حكمة الله عز وجل إرسال الرسل.

نقف -أيها الإخوة- هنا بعض الوقفات:

أولاً: ضخامة المسئولية بالنسبة للرسالة، وقد قام الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه بهذه المسئولية خير قيام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله تعالى عليه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:1-2] كان في هذا تربية وتجهيز وتأهيب لدور الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سوف يباشره بهداية البشرية، وقبلها، قال الله تعالى له: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] لأنه لما رجع من الغار قال: (دثروني) وقد أوحي إليه بإقرأ، وأرسل بالمدثر، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ [المدثر:1-2] ليس هناك نوم فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:2-7].

من أول لحظة قال الله له: لا بد أن تصبر على هذه الدعوة، ويقول له في السورة التي بعدها: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وهو يتزمل ويتدفأ في البيت قُمِ اللَّيْلَ [المزمل:2] تهيئة، وإعداد، وتدريب للقيام بالمهمة، وأول عمل: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:2-4] لماذا؟ قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] ستكلف بمهمة شاقة! ونحن نعرف -أيها الإخوة- مقدار مشقتها من عجزنا بتربية أولادنا، فبعض الناس عنده ولد أو اثنين أو ثلاثة، يقول: أنا والله عجزت عن تربيتهم، هو مكلف بتربية أولاده لكنه عاجز عن تربيتهم، فكيف بمن يكلف بهداية البشرية من أولها إلى آخرها إلى قيام الساعة؟!! هذه المهمة صعبة أم ليست صعبة؟ صعبة، وقد مارسها صلى الله عليه وسلم وقام بها خير قيام، ولقي في سبيلها العناء والمشقة، ولما قال له ورقة بن نوفل -ابن عم خديجة-: [ إنه الناموس الذي أنزل على موسى ... ليتني كنت فيها جذعاً، لأنصرنك حين يخرجك قومك ] فقال عليه الصلاة والسلام: (أو مخرجي قومي؟!)لم يكن يتصور أن قومه سيخرجوه؛ لأنه كانت له منزلة عظيمة عندهم، كان محبوباً؛ لأنه صادق ونظيف وطاهر وأمين، وفيه كل صفات النبل، وكمالات البشرية: (أو مخرجي هم؟) معقول! ما فوضوه في وضع الحجر الأسود إلا لحبهم له: لما اختلفت القبائل فكل قبيلة تقول: نحن نضعه، حتى تجردت السيوف، فقالوا: نحكم شخصاً، فدخل عليه الصلاة والسلام، قالوا: حكموه، هذا الصادق الأمين! فقال: هاتوا رداء، ووضع الحجر في وسطه، وجعل كل قبيلة ترفع من طرف حتى أوصلوه إلى مكانه، وبعد ذلك أخذه بيديه ووضعه في مكانه الشريف، فالقبائل تحبه، ومكة تعظمه، فهو لا يتصور أن يخرج أو يطرد، قال: (أومخرجي هم؟ قال: نعم. إنه لم يأتِ أحد بما جئت به إلا عودي).

وهكذا أوذي عليه الصلاة والسلام، فقد صب على ظهره سلى الجزور، وبصق في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وأدمي عقبيه، وشج وجهه وطورد، وحوصر هو وقومه ثلاث سنوات في الشعب حتى أكلوا ورق الشجر، وتقرحت أشداقهم، وصاروا يبذلون كما تبذل الأباعر، طرد من مكة : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]؛ أخرج من مكة إلى المدينة، وطورد بعدها في المدينة، وحورب من كل فئات الأرض، ومع هذا فحياته كانت جهاداً حتى نصر الله دينه، وبلَّغ رسالة ربه، وأدى أمانة الله لأمته، ووقف في يوم عرفة يقول للناس: (ألا هل بلغت، فقال الناس: اللهم نعم. فيقول: اللهم فاشهد، وكان يرفع يده إلى السماء ثم ينكتها إلى الأرض ويقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) وينزل عليه قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] ثم يموت صلوات الله وسلامه عليه! ويترك هذه التركة، وهذه العهدة والمسئولية للدعوة إلى الله على أمته من بعده إلى يوم أن تقوم القيامة.

كانت الأمم السابقة إذا مات نبيهم أتى نبي بعده إلى أن اختتمت الرسالات برسالة الإسلام وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا دين بعد دينه، ولا نبي بعده، وجعل مسئولية الدعوة من بعده على أمته، فأمته كلهم ورثة لهذه التركة، يقول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا [يوسف:108] أنا وحدي فقط؟ لا. أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

ما يلزم الأتباع تجاه الدعوة بعد الرسل

فإذا أردت أن تكون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لزمك أن تكون داعية، أي: القضية لم تكن اختيارية، وليست بالمزاج والكيف؛ هل يمكن أن تكون داعية أو غير داعية؟ لا. بمقتضى أنك مسلم لا بد أن تكون داعية، وليس معنى هذا -أيها الإخوة- على مستوى المنابر والخطب، لا. داعية على أي مستوى، أقل مستوى أن تكون داعية على مستوى نفسك، من الذي يستطيع أن يقول يوم القيامة: يا رب: والله ما استطعت أن أدعو نفسي إلى الله -أي: ممنوع من دعوة نفسه- هل يستطيع أن يقول هذا أحد؟ ولو أن الأمة فقط دعت إلى الله على هذا المستوى؛ وأن كل مسلم دعا نفسه إلى الله وأمرها بطاعته ونهاها عن معصيته، كيف سيكون حال الأمة؟ لا نحتاج إلى دعاة، إلا مجرد التثبيت والتذكير فقط؛ لأن كل شخص داعية في نفسه، وإذا أنت صلحت في نفسك لم يبق صلاحك محصوراً عليك، سينتشر، هل يوجد في الدنيا صالح 100% ولم تصلح زوجته؟ أبداً. مستحيل، وأنتم تنظرون الآن والحمد لله كل الشباب الملتزمين زوجاتهم ملتزمات، وبعضهم يتزوج امرأة غير ملتزمة وبمجرد أن يعيش معها أسبوعاً أو أسبوعين يقرأ عليها القرآن والأحاديث، مباشرة تلتزم، تريد من يهديها إلى الله فاهتدت إلى الله.

فصلاحك أنت دعوة، ثم الدائرة الأوسع من صلاح النفس صلاح الأسرة، وتبدأ الأسرة باللبنة الأولى بالزوجة (وخيركم خيركم لأهله) والناس يحملون الحديث: (خيركم خيركم لأهله) يعني: خيركم في الأكل والشرب والتعامل! لا. هي تشمل هذا، ولكن الخيرية الأعظم: (خيركم خيركم لأهله) ديناً وتربيةً، وكان صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله في هذا المقدار بالقدر المتكامل، أمهات المؤمنين كن كلهن فقيهات في الدين، لكن تجد بعض الدعاة والطيبين زوجته أجهل من الثور، ولا يوم من الأيام قرأ عليها حديثاً، وتراه يحدث الناس، لكنه في البيت إما أن يسكت أو يشاجر، سبحان الله! أولى الناس بالخير أهلك، أولى الناس بالبر والعلم أهلك .. لا بد أن يكون لك حلقة معهم، إذا كنت داعية وإماماً فعليك أن تذهب إلى البيت لتعلم أهلك ما علمته الناس، وإذا لم تستطع أن تعيد كل شيء فخذ الشريط واتركهم يسمعونه، فإذا انتقلت الدعوة من محيطك النفسي الذاتي إلى المحيط الزوجي الأسري.

أيضاً تنتقل إلى المحيط الأسري الأكبر وهم الأم والأب والإخوة والأخوات، والأبناء والبنات، طبعاً المحيط الأسري الأكبر نوع من الحساسية والصعوبة، خصوصاً دعوة الوالدين والإخوة والأخوات، ليست كدعوة الزوجة، دعوة الزوجة سهلة؛ لأن لك عليها سلطان وقوامة، وتستطيع أن تفرض عليها الحق، وإن كان الأولى أن تقنع به، لكن إذا ما اقتنعت بالطيب تقتنع بالغصب، لكن بالنسبة لأمك وأبيك العلاقة حساسة، والنظرة إليك نظرة ليست متكاملة، أنت تنظر إلى نفسك بمنظار أن عمرك أربعون سنة أو خمسة وثلاثون سنة، لكن والدك ينظر إليك ويعطيك متوسط عمر، يعرف أنك كنت صغيراً، سنة .. أو سنتين .. أو خمس .. كنت مشاكساً وكسولاً .. وكذاباً .. ودجالاً ... ثم في يوم من الأيام هداك الله وتأتي إلى أبيك لتعلمه الدين، ماذا يقول لك؟ يقول: عجيب. مطوع! الآن تعلمني الدين، اذهب يا دجال، أنت ما تركت كذبة باردة إلا وقلتها! حسناً .. يا أبي: أنا كنت كذلك لكن الله منَّ عليَّ بالهداية .. لكن ماذا تفعل مع أبيك؟! تأتي إلى أبيك بمنطق الأستاذية والتعالم؟ لا. تعال من منطق الود والرحمة والحب والخدمة والعرض، لا تفرض على أبيك حراماً أو حلالاً! لا. قل: نسأل الشيخ، أو نسمع شريطاً، أو اترك غيرك يعلمه، أما إذا علمته أنت فلن يقبل منك أبداً؛ لأن من عرفك صغيراً حقرك كبيراً، فالناس الذين يعرفونك وأنت صغير يحقرونك وأنت كبير، لكن إذا ذهبت إلى أناس لم يعرفوك صغيراً، فسيقولون لك: يا شيخ، لكن الذين يعرفونه يقولون: هذا لعاب. نعرفه.

ماذا تصنع مع أمك وأبيك؟ لا تصدر عليهم الأوامر، ولا تبين لهم الأحكام مواجهة، وإنما أولاً بالحب والخدمة، والبر، والصلة، والإحسان حتى يحبوك؛ لأن النفوس مجبولة هكذا؛ جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.

وبعض الشباب يوم أن يهتدي ينفصل عن الأسرة، ويخرج من الزملاء والإخوان والذهاب والمجيء، وكلما دعاه أبوه: تعال يا ولدي. أعطيني لبناً، يقول: مشغول، اذهب بأهلك إلى المستشفى، يقول: والله مشغول؛ معنا محاضرة، اذهب بهم إلى السوق، قال: عندي موعد، يقول: الله أكبر عليك وعلى محاضراتك ومواعيدك هذه، والله ما رأينا الشر إلا من يوم أن رأينا محاضراتك ودعواتك! كرهت أباك للدين بأسلوبك، لكن المفروض من حين أن اهتديت أن تلتزم البيت، ولا تذهب ندوة أو درساً، أو اجتماعاً، إلا بإذن أبيك، تقول له: يا أبي! أنا مشغول اليوم؟ تريد أن أذهب السوق؟ أو أذهب بالأهل إلى المستشفى، أو أذهب بهم إلى النزهة، هل يوجد ضيوف سوف يأتونك؟ لا يا ولدي ليس عندنا شيء. تريدني؟ لا. اجلس يمكن يأتي أحد، أذهب السوق؟ لا. فأنا أريد أن أحمل المشتريات عنك!

بعض الآباء نراهم -يا إخواني- عمره ستين أو سبعين سنة وهو يحمل المشتريات على كتفه وولده نائم، ما عليك إذا كان ولده سيئ فاسق، لكن ولده طيب وملتزم لكنه لا يخدم والداه، وهذه الخدمة للوالدين من أعظم أنواع البر، بل سماها الرسول صلى الله عليه وسلم جهاداً؛ فإنه لما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ائذن لي بالجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) يعني: ابذل جهدك في سبيل رضاهم، وبعض الناس يريد رضى أبيه بدون جهد، وإذا رأى أباه يشدد عليه، قال: أبي متعب جداً.

لا تظهر طاعتك إلا مع الأب الذي مثل هذا، أتريد أباً مفصلاً على مرادك، إذ لا يظهر فضلك إذا كان أبوك طيباً، بل لا بد أن تكون باراً بالأب الذي ضد مقاصدك، أي: إذا أردت أن تذهب، يقول: لا تذهب، فتقول له: حسناً، ولو كان عندك مباراة، لكن عند أبيك ضيوف، من يصب الشاي؟ خاصة إذا كانوا يعلمون أن عنده ثلاثة أو أربعة أولاد بينما هو الذي يأتي بالشاي والقهوة ويصب وهو متعب! أين أولاده؟ ماذا يقول الناس؟ يقولون: لا بارك الله في أولاده! والله ما رأينا واحداً منهم.

لكن عندما يأتي الضيوف وأولاده كلهم مصطفون، واحد يفتح الباب، وآخر يرحب بالضيوف، وآخر يحضر القهوة، وآخر يشغل المكيف .. وكل واحد يخدم من جهة! سيقول الناس: ما شاء الله! الأولاد من أمامه وعن يمينه ويساره يخدمونه، بارك الله فيهم، فإذا خدمت والدك بهذا الأسلوب أحبك، وإذا أحبك أحب الدعوة التي تدعوه إليها، ويحمد الله ويقول: الحمد لله، والله ولدي من يوم أن اهتدى ما شاء الله، الدين هذا خير وهداية، فقد اهتدى ولدي وجلس معي، ولم يذهب، ومن بعد العشاء يذهب، الله يوفقه، الله يرشده، لكن أن تخرج إلى الشارع؟ حتى ولو كنت على خير، لا. هذا لا يريده أبوك، أبوك لا يطمئن قلبه إلا إذا رآك في البيت، خصوصاً في هذه الأزمة -يا إخواني- وأنت سوف ترى عندما تكبر ويأتي لك أولاد كيف يتقطع قلبك إذا دق الباب عليك بعد منتصف الليل! لماذا تخرج إلى الشوارع؟ أما تعلم أنه لا يخرج في الليل إلا الحيوانات، فمن بعد العشاء اجعل قلب أبيك يرتاح، اجلس في البيت، اقعد على كتبك وانفع أهلك، هذا ما يجب أن تكون عليه.

فإذا صلحت أنت في نفسك وأصلحت زوجتك وبنيك وبناتك، وأباك وأمك وإخوانك وأخواتك كنت داعية، وتبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء، فكما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) نبي يوحى إليه يأتي يوم القيامة ولا أحد معه، وثلاثة أنبياء في سورة (يس) معهم واحد، قال الله عز وجل: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ [يس:14].

فيا أخي في الله! لا خيار لك بحكم إسلامك وتبعيتك لهذا الدين، ومتابعتك لهذا الرسول الكريم إلا أن تكون داعية إلى الله، على أي مستوىً من المستويات، لكنك لا تعذر في مستوى نفسك وزوجك وأولادك، أما بعد ذلك فحسب الاستطاعة، فإن منَّ الله عليك بقدرة وعلم وتوفيق؛ فكلما زدت في هداية الناس زادك الله من فضله (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم).. (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها).. (ومن دلَّ على هدى كان له مثل أجر فاعله دون أن ينقص من أجورهم شيئاً).

وكل عمل وعبادة فهي لازمة إلا عمل الداعية، فإن عمله متعدِّ، ونفعه دائم، وإذا هدى الله عز وجل على يديك رجلاً واحداً، فإن هذا الرجل وما يعمله من خير كله يسجل في حسناتك، إذا صلى فلك أجر مثل صلاته، وكذلك إذا زكى، وكل عملٍ يعمله لك مثل عمله، ما هذا العمل أيها الإخوة؟!

فالله الله -أيها الإخوة- بأن يكون هم المسلم هذا الدين، على الأقل نفسك، لا تدع للشيطان وسيلة في إضلالك وأنت تستطيع أن تنقذ نفسك من النار رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] ثم قال الله عز وجل بعد ذلك وهو يشهد وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:79] على أنه رسول من عند الله، قال: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ [النساء:166] رغم تكذيب هؤلاء، فإذا كذبك وعاندك الكفار، وشكك في رسالتك المنافقون واليهود، فالله يشهد أنك رسوله (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:166].

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا وإياكم على الإيمان، وأن يشرح صدورنا وإياكم للإسلام، وأن ينور قلوبنا وبصائرنا بالقرآن، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.

اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار بسوءٍ، أو شرٍ، أو كيدٍ، أو مكرٍ فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين.

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في البوسنة والهرسك والشيشان وكشمير وجميع أرضك، اللهم أنزل عليهم نصرك المبين وثبتهم، وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم بقوتك يا عزيز.

اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمة وولاة أمورنا، اللهم اجعل عملهم في رضاك، واهدهم إلى هداك، ووفقهم لما تحبه وترضاه برحمتك يا أرحم الراحمين.

دعوة للإنفاق في سبيل الله

وقبل البدء في الإجابة على بعض الأسئلة نقرأ رسالة جاءتنا من هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، فرع جدة، يطلبون الحث على التبرع للإخوة المسلمين في الشيشان، وأيضاً يطلبون الدعاء لهم؛ لأن وسيلة المناصرة لهؤلاء الإخوة تتم بأمرين: المناصرة بالدعاء، وهذا أعظم سلاح؛ لأن الله عز وجل لن يعدم الأمة من رجلٍ صالح يدعو، ولعل في دعوة مؤمن ما ينزل الله به النصر على هؤلاء، فلا نبخل حتى بالدعاء، فندعو الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم.

وأيضاً نصدق دعاءنا بالتبرع، وما ننفق في هذا المجال إنما هو باقٍ عند الله تبارك وتعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] والذي نأكله ونلبسه هذا يبلى ويفنى (يقول ابن آدم: مالي مالي .. وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت) والبقية للورثة، أنت مسئول بتجميعها وتموت، والذي أكلته أفنيته، والذي لبسته أبليته، والتي تصدقت بها أبقيتها، والبقية للورثة، والله تعالى يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] والإنفاق ليس من حقك فهو من حق الله، يقول الله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] وبعد ذلك لمن تنفق، للجماعة أو لنفسك؟ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:272] فأنت رابح على كل الاتجاهات، فنطلب من إخواننا المساهمة في صناديق هيئة الإغاثة.

وأيضاً هذه رسالة أخرى من الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهذه الندوة المباركة التي تقوم بأنشطة في خدمة الدعوة إلى الله عز وجل في جميع أنحاء العالم، وهي ممن يحظى بدعم وتأييد المسئولين في هذا البلد المبارك حفظهم الله، ولها أنشطة وبرامج ووسائل متعددة في نشر الدين ودعوة الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهم أيضاً صناديق عند الباب، ونرجو ألا تعود هذه الصناديق كما جاءت، إنها جاءت خماصاً -يعني: لاصقة بطونها بظهورها- ونريد إن شاء الله ألا تعود إلا وهي بطاناً من الخير الذي تقدمونه إن شاء الله لإخوانكم.

الأسئلة

وسيلة قضاء الدين

السؤال: سائل يطلب منكم أن تدعو له في ظهر الغيب فإن عليه ديناً كثيراً، وآخر يسأل أن تدعو له جهاراً بالثبات على الدين؟

الجواب: أما الأول الذي عليه دين؛ فنسأل الله أن يقضي دينه، ولكن نقول له: انو الأداء؛ لأن من استدان ونيته الأداء أدى الله عنه، ومن استدان ونيته الإتلاف أتلفه الله، فمن الناس من يتورط في الديون وله نية على ألا يسدد، فهذا يتلفه الله؛ لأنه يريد إتلاف أموال الناس، ولهذا يتورط ويتوسع فيأخذ سيارة ديناً وهو يعرف أنه لا يستطيع أن يسدد، هذا متلاعب ومتهوك، ولا يجوز له أن يعمل هكذا؛ لأن كل شيء يمكن إلا الدين، الدين هذا يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (والذي نفسي بيده! لو مات أحدكم شهيداً ما دخل الجنة حتى يوضع عنه دينه) نعم. الدين همٌ في الليل ومذلةٌ في النهار، وصبرك على نفسك أولى من صبر الناس عليك، وتعيش عزيزاً بأقل شيء من التكاليف التي تعيش عليها أفضل من أن تعيش ذليلاً تأتي بوجهك إلى كل شخص، لماذا؟ لأنك تريد سيارة جديدة، وكنباً، وغرفة نوم بخمسة عشر ألف ريال، وتريد من حقوق الناس، ماذا ينفعك؟ لا والله، نم على الحصير، وكل العيش الناشف، واسكن في كوخ وأنت عزيز النفس، سليم الذمة، بريء من هذا، فإذا كان عليك دين: أولاً: لا تتوسع في الديون. ثانياً: انو الأداء. ثالثاً: ضع برنامجاً للقضاء: مثلاً إذا كان راتبك ثلاثة آلاف ريال: حدد مصروفاتك واقتصرها إلى أضيق نطاق، وليس ضرورياً أن تشتري كل يوم لحماً، أو دجاجاً، أو سمكاً، إذ يمكنك أن تأكل في اليوم حبة بطاطة وعليها خيار وبصل وخبزة، وهذا مثل سَمكٍ بستين أو بسبعين ريالاً والإنتاج واحد، بل كلما كان الطعام أغلى كلما كان الطعام أخس في البذل، وقد سألت أحد الأطباء عنده دكتوراه في التغذية على أحسن الأطعمة، قال: أعطيك كلمة، قلت: نعم. قال: أرخص الأطعمة هي أنفع الأطعمة، وأغلى الأطعمة هي أضر الأطعمة، يقول: فأنت اكتفي -يا أخي- بشيء بسيط من الأكل، ووفر نقوداً من راتبك واقض دينك، ضع لهذا اليوم ألفاً، والشهر الثاني ضع ألفاً .. وهكذا، وبعد سنة أو سنتين تكون قد انتهيت من الدين، لكن بعضهم متورط في الديون، والأكل من أحسن ما يمكن، والسيارة بدل سيارة، والفرش والموكيت يغير كل سنة، والزوجة ذهبها من يدها إلى كوعها، والديون مائتين أو ثلاثمائة ألف، ويقول: ادع الله أن يقضي ديني، كيف يقضي دينك وأنت لا تشعر بأنك مديون؟ نسأل الله أن يقضي دينك، ولكن أعنا على نفسك بهذا الترتيب.

أما الأخ الذي يطلب أن ندعو الله له بالثبات؛ فنسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا جميعاً، وهذا الدعاء من وسائل الثبات، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الثابتين يقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك قال الصحابة له: أتخشى وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه؟ قال: كيف لا أخشى وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) والله يثني على أهل الإيمان ويقول: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] فنحن نقول: اللهم ثبتنا بالقول الثابت يا رب العالمين حتى نلقاك، اللهم كما أنعمت علينا بنعمة الإسلام فلا تنزعه منا حتى نلقاك يا رب العالمين.

طريق القرب من الله

السؤال: ما هو الطريق للقرب من الله تعالى؟

الجواب: طريق القرب من الله عز وجل بثلاثة أمور: الأمر الأول: بالكتاب والسنة. الأمر الثاني: بتصديق الأخبار. كل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته تصدق به وتأخذه مأخذ اليقين.

الأمر الثالث: وتنفيذ أوامر الله وترك نواهيه، والقرآن والسنة كله إما خبر، أو أمر، أو نهي، فالخبر تصدقه، والأمر ترضخ له، والنهي تتركه، وبعد ذلك تصل إلى الله.

معنى كلمتي (المزيد) و(النجائب)

السؤال: ما هو يوم المزيد، وماذا يقصد بالنجائب؟

الجواب: يوم المزيد هو بمنزلة يوم الجمعة من أيام الدنيا، يوم القيامة، وهذا يوم يطلب الله عز وجل من أهل الجنة أن يذهبوا فيه للتسوق، وطبعاً السلع المعروضة في الجنة تؤخذ من غير ثمن، وفي هذا اليوم يتجلى الله عز وجل على الناس:

فيرونه سبحانه من فوقهم>>>>>نظر العيان كما يرى القمران

ويحدثهم ويكلمهم كما يحدث أحدنا صاحبه، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم إلا وسيكلمه ربه مواجهة ليس بينه وبينه ترجمان) نسأل الله أن يمتعنا بهذا النعيم.

أما النجائب فهي وسائل للنقل، أي: لنقلهم إلى القصور التي يسكنون فيها بالجنة.

وكل ما تسمعونه من قصور ونجائب وأنهار هذه فقط أسماء، وأما الحقائق فلا يعلمها إلا الله، يقول الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، إنما الحقائق على حقيقتها، يقول الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] فتأتي هذه النجائب وهي وسائل النقل لتحمل أهل الإيمان من قصورهم ودورهم ومنازلهم إلى السوق الذي أعد ليوم المزيد؛ من أجل التسوق، مشاهدة الرب تبارك وتعالى، ومن أجل النعيم الذي نسأل الله وإياكم ألا يحرمنا من فضله.

وأكتفي بهذا والله أعلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , رسلاً مبشرين ومنذرين للشيخ : سعيد بن مسفر

https://audio.islamweb.net