إسلام ويب

المؤمن تراه دائماً يحاسب نفسه، فإذا مضى عليه يوم أو أسبوع أو شهر رأيته يحاسب نفسه على هذه الساعات التي انقضت، والتي تعتبر شيئاً من عمره، فيحاسب نفسه: ماذا فعلتُ من خير في هذه الأيام؟ ما هي الذنوب التي اقترفتها؟ مما يدعوه لعمل الخير فيما يأتي من عمره، وفي هذه المادة ما ينشطك لذلك، فطالعها.

الموقف الأرشد تجاه العمر

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعنيه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إني لأقف في هذا المقام خجلاً بين أيديكم مع أن في القوم من هو أمثل وأخير وأعلم مني، ولكن المحبة في الله جمعت بيننا في هذا المكان، بين متكلم وسامع، ومستفيد ومتذكر، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الكلام عوناً لنا على طاعته، وحجة لنا لا علينا بمنّه وكرمه.

أيها الأحبة: الحديث اليوم عن الماضي وعن المستقبل، وله مناسبة وهي أننا قبل أيام ودعنا عاماً كاملاً بأشهره ولياليه وساعاته، وما مر فيه شاهد لنا أو علينا، كلما أُحدث في هذا العام على وجه الأرض، وفي كل مكان من هذه الدنيا، فإنه في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى.

أيها الأحبة الماضي والمستقبل هو العصر والليل والنهار، الماضي والمستقبل هو الضحى والصباح والمساء، هو الأيام والشهور والسنون والأعوام: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1].. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2].. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1].. فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17].. إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [التوبة:36].. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190].

هذا هو الماضي، وهذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل، لا نتحدث عن كوكب غريب، ولا عن عالم عجيب، إنما هي أيامنا وساعاتنا التي تمر على أعمارنا، لتقضى فيها مقاديرنا وآجالنا وأعمالنا، وإن أقواماً لا يدركون قيمة الحاضر، ولأجل ذا لا يأسفون على ما مضى، ولا يستعدون لما بقي، لقد اشتغل أقوام بالحسرات على ما مضى، تحسروا دون أن يحدثوا توبة وندماً واستغفاراً ورجوعاً إلى الله عز وجل، وإن أقواماً يخافون من المستقبل دون أن يستعدوا لهذا المستقبل.

إن الحزن على الماضي والخوف على المستقبل ما لم يكن لأجل الإعداد والاستعداد بالعمل الصالح فهو ضرب من الوسوسة، وهو ضرب من الأمراض النفسية؛ لأن الذين يخافون من المستقبل، ويحزنون على الماضي، إما أن يكون حزنهم وخوفهم مملوءاً عبقاً، باستعدادٍ لهذا المستقبل بالعمل الصالح، وندماً على ما فرطوا في جنب الله عز وجل، وحرصاً على أن يجعلوا مكان السيئة حسنات، وحرصاً على أن يجعلوا هذه الحسنات ماحية للسيئات، فأولئك حزنهم على ما مضى محمود، وخوفهم على المستقبل ممدوح.

أما الذين يحزنون ويخافون من غير إعداد ولا استعداد، فذاك ضرب من الوسوسة والجنون.

ما مضى فات والمؤمل غيب>>>>>ولك الساعة التي أنت فيها

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلام جميل معناه يدور حول ما نملكه للماضي وللمستقبل، قال في الفوائد : هلمّ إلى الدخول على الله، هلمّ إلى مجاورة رب العباد في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر، بين ما مضى وبين المستقبل.

فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة، إنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما تستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، وليس هذا الامتناع عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك، فالذي مضى تصلحه بالتوبة، وما تستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح فيما مضى، ولا للمستقبل نصب ولا تعب، ولكن الشأن كل الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي وبين المستقبل.

اشتغل بالساعة التي أنت فيها

إن الساعة التي نجلس الآن فيها هي ساعة بين ساعات مضت، وبين ساعات قادمة، فما مضى لا نستطيع أن نفعل فيه شيئاً إلا ما قدمنا، إن كان خيراً سألنا ربنا الثبات عليه، وإن كان تفريطاً استغفرنا وندمنا، وأما المستقبل فلا نملكه، وليس بأيدينا أي شيء منه، يقول ابن القيم رحمه الله: الشأن في عمرك هو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي والمستقبل، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر، نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم.

وحفظ الوقت الحالي أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها، وأنفع لها، وأعظم تحصيناً لسعادتها، وفي هذا يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك.

ثم يقول رحمه الله رحمة واسعة ما معناه: إن الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة في اللحظة التي تعيشها الآن لهي أهون بإذن الله من ندم على معصية فيما مضى، وأهون من خوف ووجل وقلق وهم على معصية تهم بها أو تخطط لفعلها.

قال الغزالي : إن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لما تأت بعد، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد العبد فيها نفسه، فإن لم تأتِ الساعة الثانية، لم يتحسر على فوات الساعة الحاضرة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى.

ومن كلام ابن القيم أيضاً: إن دأب العبد واجتهاده في ساعته ولحظاته في طاعة الله عز وجل، وصبره عن معصيته، واجتهاده في مرضاته، تمر به الأيام بعد، ثم ينسى تعب الطاعة، ويبقى الأجر والثواب، وأما أهل المعصية فمهما تفننوا وفعلوا واجترحوا وأجرموا من الذنوب والمعاصي، فإن لذاتهم الموهومة قد مضت وانقضت وولت، ونسوا تلك اللذة، وبقي إثمها ووزرها وشؤمها.

يقول الحسن البصري رحمه الله عن الدنيا: إنها ثلاثة أيام: أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما الغد فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فهو الذي لك أن تعمل فيه، إنك أيها المسلم بين مخافتين: بين ماض لا تدري ما الله قاض فيه، وبين مستقبل لا تدري ما الله صانع فيه، فاستعن بالله ولا تعجز، وإن من جهل قيمة الوقت، وتهاون بوقته وزمنه وعمره، والله ليأتين عليه موقفان وسيعرف حينئذ أنه قد ضيع، وفرط في أمر ثمين.

إن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنهم سيعرفونها أتم المعرفة، ويدركونها أوفى الإدراك، وذلك ساعة الاحتضار إذا استدبر العبد الدنيا واستقبل الآخرة، يتمنى أن يمنح ولو ساعة من الزمان، يتمنى أن يؤخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده، وليتدارك ما فاته: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100] .. وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].

فالساعة الأولى التي سينقلب كل غبي بالوقت إلى ذكي، وكل جاهل بالوقت إلى عالم، وكل مفرط في الوقت إلى حريص، الساعة الأولى التي سيتحول فيها المفرط إلى حريص على وقته هي ساعة الموت، ولكن لا ينفع الندم ولات حين مندم، وأما الساعة الثانية، والموقف الثاني فذاك في الآخرة، يوم توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار أن يعودوا ولو مرة واحدة إلى حياة التكليف، ليبدءوا عملاً جديداً صالحا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] ويقول عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:36-37] ألم تعيشوا ثلاثين وأربعين وخمسين وسبعين وثمانين: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] وفسر النذير في بعض الآيات بالشيب.

هيهات هيهات! يطلبون أمراً في زمن قد مضى، ويتمنون الخروج من دار هم يجنون ما زرعوا، ويحصدون ما بذروا.

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله>>>>>إذا كنت فارغاً مستريحا

وإذا ما هممت بالقول في الباطل>>>>>فاجعل مكانه تسبيحا

الوقت ومحافظة السلف عليه

قال ابن هبيرة صاحب الإفصاح رحمه الله:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه>>>>>وأراه أهون ما عليك يضيع

كان عمرو بن دينار قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فجزء يدرس فيه الحديث، وجزء ينام فيه، وجزء لصلاته وتهجده، والحال اليوم قد تبدلت، والأمور قد تغيرت، إن في الليل لسهراً، وإن في الليل لجهداً، وإن في الليل لعملاً، ولكن عمل على ما يضيع هذه الحسنات، وجهد فيما يفوت الصالحات، وسعي لأجل دنيا فانية، ولأجل حطام حقير، أما الآخرة فلا ينظر إليها بعين، ولا يرمى لها بسهم إلا من عباده من الأقلين، وما أقلهم:

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً>>>>>>>>>>فقد صاروا أقل من القليل

كان الشافعي رحمه الله يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزء يكتب فيه، وجزء يتهجد فيه، وجزء ينام فيه، أما ليل شبابنا وليلنا وليل كثير من الناس، بل وليل بعض الصالحين هدانا الله وإياهم، فسهر طويل في القيل والقال، والحال والمآل، والكلام عن أحوال أقوام منهم من مضى ومنهم من بقي، وأقوام لا نسأل عنهم يوم القيامة ألبتة، فلا نلبث إلا أن ندرك أن منتصف الليل قد أدركنا، ثم نقوم إلى بيوتنا كسالى، ونأوي إلى فرشنا ضعافاً، الواحد ينقر الوتر نقراً، هذا إن كان فيه بقية من عزم على صلاة الوتر، ثم ينام متأخراً ليدرك ركعة أو ركعتين من الفجر، وربما فاتته صلاة الفجر، بسبب ماذا؟

بفيروس الوقت وهو ضياعه، وهو سهر فيما لا ينفع، وإنها من الأمراض التي يشكو منها كثير من الناس في هذا الزمان.

إنك تلاحظ ضغطاً اجتماعياً غريباً عجيباً على الناس، إذا اعتذر أحدهم عن موعد أو مناسبة بعد العشاء، فربما قال له بعضهم: وهل أنت من العجائز؟! وهل أنت من الشيوخ والكهول حتى تنام بعد العشاء؟! بمعنى: لم لا تسهر؟ لم لا تبقى؟ لم لا تجلس؟ حتى يمضي من الليل أكثره، ثم عد إلى فراشك ضعيفاً هزيلاً كسلاناً، حتى تضيع الفجر أو تضيع تكبيرة الإحرام.

قال أبو سليمان الداراني : لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! وقال ابن عبد القدوس في قصيدته الزينبية:

صرمت حبالك بعد وصلك زينب>>>>>والدهر فيه تصرم وتقلب

فدع الصبا فلقد عداك زمانه>>>>>وازهد فعمرك مر منه الأطيب

ذهب الشباب فما له من عودة>>>>>وأتى المشيب فأين منه المهرب

ضيف ألمّ إليك لم تحفل به>>>>>فترى له أسفاً ودمعاً يسكب

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا>>>>>واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

واخش مناقشة الحساب فإنه>>>>>لا بد يحصى ما جنيت ويكتب

لم ينسه الملكان حين نسيته>>>>>بل أثبتاه وأنت لاه تلعب

كانت سمات أهل العلم وأهل الآخرة، والسلف الصالح المحافظة على الوقت؛ لأن المحافظة على الأوقات من علامات ذوي الهمم القوية العالية، قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه متوضئاً تالياً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنازة، أو منتظراً لصلاة، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل، كنا نرى أنه لا يعرف كيف يذنب ويعصي، ويرتكب جريمة أو فاحشة أو منكراً أو معصية.

أما اليوم فكثير من الناس تجده وقت الصلاة نائماً، ووقت الجد والعلم لاهياً، ووقت الغنيمة غافلاً ساهراً على لهو أو فيلم أو أغنية أو ملهاة، وما أكثر ما يضيع من الخيرات والثواب والحسنات من أوقاتنا وأعمالنا!

كان الحسن يقول: [ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى ما تعمل فيّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك].

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة).

فكم نضيع -يا عباد الله- من نخلات ومن غراس في جنات النعيم؟!

ومن عجب الأيام أنك جالس>>>>>على الأرض في الدنيا وأنت تسير

فسيرك يا هذا كسير سفينة>>>>>بقوم جلوس والقلوب تطير

الإنسان العاقل يحرص على اغتنام عمره إلى النفس الأخير من حياته، قال عيسى بن الهذيل : يا ابن آدم! ليس لما بقي من عمرك ثمن، وهو قريب المعنى من قول سعيد بن جبير : إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفريضة والصلاة، وما يرزقه الله ويفتح الله عليه من ذكره، وللنظر إلى اللحظات الأخيرة، والبقية الباقية من عمر الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة مائة واثنين وثمانين، الذي كان يعرف بأنه كبير القضاة في زمنه، قال القاضي إبراهيم بن الجراح : مرض أبو يوسف فأتيت أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق أبو يوسف، قال للقاضي إبراهيم : يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا؟ قلت: في هذه الحالة -أي: مسألة فقهية وبحث ونقاش وحوار وفائدة، وأنت في هذه الحالة من الإغماء أو في سكرات الموت- قلت: في هذه الحالة؟! قال: لا بأس بذلك، لعله ينجو به ناج.

ثم قال أبو يوسف: يا إبراهيم ! أيهما أفضل في رمي الجمار -أي: في مناسك الحج- أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ فقلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك، قال: أمّا ما كان من الجمار يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت داري، حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله.

أما الإمام شيخ المفسرين والمؤرخين ابن جرير الطبري رحمه الله، فقد كان على فراش الموت وكان قد سمع دعاءً عن جعفر بن محمد ، فاستدعى محبرة وصحيفة، فكتب الدعاء، فقيل له: يا ابن جرير! أفي هذه الحال؟!

فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الموت.

وعن نعيم بن حماد قال: قيل لـابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟

قال: حتى الممات إن شاء الله.

بقية العمر عندي ما لها ثمن>>>>>وإن غداً ليس محسوباً من الزمن

يستدرك المرء فيها كل فائتة>>>>>من الزمان ويمحو السوء بالحسن

المسارعة في الخيرات قبل فوات الأوان

أيها الأحبة: إن ما بقي من أعمارنا فيه خير كثير بإذن الله، إن أحسنا النية، وصدقنا العزيمة في طاعة الله عز وجل، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الواحد منا أن يتمنى الموت لضر نزل به، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إن مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) رواه مسلم، وقوله: (وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) قال في هذا ابن حجر : وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت أو الدعاء بالموت؛ لأن فيه انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة سبب العمل، والعمل يحصّل به العبد زيادة الثواب، ولو لم يكن فيما بقي من العمر إلا زيادة التوحيد، فهو أفضل الأعمال.

ولنستمع لوصية محمد بن يوسف حيث قال: إن استطعت ألا يكون شيء أهم إليك من ساعتك فافعل، فاغتنم هذا العمر قبل فراق الحياة، واغتنم هذا العمر قبل فراق العافية، واغتنم هذا العمر قبل فراق الأمن.

يا رافلاً في الشباب الرحب منتشياً>>>>>من كأسه هل أصاب الرشد نشوان

لا تغترر بشبابٍ رائقٍ نضرٍ>>>>>فكم تقدم قبل الشيب شبَّان

ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم>>>>>يكن لمثلك في اللذات إمعان

هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها>>>>>ما عذر أشيب يستهويه شيطان

كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من الذي يصلي عنك بعد موتك؟! من الذين يصوم عنك بعد موتك؟! من الذي يرضي ربك بعد موتك؟! ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم بقية حياتكم، ويا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟!

وأما الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام عند الكعبة ذات يوم، فقال: يا أيها الناس! أنا جندب الغفاري -هلمّ إلى الأخ الناصح الشفيق- فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحداً أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه، قالوا: بلى، قال: فسفر يوم القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول يوم النشور.

وهنا أقول لإخواني: صوموا يوم تاسوعاء ويوم عاشوراء، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، واغتنموا الأجر، فإن فيه من تكفير الذنوب ما الله به عليم.

قالوا لـأبي ذر : وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول يوم النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء تسكت عنها لموقف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من غيرها، اجعل الدنيا مجلسين، مجلس في طلب الآخرة، ومجلس في طلب الحلال، والثالث يضرك ولا ينفعك فلا ترده، اجعل المال درهمين، درهم تنفقه على عيالك من حله، ودرهم تقدمه لآخرتك، والثالث يضرك ولا ينفعك فتجنبه.

ثم نادى بأعلى صوته، يا أيها الناس! قد قتلكم حرص لا تدركونه أبداً، وإننا لنقول لكل من فتح الله عليه بشيء من المال: لماذا تسوف بالإنفاق والبذل والصدقات؟ فتقول: إذا مت فأخرجوا من تركتي، وافعلوا بها كذا وكذا.

نعم إن الوصية فيها خير ونفع، والوقف على أمور الخير فيه خير، ولكن من الخير -أيضا- أن تعجّل بما تحرص على بذله وفعله، ما الذي يضيرك لو أن المسجد الذي أوصيت ببنائه من تركتك بعد موتك أن يبنى الآن وأنت حي، فتصلي فيه وتتابعه وتعتني به؟

ما الذي يضيرك أن الدعاة الذين أوصيت أن يكفلوا من تركتك بعد موتك أن تكفلهم وأنت حي؟

ما الذي يضيرك أن الغزاة الذين يجهزون بوصيتك من تركتك بعد موتك أن يجهزوا وأنت حي؟

ما الذي يضيرك في هذه الكتب التي أوصيت أن تطبع من تركتك بعد موتك أن تطبع وأنت حي؟

إذا كان عندك مصنع، وتملك أن تجعله يشتغل من الآن، وينتج من الآن، فلماذا تؤخر الإنتاج إلى ما بعد الموت؟

إن كل من صلى واعتكف في مسجد أنت تبنيه، أو استفاد من داعية أنت كفلته، فلك أجره إلى أن تلقى الله عز وجل، فلماذا تسوف؟ وتقول: إذا أنا مت فافعلوا كذا وكذا؟

محاسبة النفس تعين على فعل الخير

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] هذه إشارة إلى محاسبة النفس، أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر.. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ].

كم من شريك جلس وحده ربما أحسن الظن بشريكه أو أساء الظن؟

وكم من شريك أخذ بتلابيب شريكه يحاسبه عن الدرهم والدينار والهللة والريال؟

فيا من عملك جنايته عليك ونفعه لك، هل جلست لتحاسب نفسك؟ هل حاسبت نفسك في أعمالك؟

قال مالك بن دينار : رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم خطمها وألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً، فحق على العبد المؤمن الحازم، ألا يدع محاسبة نفسه.

تمر الليالي والحوادث تنقضي>>>>>كأضغاث أحلام ونحن رقود

وأعجب منها أنها كل ساعة>>>>>تجد بنا سيراً ونحن قعود

الذي يجب علينا في ساعتنا ولحظتنا، وكل حال من أحوالنا ألا نضيع الزمن حزناً على ما مضى، أو خوفاً على ما بقي، بل الواجب أن نجتهد في الساعة؛ لأن الساعة هذه هي قبل حصولها كانت مستقبلاً، وبعد مرورها تصير ماضياً، فإن اجتهدت فيها فإنك قد أخذت بزمام أمرك، وتحكمت في حسنات من عمرك بإذن الله، فالواجب عليك التوبة والرجوع إلى الله، والعودة إلى ما يرضي الله.

المبادرة بالتوبة مسارعة في الخيرات

يظن كثير من الناس أن التوبة واجب من الواجبات الموسعة على التراخي، وليست على الفور، وهذا من الجهل، إذ أن التوبة أمر واجب، لا تسوف التوبة إلى عام هجري جديد، أو إلى حج قادم، أو إلى ما بعد الزواج، أو إلى ما بعد بناء البيت، أو إلى ما بعد كذا، فإن كثيراً من الناس لا يزالون يسوفون والموت أقرب من تسويفهم هذا، قال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

فتأجيل التوبة إصرار، فإن كنت من المتقين، أو من الذين يراد بهم الخير، فلا تصر على ذنب، ولا تأخر التوبة، وبادر بالرجوع والإنابة، قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للمصرين على ما فعلوا وهم يعلمون).

يا أحبابنا! هل يؤتى الناس اليوم من جهلهم بالحلال والحرام؟!

أترى كثيراً من الذين يرتكبون المعاصي، ويقترفون السيئات، ويتلبسون بالشهوات والفواحش والآثام والمنكرات، أتراهم يفعلونها جهلاً بأنها حرام؟ أو جهلاً بأنها لا تجوز؟ أو جهلاً بأنها تسخط الله؟ أو جهلاً بأنها تخالف أمر رسول الله؟!

الجواب: لا. لكنه الإصرار، فهل ترضى أن تكون مصراً على عناد أمر الله؟! هل ترضى أن تكون مصراً على عناد أمر رسول الله؟!

فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم دائرة، فليحذر هؤلاء المصرون أن تقع بهم مصيبة أو تنزل بهم نازلة على إصرارهم وعنادهم.

المسوف يقول: أتوب غداً، أتوب بعد غد، قال سهل بن عبد الله : وهذه دعوى النفس، وكيف يتوب عبدٌ غداً، وغداً لا يملكه؟

كيف تقول: أتوب غداً، وأنت في الغد لا تدرى هل أنت في مغسلة الموت، أم في غرفة الإنعاش، أم في ظلمات المقابر، أم في حال أنت لا تدري بها؟

إن الإنسان لا يعطي إلا مما يملك، فإن كنت تملك الغد فأعط فيه توبة، لكنك لا تملك الغد، بل أنت لا تدري أي نَفَس تدره، وأي نفس تجذبه.

إذاً الذي جعل كثيراً من الناس يسوفون أمر التوبة هو الاستغناء، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] لما استغنوا بالمال والمنصب والجاه أصابهم الطغيان، ولو علموا أن العافية عارية ومردها إلى المرض، وأن الصحة عارية ومردها إلى السقم، وأن العمر عارية ومرده إلى الموت، وأن الجاه والمنصب عارية ومرده إلى الزوال أو العزل أو البعد عنه، فحينئذٍ يعلم العبد ما الذي يضره وما الذي ينفعه.

إن من الناس من يعلق توبته بأمر، ودون هذا الأمر أمور، ودون كل أمر أمر، وهذا ملاحظ عند كثير من المتذبذبين الذين لا يملكون الإرادة، ولا يملكون زمام أنفسهم، والمسوف المسكين يتصور أن يكون للخائض في الدنيا فراغ، وهيهات فما يفرغ من الدنيا إلا من اطّرحها.

فما قضى أحد منها لبانته>>>>>وما انتهى أرب إلا إلى أرب

قال ابن رجب رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما دام يأمن الموت، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجّه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فتجتمع عليه سكرات الموت، وحسرات الفوت، وقد حذر الله عباده من ذلك في كتابه، ليستعدوا للموت قبل نزوله، حيث قال عز وجل: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:54-56].

وقد سمع بعض المحتضرين من الناس وهو يعالج سكرات الموت، يلطم وجهه ويقول: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله! وقال آخر عندما حضرته سكرات الموت: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني، فغاية أمنية الموتى الآن وهم في قبورهم، يتمنون حياة ساعة يستدركون فيها ما فات من توبة وعمل صالح، ونحن وإياكم يا أهل الدنيا نفرط في الحياة، فتذهب الأعمار بالغفلة، ومنا من يقطعها بالمعصية، قال بعض السلف : أصبحتم في أمنية أناس كثير، أي: أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة، ليتوبوا فيها، ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل إلى ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله فيما نظم من نظمه:

شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب>>>>>وضاع وقتك بين اللهو واللعب

وشمس عمرك قد حان الغروب لها>>>>>والفيء في الأفق الشرقي لم يغب

وفاز بالوصل من قد جد وانقشعت>>>>>عن أفقه ظلمات الليل والسحب

كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت>>>>>ورسل ربك قد وافتك في الطلب

فيا أحبابنا! اسألوا أنفسكم كيف مضى وقت الصحابة، وكيف مضى وقت التابعين؟ لقد مر عليهم المغرب والعشاء، والليل والنهار، والظهر والعصر والضحى، والإصباح والمساء، لقد مر عليهم ذلك فكانوا يكابدون الأيام ويجاهدونها، كان السلف يعتبرون اليوم معركة ساخنة حامية، إذا استطاع الواحد منهم أن ينتصر في يومه ذاك، انتهى من يوم مضى وانطوى، واستعد لمعركة يوم جديد، فكم من يوم مضى صرعنا فيه بغفلة؟! وكم من يوم يمر علينا نصرع فيه بالتسويف والإعداد لما لا نسأل عنه، والتفريط فيما نحاسب عليه؟!

قصر الأمل وأهميته في تدارك الأوقات

إن قصر الأمل في الدنيا مما يعين على تدارك الأوقات بإذن الله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه البخاري ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيره، وقال علي بن أبي طالب : [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدكم عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل] رواه البخاري تعليقاً، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف، ورواه ابن المبارك في الزهد.

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم تحت حديث ابن عمر : (كن في الدنيا كأنك غريب) قال: وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة وليست له وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على واحد من حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد الغربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على واحدٍ من هذين الحالين.

تأملوا أحوال كثير من الناس، هل بنوا لأنفسهم في الآخرة شيئاً؟ هل أعدوا لأنفسهم في الآخرة شيئاً يرجونه؟ ربما تجد كثيراً من الخلق قد بنوا لأنفسهم في هذه الدنيا قصوراً ودوراً ومزارعاً وضيعات وبساتين، ولكنهم ضيعوا أنفسهم في دار الخلود الأبدي السرمدي، قال ابن القيم :

فحيا على جنات عدن فإنها>>>>>منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى>>>>>نعود إلى أوطاننا ونسلّم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى>>>>>وشطَّت به أوطاره فهو مغرم

وأي اغتراب فوق غربتنا التي>>>>>لها أضحت الأعداء فينا تحكم

قال الحسن : اجتمع ثلاثة من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أملك؟ قال: ما أتى علي شهرٌ إلا ظننت أنني أموت في هذا الشهر، فقال صاحباه: إن هذا لأمل طويل، فقال للآخر: فما أملك؟ قال: ما تمر علي جمعة إلا وظننت أني أموت فيها، فقال: إن أملك لطويل، فقيل للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه في يد غيره؟! رواه ابن المبارك في الزهد .

نعم أيها الأحبة: هل منا من كتب الآن وصيته تحت وسادة رأسه؟

هل منا من تخيل أنه يلبس ثوباً فلا يخلعه؟ ويدخل داراً لا يخرج منها؟ ويركب دابة لا ينزل عنها؟ هل منا من يتخيل أن الموت قد يفاجئه في أي لحظة؟

الواقع -أيها الأحبة- أننا لا نفكر بهذا أبداً، بل ربما نسمع المواعظ، ونتكلم بالمواعظ، وقلوب تعرف، وألسنة تصف، ولكن الأفعال تخالف، القليل من يستعد لهذا، وأكبر دليل أن الكثير منا عنده من الذنوب ما لم يتب منها، وعليه من الحقوق ما لم يردها، وعنده من التفريط ما لا يصلح به حاله.

فكيف -يا أخي الكريم- تعد نفسك من الأخيار، وتعد نفسك من أهل الآخرة، وأنت لا تزال متعلقاً متشبثاً بهذه الدنيا، وعن الآخرة معرضاً؟

كان أويس القرني إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي، فيبشر بالجنة أو بالنار، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان، حب المال وطول العمر) رواه البخاري .

وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنّا أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، إنما المذموم الإسراف والاستغفال في طول الأمل، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك فهو على خير، قال ابن الجوزي : الأمل مذموم للناس إلا العلماء، فلولا أملهم لما صنفوا وما ألفوا.

إنا لنفرح بالأيام نقطعها>>>>>وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً>>>>>فإنما الربح والخسران في العمل

قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أملي ولم يزد فيه عملي].

أيها الأحبة: المبادرة المبادرة! عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس، حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه الإمام البخاري رحمه الله.

أيها الأحبة في الله: كم يمضي ويمر علينا من الأيام والشهور والأعوام، والواحد قبل خمس سنوات أو أكثر قد عزم على أن يفعل كذا ولم يفعل، عزم على أن يقلع عن كذا ولم يقلع، وحرص على أن يرد لصاحبه كذا وكذا فلم يرد.

فإلى متى؟ وحتى متى؟

خل ادكار الأربع>>>>>والمنزل المرتبع

والضاعن المودع>>>>>وعد عنه ودع

واندب زماناً سلفا>>>>>سودت فيه الصحفا

ولم تزل معتكفاً>>>>>على القبيح الشنع

إلام تسهو وتني>>>>>ومعظم العمر فني

فيما يضر المقتني>>>>>ولست بالمرتدع

يا أحبابنا! ويا إخواننا! إذا رأينا جنازة، فهل تخيلنا أننا ذات يوم على مثلها نحمل؟ وإذا رأينا نعشاً هل نتخيل أننا على مثله نغسل؟ وإذا رأينا عجوزاً قد احدودب ظهره وابيض عارضاه، وقد ذبل خداه، وضمر جنبه من الضعف والسقم، هل تخيلت نفسك يا بن العشرين والثلاثين والأربعين؟! هل تخيلت إن غفل عنك الموت، أو إن أخرتك المنية؟!

هل تخيلت نفسك وأنت تدب على عصا قد احدودب ظهرك؟

الله المستعان! انظر إلى أقوام قد جمعوا وجمعوا، ثم أصبحوا ينظرون إلى دنيا ما استطاعوا أن يتلذذوا منها بشيء في أي حال من الأحوال، فو الله -أيها الأحبة- إن هذه الدنيا ليست بشيء، والعاقل من تأمل فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأمضيت).

مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً>>>>>وأعقبه يوم عليك جديد

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة>>>>>فثنِّ بإحسان وأنت حميد

فيومك إن أعتبته عاد نفعه>>>>>عليك وماضي الأمس ليس يعود

ولا تُرجِ فعل الخير يوماً إلى غدٍ>>>>>لعل غداً يأتي وأنت فقيد

فيا أحبابنا! إنها نصيحة ونحن في استقبال عام جديد، أن ننتبه ونستعد، وألا يكون مغيب الشمس أمراً عادياً، إن الذي تصارعه نفسه إذا غابت الشمس وقف وقفة حرقة كيف غاب الشفق؟!

وهل أدركتُ من هذا اليوم أمراً جليلاً في مرضاة الله عز وجل؟

إذا صلى الجمعة وغابت آخر ساعة من يوم الجمعة، وهو جالس في مصلاه يتحرى ساعة الإجابة، وقلبه يتحرك كيف مضى من عمره أسبوع، وهل قضى فيه شيئاً يرضي الله عز وجل؟ إذا هل هلال شهر ليعلن شهراً منصرماً ماضياً، ويعلن شهراً جديداً قادماً، تحرك قلبه كيف مضى الشهر؟ أليست هذه المفكرة تنزع منها كل يوم ورقة، كأنها ورقة تنزع من عمرك، وكأنها صفحة تنزع من عمرك، وكأنها مرحلة تنزع من عمرك؟

إنا لنفرح بالأيام نقطعها>>>>>وكل يوم مضى يدني من الأجل

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا في ختام هذا العام المنصرم ممن ختم له بالتوبة والمغفرة والرجوع والإنابة، فنسأله عز وجل أن يجعلنا ممن استعد لهذا العام القادم بنية صالحة، فإن من الناس من استعد بالمعصية، واستعد بالسفر للخارج، واستعد أن يفعل كذا وأن يعصي الله بكذا، وأن يمشي إلى الحرام، وأن ينفق في الحرام، وأن يفعل الحرام، ومن الناس من استعد لحفظ كتاب الله وسنة نبيه، والدعوة إلى سبيله، والسعي في مرضاته، والشفاعة لحاجات خلقه، والسعي فيما يرضي مولاه عز وجل عنه.

فالعاقل من استعد بخير، والجاهل من استعد بشر، وكلٌ سيدرك ما أمّل، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فاستعدوا بخير، وظنوا بالله خيراً، أسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يهدي ولاة أمورنا، وأن يجمع شملنا وحكامنا ودعاتنا وعلماءنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، اللهم أصلح أحوالنا واهد شبابنا واستر نساءنا، اللهم من أراد بالشباب والنساء فتنةً وضلالة واختلاطاً، اللهم من أراد بالعلماء مكيدة، وأراد بالولاة فتنة، اللهم اكفناه بما شئت، إنك أنت السميع العليم يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الماضي والمستقبل للشيخ : سعد البريك

https://audio.islamweb.net