إسلام ويب

من علامات المبتدعة أنهم إذا استحسنوا شيئاً جعلوه ديناً لا ينبغي تركه أو معارضته، وقد أظهروا في العصور المتأخرة بدعة التعصب المذهبي، فحسنوها وزينوها بدعوى الحرص على الدين، لكنها أدت إلى تفرق المسلمين وتخطئة المخالفين، بل وسفك دمائهم، نسأل الله عز وجل الله العافية!

شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]

أما بعد:

فقد كان إحساس الصحابة بالبدعة ونفورهم منها فوق كل تصور، وعندما نعرض بعض النماذج المبتدعة في زمن الصحابة نحن الآن نراها من المستحبات، وكانت عندهم من البدع؛ لأن الأمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا ويح لبيد ! كيف قال:

ذهب الذين يعاش في أكنافهموبقيت في خلف كجلد الأجرب

فالذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا النور، وعاش بعده الزمان الغدر يكون من أشد الناس غربة؛ لذلك فمحنة الصحابة في المعارك التي حدثت بينهم كانت شديدة، كان الواحد منهم مع أخيه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إخوة متحابين، لا مشاكل بينهم على الإطلاق، ثم إذا بالزمان يدور، فالأخ الذي كان يصلي بجانب أخيه والقدم بالقدم .. والكتف بالكتف .. وربما كان يخرج اللقمة من فمه ليعطيها أخاه، فأصبح هذا يقاتل هذا وصارت حرب نفسية، من تكون أنت؟ وكانت عائشة نفسها تخوض بينهم، وهذا من أبلغ الأقوال وأعظمها حين قالت: يا ويح لبيد ! -قاتله الله- كلمة تعجب كيف استطاع أن يقول:

ذهب الذين يعاش في أكنافهموبقيت في خلف كجلد الأجرب

تتعجب عائشة من هذا الرجل، ومروان حدثه عروة فقال: يا ويح عائشة ! لو عاشت زماننا قال هشام راوي الحديث عن أبيه عروة : يا ويح ! عروة كيف لو عاش زماننا؟! ولا زال كل راوٍ يروي الحديث ويقول: يا ويح فلان كيف لو عاش زماننا؟!

وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون سنوات خداعة، يخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة، قالوا: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل الفاسق يتكلم في أمر العامة) كل هذا حدث.

الناصحون كذبة الآن! إذا قلت له: هذا لا يجوز .. هذا حرام، لا يصدق، والأفَّاك الكذَّاب الذي نعلم من نفاقه الظاهر أنه منافق يعتبر ناصحاً، والذين يصدقونه يعلمون أنه منافق، وهذه مشكلة! سنون خداعة!

فالبدعة من أكثر ما يواجه المسلمين وأخطرها، ومما يدل على خطورة البدعة أنه يفعلها الغبي ويظن أنها سنة، وهي كما قال القائل:

احذر عـدوك مـرةواحذر صديقك ألف مرة

فلربما انقلب الصديقفكان أعلم بالمضرة

لا يضرك إلا الذي أعطيته بطنك وكرشك، ولو غضب عليك أصبحت مفضوحاً، ومن المعلوم أن عدوك أنت محتاط منه دائماً، أما صديقك فلربما انقلب وهو عالم بالمضرة، فالمبتدع يلدغ في لباس الدين.

فمنظر المبتدع ما غر الصحابة الأوائل؛ لأنهم كانوا فقهاء، والمبتدع اليوم تراه يخرج ماله، وعنده بر وسخاء ليدافع عن البدعة، فعندما تقول لأبنائك احذروا هذا الرجل، يقوم أحدهم فيقول: لا هذا قائم .. ومتدين .. ومصلٍ .. ومتصدق بماله لماذا تنتقده اتق الله؟ ماذا تريدون أكثر من هذا؟ هذا عابد زاهد! هذا ما كان يغر الصحابة الأوائل؛ لأنهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم العلم تلقي الرجل الواعي.

استدار الزمان فكان أول من قال بالبدعة في القدر -وهي بدعة قبيحة جداً، والحمد لله الآن انقرضت هذه البدعة من المسلمين- معبد الجهني كان يقول: إن الأمر أُنف، وإن الله لا يعلم بالحدث إلا بعد وقوعه. هذا ملخص بدعته، أن علم الله ليس متقدماً على أفعال العباد، فإن الله عز وجل يكافئ بالفعل، فإذا عصاه شخص لا يعلم أنه سيعصيه إلا بعد وقوع الفعل من الفاعل، هذا هو معنى: الأمر أُنف.

معبد قرأ القرآن وتعلم العلم، أي: نزل إلى قعره، وكان زاهداً عابداً.

يقول يحيى بن يعمر : خرجت أنا حميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -وكان من أهل البصرة، ومعبد الجهني كان بصرياً، وهذه البدعة خرجت من البصرة، في آخر زمن الصحابة- قال: (فخرجنا حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول معبد في القدر؟ قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، قلت: أبا عبد الرحمن -وهذه كنية عبد الله بن عمر - إنه ظهر في زماننا أناس قرءوا القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم ما ذكر وأنهم يقولون: لا قدر وأن الأمر أُنف، فقال عبد الله بن عمر : إذا لقيتهم فأخبرهم أنني منهم براء، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر ، لو أن أحدهم جاء بأُحد ذهباً ما قبل الله منه إلا أن يؤمن بالقدر). ثم استأنف وساق حديث الإيمان والإحسان والإسلام.

هذا عبد الله بن عمر الفقيه لا يضره أن يقال: زاهد عابد تقي ورع ليس لهذا علاقة، هذا شيء واتباع النبي صلى الله عليه وسلم شيء آخر، عبد الله بن عمر تلقى هذا من النبي صلى الله عليه وسلم.

علامات المبتدعة

المبتدعة من أكثر الناس عبادة

لما جاء ذو الخويصرة والرسول عليه الصلاة والسلام يقسم غنائم حنين، قال: (يا محمد ! اعدل، فإنك لم تعدل -فهذه الكلمة هزت الصحابة هزاً فوالله إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ويلك! فمن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟!! وقال له: خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) .

هكذا في الحديث المشهور، وفي ضبط آخر: (خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل) وهذا الضبط واضح، أي: إن لم أعدل خبت وخسرت، و(خبتَ) أي: أنت، (وخسرتَ) إذا لم أعدل أنا.

إذاً: ما علاقته بالرجل؟

قال العلماء: لأنه إذا ظن أن نبيه لا يعدل فقد خاب وخسر بسوء ظنه في النبي صلى الله عليه وسلم، وأن سوء الظن بالنبي كفر، فهو خاب وخسر إذ ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل فقد خاب وخسر.

فقالوا: (يا رسول الله! أفلا نقتله؟ فقال: دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من صلبه- أقوام، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام لـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد والعشرة المبشرين وغيرهم.

يا أبا بكر ! مع أنك من أعدل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، سيأتي عليك زمان تحتقر صلاتك بجانب هذا المبتدع، إذا كان أبو بكر يتصدق بماله كله فكيف ينفق المبتدع؟!! إذا كان أبو بكر يقرأ القرآن وهو يبكي حتى لا يتبين الناس قراءته من البكاء، فماذا يفعل المبتدع؟!!

لكن الحال لمثل هؤلاء العباد أنه يصلي ويصوم وهو مبتدع، ويخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ليته يخرج مشياً على قدمه، لكن يخرج بسرعة السهم إذا خرج من كبد القوس.

لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا صدقته تلك إذ جاء بالشبهة، لأنه أصبح من أسرع الناس خروجاً من دينه، إذاً: كثرة العبادة ليس لها علاقة بالاستقامة على الهدى والدين.

المبتدعة يعتقدون البدع ديناً

المبتدع يعتقد أن البدعة دين؛ لذلك فنحن نحجر على الطرق الصوفية بكل قوة، فهي ضاربة في ظهور المسلمين منذ ظهرت الدولة الفاطمية، ... إنهم يتكئون على هؤلاء المخرفين في تحقيق مآربهم بالشبه التي لا يعتمد عليها إطلاقاً، دعوه يتكلم، إن المجلة هذه تستمر، وهي تحرِّف عقائد المسلمين، وتستهدف الأخيار الأبرار من المسلمين بقصد الطعن في ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب ، شيخ الإسلام الذي قال للعلماء عندما ناظروه أمام السلطان قال: من لكم في وقت الشدة غيري؟ وقال: أنبئوني من يقول هذا الكلام، مجرد أنه قال هذا مدحاً لنفسه لا مانع أن يذكر من محاسنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي) وكان يقول ويقول، وقوله الحق، فقد يضطر الإنسان أن يقول لمن فعله أمام موجات التضليل للجماهير. الخيرة الأبرار على صفحات الصحف والمجلات، هذا من المحيط بنا مع شدة إنكاره، حتى وإن لم يستجب هذا الإنسان لا بد من إنكاره معذرة إلى الله تبارك وتعالى، لذلك نقاوم كل بدعة، ونحاول أن نرسخ هذا الشعور عند المسلمين، أن البدع تفعل أمامه ولا يشعرون بمصابهم في فقد السنن الحقيقية، كيف يعرف أن هذه بدعة وهو جاهل بالسنة؟!!

لذلك لا بد من تعليم الناس خير الهدي، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تنفيرهم من البدع.

البدعة قرينة الكفر وهي البوابة للخروج من الإسلام.

الجهم بن صفوان ما خرج من الدين إلا ببدعة، والجعد بن درهم ما خرج من الدين إلا ببدعة، وذو الخويصرة ما خرج من الدين إلا ببدعة.

فالمطلوب تعليم الناس السنة والصبر على تعليمهم، فتعليمهم السنن من أعظم القربات إلى الله، أعظم من صلاة النافلة، وأعظم من قيام الليل وصيام النهار والتصدق بكل المال.

لذلك صبر الإمام أحمد بن حنبل على مر الجلد وظل سنتين والأغلال في رجله، فها هو يذكر أكثر مما يذكر آباؤنا وأمهاتنا، نترحم ونترضى عليه أكثر من آبائنا وأمهاتنا، جعله الله لسان الصدق: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] .

لذلك الإنسان عندما يتعرض للإرهاق والتعذيب والإهانة يرتفع قدره.

الإمام مالك يضرب ثلاثمائة جلدة حتى خلعت كتفه؛ لأنه أبى أن يفتي بإيقاع طلاق المكره، خلافاً لـأبي جعفر المنصور والي المدينة والذي كان يقول: إن طلاق المكره يقع، وكان الجلاد يجلد مالك حتى تنخلع كتفه، وهو صابر ولا يبدِّل ولا يداهن.

وكذلك في شأن الإمام أحمد ، قال علي بن المديني رحمه الله: وقى الله الأمة من الكفر مرتين: بـأبي بكر يوم الردة، وبـأحمد بن حنبل يوم الفتنة. ولذلك الإمام أحمد لقبوه بالصديق الثاني، فالصديق الأول هو أبو بكر ، والصديق الثاني هو أحمد بن حنبل ؛ لأنه ثبت في محنة يشيب لها رأس الولدان.

أمير المؤمنين نفسه المعتصم يقول له: (يا أحمد ! قلها، يا أحمد ! أريد أن أرحمك، فقال: يا أمير المؤمنين! أعطني سنداً من كتاب الله أو من سنة رسول الله أقول به).

ويدخل عليه عمه، فيقول: (قلها يا أحمد ! قلها يا أحمد ! كما قالها غيرك، قلها تقية، انج بنفسك، فيقول: يا عم! عرضت نفسي على السوط وعلى النار، فوجدتني لا أتحمل النار).

عالم أمين على عقائد الخلق، لا بد أن يشعر بها ويتحمل الأذى في سبيلها، ولولا أن العلماء صبروا ما وصلك دين، فلا تتصور أن ما وصل إليك من الدين وصل بسهولة، والله ما وصلك إلا على دماء أناس وأشلائهم وشردوا من ديارهم، وإن لم نقم به كما قاموا فسيبدل الله خيراً منا يبلغون كلمة الله، والذي ينحاز إلى جنب الله يحفظه.

الوقوف أمام البدع واجب ضروري

لنكن صفاً واحداً في وجه البدع، فالدعوة أمر واجب، والوقوف في مواجهة المبتدعين في هذا البلد وفي غيره أولى من الوقوف في وجه اليهود، فهؤلاء اليهود أنت تعرفهم، وهؤلاء المبتدعة يقولون: قال الله .. وقال رسوله ويلبسون على الخلق، فهم أخطر على البلد من اليهود، والصوفية يعتقدون شيئاً خطيراً يقولون: لا فائدة من العمل، وقد تبين مقعده من الجنة ومقعده من النار.

إذاً: نحن لا قيمة لأعمالنا، وقد جاء في الحديث الصحيح: (أن الله لما خلق آدم مسح على ظهره؛ فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، قال: هؤلاء إلى الجنة برحمتي، وهؤلاء إلى النار بعدلي) يقولون: إن الله قبض القبضة وقضى هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار انتهى الأمر وأراني من أهل السعادة، ويقولون: الآن لا فائدة من العمل.

يجلسون يشربون الحشيش ويسمرون عليها ويرقصون طوال الليل، أحد أهل البدع قال: -وحدثنا عنهم شخص منهم- يقول: من قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين غفرت ذنوبه، وإن ترك الصلاة، حتى تبعه أناس كثيرون، فهذا الرجل يريد أن يدخل الجنة بالمجان، وهو جالس لا يتصدق ولا يقوم الليل، لماذا لا تصلي؟ سوف يدخل الجنة، هذه الدعوة قابلت نفوساً خبيثة فاستقرت على الخبث.

يا جماعة! الرجل أراد الولد ولم يتزوج، يقول هو: سوف نخلف أبناءً هكذا، قالوا: هو لم يكن يتصور أن يأتي إلا بامرأة؟ لا، لو أن الله تعالى قدر له الولد سيعطيه الولد من غير امرأة، هي نفس دعوى: لو أن الله سبحانه وتعالى قدر عليه دخول الجنة سوف يدخلها بلا عمل، فلماذا يأكل إذاً؟ لو أن ربنا كتب له الحياة فإنه سوف يعيش من غير أكل! هل سوف يعيش؟ لماذا يأكل إذن؟ هذه هي الصورة نفسها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي بن أبي طالب والحديث في الصحيحين: (ما من نفس منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار) قال رجل في بعض الروايات عن سراقة بن مالك : (قالوا: أفنترك العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم تلا هذه الآيات -: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]) .

التيسير لليسرى للمسلم إعطاء وتقوى وعمل، وهذا سبب يبذل، (فأما من أعطى واتقى) اسمع الكلام.

فكل شيء يؤدي إلى الجنة لا بد له من عمل، والصحابة فهموا ذلك كما قال سراقة بن مالك بعدما سمع الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم: (فلا أجدني أشد عملاً مني الآن) الآن الجماهير عندما تسمع هذه الآيات تركن، لماذا خالفوا الصحابة؟ لأنهم لا يحفظون كتاب الله.

والإيمان بالقضاء والقدر لا بد أن يكون مجملاً، والتفصيل فيه يضل العبد على طول؛ لأن حكمة الله لا تستطيع أن تصل إلى فهمها، ولا تعرف لماذا أشقى الله العلماء وعذبهم وأراح الأشقياء الكفرة؟ الذي يدل على الله أولى الناس بالسعادة، وأولى الناس بأن تكون الدنيا تحت قدمه. فما باله شقى.

ومن الدليل على القضاء وحكمهبئوس التقي وخدعة الأحمق

هذا من الدليل على القضاء، حار اللبيب في القضاء والقدر، لذلك لا يكون القضاء والقدر إلا مجملاً، إياك أن تفصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا ذكر القدر فأمسكوا) لأنك لا تستطيع أن تصل إلى حل.

فهؤلاء الذين يعترضون على الله يقولون: إذا كان الله كتب عليَّ المعصية فلماذا يعذبني؟ ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الله ظالم! ويجري هذا الفكر على ألسنة الجماهير، بسبب واحد خبيث لا يعمل ولا يعبد الله ومنحرف عن السنن، يقاوم أهل السنة في بلده، ويرى نفسه آمناً مطمئناً إطلاقاً لا يتصور أنه ممكن يقبض عليه أبداً.

لا بد من مقاومة البدع، وأن نعلم الناس السنن؛ حتى يقفوا في وجه المبتدعة، إننا خربنا كثيراً جداً في ديننا، الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقاومون البدعة ولو كانت أدق من سن الإبرة بكل علم، وهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، مثل قصة عبد الله بن مسعود عندما أنكر على الذين يسبحون بالحصى وغيرها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

للمبتدعة اليد الطولى في ابتلاء العلماء والدعاة

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

روى الدارمي في سننه بسند صحيح: عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه قال: ( كنا جلوساً بباب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة -بعد طلوع الفجر-، فبينما نحن جلوس إذ جاء أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج أبو عبد الرحمن قلنا: لا. ثم قعد، حتى خرج ابن مسعود فلما خرج اكتتفناه... فقال أبو موسى : أبا عبد الرحمن! لقد رأيت في المسجد شيئاً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حلقاً حلقاً، يقول واحد منهم: سبحوا مائة، فيأخذون مائة حصاة، ثم يقولون: هللوا مائة، فيهللون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فقال عبد الله بن مسعود : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وأنا ضامن لهم، ثم رجع إلى بيته فتلثم ودخل عليهم، فإذا به كما قال أبو موسى الأشعري ، يراهم حلقاً ... فقال: لقد سبقتم أصحاب محمد علماً، فكشف عن وجهه وقال: أنا عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تفعلون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن ! نسبِّح، قال: تفعلون شيئاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن ! والله ما نريد إلا الخير، قال: كم من مريد للخير لا يبلغه، إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا: (أن أناساً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) وأيم الله! لعل أكثركم منهم، فوالله إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قال راوي الحديث: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج، كانوا يقاتلون علي بن أبي طالب والصحابة، هؤلاء الذين يذكرون الله الآن على المسبحة، إنها كانت في رأي عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري بدعة، -يعني: ضلالة- ونحن نراها مستحبة.

انظر إلى هذا التباين! هؤلاء الصحابة الذين عاينوا الوحي، ونزل عليهم، وسمعوا بلسان النبي صلى الله عليه وسلم الدين، يرونه بدعة، وبيننا وبينهم ألف وأربعمائة عام ونراها سنة وقربة، كان الصحابة يدورون بين السنة والبدعة، ونحن ندور بين بدعة وردة، لا نقيس أنفسنا بأهل المعاصي، ونحن أمرنا أن نقيس أنفسنا بأهل التقوى.

هذه المحنة التي عانى المسلمون منها، فأنا أطالبكم أن تقرءوا سير العلماء العاملين الذين كان لهم لسان صدق في هذه الأمة، ترى عناوين في ترجمة: اسمه .. كنيته .. أبوه .. أمه .. طلبه للعلم .. شيوخه .. تلاميذه .. تقواه .. ورعه .. محنته. ويجب أن ترى هذا العنوان (محنته) لأن كل عالم امتحن وابتلي، نظرت في أغلب تراجم العلماء فوجدت أن سبب امتحانهم هم المبتدعة، حاربوا علماء السنة، والبدعة لها أثر في تفتيت لحم المسلمين على مر الأعصار، وهل التتار قتلوا مليون وثمانمائة ألف مسلم في بغداد إلا بسبب البدعة؟ من الذي أدخل هولاكو بغداد؟ أليس ابن العلقمي الرافضي؟ والرافضي هو الشيعي الغالي -الذين هم في إيران الآن- أسأل الله عز وجل أن يقطع علاقتنا بهذا البلد إلى يوم يبعثون، يريدون أن يدخلوا المراكز الشيعية في البلد، هذا حصل في السودان ويريدون أن يدعوا هنا، إنهم يكفروننا والخميني يفتي بكفر أهل السنة والجماعة، وهذا موجود في كتبهم.

وابن العلقمي الرافضي هو الذي كاتب هولاكو ، وهو الذي يفتل الحبل على الغارب لخليفة المسلمين ويهدده ويتوعده، وقال له: إن هولاكو لا يريد احتلال بغداد، إنما يريد أن يدخل السوق، وجعله يترك الحبل على الغارب حتى لان الخليفة، ولم يستعد الاستعداد الكامل، ثم ماذا فعل ابن العلقمي ؟ له زوجة وأولاد عمه وأولاد خاله، وكل رجل له شوكة في البلد قتلهم وذهبوا جميعاً، ما ترك منهم أحداً، حتى ضمن أنه ليس في بغداد رجل له شوكة دخل وقتلهم جميعاً، وما استفاد ابن العلقمي شيئاً، ما أخذ وزارة ولا منصباً، وبعد المصيبة بثلاثة أشهر كل الذي ضمنه أنه لم يقتل في جملة من قتل، مليون وثمانمائة ألف ذهبوا بسبب مبتدع رافضي يكره السنة.

نحن أشد كراهية لهؤلاء من اليهود -وأنا والله لست مبالغاً- هذه كتبهم وهذا كلامهم، يكفرون أهل السنة، فمن أراد أن يعرف فليقرأ الكتب فهي موجودة ومطبوعة، أهل البدعة ماذا فعلوا بالمسلمين في بغداد؟!! ونحن نؤذى بسبب المبتدعة أيضاً الذين يتهموننا بالإرهاب والتطرف والتشدد، من الذي يتهمنا بذلك؟! هم المبتدعة أنفسهم، يقولون: هؤلاء لا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فهم يكرهون النبي، ويقيمون علينا الدنيا، الإرهابيون هذا اللقب منهم هم، نحن بحاجة إلى قراءة التاريخ مرة أخرى، وبحاجة أن ننظر إلى ديننا نظرة متأنية كلقمة العيش تماماً، لماذا لا نهتم بالدين مثلما نهتم بلقمة العيش، إن هذا الدين ليس دين أحد، إن اليهود عددهم خمسة عشر مليون يهودي في العالم كله يملكون التكنولوجيا والتجارة والزراعة وكل شيء، إذا ثار واحد منهم ثارت له كل الأرض: وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6] هذه هي دولتهم، إذا غضبوا غضبت لهم كل ملوك الأرض، ومعهم مقاليد الدنيا كلها الآن، إنهم يتحركون للعقيدة، لما جاء وزيرهم هنا للعزاء وأصر أن يمشي إلى المنصة ما كلفه شيئاً وكلفنا إجراءات أمن باهضة، وتم إخلاء المباني كلها عمارات عشرات الأدوار ويمشي تحت العمارات لأن التوراة تحرم عليه الركوب يوم السبت ويلبس النظارة السوداء ويمشي؛ لأنه لا يخالف تعاليم التوراة، ولا يصفه أحد لا في صحفنا ولا في صحف غيرنا بالتطرف والإرهاب، لماذا يوصف المسلمون بالتطرف؟!!

إن المسلمين يقتلون في البوسنة وهم المتطرفون أيضاً، هذا لقب يراد به المسلمون في العالم فقط.. لماذا نحن متطرفون؟!! اليهود الذين قتلوا ثلاثمائة شخص في المسجد الأقصى بماذا يوصفون؟ يهودي رجل متنكر، ارتكب مذبحة الأقصى منذ أربع سنين في المسجد الأقصى أخذوه على الأعناق إلى السجن وما وصفه أحد بالتطرف.

إن القضية خطيرة، وإننا بحاجة في أن ننظر في أحوالنا نظرة تمعن .. بحاجة أن نجدد الولاء لديننا، ولا بد أن نقف في وجه المبتدعة وقفة قوية.

إن البدعة في منتهى الخطورة على الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لفظها باللفظ الكلي الواضح الذي ما دخله تخصيص قط (كل بدعة ضلالة) وهذه الجملة من أفضل الجمل فلفظة (كل) تفيد الشمول والعموم، والتي ليس لها مخصص وليس فيها زجر، فهي جملة كلية مثبتة، لنأخذ بها للدلالة: (كل بدعة ضلالة).

وهذا القول كقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) فكما أنه لم يدخل على كل مسكر خمر أي تخصيص، فكذلك ما دخل على (كل بدعة ضلالة) أي تخصيص.

إذا كان أحدنا قرأ في كتب العلماء أن البدعة خمسة أقسام، منها: بدعة حسنة فهذا خطأ، حتى وإن قاله عالم جليل كبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكم على كل من يتكلم، الذي يقول: هناك بدعة حسنة، كأنما يقول: لا يا رسول الله! ليس كل بدعة ضلالة، بدليل وجود البدعة الحسنة، هذا معنى الكلام، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى عندنا بالقبول من كلام أي إنسان مهما كان جليلاً.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا ..

خطر بدعة التعصب المذهبي

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن جهاد المبتدعة والذب عن حياض الدين أفضل عند الله عز وجل من جهاد الكفار.

فالبدعة لها الأثر الكبير في ترسيخ معنى التعصب عند الناس، وهذا هو الذي يحز في النفس أن محنة جميع علماء المسلمين كانت بسبب المبتدعة.

إنها بدعة التعصب المذهبي، فكل واحد يقول: أنا مذهبي حنفي .. وأنا مذهبي شافعي .. وأنا مذهبي حنبلي .. وأنا مذهبي مالكي .. هذه البدعة كاد العوام أن يقتلوا إماماً جليلاً شهيراً بسببها، وهو الإمام ابن جرير الطبري صاحب التفسير، الذي قال فيه بعض العلماء: لو رحل رجل إلى الصين ماشياً ليحصل على تفسير ابن جرير لكان كثيراً، فسر فيه كلام الله عز وجل بحدثنا وأخبرنا .. وأبان عن وجوه القراءات الصحيحة ووجوه القراءات المختلفة، وخدم كتاب الله العزيز خدمة نسأل الله عز وجل أن ينير قبره بها.

وما من رجل جاء بعده فصنف في التفسير إلا مشى على منواله، له مذهب فقهي مثل الشافعي وأحمد اسمه: المذهب الجريري لكنه اندثر؛ لأن أصحابه لم يقوموا بتأسيس مذهبه وتهذيبه كما قام أصحاب الأئمة الأربعة، هذا الإمام الكبير العلم صنف كتاباً جليلاً وإن كان صغيراً، مع أن المصنفات تقاس بالكيف لا بالكم، الكتاب كان كذلك، ذكر فيه اختلاف الفقهاء أبي حنيفة ومالك والشافعي ، وكانت بغداد آنذاك هي حاضرة الحنابلة، وكل الموجودين في بغداد حنابلة، فبينما هو يملي على أصحابه في المسجد الكبير في بغداد، إذ قال له رجل: لماذا لم تذكر أحمد من جملة الفقهاء؟ فقال له: وأحمد فقيه؟ فما أنهى هذه الكلمة حتى قاموا عليه بالحجارة جميعاً، فخرج الرجل هارباً إلى باب داره ونادى بإغلاق الباب وراءه، لكنهم ظلوا يرجمون الباب بالحجارة حتى ردموه، هذا الرجل الذي رمى ابن جرير بحجر هل يعرف شيئاً عن المذهب الحنبلي؟

لا يعرف شيئاً عن المذهب الحنبلي، أبوه كان حنبلياً، وجده كان حنبلياً، وهو تربى حنبلياً.

التعصب للمذهب دون معرفته لدى العامة

أغلب الجماهير الآن التي تتمذهب بمذهب معين لا تعرف شيئاً حتى عن صاحب المذهب، فبعض الناس يتصور أن الإمام مالك بن أنس ، لأجل أن اسمه مالك بن أنس ، هل سيكون في الدنيا أحد اسمه: مالك بن أنس ؟ إذا هو أبوه، فيقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما! لا يعرف إمام المذهب ولا أبوه من هو؟

قابلت مجموعة من أصحاب المذهب المالكي، وقام أحدهم معترضاً عليَّ بقوله: إن الكلام هذا الذي نسمعه إن هذا حديث ضعيف وهذا حديث صحيح لا نعرفه، لأن المشهور أن المتأخرين خلطوا المذهب بخلاف المتقدمين، فإنهم كانوا يعرفون الحديث الصحيح من الحديث ضعيف، الحديث هو: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) هذا الحديث ضعيف فهو منكر من جهة معناه، قام وقال لي: كيف تقول هذا الكلام؟ هو يعرف ابن عبد البر ، الذي إذا ذكر المذهب المالكي فهو شمس في رابعة النهار، لقد خدم المذهب المالكي وموطأ مالك خدمة جليلة ما فعلها قبله أحد ولا بعده، صنف كتابين من أكمل الكتب وأطولها على موطأ مالك : الأول التمهيد، والثاني الاستذكار، وتخيل لو بقي ككتب الإمام ابن عبد البر التي يخدم فيها المذهب المالكي، فواحد متخصص في الفقه المالكي ويظل في الفقه المالكي وهو الإمام ابن عبد البر ، ومحسوب على المذهب المالكي، ثم جاء بعده القاضي عبد الوهاب أشهر العلماء المحققين؟ بعد ابن عبد البر وهو الذي تصدى لـأبي العلاء المعري صاحب المقالة الكافرة:

يد بخمس مئين عسجد وديتما بالها قطعت في ربع دينار

وابن حزم رحمه الله قد اعترف لـابن عبد البر بالفضل وهم كلهم كانوا أقراناً، أي: كانوا أصحاباً، وكل منهم يعيش في الأندلس، قال ابن حزم في مدح كتاب التمهيد: كتاب التمهيد لصاحبه أبي عمر يوسف بن عبد البر لا أعرف في فقه الحديث مثله فضلاً عن أحسن منه، أي: أنه أعظم محققي المذهب المالكي.

واليوم كثير جداً من المتظاهرين للمذهب لا يعرف شيئاً عن المذهب؟ متعصب أنت لماذا؟ لماذا نجلّ الإمام ابن جرير الطبري؛ لأنه قال كلمة هو يفهمها ابن جرير ما قصد أن يجني على الإمام أحمد ، كيف وأحمد الإمام العالم العلم الذي لا يختلف اثنان أن فقهه من أجود الفقه، تجدهم وآباؤهم مقلدين على مذهب أحمد ، مع أن أسمى المذاهب الفقهية هو المذهب الشافعي ، لكن ألزم المذاهب للسنة هو المذهب الحنبلي ، فالإمام ابن جرير لما قال: وأحمد فقيه، أراد أن يقول: إن الإمام أحمد ليس فقيهاً صرفاً، بل غلب عليه الحديث، هذا هو الذي قصده الإمام ابن جرير ، ولذلك فقه صنف اختلاف الفقهاء الذين هم فقهاء، أما الإمام أحمد فهو أعلم الأئمة جميعاً بالسنة، ومسنده الشهير الذي يحوي أكثر من (27.000) حديث شاهد بذلك، وحسبك أن الإمام الشافعي لما دخل بغداد، ولقي أحمد ، فانبهر به، قال: أحمد إمام في: الحديث والفقه والورع .. وأخذ يعد، قال لـأحمد : يا أحمد ! نحن أعلم بالفقه منكم، وأنتم أعلم بالحديث منا، لو قلت قولاً يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمني أرجع عنه، مع أن الإمام الشافعي أستاذ الإمام أحمد إنما الأثرة أن الأستاذ يرى التلميذ طول عمره تلميذاً فليس عيباً أن يرجع إلى قول تلميذه إذا كان الحق معه، إذا قال التلميذ قولاً يخالف أستاذه الإمام الجليل، الشافعي يقول: أنت أعلم بالحديث منا ... وللعلم فإن الإمام أحمد لم يصنف كتاباً فقهياً لأنه كان لا يرى تصنيف الكتب، لأنه يقول: إنها تصده عن الحديث، عكف المتأخرون على كتب المختصر، كل واحد يقرأ في مختصر في المتن ثم في شرح المختصر ثم شرح شرح المختصر حتى غلب الجنون على المتأخرين إلا في الفقه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جهاده للمبتدعة الصوفية الذين يضحكون على الناس: ندخل أنا وأنتم هذه النار، بشرط أن نغسل أجسامنا بماء الخل، فإنهم يدهنون أجسامهم بدهن الضفادع وبحجر الطلق وذكر أشياء هم يفعلونها، قال: ثم ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، وجعل يشد على الرجل ويقول له: قم -والرجل جالس في الأرض- وهو يشده، ويقول: قم بنا ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، والسلطان متعجب من جرأة شيخ الإسلام والرجل الصوفي ارتعد والحق أبلج والباطل لجلج .. لا يثبت على شيء، فأبهر السلطان هذا الفعل، ورفع منار دعوة شيخ الإسلام رحمه الله.

فلما سئل شيخ الإسلام بعد ذلك عن دخول النار، وأنه لا يجوز لعبد أن يدخل النار مختاراً، وكيف لو قام الرجل ودخلها، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم؛ لشدة صلته بالله، وقوة الرجاء به، وصدق اليقين يحرك الحجر.

وما قصة جريج عنكم ببعيد! خرج من بين قوم يعصون الله وبنى لنفسه صومعة خارج البلد يتعبد فيها، وقد انقطع عن الناس، ولم يجعل للصومعة سلماً حتى لا يصعد إليه أحد، وكيف كان يصعد؟ بحبل، إذا أراد أن ينزل أنزل بالحبل وتركه، حتى يقضي حاجته ثم يتسلق الحبل ثم يرفعه؛ حتى لا يخالط أحداً، فكانت أمه كل عدة أيام تذهب إليه لتراه، فجاءته يوماً وهو يصلي، فجعلت تقول: يا جريج ! أجبني -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على حاجبه يمثل أم جريج ! عند دعائها لولدها- وجريج يصلي فسمع دعاء أمه، فقال في نفسه: رب! أمي أو صلاتي! أمي وصلاتي! يعني: أجيب أمي أم أكمل صلاتي؟ فاختار صلاته على دعوة أمه، ورجعت الأم مشتاقة لولدها لم تره، وفي اليوم الثاني: جاءت تنادي: يا جريج ! أجبني، قال: رب أمي وصلاتي! ففضل صلاته على دعوة أمه، وفي اليوم الثالث جاءت أيضاً: يا جريج ! أجبني، فسمعها وهو يصلي فقال: رب أمي أو صلاتي! فاختار صلاته، فدعت عليه: أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فرَّ من فتنة النساء، فدعت عليه أن لا يموت حتى يرى وجوه اللواتي فرَّ منهن، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه.

تحدث الناس عن عبادة جريج ما أعجبه! كيف يصبر وينقطع عن الناس؟! وكيف له الصبر وهو يتعبد كل هذه العبادة؟ فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه لكم، قالوا: نعم قد شئنا، فذهبت المرأة وتعرضت لـجريج فلم يلتفت إليها، فمكنت نفسها من راعي غنم كان يأوي إلى ظل الصومعة بغنمه، فحملت المرأة، وظلت تنشر في الناس أنها حامل من جريج ، ادعت عليه، قالت: فتنته لكم، وهذا الولد منه، فلما ولدت المرأة -وهنا كعادة اليهود- أخذتهم الغيرة على الشرع والدين، كل واحد أخذ الفأس وذهبوا إلى جريج وهم الذين قالوا لها: افتنيه، كان جريج يصلي، وإذا به يسمع أصوات تكسير، فقطع صلاته ونظر فإذا بهم يكسرون صومعته، سوف يهدوها عليه، قال: ما الخطب؟ قالوا: انزل يا فاجر! انزل يا زانٍ! أحببت المرأة، كنا نظنك أعبدنا وأطوعنا، فتدلى بالحبل ونزل، فأوقعوه ركلاً وضرباً وينادون: يا فاجر! يا داعر! نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر علينا يوم القيامة! فإن منا من يظهر النسك ويوم القيامة يكون فاجراً يتفرج عليه العباد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعالم يوم القيامة، فيقذف في النار، فيدور حول أمعائه، فتندلق أقتابه من دبره، فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحا، فيقول أهل النار: يا فلان! أولم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

النساء تتفرج على جريج ، ومن اللواتي وقفن على قارعة الطريق المومسات، فلما رآهن جريج -وقد كتفوه من ورائه- تبسم فاندهش الناس من تبسمه، هذا وقت إرهاق واضطراب، فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أدركتني دعوة أمي (أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات).

وورد في بعض طرق الحديث: أن المرأة الزانية هي بنت الملك، فتركها وأراد أن يقيم على الزاني بزعمهم الحد، هلا أقمت الحد على المرأة أيضاً.

ويحك يا جريج ! كنا نظنك أعبدنا! أأحبلت المرأة؟ قال: دعوني أصلي ركعتين لله، فصلى ركعتين ثم قال: أين الغلام؟ جيء بالغلام الرضيع ابن يومين أو ثلاثة، فأخذه ونخسه في جنبه بإصبعه، وقال: من أبوك يا غلام؟ فقال الغلام: الراعي، ونطق وهو ابن يومين أو ثلاثة.

هل جرت العادة أن ينطق ابن يومين أو ثلاثة من لدن آدم عليه السلام إلى زمان جريج ؟ ما جرت العادة بذلك، لكن الصدق والإيمان بالله أنطق الغلام، وليس الذي عاين كالذي سمعا.

لذلك يقول شيخ الإسلام : كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم، لقوة يقينه بالله تبارك وتعالى، فلو جاء رجل على اسطوانة نار ونخسها وقال: كيف فعلت؟ لربما يتهمونه في عقله، لكن الصدق والإيمان بالله قد ينطق له هذه الأسطوانة، كما حرك الإخلاص الحجر الذي سد على أصحاب الغار الباب: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] .

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , البدعة وآثارها في محنة المسلمين [6] للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net