إسلام ويب

العلم هو ميراث الأنبياء، لذلك كان طلبه والاشتغال به من أعظم أنواع العبادة.. وكفى به شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو واقع فيه.. لذلك كان بد على طالب العلم أن يتحلى بآدابه، وأن يجتنب كل ما يقدح فيه حال طلبه للعلم.

فضل العلم

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

أيها الإخوة الكرام! درسنا في أمور تتعلق بطلب العلم، وهي نبذٌ مختصرة، وإلا فالأمر طويل جداً، لكن السعيد ينفعه القليل، والمكابر لا ينفعه الكثير.

أذكر بين يدي هذه المحاضرة أبياتاً أشرحها، وهذان البيتان نظمهما أحد العلماء نصيحة لطالب العلم؛ فقال:

أخي لن تنال العلم إلا بستةسأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربةوتلقين أستاذ وطول زمان

هذه الستة الأمور هي عماد طالب العلم، ومن أهدر واحدة منها كان الخلل في بنيانه بقدر ما أهدر، وهي مراتب متفاوتة بعضها أعلى من بعض، ولا يستقيم بنيان طالب العلم إلا بها جميعاً.

والعلم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).

فإنك إذا قلت لرجل جاهل: يا جاهل! احمرّ أنفه من الغيظ؛ لأن الجهل عار وشنار، فالكل يتبرأ منه، ولو قلت له: يا عالم، لاغتبط؛ لأن العلم شرف؛ وكم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم!

كان الأعمش رحمه الله يقول: (والله لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)؛ لأنه كان عنده عمش في عينيه، فلو كان بقالاً لاستقذره الناس، فرفعه الله بالعلم، وكان طلبة العلم يتهافتون عليه مع الإهانة الكبيرة التي كان يتعمد أن يفعلها بهم.

فالمقصود: أن العلم يرفع صاحبه، وهذا شيءٌ ذاتيٌ في العلم، وأشرف العلم هو: معرفة الله ورسوله، ومعرفة ما افترضه الله عز وجل على العباد، وهو العلم الشرعي.

صفات وآداب طالب العلم

أخي لن تنال العلم إلا بستـةسأنبيـك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربـةوتلقـين أستاذ وطول زمان

الذكاء والمنهجية في طلب العلم

أول صفات طالب العلم: الذكاء، وهو معرفة نوعية ما يدرس، فليس من الذكاء أن يبدأ طالب العلم بمسائل الخلاف، فمسائل الخلاف تحتاج إلى ترجيح، وهو بَعْدُ ليس له ريش، فكيف يحلق في سماء المجتهدين؟!

ليس من ذكاء طالب العلم أن يبدأ حياته العلمية بدراسة كتب الفقه المقارن التي تعنى بذكر المسائل المختلف فيها مع الترجيح؛ لأن طالب العلم إذا بدأ هذه البداية فسيكون أسيراً لصاحب الكتاب الذي درسه.

فلو بدأ الطالب بدراسة كتاب: نيل الأوطار للشوكاني ، أو بدأ بدراسة كتاب: سبل السلام للصنعاني ، فـالصنعاني والشوكاني -رحمة الله عليهما- وازنا بين الأدلة ورجحا؛ أما أنا كمبتدئ في طلب العلم فلا أدري أصاحب الكتاب أصاب في هذا الترجيح أم أخطأ؟ فهو قد يخطئ في الترجيح، فإذا وازن بين الأدلة وعرض المسائل وانتهى إلى حكم بالحل أو الحرمة أو بالتفصيل، وأنا ليس عندي ملكة أفهم بها إذا كان مصيباً أو مخطئاً، فحينئذ أصبح مقلداً لصاحب الكتاب، مع أنني ما درست الفقه المقارن إلا لأفر من التقليد، ثم وقعت فيه عندما اخترت الكتاب بغير بينة.

ومن كان له خبرة بكتب الخلاف يجد أن مصنف الكتاب لا يُسْهب في عرض أدلة المخالفين مثلما يسهب في عرض حجته التي رجحها، وأنا أقول هذا الكلام بعد دراسة عشرين عاماً، وما عرفت ذلك إلا في أواخر هذه السنوات، حينما درست بعض المسائل المختلف فيها، فوجدت أن السمت العام للذين يرجحون أنهم لا يُعنون بعرض أدلة المخالفين مثلما يُعنون بعرض أدلتهم، فإنهم يذكرون أدلة المخالفين على سبيل الإجمال، ثم يذكرون أدلتهم على سبيل التفصيل، فيقع الطالب أسيراً لاجتهاده؛ لأنه عرض حجته واجتهد في عرضها، وقد يكون الحق في خلافها.

فلو بدأ طالب العلم بدراسة كتب الفقه المقارن؛ فإنه سيقع في تقليد صاحب الكتاب.. أراد أن يفر من التقليد فوقع فيه.

ولذلك كان أفضل العلم ما تتلقاه عن شيخ يعتني بتدريس الأدلة، مع الاستفادة من كتب العلماء الذين صنفوا في المذاهب الفقهية؛ لأن كتب المذاهب الفقهية فيها ثراء وفيها خير عظيم، ومن الظلم البيِّن إحراقها وإهمالها على اعتبار أنها كتب مذاهب، فكتب المذاهب قد بينت كثيراً من معاني أحاديث الأحكام واجتهد مؤلفوها في الجمع بينها، ولذلك نقول: الفرق بين تدريس الأدلة وبين تدريس كتب المذاهب فرق جوهري.

فلو درست كتاباً في المذهب فإنك تستطيع أن تعلم الحكم الفقهي في كل واقعة وفي كل نازلة وفي كل جزئية، أما كتب الفقه المقارن فإنها لا توجد عند طالب العلم ملكة الاستنباط، ولا أخذ الأحكام الجزئية من الأدلة الشرعية، بخلاف ما لو درس الأدلة.

إجابة المفتي بأكثر من سؤال المستفتي

ولو وجدت عالماً يدرّس كتب الأدلة، سواء كانت كتباً متقدمة مثل الكتب الستة وما جرى مجراها، أو الكتب التي عنيت بجمع هذه الكتب مع حذف الأسانيد، مثل منتقى الأخبار للجد ابن تيمية ، أو بلوغ المرام للحافظ ابن حجر ، فإنك تجده يشرح الحديث ويستخرج منه عشرين حكماً في عدة أحكام مختلفة.

مثال ذلك: أول حديث في بلوغ المرام حديث أبي هريرة : (أن ناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر يُتوضأ به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، فقد ورد هذا الحديث في أبواب المياه، لكننا نستطيع أن نستخرج منه بعض الأحكام الأخرى التي لا تتعلق بالمياه، مثل: باب الصيد والذبائح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته) ، ويدخل هذا الحديث في أدب المفتي والمستفتي، ويستفاد منه جواب الحكيم، وهو أن يجيب المفتي بأكثر من سؤال السائل؛ لأن مصلحة المستفتي لا تتم إلا بهذه الزيادة.

فقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فسيكون الجواب: نعم. توضئوا. وهذا جواب كاف، لكن هل أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا؟ لا. بل قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ، مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، فلماذا زادهم هذه الزيادة في الجواب؟

عندما تقرأ في كتب أدب الفتوى والمفتي والمستفتي تجد هذا الكلام: (ولا ينبغي للمفتي أن يوسع الجواب على سؤال المستفتي لئلا يشوش عليه).

والظاهر أن قولهم هذا فيه تعارض مع هذا الحديث، فإن الحديث فيه زيادة على السؤال، لكن الذي يحل الإشكال هو في تتبع طرق الحديث، فقد ورد في بعض طرق هذا الحديث: أن هؤلاء الذين سألوا كانوا يصطادون اللؤلؤ، فقد يغيبون أيام في البحر، وقد ينفد زادهم، وقد يستشكلون ميتة البحر إذا أعملوا كتاب الله عز وجل، ولماذا نستبعد هذا وقد استشكلت ميتة البحر على واحد من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد فقهاء الصحابة وهو أبو عبيدة بن الجراح ، والذين كانوا يركبون البحر معه؟ فقد قالوا: أنها ميتة، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة -وهي غزوة سيف البحر، أو غزوة جيش الخبط- وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطانا جراب تمر، قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرتين تمرتين، فلما أوشك التمر أن ينفد كان يعطينا التمرة فنمصها ونشرب عليها الماء، حتى نفد التمر، فكنا نأكل من ورق الشجر اليابس، قال: ثم رمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها العنبر، وجلس منا ثلاثة عشر رجلاً في عينه، وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، وأتى أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فأقامه، وجاء بأطول جمل، وركب عليه أطول رجل، فمر من تحته، فقال أبو عبيدة بن الجراح : ميتة لا تأكلوه -لم يكن مع أبي عبيدة إلا ظاهر كتاب الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، ولم يكن لديه دليل الخصوص، وهذا هو الواجب، فإذا وصلك دليل عام فلا تتوقف وتقول: سأبحث عن الخاص فربما خصص؛ لأن الأصل في الأدلة العموم، كما حرره الإمام الشاطبي في الموافقات، فإذا بلغك حديث عام أو دليل عام ولا تعرف له مخصصاً فلا تتوقف في الأخذ بالدليل العام؛ لاحتمال أن يكون ليس له مخصص، فتكون قد أهدرت العمل بالعام ولم تظفر بالخاص. ثم قال: ولكننا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا)، فعمل بآية أخرى وهي قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، فإذا كان مثل أبي عبيدة يستشكل ميتة البحر؛ أفلا يستشكلها أعرابي لا نعرف محله من العلم؟

فالرسول عليه الصلاة والسلام بثاقب نظره -وهو سيد المفتين- نظر إلى هذا الرجل فرآه استشكل شيئاً لعله لا يُستشكل، فإذا استُشكل هذا الشيء اليسير عليه، فمن باب أولى أن يستشكل الشيء الأعظم منه، فلذلك أفاده بهذا الجواب مع أنه لم يسأله عنه، وهذا ما يسميه العلماء: جواب الحكيم.

ولنأخذ مثالاً آخر: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وهو حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب)، كلمة (راهب) إذا أطلقت يستشف منها العبادة أكثر من العلم، وهناك استشكال من أعظم أبواب الضرر، وهو الخلط بين العالم وبين الشبيه بالعالم، فإن كثيراً من العوام إذا رأوا رجلاً ذا لحية عظيمة بادروا إلى سؤاله، وربما يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً قط، لكنه فعل ما افترضه النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن أطلق لحيته.

وهناك رجل خباز من بلدنا، لا يعلم شيئاً إطلاقاً، فسافر إلى بلد آخر، فدخل المسجد ليصلي الجمعة، وكان الخطيب في ذلك اليوم غائباً، فنظر الناس إلى من في المسجد فلم يجدوا إلا هذا الرجل صاحب السمت الجميل واللحية الطويلة، فقالوا: هذا خطيبنا اليوم، فطلبوا منه أن يخطب بهم، فصعد المنبر وضل يفرك يديه ويقول: اتقوا الله اتقوا الله.. وتلعثم كثيراً، وهو يتصبب عرقاً، وبعد أن انتهى من الصلاة قرر قراراً، ويا ترى ما هو هذا القرار؟ هل قرر أن يتعلم؟ لا. بل قرر أن يحلق لحيته؛ حتى لا يقع في مثل هذه الورطة مرة أخرى!! فبدلاً من أن يقرر أن يتعلم، أو يحفظ خطبة واحدة في حياته يلقيها إذا وقع في مثل هذا الموقف، قرر أن يحلق لحيته!!

فالناس يخلطون ويظنون أن كل صاحب لحية عالم.. صحيح أن اللحية فرض، ولا يجوز لمسلم أن يحلقها أبداً، وهذا بإجماع العلماء، ولم يخالف في هذا إلا الخالفون من المتأخرين الذين لا يخرقون إجماعاً ولا ينعقد بهم إجماع، والأئمة الأربعة على حرمة حلق اللحية، لكن اللحية ليست دليل العلم.

فعندما سأل هذا الرجل عن أعلم أهل الأرض قالوا له: اذهب إلى فلان الذي لا يفارق صومعته، والرجل عابد وليس عنده علم، ولو استشكل شيئاً من المباح فإنه يتركه؛ لأنه رجل ورع.

والأصل: أن تتورّع في نفسك ما شئت، لكن لا تنقل ورعك في الفتوى، فالفتوى إما أن يكون الأمر جائزاً أو غير جائز، وبعد أن تقول له: هذا جائز؛ قل له: وإن تورعت فهو أفضل، ولذلك فلا بد أن يكون المفتي عاقلاً ذكياً، مدركاً، صاحب فطنة، حتى يستطيع أن ينزل الفتوى على مقتضى حال المستفتي.

فذهب هذا الرجل إلى الراهب فقال له: إنه قتلت مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: قتلت مائة نفس وتريد أن تتوب؟! لا توبة لك، أنت في جهنم وبئس المصير. وهذا العابد رجل جاهل؛ لأنه أمام رجل كان يذبح ضحاياه وليس في قلبه رحمة، ومع ذلك يجيبه بهذا الجواب، فعندما يكون الرجل بهذه المثابة يذبح ضحاياه، كان الأولى أن يقول له: تعال غداً حتى أبحث عن الجواب، حتى ينجو بنفسه؛ لأن الرجل سفاح ولا يتورع، فقد قتل تسعة وتسعين، فعندما أكمل به المائة فليس هناك أي غرابة، لاسيما وأنه قد أغلق عليه باب الأمل، فسيواصل إجرامه. إذاً الراهب لم يكن ذكياً حين قال: ليس لك توبة، ولذلك قتله، فراح ضحية لسانه، ثم منَّ الله عز وجل عليه بنفس السؤال وقال: دلوني على أعلم أهل الأرض. فدلوه على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟.

الشاهد في الحديث قوله: (قال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم)، إلى هنا هذا جواب كافٍ، لكنه لا تتم توبته إلا بالزيادة التي لم يسأل عنها، وأخبره بها المفتي.. (قال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة؟) هذه الزيادة الأولى، والزيادة الأخرى: (اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعبد الله معهم)، فهو لم يسأله عن الخروج من بلده، إنما سأله سؤالاً واحداً فقط وهو: هل لي من توبة؟

ودائماً الذي يعصي الله عز وجل في أرض فإن العلماء ينصحونه أن يفارق هذه الأرض؛ لأنه إذا رأى مسرح الجريمة فربما يعتريه الشوق للرجوع إليها، وبالذات الذي ابتلي بداء عشق النساء، فإن العلماء ينصحونه أن يفارق تلك الأرض؛ لأنها مليئة بالذكريات مع عشيقته.

وهذا مثل ما كان يفعل قيس مجنون ليلى ، كان إذا دخل القرية بعدما رحلت منها ليلى ، يمشي مثل المجنون، ويقبل جدران القرية كلها، وهو يقول:

أمـر على الديار ديار ليلىأقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبيولكن حب من سكن الديارا

فمثل هذا إذا أراد أن يبرأ من داء العشق فلابد أن يفارق أرض العصيان؛ لأن الإنسان عنده حنين دائماً إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه.

فالعالم نصح ذلك العاصي نصيحة ذهبية؛ لأن العاصي لو بقي في أرض العصيان ربما يرجع إلى المعصية، ولذلك قال له: اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات. ومعنى هذا: أنه لا يوجد فيهم من يجاهر بالعصيان. إذاً: هذا الرجل لن يستطيع أن يمارس المعصية فيهم، لذا كان من تمام النصيحة أن يأمره بالخروج، مع أن السائل لم يسأله عن هذا الأمر، وهذا هو ما يسمونه بـ(جواب الحكيم)، وهو أن يراعي المفتي مصلحة المستفتي.

ومنه أيضاً: (أن امرأة رفعت صبياً في الحج وقال: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر)، ولم تسأل المرأة: ألي أجر أم لا؟ وكان يكفي في الجواب أن يقول: نعم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمه من محبة الناس لتحصيل الأجر ذكر ذلك ليكون حافزاً لها، وهكذا..

الاهتمام بتدريس كتب الأدلة

إذاً فهذا الحديث عندما ندرسه نأخذ منه فقهاً، ونأخذ منه علماً وأدباً، ولذلك ننصح الذين يتصدون لتدريس الفقه بتدريس كتب الأدلة، فإذا رأى الشيخ أن من المصلحة تدريس متن فقهي، ساغ له ذلك بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند الطلاب، وأنهم إذا ظهرت لهم الحجة فلا يقدمون عليها قول أحد كائناً من كان، وليكن هذا في حدود الأدب، فمثلاً: أحد الإخوة أعطاني رقعة لا أدري هل هي حاشية على كتاب ما أم ماذا؟ يقول المحشِّي: قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد بن منصور : (وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به)، فعلق المحشي قائلاً: (وهذا خطأ شديد كثيراً ما يقع فيه الحافظ ابن حجر ).! أما (كثيراً ما يقع فيه) فليس هذا أدباً مع الحافظ ، لكنه يقع في بعضه، وهذا لا يكاد يسلم منه الإنسان، فلو جمع عشرون خطأً للحافظ ابن حجر لما كانت كثيرة.

فالشيخ إذا رأى تدريس متن فقهي ساغ له ذلك، ولكن بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند التلاميذ، وأن يعلمهم أن يتعصبوا للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من تعصبهم لأي إمام؛ لأن الأئمة الكبار أرشدونا إلى ذلك، وعباراتهم في تبرئة أنفسهم أحياءً وأمواتاً موجودة في الكتب، وهذا المعنى قد نظمه أحد العلماء المتأخرين نظماً رائعاً جداً، فقال في أرجوزة له طويلة -وسأذكر وجه الشاهد منها في أن العلماء رسخوا عند تلاميذهم تعظيم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أولى أن يُتعصب له من قول الإمام- فقال رحمه الله:

وقول أعلام الهدى لا يعملبقولنا بدون نص يقبل

فيه دليل الأخذ بالحديثوذاك في القديم والحديث

قال أبو حنيفة الإماملا ينبغي لمن له إسلام

أخذٌ بأقوالي حتى تعرضاعلى الحديث والكتاب المرتضى

ومالك إمام دار الهجرةقال وقد أشار نحو الحجرة

كل كلام منه ذو قبولومنه مردود سوى الرسول

والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو

من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا

وأحمد قال لهم لا تكتبواما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا

فانظر مقالة الهداة الأربعةواعمل بها فإن فيها منفعة

لقمعها لكل ذي تعصبوالمنصفون يكتفون بالنبي

وبعد ذلك ذكر أبياتاً في التقليد، وذكر القصة الخرافية الموجودة في بعض كتب المتأخرين من الأحناف أن عيسى بن مريم حنفي المذهب، وهذه القصة الخرافية تقول: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل إلى الأرض وقد دُرس القرآن ودرست السنة، والناس سوف يسألونه أسئلة وهو يريد أن يجيبهم، لكنه لا يعرف شيئاً، فيقول: يا رب! أريد أن أجيب على أسئلة الناس، فيقول الله عز وجل له: اذهب إلى نهر جيحون وستجد يداً مرفوعة من الأرض وبجوارها صندوق، فافتحه وستجد الفقه كله في ذلك الصندوق، فيقصد عيسى بن مريم نهر جيحون، فيجد يداً مرفوعة، وبجوارها صندوق، فيفتحه فيجد فقه أبي حنيفة ، ويحمد الله عز وجل أنه وصل إلى فقه أبي حنيفة، ويبدأ يقضي به بين الناس.

والعجيب أن الراجز صاحب هذه الأبيات التي ذكرت بعضها، هو حنفي المذهب، يقول:

واعجب لما قالوا من التعصبأن المسيح حنفي المذهب

وهذا كله من مسائل التقليد التي جاءت في القرون المتأخرة.

إذاً: نقول: إن الشيخ إذا درس متناً فقهياً، أو درس كتاباً من كتب الأدلة، لابد أن يرسخ تعظيم الدليل عند تلاميذه، وإذا رد على عالم أخطأ فلابد أن يتأدب مع هذا العالم؛ لأن هذا العالم أراد الحق فأخطأ، وهذا المنتقد له أيضاً أخطاء، فلو عاملناه بنفس المعاملة لخطأناه، والعلماء الكبار الفحول كان لهم من الذكاء والدربة والممارسة أضعاف أضعاف هذا المتأخر.

ولعلنا نذكر نبذاً يسيرة، وهذا الاستطراد الطويل أردت به أن أبين تعظيم الدليل؛ لأن تدريس الأدلة من أعظم مميزاته: أنه يرسخ ملكة الاستنباط، ويجعل الطالب يأخذ من الدليل الواحد عشرة أو خمسة عشر حكماً فقهياً، فإذا جاءت مسألة من مسائل النوازل استطاع الفقيه أن يستخرج هذه الأحكام؛ لأنه مدرب على الدليل، بخلاف الذي يحفظ متناً فقهياً فقط، فإنه لا توجد عنده هذه الملكة، فإن هذه الملكة لا تكون إلا لرجل اهتم بدراسة الأدلة، لكن في حدود ما ذكرت من الأدب والتماس العذر.

ولا أنصح طالب العلم المبتدئ بقراءة كتاب: (المحلى) لـابن حزم ، فإنه من أضر الكتب على طالب العلم المبتدئ، مع ما فيه من الفوائد والمسائل الفقهية؛ لأنه كتاب يحتاج إلى شخص ينقي فكر ابن حزم ، ويأخذ من ابن حزم قوة اتباعه للدليل ثم يعطيه لطالب العلم خالصاً من الشوائب.

الحرص واستغلال الأوقات في الطلب

قال: (وحرص): الحرص هو الوقت، فهو رأس مال طالب العلم. وبكل أسف تجد كثيراً من طلبة العلم يقضون الليالي الطويلة في المكتبة من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، ولو سألته: ماذا حصلت؟ لما استطاع أن يجيب عليك؛ لأنه يقرأ ورقتين في المحلى ثم يغلقه، وورقتين من كتاب المغني ويغلقه.. وهكذا؛ صحيح أنه يقرأ كل يوم، لكنه ما حصل شيئاً مذكوراً، وقد يقضي عشر ساعات أو خمس ساعات في نقاش عن مسألة واحدة.

فمثلاً: قبل خمس عشرة سنة كانت هناك مسألة مشهورة بين طلاب العلم، وكانت هذه المسألة تعتبر جواز المرور إلى العلم، فالذي لا يعرفها يعتبر جاهلاً، وهي مسألة نزول المصلي بعد القيام من الركوع إلى السجود، بماذا ينزل أولاً إلى الأرض بيديه أم بركبتيه؟ وقد دفعني ذلك إلى تضييع شهر كامل أبحث عن كلام العلماء، وعن التصحيح والتضعيف، حتى أخرجت رسالة في هذه المسألة.

فالوقت هو العمر، وانظر إلى العلماء الذين حصلوا كيف كانوا، فهذا ابن عقيل الحنبلي له كتاب يقع في ثمانمائة مجلد، وقد كان ابن عقيل رجلاً متزوجاً، ولديه أولاد، وهو يريد أن يوفر لهم لقمة العيش، وحاجياتهم وحاجيات زوجته، وكذلك كان يتصدر للإفتاء، ومع ذلك صنف كتباً كثيرة، وهذا الكتاب واحد منها، واسمه: كتاب الفنون. وقد طبع منه مجلدان.

فكيف استطاع ابن عقيل أن يكتب كل هذه الكتب؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.. فالرجل يراعي ويراقب الوقت الذي ما بين مضغ الخبز وسفَّ الكعك، يريد أن يستفيد من هذا الوقت... لقد كان يضيع على نفسه متعة الطعام.

والخطيب البغدادي كان يمشي وهو يطالع جزءاً.

يقول: ابن أبي حاتم كنت أقرأ على أبي وهو جالس، وأقرأ عليه وهو قائم، وأقرأ عليه وهو يمشي، وأقرأ عليه وهو في الخلاء.

ويقول: دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فذهبنا ثلة في نهارنا ندور على الشيوخ، فذهبنا إلى بيت بعض الشيوخ فقالوا: إنه مريض، فقلنا: فرصة لنأكل، فدخلنا السوق فاشترينا سمكة، فلما وصلنا إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر، فتركناها، وانصرفنا، ومكثنا ندور على الشيوخ ثلاثة أيام حتى خشينا أن تفسد، فأكلناها نيئة !!لم يتفرغوا لشوائها.

من صفات طالب العلم: ألا يبدأ بالمناظرات والجدل

إن طالب العلم النبيه لا يبدأ بالمناظرات في بداية حياته العلمية، فلا تناظر مناظرة مكابر مجادل، لكن ناظر مناظرة مستفيد.

قال أبو حاتم الرازي : كنت مع أبي زرعة ومحمد بن مسلم وكنا جماعة، فقلت لهم: من أغرب عليَّ حديثاً لـمالك أعطيته كذا وكذا، والحديث الغروب الغريب الشاذ وكان علماء الحديث يحفظونه للمذاكرة، فيقول: كم تحفظ حديثاً غريباً لـمالك ؟ فيقول الآخر: أحفظ ثلاثين حديثاً، وهو يعتقد أنه أحفظ رجل فيهم، فيفاجأ أن صاحبه هذا يحفظ مائة حديث، فيشعر باحتقار لنفسه. هذه هي المناظرة الجميلة.

وأبو نعيم الفضل بن دكين -أحد الآخذين عن الإمام الكبير العلم مسعر بن كدام - قال وهم في جنازة مسعر : (اليوم تفدون إلي وتأخذون مني حديث مسعر، ) فجاءه محمد بن بشر ، فقال: كم تحفظ عن مسعر ؟ قال أبو نعيم فقلت: أحفظ كذا وكذا، فقال لي: أتحفظ كذا؟ قلت: لا. وكذا؟ قلت: لا. قال: وكذا؟ قلت: لا، قال: حتى جاءني بسبعين حديثاً ما سمعتها قط، فقمت مستخزياً.

فلا تحتقر أحداً؛ لأنك لا تدري فقد يكون غيرك أعلم منك وأورع منك؛ بل لو ظننت أنك أقل خلق الله عز وجل لكان خيراً لك فلا توجه الاتهامات، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! إن الله وزّع الفضل على الخلق، ولم يجعل العلم محتكراً في أقوام؛ بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن المتقدم، ويحييه بقول تالٍ يعتمد على ماضٍ، والتالي ليس كالماضي في العلم، بل السلف أعظم علماً جملةً وتفصيلاً، وليس معنى أنني انتقدت الإمام البخاري في جزئية أنني فقته، وإذا فقته في جزئية، فقد فاقني في مائة ألف، وليس معنى أن الخضر ادخر الله له ثلاث مسائل أنه أفضل من موسى.. لا والله فليس بأفضل منه، بل قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، ولا يقتضي هذا أن يكون المفضول أعظم من الفاضل؛ لأن الفاضل له أشياء كثيرة جداً يفوق المفضول فيها.

فالإمام أبو حاتم الرازي يقول: من أغرب علي حديثاً لـمالك فله كذا وكذا. قال: فاجتهدوا أن يردوا علي فلم يستطيعوا، ثم عقب أبو حاتم قائلاً: ووالله ما أردت إلا أن أستفيد. أي: هو تحداهم لكي يخرج ما عندهم؛ لأنه يريد أن يستفيد.

ورحم الله ابن حبان حين قال: قال الشافعي ثلاث كلمات لم يتفوه بها أحد قبله: (وددت أن هذا العلم ينتشر ولا ينسب إلي) تجريداً للإخلاص، وقال: (ما ناظرت أحداً على الغلبة، بل ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه).

لأن المقصود تحرير الحق، ولا يهم أن يجري على لساني أو يجري على لسانك، المهم أن يظهر الحق. فكون الإنسان يذهب ليناظر وهو حريص على أن يَغلب، لن يستفيد بحق أبداً، وهذا الفعل ضد الحرص النافع.

الافتقار والتواضع

قال: )وافتقار) الافتقار إذا أخطأه طالب العلم لم ينتفع بعلمه، والافتقار: هو التواضع وخفض الجناح للأقران فضلاً عن العلماء، فالعلم يهدي إلى التواضع، وكلما تبحر الإنسان في العلم؛ كلما أدرك فداحة ما كان فيه قبل ذلك من الجهل، لما يرى رجوع العلماء عن مسائل أبرموها، ويعتقد أنه ليس أفضل منهم، بل لقد كانوا أذكى منه، وكان لهم مئات المسائل، وربما لم يكن له إلا شيخ واحد أو أكثر، لكنه لا يصل إلى عشر معشار هؤلاء، ومع ذلك أخطئوا في مسائل، فيرحم نفسه ويرحم الآخرين.

وقد قرأت لبعض الذين صنفوا رسائل وطاولوا فيها جبال الحفظ والفقه بجهل عظيم، فلو كانت هيئة كبار العلماء لها قوة؛ لما انتشر كل هذا الفساد، وخير دليل على ذلك: نقابة الأطباء عندما أعلن وهو دكتور أحمد وهو دكتور الجهاز الهضمي، وهو رجل مشهود له بالكفاءة في جراحة الجهاز الهضمي على مستوى العالم -أعلن أنه اكتشف علاجاً للإيدز وبدأ يجربه على بعض المرضى؛ قامت الدنيا ولم تقعد.. كيف تجربه قبل أن يدخل المجالس الطبية العالمية، ويصرح لك به، أأرواح الناس لعبة؟! ومع نباهة الرجل ومع جلالة منصبه في الطب أوقفوه عن ممارسة المهنة.

وهؤلاء الذين يلعبون بالدين بهذه الرسائل التي يؤلفونها، وينقضون ديننا عروة عروة باسم المنهجية العلمية والحياد العلمي، ولا أحد يقول لهم: لماذا تكتبون هذا؟ لا حساب؛ لأن الهيئة في غاية الضعف، لا تملك لساناً ولا يداً، فهناك من كتبوا باسم المنهجية العلمية ويردون على كبار العلماء وكبار الحفاظ ويتهمونهم بالجهل، وهذا كله من باب الكبر وعدم الاعتراف بالجميل.. والله الذي لا إله غيره، لو وُجد واحد من هؤلاء الذين يكتبون الآن في الزمن الأول لما صلح أحدهم أن يصب الماء على الشيخ ليتوضأ، فضلاً عن أن يؤصل في مسألة علمية! لقد لبسوا لبوس العلماء فضللوا العوام الذين لا يفرقون بين العالم وبين شبيه العالم!

وهناك قصة طريفة في مسألة الخلط بسبب اللباس، ذكرها أهل الأدب، ومنهم: أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة أحد الشعراء الصعاليك في الجاهلية وهو ثابت بن جابر ، وله لقب مشهور به: تأبط شراً ، قيل: أنه وجد الغول في الصحراء مثل الخروف، فوضعه تحت إبطه ودخل على أهله، فلما رأوه وعرفوا أنه الغول، قالوا: يا ثابت تأبطت شراً، فألقى به، فلقب تأبط شراً ، وهو أحد أشهر ثلاثة شعراء صعاليك، وهم ثلاثة شعراء: ثابت بن جابر ، والشنفرى ، صاحب اللامية الرائقة التي منها هذا البيت الجميل:

وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذىوفيها لمن خاف القِلَى متحول

والشاعر الثالث: عروة بن الورد هؤلاء هم أشهر الشعراء الصعاليك.

فـثابت بن جابر - تأبط شراً - قابله ثقفي أحمق، فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ فقال: أذكر لعدوي أنني تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه أريد، قال: أبهذا فقط؟ قال له: فقط. فقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: بهذه الحُلة الجيدة -وكانت لديه حلة جديدة- وبكنيتي -وكان يكنى بأبي وهب فقال له: موافق، فقال الثقفي: لك حلتي ولك كنيتي، فقال له: وأنت تأبط شراً، فذهب الرجل مسروراً، فكتب تأبط شراً ثلاثة أبيات وبعثها لامرأة الثقفي الأحمق؛ قال فيها:

ألا هل أتى الحسناء أن حليلهاتأبط شراً واكتنيت أبا وهب

فهبه تسم اسمي وسماني اسمـهفأين له صبري على معظم الخطب

وأين له بأس كبأسي وسورتيوأين له في كل فادحة قلبـــي

أخذ اسمي لكن هل أخذ جراءة قلبي؟ هل أخذ بأسي وصبري وجلدي على الأحداث؟ لم يأخذ هذا كله، إنما أخذ الاسم فقط.

فطالب العلم إذا دخل العلم بلا افتقار لم ينتفع، فلا بد أن يفتقر ويخفض الجناح لأقرانه، ويعلم أن الله لم يختصه بالفضل، وأن هناك من هم أذكى منه وأقدر منه، وأكثر قبولاً عند الناس منه.

ومسألة القبول هي من الله عز وجل، فإذا رضي الله عز وجل عن العبد جعل له قبولاً عند الخلق، فإذا مضى بهذا التواضع انتفع كثيراً بعلمه، وانتفع به، إنما إذا اعتقد أنه هو العالم المحقق المحرر، فإنه لا يكاد ينتفع، ولا يجعل الله عز وجل له لسان الصدق الذي يبحث عنه كل طالب علم.

الغربة في طلب العلم

قال: والغربة على نوعين، وولا ينبل طالب العلم إلا إذا حقق النوعين معاً:

النوع الأول: أن يكون غريباً في وسط الناس، له اهتمامات غير اهتمامات الخلق.. هم يبحثون عن الضياع وعن المتع وعن الدنيا، وهو يباينهم تماماً، كما في الأبيات التي تنسب للشافعي :

سهري لتنقيح العلوم ألذ ليمن وصل غانية وطيب عناق

وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي

يا من يحاول بالمنايا رتبتي كم بين مستقل وأخرواقي

أبيت سهران الدجى وتبيتهنوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي

والإمام الخطابي رحمه الله له بيتان من الشعر فيهما يتوجع فيهما ويذكر هذا النوع من الغربة فيقول:

وما غُرْبَةُ الإنسان في شقة النَّوَىولكنَّهَا والله في عَدَمِ الشكْلِ

وإنى غريبٌ بين بُسْت وأهلهاوإن كان فيها أُسْرَتِي وبها أهْلي

يقول: ليست الغربة أن تغترب عن بلدك، لكنها في عدم الشكل: أي: ألا يكون لك شكل. أنت من أهل السنة وكل الموجودين مبتدعة أنت غريب.. أنت طالب علم نافع وكل الذين حولك من أرباب الدنيا فأنت غريب، لا يوجد لك شكل، ولا يوجد مثلك.

و(بست) وهي اسم المدينة التي كان منها أبو سليمان . هذا هو النوع الأول من الغربة.

النوع الثاني: وهو أنبل وأعظم، وهو الذي يسميه العلماء: الرحلة في طلب العلم، أن يغترب المرء عن بلده وأولاده لطلب العلم، وعلماء الحديث أعظم الناس منة على هذه الأمة بهذه الرحلة، فأكثر الناس رحلة هم علماء الحديث، فكم من ليالٍ افترشوا فيها الغبراء والتحفوا السماء! وفارقوا الأهل والأوطان والديار في سبيل تحرير لفظة واحدة أنت لا تقيم لها الآن وزناً!!

نماذج من رحلة أصحاب الحديث

ذكر ابن حبان في مقدمة كتاب المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق ، وهو متروك، لكن القصة وردت من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة ، وذكرها كذلك الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وكذلك أبو موسى المديني .

يقول أبو الحارث الوراق : جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عطاء ، عن عقبة بن عامر الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، فعندما انتهى من الحديث كان شعبة خارجاً من الدار، فلطمه، وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس ، فقعد أبو الحارث الوراق نصر بن حماد يبكي، فقال: عبد الله بن إدريس : إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث. لقد سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث -وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، وكان شعبة يحفظ ألوفاً مؤلفة من الأحاديث، فلو كانت عشرة آلاف فقط لعلمت مدى ما بذله شعبة في طلب الحديث وفي تصحيحه - قال: سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، فقلت له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء ؟ وشعبة سأل أبا إسحاق هذا السؤال لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد، فخشي أن يكون أبو إسحاق قد دلس فيه.

والتدليس معناه: عمل شيء بالخفاء، ويعرفه العلماء فيقولون: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، مثلاً: أنا في عصر الإمام أحمد وأقول: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس ، فأنت عندما تريد أن تحدث بهذا الحديث فتقول: حدثنا فلان، قال حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس . فإذا حصل لك شيء وسافرت، وحدثت بعشرة أحاديث في حال غيابك، وعندما عدت من سفرك أخبرك بها بعض إخوانك ممن حضر المجلس، فإذا حدثت بهذه الأحاديث العشرة عني مباشرة فستكون قد دخلت الدائرة الحمراء، فإما أن تكون كذاباً أو تكون مدلساً، فيجب عليك إذا أردت أن تحدث بهذه الأحاديث العشرة أن تقول: حدثنا فلان -أي زميلك- عن فلان -أي أنا- عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس وبهذا تكون قد نزلت درجة في السند، والعلو هو أن تقلل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا يسمى: تدليس الإسناد وهو أكثر أنواع التدليس دوراناً في الأسانيد، والذي يدلس يحدث بلفظ (عن)؛ لأن (عن) لفظة تحتمل السماع وعدمه، وهذا معنى قول المحدثين: (وقد عنعنه) أي: رواه بلفظ (عن).

المهم: أن أبا إسحاق السبيعي كان ممن يدلس تدليس الإسناد، وشعبة كان يكره التدليس جداً، وكان يقول: التدليس أخو الكذب. وكان يقول: لأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس. وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أدلس.

فلما سأل شعبة أبا إسحاق السبيعي وقال له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء ؟ غضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وكان يجلس مع أبي إسحاق السبيعي مسعر بن كدام، وهو أحد الأئمة الثقات الكبار الحفاظ، وكان أبو حاتم الرازي يقول عنه: مسعر المصحف، أي: أنه يحفظ الحديث كما يحفظ المصحف. فقال مسعر : يا شعبة ! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة. وهم حينئذ في البصرة، قال شعبة : فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته: هل سمعت حديث الوضوء من عقبة بن عامر ؟ فقال: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم . وهو مدني، فلقيت مالكاً في الحج، فقلت له: حج سعد بن إبراهيم ؟ قال: ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وتحركت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم ، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر ؟ قال: لا. ولكن حدثني زياد بن مخراق ، من البصرة، فانحدرت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر ؟ قال: ليس من حاجتك، فقلت: لابد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني، قال: فذهبت إلى الحمام فغسلت ثيابي وأتيت، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر ؟ قال: لا. حدثني شهر بن حوشب ، فقلت له: شهر عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر .

هذا هو التدليس! فقد أصبح بين أبي إسحاق السبيعي وبين عقبة بن عامر أربعة رجال، فقال شعبة : حديثٌ صعد ثم نزل لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي.

لله در علماء الحديث والجرح والتعديل! ولا أستطيع أن أجد عبارة توفي حق علماء الحديث.

كان الإمام أبو زكريا يحيى بن معين يحدث يوماً، وعندما وصل في سند الحديث إلى الأعمش رأى أحد تلاميذه أخذ غفوة، فتابع ابن معين الحديث وأملى عشرة أحاديث، حتى وصل إلى الحديث العاشر وفي سنده ذكر الأعمش، فاستيقظ ذلك التلميذ وظن أنه لم يفته شيء من الحديث، فتابع كتابته من الأعمش ، فاختلط عليه حديث في حديث آخر، وفاتته عشرة أحاديث، فعندما جاء هذا التلميذ يحدث قال له ابن معين : كذبت. هذا الحديث ليس هذا سنده؛ لأنك كنت نائماً، وإذا لم تكن مصدقاً لما أقول فانظر إلى أصحابك فليس عندهم هذا الحديث عن الأعمش .

ومما يروى في ذلك: أن أبا نعيم الفضل بن دكين -وهو من الأئمة الحفاظ- كان من طريقته إذا جلس للتحديث: أن يقعد على كرسي يدور، وكان يجلس الإمام أحمد بن حنبل عن يمينه ويجلس يحيى بن معين عن يساره، فدفع يحيى بن معين مرة الفضول وقال: أريد أن أختبر الفضل هل هو حافظ ثبت أم لا؟

فقام يحيى بن معين فأتي بورقة وكتب فيها خمسين حديثاً، أربعون حديثاً من أحاديث الفضل وعشرة أحاديث ليست من أحاديثه.

فإذا قرأ: الفضل رحمه الله هذه الأحاديث ولم يميز بين حديثه وحديث غيره، فدرجة الحافظ لا تنطبق عليه، أي: فهو (سيئ الحفظ).

فعرض يحيى بن معين الفكرة هذه على أحمد بن حنبل ، فقال له أحمد : لا تفعل، فإن الرجل ضابط حافظ، فقال له: لا بد أن أعملها، وأخذ يحيى بن معين الورقة وأعطاها لأحد العلماء واسمه أحمد بن منصور الرمادي ، وكان أحمد بن منصور يجلس مع الطلبة، فلما خف المجلس قليلاً قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطى الورقة للفضل ، فنظر فيها الفضل وجعلت عيناه تدوران، ثم قال لـأحمد بن منصور الرمادي بعد أن أعطاه الورقة، (أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل هذا؛ وليس هذا إلا من عمل هذا)، قال: ثم أخرج رجله ورفس يحيى بن معين فألقاه على الأرض، وقال: تعمل هذا عليَّ؟ قال: فقام يحيى وقبل جبينه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، ووالله لرفستك أحب إليَّ من رحلتي. أي: لو لم يخرج من هذه الرحلة إلا بهذه الرفسة لكان قد حصّل شيئاً كثيراً.

وشعبة بن الحجاج كان أشد رجل يعادي المدلسين، وكان يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس). وهذا الكلام خرج مخرج الزجر والتنفير، لأنه لو عرض عليه الزنا والتدليس فلن يزني. وقول الله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] ، مع قوله: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] وأنت عندما تقول لابنك محذراً: العب، أنت حر! فهل معنى هذا أنك أبحت له اللعب؟ لا.

والرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء إليه النعمان بن بشير وأراد أن يخص أحد أولاده بعطية، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أشهد على هذا غيري) ، فلو ذهب إلى أبي بكر فهل ستنفعه تلك الشهادة؟ لا. إذاً هذا خرج مخرج الزجر. فهو يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس).

فـشعبة يعلم أن أبا إسحاق يدلس، فقال له: أسمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء ؟ فغضب أبو إسحاق . ومن غضبه تعرف أنه دلس، فقد أسقط أربعة من السند وكان يجالس أبا إسحاق السبيعي .

مسعر بن كدام فقال: (يا شعبة ! عبد الله بن عطاء حي بمكة. أي: إذا أردت التأكد فارحل إليه. قال شعبة : فخرجت من بلدي إلى الحج لا أريد إلا الحديث.

خرج شعبة إلى الحج يريد أن يلقى عبد الله بن عطاء من أجل أن يسأله، هل سمع الحديث من عقبة بن عامر أم لا؟

قال شعبة : فدخلت على عبد الله بن عطاء في مكة فإذا هو رجلٌ شاب، وقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة بن عامر ؟ فقال: إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال: فلقيت مالك بن أنس -الإمام مالك - فقلت: سعد بن إبراهيم هل حج هذا العام؟ فقال: ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت، وانحدرت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم ، فقلت له: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر ؟ قال: لا. ولكن حدثني زياد بن مخراق .

قال شعبة : فانحدرت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فدخلت عليه، فقلت: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر ؟ قال: ليس من حاجتك. فقلت له: لابد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني، قال: فذهبت إلى الحمام فاغتسلت وغسلت ثيابي ورجعت إليه. فقلت: حديث الوضوء؟ قال: حدثني شهر بن حوشب ، قلت له: عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر.

إذاً: كم سقط من الإسناد أربعة رواة.

فقال شعبة : (حديث صعد ثم نزل! والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليَّ من أهلي ومالي).

هذه الرحلة الطويلة العريضة لأجل حديث واحد!! وكان شعبة أمير المؤمنين في الحديث يحفظ ألف ألف حديث، كل هذا لكي يتثبت من حديث واحد، وقد صح هذا الحديث والحمد لله، ولكن ليس من هذا الطريق، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبهذا تثبت الفضيلة التي من أجلها رحل شعبة كل هذه الرحلة.

هذا مثال بسيط لجهود علماء الحديث، فهل أحس الناس بهذا؟!

وأبو حاتم الرازي رحمه الله، رحل في طلب الحديث مشياً على قدميه، وظل يعد وهو يمشي، قال: حتى عددت سبعة آلاف فرسخ، وتركت العد.

رحل من الري إلى نيسابور، إلى بغداد، إلى البصرة، إلى الكوفة، إلى مصر، إلى الحرمين، كل هذا كان مشياً على الأقدام، وكان يؤجر نفسه عند المسافرين لينفق على نفسه، فهو يخرج من الري إلى بغداد وليس معه نفقة؛ لأنه يريد العلم، فكان يؤجر نفسه حتى يوصلوه إلى بغداد.. وهكذا.

إن رحلة أصحاب الحديث أعظم الرحلات، وهذه هي الغربة -وافتقار وغربة- أن ترحل وتترك أولادك، وتترك الأكل والشرب والمنام من أجل طلب العلم.

طلب العلم على أيدي المشايخ

قال: (وتلقين أستاذ) أي: الأخذ على المشايخ، وعدم الأخذ من الكتب، وكانوا يقولون: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي. لأنك عندما تأخذ العلم من الصحف أو من الكتب فقد يخطئ الناسخ في نقطة واحدة فيتغير معنى الكلام، وعلماء الحديث لهم كتب في ذلك حصدوا بها الكتب المصحفة، مثل كتب التصحيف والغلط في الكتاب.

فإن: القرآن الكريم الذي نقلته الأجيال عن الأجيال، بأعلى درجات التواتر، نجد من يخطئ في قراءته.

ولنذكر لذلك بعض الأمثلة:

كان هناك رجل في الكلية يسمعني وأنا أتكلم وأقول: لا يوجد حفظة، وهناك أناس لا يستطيعون قراءة القرآن فظن أنني أبالغ، فقال: إن كل الناس يقرءون القرآن، فقلت له: اقرأ، فقام وأخذ المصحف، وفتح على سورة هود، فقرأ قوله تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ [هود:48]، فقال: (بسلَّم)، مع أن هذا هو رسم المصحف، لكنه ظنها (بسلَّ) وهي (بسلام)!

وهناك إمام قام يؤم الناس فقرأ سورة التكاثر فقال: (إلهكم التكاثر)، -أي: ربكم- فقالوا له: إنما هي (ألهكم)!

وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في أخبار الحمقاء والمغفلين: أن رجلاً عالماً دخل قرية من القرى، فاستضافه إمام هذه القرية وقال له: عندي بعض إشكالات في القرآن أريد أن أستشيرك فيها -وهو إمام الجماعة- فقال له العالم: تحدث، فقال: قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك... ستين أم تسعين؟) وكانوا في الزمان الأول لا يعجمون الحروف -أي: لا يضعون عليها النقاط- فقد استحدثت هذه النقاط فيما بعد، فكانوا يكتبون بلا إعجام، فكلمة (نستعين) لو أهملت فقد تقرأ (تسعين)، فقال الإمام للعالم: وإياك تسعين أم ستين؟ ثم قال: وعلى أي حال فأنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!! فهذا يحصل في كتاب الله عز وجل، فكيف بكتب الحديث؟!

ومن طريف ما يذكر في سبب تسمية الإمام حمزة بن حبيب ( بـالزيات ) -وهو أحد القراء السبعة - قالوا: إن هذا اللقب التصق به لأنه كان يقرأ في أول سورة البقرة فقرأ: (الم، ذلك الكتاب لا زيت فيه) فقال له أبوه: قم واطلب العلم على أيدي الشيوخ، فسمي منذ ذلك بـالزيات من أجل قراءته: (لا زيت فيه).

وآخر من طلبة الحديث قرأ قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد:13] فقال: (فضرب بينهم بسنور له ناب).

فإذا كان التصحيف وقع في القرآن الكريم مع جلالته وعظمته وكثرة الحافظين له، فما بالك بكتب الحديث الذي لا يكاد يضبطها إلا أفذاذ أفراد بعد أفراد، فعلماء الحديث قد استحدثوا ضوابط في ضبط الكلام.

مثلاً: عن ابن عباس يروي راويان، واحد كنيته أبو (حمزة) والثاني كنيته أبو (جمرة).

فكانوا يكتبون فوق أبي حمزة: (حور عين)، حتى تعرف أنها حاء وليست جيماً، وعلماء الحديث ابتكروا أساليب لحفظ الكتب لم تتفتق أذهان البشرية عنها.

وفي ذات مرة بعث أمير المؤمنين إلى أحد الولاة فقال له: إن المخنثين أفسدوا البلد فأحصهم أي: عدهم، وأجر عليهم التعزير. وقال للكاتب: اكتب إليه: أحصِ من عندك من المخنثين، فوضع الكاتب نقطة فوقها فصارت (اخصِ من عندك من المخنثين) فدعاهم الوالي فخصاهم، وهذا كله بسبب نقطة واحدة.

وفي أيامنا هذه تعسرت القراءة الصحيحة لعدم وجود الضابطين المدققين، فتجد طالب العلم بعد ضياع المدققين يقرأ في الكتب، ويخطئ في فهم كثير من الأشياء. فكان لابد من الدراسة على أيدي المشايخ، فقد أصبحت ضرورة أكثر من أي عهدٍ مضى؛ لأن الطالب لا يميز الصحيح من التصحيف.

فوائد الأخذ عن المشايخ

والأخذ عن الشيوخ له ثلاثة فوائد: يقصر لك العمر، ويسدد لك الفهم، ويرزقك الأدب.

الفائدة الأولى: يقصر لك العمر: فإنك تأتي على مسألةٍ ما فتسأله فيها؛ كالقراءة خلف الإمام -مثلاً- فيلخص لك هذا المبحث الذي وصل البحث فيه إلى مجلد أو مجلدين في بضع كلمات. ولو جلست تبحث في هذا الموضوع لمكثت عدة أشهر، لكن الشيخ يختصر لك الزمان.

الفائدة الثانية: يسدد لك الفهم: كمسالة النزول بعد الركوع: هل يبدأ بالركبتين أم باليدين؟ فقد تناقشت أنا وأحد الإخوة فيها، فكان يقول: يبدأ بالركبتين، وأنا أقول: باليدين، وكان ممن قال بذلك: الإمام الحاكم النيسابوري . فقلت لصحابي: من قال بقولك؟ فذكر عدداً من العلماء حتى ذكر الحاكم ، فقلت له: وأنا أقول بقول الحاكم ، والحاكم يرى صحة أحاديث النزول باليدين، فقال لي: إن الحاكم قال: (إن أحاديث النزول باليدين مقلوبة)، والحديث المقلوب مثاله أن يروي الراوي حديث: (ورجل تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) هكذا: ( ورجل تصدق بشماله حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله )، فيقلب الحديث، ويسمى هذا الحديث مقلوباً.

فقلت له: أين ذكر الحاكم هذا الكلام؟ قال: في المستدرك. فقلت: هات المستدرك. فاتضح أن الحاكم بعدما روى أحاديث النزول بالدين، قال: وفي هذا آثارٌ عن الصحابة والتابعين، والقلب إليه أميل.

ففهم أن قول الحاكم :)والقلب إليه أميل) أي أنه مقلوب. فقلت له: هذا قلب الحاكم أي: نفسه، فـ الحاكم يقول: وقلبي يميل إلى ما أثر عن الصحابة والتابعين.

وهذا مثال على أن الطالب عندما يقرأ لوحده في الكتب يخطئ في فهم كثير من المسائل.

وأذكر مثالاً آخر: رجل صنف رسالة، وهو ممن يذهب مذهب الخوارج، فقال حديث: : (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) هذا الحديث إنما هو في أهل الصلاة والزكاة.

وأهل الكبائر: أي: أهل كبائر الأعمال، فقوله تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] قال: (وإنها لكبيرة) يعني: شفاعته لأهل الكبائر. مع أن العلماء يقولون: إن هذا الحديث في أهل كبائر الذنوب.

فهذا ما تبنى هذا الرأي إلا لأنه لم يقرأ إلا من الكتب؛ فكان لابد من الأخذ عن المشايخ.

- الفائدة الثالثة: الأدب: ومن أهم ما يزرقه طالب العلم من أخذه عن المشايخ: الأدب. وعلماء الحديث كانوا يقسون على تلاميذتهم ليؤدبوهم وليكسروا الغرور فيهم.

صور من تأديب العلماء لطلابهم

فـالأعمش -سليمان بن مهران- رحمه الله، كان يقول: (لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)، وهو أشهر من أذل علماء الحديث، كان كلما يأتي إليه طالب ويقول له: حدثني حديثاً، يأبى عليه. وفي ذات مرة خرج في جنازة، فعلم أحد طلاب الحديث بخروجه، فتبعه وأخذ بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد ! وهم يمشون في الجنازة، فأخذ الطالب ينحرف به عن الطريق حتى وصل به إلى مكان خالٍ من الناس.

فقال: يا أبا محمد ! أتدري أين أنت؟ قال له: لا. قال: أنت في جبانة كذا وكذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً.

فحدثه حتى ملأ الواحة، وعاد به إلى البلد، وفي الطريق أعطى هذا الطالب الألواح لزميل له، ومضى مع الشيخ ليرده إلى البلد، فلما سمع الأعمش الأصوات عرف أنه في البلد، فأمسك الطالب وجعل يصرخ: أخذ مني الألواح، فقال له الطالب: لقد أعطيتها فلاناً، فقال الأعمش : كل ما حدثتك كذب، فقال: أنت أعلم بالله من أن تكذب.

فإذا أتى طالب العلم إلى حلقة العلم وهو رافع أنفه لأنه فلان ابن فلان؛ فإنه لا يصلح لطلب العلم، ولأجل ذلك كان الشيخ يقسو عليه ويكسر داعي الكبر فيه.

ولله در مجاهد بن جبر حين قال: (لا يتعلم اثنان: مستحٍ ومتكبر)، فالمستحي يحمله الحياء أن يظهر بمظهر طلاب العلم، والمستكبر: يرى أن هذا العمل لا يناسبه، فهو ابن فلان أو ابن علان، ولذلك لا يتعلم إلا من كُسر فيه داعي الكبر.

وجاء رجل إلى الأعمش ، فقال: يا أبا محمد ! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ الأعمش بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده.

وجاء رجل من الغرباء إلى حلقة الأعمش ، وكان الأعمش لا يحب أن يجلس أمامه أحد، فجاء والمجلس ممتلئ ولا يوجد مكان إلا بجانب الأعمش، فقعد بجانبه، فكان الأعمش يقول: حدثنا فلان، ويبصق عليه، فصبر الطالب على هذا البصاق حتى انتهى المجلس.

ومما يروى في شدة الأعمش مع تلاميذه: أنه عندما أكثروا عليه، وكل يوم يأتون إلى منزله، اشترى كلباً، وكان الكلب عندما يسمع أقدام المحدثين يلحق بهم، فيهربون، وفي ذات مرة كان هناك ثلاثة تلاميذ وهم: أبو إسحاق السبيعي ، وشعبة ، وسفيان الثوري ، فذهبوا إلى بيت الأعمش ، وكانوا كلما أتوا إليه خرج عليهم الكلب، فيفرون ويرجعون مرة أخرى، فذات يوم اقتربوا من البيت بحذر خشية أن يخرج عليهم الكلب، وكانوا كلما اقتربوا لا يسمعون حسيساً للكلب، حتى وصلوا الدار ولم يخرج الكلب، فدخلوا على الأعمش ، فلما أحس بهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد ؟!! قال: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: الكلب.

وهل كان الأعمش شحيحاً بحديثه؟

لا. بل كان الأعمش من أكثر الناس حديثاً، وحديثه منتشر ومبثوث في الكتب.

لكن.. لم هذه الشدة؟ لتأديب طلبة العلم، وقد ورث عنه هذه الشدة تلميذه: أبو بكر بن عياش ، فقد كان شديداً، فجاءه تلاميذه يوماً فقالوا: يا أبا بكر ! حدثنا بحديث، فقال: ولا بنصف حديث، فقالوا له: رضينا منك بنصف حديث، فقال: اختاروا السند أو المتن؟ والسند: هو سلسلة الرجال، وسمي سنداً لأن كل راوٍ يسند ما سمعه إلى شيخه، وهذا يسنده إلى شيخه... وهكذا، فقيل: مسند، أو قيل: سند، والمتن: هو الكلام نفسه، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟

فقالوا: يا أبا بكر ! أنت عندنا إسناد، فأعطنا المتن، فقال: (كان إبراهيم يدحرج الدلو).

فقال الخطيب البغدادي : انظر إليه! شح عنهم بما ينفعهم. ومع ذلك كانوا يتهافتون عليه.

والإمام يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل (أكبر موسوعة للرواة) أتى إليه رجل مستعجل، وقال له: حدثني بحديث أذكرك به. فقال له: (اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل). أي: إذا كنت تريد أي شيء للذكرى، فاذكر رفضي تحديثك، وأبى أن يحدثه.

وعلماء الحديث كانوا يفعلون هذا تأديباً لطالب العلم.

وهذا أبو يوسف كان معه حلقة تضم بعض طلبة العلم، وذلك في حياة أبي حنيفة ، فبعث أبو حنيفة أحد تلامذته وأمره أن يسأل أبا يوسف بها، فحضر حلقته وبدأ يسأل، فسأل السؤال الأول فأجاب أبو يوسف ، فقال السائل: أخطأت، وكذا في السؤال الثاني والثالث. فقال أبو يوسف : والله ليس هذا من قولك، هذا من قول أبي حنيفة ، ومعنى ذلك أنه وصلت أبا يوسف الرسالة التي أرسلها أبو حنيفة ، فكأنه قال له: لست شيخاً، ولا تصلح أن تكون شيخاً الآن، فرجع أبو يوسف فلزم مجلس أبي حنيفة إلى أن مات.

وكذلك ما يروى عن الإمام الشافعي أنه عندما ذهب يتعلم ويأخذ العلم عن محمد بن الحسن الشيباني -والإمام الشافعي أرفع قدراً في العلم وأتبع للآثار من محمد بن الحسن ، مع جلالة الكل رحمة الله عليهم- فذهب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس في مجلسه كالتلميذ، وكان لا يعجبه بعض ما يفتي به محمد بن الحسن ، فكان لا يواجه محمد بن الحسن في المجلس، ويقول له: أنت أخطأت، لكن كان الشافعي بعدما يقوم محمد بن الحسن من المجلس يقوم ويناظر بعض طلابه فيظفر عليهم، ولا يستطيعون الإجابة، فلما أكثر الشافعي عليهم شكوه إلى محمد بن الحسن ، وقالوا له: عندما تقوم من هنا يأتي والشافعي فيلزمنا بإلزامات لا نستطيع أن نرد عليه، فلما جاء محمد بن الحسن وجلس في المجلس قال للشافعي : بلغني أنك تجادل أصحابي وتناظرهم، فهلا ناظرتني، فقال له الشافعي : إني أجلك عن المناظرة. أي: لأنك شيخي، وأنت أرفع من أن يناظرك مثلي.

فقال له محمد بن الحسن : لابد أن تناظر. فناظره الشافعي فظفر عليه، فرجع محمد بن الحسن إلى كثير من أقوال الشافعي ، رحمة الله عليهم أجمعين.

وقد استعمل الشافعي هذا الأدب وهو عند مالك ، فقال: (كنت أقرأ الموطأ على مالك فأصفح الورق صفحاً رقيقاً لئلا يسمعه مالك ).

وهذا الأدب ورثه تلاميذ الشافعي، فهذا الربيع بن سليمان المرادي راوي كتب الشافعي ، يقول: والله ما جرئت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ.

وأنا والله لقد انتفعت بهذا غاية النفع، عندما رحلت إلى الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1406هـ) ووجدت أن الأدب هو الذي يجعل للتلميذ منزلة في قلب الشيخ.

وكان الزهري الإمام العالم محمد بن مسلم يقول: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً حينما كان يماري ابن عباس )، وذلك أن أبا سلمة كان كلما أتى ابن عباس يدخل معه في جدال، وكان ابن عباس يحجب عنه علمه ولا يفيده. وأبو سلمة كان إذا علم علماً ظهر به.

وقد سمعته عائشة رضي الله عنها يحدث بحديث : (الماء من الماء) ، وهذا كان في أول الإسلام. (الماء الأول) هو الغسل -ماء الاغتسال- و(الماء الثاني) ماء المني. والمعنى: أ، الرجل إذا أمنى اغتسل، فقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ، فصار الاغتسال بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، وعند مسلم : (وإن لم ينزل) ، على خلاف بين العلماء، فعندما سمع أبو سلمة حديث : (الماء من الماء) من بعض الصحابة؛ كان دائماً يردده، وفي ذات مرة كانت عائشة تسمعه، فقالت: (يا أبا سلمة ! أتدري ما مثلك؟ إن مثلك كمثل الفرّوج يسمع الديك يصيح فيصيح) أي: لست بعالم، فهي تريد أن تقول: أنت لم تتحقق مما تقول، إنما سمعت رجلاً يصيح فصحت، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) أي: لقد قلت قولاً لم تتحققه.

وأبو سلمة هذا بخلاف ابن جريج ، فقد قال ابن جريج : (لقد استخرجت علم عطاء بالرفق). فقد لازمه عشرين سنة، فأخذ عنه كل علمه بالرفق.

وابن حبان -صاحب الصحيح- تلميذ ابن خزيمة -صاحب الصحيح أيضاً- كان يرحل بعد ابن خزيمة في كل سفر، ويكتب عنه كل شيء، وذات مرة كان ابن حبان يسأله حتى تضجر منه ابن خزيمة ، فقال له: تنح عني، فقام ابن حبان وأمسك القلم وكتب: تنح عني. وقال: لا أدع كلمةً للشيخ إلا كتبتها، فقد أستفيد منها يوماً ما.

وأنا عندما ذهبت إلى الشيخ الألباني كنت آتيه فيتعذر بضيق وقته، فقلت له: أعطني خمس دقائق، لأنني ما رحلت إليه إلا لكي أسمع منه. فقلت في نفسي: إذا كنت خرجت من بلدي لطلب العلم فسيصلح الله أمري، وإذا كنت خرجت رياءً فجزاءً وفاقاً لي سأرجع خائباً، فجئنا في فجر اليوم التالي، فقال لي: سأعطيك عشر دقائق كل يوم، ومنَّ الله عليَّ، حتى أصبحت هذه العشر الدقائق ساعة، فكنا يوم نخرج معه بالسيارة، ونسأله أسئلة وهو يجيب عنها.

وهناك كتاب للإمام: الخطيب البغدادي اسمه: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. ذكر فيه الخطيب البغدادي أدب الإملاء والاستملاء، وجملاً طريفة من هذه الآداب، ومسألة الأدب مع الشيخ.

طول الزمان

قوله: (وطول زمان)، وهذا إشارة إلى أن المرء إذا طال عمره في العلم كان أقوى في الفتوى، فما أعجب اعتراض بعض طلاب العلم على المشايخ وهو ليس له في طلب العلم إلا سنة واحدة! نسأل الله السلامة! عمره سنة واحده في طلب العلم ومع ذلك ما ترك أحداً إلا وقال: أخطأ فلان وفلان.. وأنا أعرف طالباً في الجامعة كتب كتاباً يحكم فيه بين المتنازعين في الحديث، عالمان من العلماء الكبار متنازعان في تصحيح حديث.

قال: فلما رأيت الشيخين الجليلين اختلفا أحببت أن أفصل بينهما.

أهذا من الأدب؟ طالب يفصل النزاع بين البخاري ومسلم إن طول العمر يكسب الملكة في الاستنباط، وهي لا توجد في الكتب ولا تدرس، بل تحتاج إلى عمق وممارسة.

مثلاً: مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر، ورد فيها هذا حديث صحيح وهو من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعاً في الحضر من غير سفر ولا مطر، فسئل ابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته) ، مع أن الأصل أن الصلاة تقام في وقتها: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، لكن هذا الجمع في الحضر يحتاج إليه بعض الناس، كدكتور سيعمل عملية تستمر ست ساعات، وفتح بطن المريض قبل الظهر بساعة، فسيأخذ ست ساعات، بمعنى أن الظهر سيضيع عليه، فلو قلنا له: اترك المريض واذهب إلى الصلاة؛ لن يرجع إلا وقد مات المريض. لكن نقول له: لك رخصة في جمع التأخير، فاعمل العملية وأخر الظهر إلى وقت العصر.. لماذا؟ لأن هذا فيه حرج، فترك المريض وبطنه مفتوحة حرج شديد.

كذلك مثلاً: إذا كان المريض أباً أو أماً أو أخاً، وهناك ضرورة ملحة لأن تقف بجانبه، فيجوز لك أن تترك صلاة الجماعة، وتجمع بين الصلوات، لكن إذا أتى رجل وقال: هل يمكن لي أن أجمع بين الصلاتين، وليس عنده عذر، وأجزت له؛ فسوف يتخذ هذا الحديث ذريعةً لإهماله، ويجمع الظهر مع العصر، ويقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الظهر والعصر. فالواجب عليك لمثل هذا الصنف من الناس ألا تعطيه الفتوى بالجواز.

وهذا مثال آخر يبين أن الملكة لا تأتي إلا بالممارسة: أبو حاتم الرازي رحمه الله، مر عليه حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن زيد بن عبد الله ، فقال أبو حاتم : هذا لا يشبه أحاديث الأعمش . لقد أصبح يسمع الحديث فيعرف راويه، كما يتذوق أحدنا في بيته الأكل فيميز بين الجيد والرديء، فأصبحت هذه الأحاديث عند أبي أبي حاتم من كثرة الدربة والممارسة لها علامة خاصة، فأول ما يسمع بحديث للأعمش يقول: هكذا أحاديث الأعمش .. رجل له ملكة، وهنا قال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش ، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين - وعمرو بن الحصين متروك، كذبه بعض العلماء- قال أبو حاتم : ثم رحلت إلى بلد كذا وكذا وإذا بي أجد الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان عن جابر ، قد دلسه الأعمش فأسقط عمرو بن الحصين . ما الذي عَّرف أبا حاتم أنه من حديث عمرو بن الحصين ؟!

لأن أحاديث عمرو بن الحصين لها مذاق خاص عند أبي حاتم الرازي . وهذا يحصل بالدربة، ولممارسة، وبكثرة النظر.

(وطول زمان) إشارة إلى أن العلم لا يذلل لصاحبه إلا بطول الزمان. وكم من مسائل كنت أتشبث بها وأظنها هي عين الصواب، فتبين لي فيما بعد أنها عين الخطأ.

الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له

وأختم هذا الدرس بفائدة ذكرها العلماء، يقولون: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. والكلام هذا موجه لأحد الجهلاء العابثين الذي نشر كتاباً بعنوان: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب). وقد تكلم عن مفهوم المخالفة في هذا الكتاب ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى: . إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]؛ فمفهوم المخالفة: ولو جاءكم عدلٌ فلا تتبينوا، المفهوم عكس الكلام.

إذاً: ضبط الكلام الذي هو مفهوم المخالفة، فأول الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)، قال العلماء: فيه دلالة على أن المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الكلام إذا ورد مقيداً ثبت الحكم للمقيد وانتفى عما عداه، فإذا قلت: لا تنتقب المرأة المحرمة، فقد قيدت الحكم بإحرامها، إذاً عكس الإحرام أن تنتقب، فقال مؤلف هذا الكتاب: إن مفهوم المخالفة ليس بحجة، وإذا قلتم أن مفهوم المخالفة حجة، فأنا ألزمكم بأكل الربا، قال: إن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فعلى قولكم يجوز أن يؤكل مرة واحدة، هذا مفهوم المخالفة -حسب زعمه-: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، مفهوم المخالفة كلوا ضعفاً واحداً، فنقول: لو أننا قلنا بمفهوم المخالفة مثلكم لأحللنا الربا.

وهذا رجل جاهل؛ لأن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له، ليس له مفهوم ولا يعتبر به، فلما كان العرب يضاعفون أكل الربا قال الله لهم: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فليس في ذلك حل لأكل الربا ضعفاً واحداً؛ إذ أن الكلام تنزل على الغالب من فعلهم، وإلا فأنا ألزم هذا الجاهل بإلزام لا انفكاك له منه، وهو: أن الله عز وجل حرم على الرجل أن يتزوج ابنة امرأته التي هي ربيبته، قال الله عز وجل: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، فنقول: الربيبة في الحجر، أي: التي ربيتها في حجرك، فربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تتزوج الربيبة التي ربيتها في حجرك، فهل يجوز أن تتزوج الربيبة التي لم تربها في حجرك؟ لا يجوز إذاً: هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأن المرأة إذا كان لها ابنة صغيرة وتزوجت، فإنها تأخذها إلى بيت زوجها، هذا هو الغالب من فعل النساء، وليس الغالب أن تترك المرأة بنتها الصغيرة تتربى عند زوجها الأول، بل الغالب من فعل النساء أن المرأة تصطحب ابنتها الصغيرة لتتربى عندها في حجر زوجها الجديد، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهومه هدر، ولا يعتبربه.

ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه) ، فلو كان زوجها غائباً وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها الصوم.

فما معنى: (وزوجها شاهد)؟ قالوا: قيد الامتناع بالحضور، فهذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الرجل لا يحتاج إلى زوجته إلا وهو شاهد معها، فعندما غاب عنها لا يحتاج إليها عادة، فخرج الكلام مخرج الغالب، وإلا فلو سافر وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها أن تصوم، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهوم المخالفة خبر لا يعتبر به. وهذا الفهم لا يحصله الإنسان إلا بعد وقت في البحث، وبجميع الأمثلة؛ حتى يكون عنده تطور في القواعد، وملكة في الاستنباط، ولذلك فطول الزمان جزء مهمٌ في تنمية الملكة التي تكون عند العالم المتبحر، ولا تكون عند طالب العلم المبتدئ.

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , آداب طالب العلم[1-2] للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net