إسلام ويب

إن العبد قد يحب مخلوقاً فيتعلق به، ويصير ذكره على لسانه، فإذا به يدمن ذكر المخلوق وينسى الخالق الكبير! ألا وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك أمرنا الله عز وجل بذكره والتعلق به في أحلك الظروف عند اشتداد الكروب وتتابع المحن، وأمرنا كذلك بذكره عند طول الغربة، فالإنسان عندما يفارق الأهل والأوطان ويغيب عنهم طويلاً يستوحش فيصير ذكرهم على لسانه، وبالمقابل فهو لا يشعر بالوحشة إذا غفل عن ذكر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

توطيد دعائم الدين في بناء المساجد والحب في الله

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لقد أخبر العارفون بالإسلام من الكلام عن أدواء المسلمين، والبحث عن العلاج لها.

وفي ظني أن أمراض المسلمين لا تخرج عن شيئين، ومن تدبر صنيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة لاح له هذا الأمر، فمِن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة فعل شيئين:

الشيء الأول: أنه بنى المسجد.

الشيء الثاني: أنه آخى بين المهاجرين والأنصار.

لا تستقيم الدنيا -فضلاً عن الآخرة- للناس إلا بهما؛ بنى المسجد لتوطيد العلاقة بين الناس وربهم، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار لتوطيد العلاقة بينهم.

فالعلاقة تكون بين العبد وربه أولاً.

ثم بين العبد وأخيه.

جاء في صحيحي البخاري ومسلم : من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عمرو بن عوف، فمكث فيهم أربع عشرة ليلة، ثم نادى بالأنصار، فجاء بنو النجار مدججين بالسلاح، فأتى حتى وصل إلى فناء دار أبي أيوب الأنصاري -وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حيث أدركته الصلاة- فنظر فرأى حائطاً لبعض بني النجار، فقال: يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا -أي: أعطوني هذا الحائط بالثمن لنبني المسجد عليه-، فقالوا: والله لا نأخذ عنه ثمناً ولا نطلبه إلا إلى الله عز وجل، وكان في هذا الحائط نخل، فأُمِر به فقُطِع، وكان فيه خرب فسويت، وقبور للمشركين فنبشت، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قَبْل أصحابه يحمل اللَّبِن، وهو يبني المسجد ويرتجز:

اللهم لا عيش إلا خير الآخرةفاغفر للأنصار والمهاجرة

وكان الصحابة رضي الله عنهم يحملون اللَّبِن، حتى إن عمار بن ياسر إذ ذاك مريضاً، وكان ناقهاً: -أي: في فترة النقاهة بعد مرضه- فكان يحمل لَبِنَتين لَبِنَتين، والناس يحملون لَبِنةً لَبِنة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن ظهره، ويقول: يا ويح ابن سمية ! تقتله الفئة الباغية).

وكان هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

فتمتين العلاقة بالله عز وجل هي الأصل.

وتمتين العلاقة بين الناس بعضهِم ببعض فرعٌ على هذا الأصل.

فإذا اتقى المرء ربه، لم يظلم أخاه.

إذاً: الأصل هو تمتين علاقتك بالله، وهذا هو الذي ندندن عليه، لو استقام العود لاعتدل الظل، وكيف يعتدل ظل والعود أعوج؟!

وجرب أن تعبد ربك بالحب، فلو عبدته بالحب لرأيت فرقاً عظيماً جداً بين أدائك للعبادة به، وبين أدائك للعبادة بدونه.

كثرة نعم الله علينا وضعف محبتنا له

لماذا لا نحب الله؟!

هذا سؤالٌ مر! لكنه واقع ما له من دافع!

لماذا لا نحب الله عز وجل وقد تحبب إلينا بسائر نعمه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]؟!

وإنما قال: نعمة على الإفراد ولم يقل: نِعَم؛ لأنه إذا جاز لي أن أعجز عن عد نعمةٍ واحدة، فلأن أعجز عن عد نعمه من باب أولى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

وقال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم:34].

وربنا عز وجل يقول: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] أي: لا يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه، لا يرد الصنيعة إلا لئيم، وكثير من العباد لئام، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] أقل الناس هو الذي يشكر، والاعتراف بالنعمة أول بوابة الحب.

ولذلك لما شمخ إبليس لعنه الله بأنفه، وحاج ربه تبارك وتعالى، وأقسم أنه سيقف على الطريق لعباده يصدهم عن الله عز وجل قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17] أكثرُ شيء مُرُّ: أن تُسْدِي الصنيعةَ ثم تتهم بأنك أسأت، البريء المظلوم: هو أشد الناس تجرعاً للمرارة.

فلو نظرت إلى موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، لعلمت مدى المرارة التي تجرعتها العفيفة، الغافلة المؤمنة، لما اتهمت في عرضها بالزنا.

ومع ذلك فيا لَحِلْمَ الله! ما أحلمه على عباده! كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أحدٌ أصبر على أذى يسمعه من الله! إنهم ليدَّعون أن له ولداً ،وأنه لا يحيي الموتى ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم، ولو أن العبد ملأ طباق الأرض ذنوباً ثم تاب مسح ذنبه واجتباه، وجعله من أوليائه، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى).

فأكثر شيء وأثقل على النفس: رد الجميل، ولذلك قال إبليس: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].

فلماذا لا نحب الله عز وجل، وهو الذي يتحبب بالنعم؟!

من أهم العلامات في محبة الله تبارك وتعالى أنك تؤثر عليه ولا يضرك لوم اللائمين، بل تستعذب الأمر كلما ضيقوا عليك، هذه هي الثمرة العظيمة من المحبة في حال إقبالك عليه تبارك وتعالى، إقبال قلبك .. فإن الإقبال لا يكون إلا بالقلب، ثم تنفعل الجوارح بالقلب، ففي حال إقبالك على الله تبارك وتعالى تشعر بذاك السمو، كما حدث بذلك الأنصاري، كما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسندٍ قوي: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، فدخل الصحابةُ دار رجلٍ من المشركين، فأصابوا امرأته -أي: أسروها- فلما جاء المشرك وعلم بالأمر أقسم أن يريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دماً، ثم قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً، وهم في بعض الطريق عرسوا -أي: ضربوا بخيامهم وباتوا- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن رجلان يكلآنا في نومنا؟ فقام رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، فقالا: إنا نكلؤك يا رسول الله! فنام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وانتصب هذان، فقال الأنصاري للمهاجري: تكفيني أول الليل أم آخره؟ قال: بل أكفيك آخره، فنام المهاجري ووقف الأنصاري وصف قدميه لله عز وجل ودخل في الصلاة، فجاء الرجل المشرك يبحث عن المسلمين -لأنه أقسم أن يريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دماً- فرأى هذا واقفاً، فعَلِم أنه طليعة المسلمين، وأنه هو الذي يحرسهم، فجاء بسهم وضربه، فلم يتحرك، فذهب المشرك وانتزع السهم منه، ثم عاود فضربه وهو لا يتحرك، فعاود المشرك فانتزع السهم منه، ثم جاء الثالثة فضربه، والمسلم لا يتحرك -الأنصاري- ثم ركع، ففر المشرك، وإذا بالأنصاري يموت دماً، فأيقظ المهاجري فلما رآه كذلك فزع، وقال: ما هذا؟ فأخبره بالأمر، فقال له: رحمك الله فهلا أيقظتني؟ قال: والله لولا أنني على ثغرٍ من ثغور المسلمين ما قطعت صلاتي حتى أتم قرآتي ولو تقطعت نفسي).

فأين إحساس هذا الإنسان؟!

ثلاث مرات يُضْرَب بالسهم ويُنْزَع السهم منه، ومع ذلك لا يتحرك، هذا هو الإقبال على الله تبارك وتعالى.

إن آباءنا ما ربونا على محبة الله عز وجل، ولا على تعظيم حرمات الله عز وجل؛ لأنهم عاشوا في أيام الاشتراكية ومسخ الهوية الإسلامية، وشربوا كل الهزائم، فورثوا هذا الضعف، آباؤنا يطلبون منا تحصين حياتنا، ويطلبون منا أن نكون في حالنا، ويطلبون منا أن نأكل عيشاً كالأنعام، هذه مطالب الآباء حتى الساعة.

من مقتضيات الشهادتين

من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله استشعار عظمة الله

من مقتضيات (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) أنه إذا وصلك الأمر من الله عز وجل أن تعتقد أنك ترى هذا الأمر، وإذا وصلك الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتقد أنه هو الذي يأمرك، وهذا معنى قولك: أشهد، أي: أرى بعيني: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الرعد:9] الغيب ضد الشهادة، فعندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: كأنك تقول: أنا أشاهد الله، فإذا علمت أنك بنظر الله عز وجل لم يقف قلبك على مشهد العصيان أبداً، ولا تستطيع.

وجاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أوصني، قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك) فهل يستطيع رجلٌ مهما كان فاجراً جريئاً أن يأتي على أصلح الناس في قومه فيفجر أمامه؟! لا أظنه يجرؤ على ذلك، يقول: (أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك).

فإذا قلت: (أشهد أن لا إله إلا الله) كأنك تراه، وإذا قلت: (أشهد أن محمداً رسول الله) كأنك تراه وهو يأمرك.

وللأسف الشديد أن المشركين الأوائل كانوا يفقهون هذه الكلمة أكثر من بعض المنتسبين إلى العلم الآن من المسلمين، كان أبو جهل أفقه لمعنى (لا إله إلا الله) من هذا الذي ينسب إلى العلم ويقول: إن الطواف بالقبور ليس شركاً!

لماذا قامت الحروب؟! ولماذا صَبَر العرب على حشد الغلاصم، وقطع الحلاقم، ونفذ الأراقم، ومتون الصوارم؟

لا إله إلا الله! يا أخي! قل: لا إله إلا الله وانته.

لماذا تقوم الحروب؟! لماذا تسبى النساء؟! لماذا نضحي بالأموال الكثيرة؟!

كان يمكنهم أن يقولوها وينتهوا؛ لكنهم أبوا أن يقولوها، ورضوا أن يدخلوا في حروب متوالية ولا يقولوها، لأنهم كانوا يفهمون أن معنى لا إله إلا الله أن الحكم لله، وليس لأحدهم بعد ذلك أن يأخذ أو يتسلط بالبغي والعدوان.

من لوازم شهادة أن محمداً رسول الله استشعاره بأنه الآمر

ومن لوازم (أشهد أن محمداً رسول الله) أن تتخيل النبي عليه الصلاة والسلام في كل أمرٍ يصلك على لسان رجلٍ ثقةٍ عالم إذا قال لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا .. تعتقد أنه هو الذي يأمرك، ورأيت مرة في مسجد خاتم ذهب في يد رجل، فقلت وأنا أتكلم: مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصحابة يوماً وهو آخذ الحرير في يدٍ والذهب في يدٍ، وقال: (هذان حرامٌ على ذكور أمتي، حل لإناثها) فإن كنت ذكراً فاخلع الذهب؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: (حرام على ذكور أمتي).

يا أخي! تخيل أنك صحابي، وأنك جالس الآن وأمامك النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى ذلك الذهب، فقال لك: اخلع الذهب؛ لأن هذا لا يحل لك، ما هو الرد؟

فسكتَ.

فقلت: لا. أنا أريد أن أسمع الرد منكم جميعاً، الرسول عليه الصلاة والسلام واقف الآن ومعنا في هذا المسجد، ورأى بعض المسلمين يلبس الذهب، فقال: اخلع عنك الذهب، فقالوا جميعاً: نسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام ونخلع الذهب، وأنا أنتظر أن يخلع الرجل الذهب، فلم يخلع!

هذا هو الفرق بين هذه الأجيال المتعاقبة وجيل الصحابة.

كيف مكن للصحابة ولم يمكن لنا؟

الآن في باكستان عندما قالوا: إنهم أجروا ست تجارب نووية، خرج الناس يضربون بالرصاص في الشوارع فرحين، لا يصدقون أنفسهم، وبعض المسلمين انتشوا وشعروا بشيء من العز، رغم أن هذا لا قيمة له في الحقيقة، كل هذا ذر للرماد في العيون.

أمة ضعيفة مستضعفة، تعيش على هامش الدنيا.

قال لي أحد الإخوة: إن أهم خطر يواجهنا الآن هم اليهود، يجب أن نعلم أولادنا ورجالنا ونساءنا طبيعة اليهود.

فقلت لمحدثي: وما الفائدة؟! عرفناهم أنهم جبناء، كما قال الله عز وجل، وأنهم لا يحبون بعضهم، بأسهم بينهم شديد؛ لكن بعد كل هذا أنت تعرِّف مَنْ؟ تعرِّف رجالاً لم يحققوا عبودية الله في أنفسهم وأولادهم؟! ما هي الفائدة؟!

إن حقيقة دائنا أننا لسنا عبيداً لله كما أمر الله، في بيوتنا كثيرٌ من المخالفات ليس للدولة فيها دخل، لماذا لا تزيل هذا التلفاز من بيتك؟!

لماذا لا تحجب امرأتك؟!

لماذا لا تحجب ابنتك؟!

لماذا تصلي في البيت أنت وأولادك والأذان على رأسك؟!

مخالفات كثيرة يجب على ولي الأمر ورب البيت أن يزيلها ومع ذلك لا يزيلها!

هذا الذي ما نزع خاتم الذهب من يده رغم سماعه للكلام، في مقابله صحابي آخر روى قصته الإمام مسلم في صحيحه، أنه كان يلبس خاتم الذهب، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فنزع منه الخاتم، وقال: (أيعمد أحدكم على جمرةٍ من نارٍ فيضعها في يده، فلما هم الصحابي أن يقوم من مجلسه وقد ترك الخاتم على الأرض، قال له بعضُ الصحابة: خُذ خاتمك فانتفع به، فقال: ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) حتى لا ينتفع به، ولا يأخذه عنده، هذا هو الفرق.

فالعبادة تكون بالحب، وهذا الحب ثمرته الإقبال على الله، فرق كبيرٌ بين هذا وبين الذي يعبد الله عز وجل كالموظف الذي يذهب إلى الديوان ليوقع.

فالذي يحب الله تبارك وتعالى يستعذب اللوم فيه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

ويرحم الله أحد الشعراء المجيدين لما قال:

وقف الهوى فيَّ حيث أنتفليس لي متأخرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ

وأهنتني فأهنتُ نفسي جاهداًما مَن يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائي فصرت أحبهمإن كان حظي منك حظي منهم

أجد الملامة في هواك لذيـذةًحباً لذكرك فليلمني اللـوَّمُ

وقال الآخر:

يخط الشوقُ شخصك في ضميـري على بعد التزاور خط زور

ويوهن لي طول الفكر حتىكأنك عند تفكيري سميري

فلا تبعد فإنك نور عينـيإذا ما غبت لم تظفر بنوري

إذا ما كنت مسروراً لهجريفإني مِن سرورك في سرور

ويرحم الله أبا الطيب المتنبي حيث يقول أيضاً في هذا المعنى:

يا من يعز علينا أن نفارقهـموجداننا كل شيء بعدكم عدم

إن كان سركم ما قال حاسدنافما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم

طالما أن هذا يرضيك رب فزده؛ لأن المسارعة إلى مرضاة الله تبارك وتعالى من ثمرتها الصبر، كما قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:83-84] كلما عجلتَ إلى الله عز وجل رضي عنك.

من علامات حب الله الإكثار من ذكره

أيها الإخوة الكرام: هل يعجل ويمد الخطا إلى الله غافلٌ عن ذكره؟!

إننا نرى في سير المحبين: أن الرجل إذا تعلق قلبه بحب آخر أكْثَرَ من ذكره، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نكثر من ذكره وهذا علامةُ الحب.

وسن لنا النبي صلى الله عليه وسلم الأذكار الموظفة في الصباح والمساء وما بينهما إقامةً لذكر الله، وإعلاناً لحبه، فأول مذكورٍ إذا فتحت عينيك هو الله، وآخر مذكورٍ إذا أغمضت جفنك هو الله، هكذا فليكن الحب! إذا فتح المرء عينيه أول شيءٍ يقرع لسانه هو ذكر الله عز وجل، شرع لنا الأذكار، إذا استيقظ المرء يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله -أول كلمة ينطق بها- والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أول ما تستيقظ ترفع راية العبودية أن المُلْك لله، وأنك عبد ليس لك ملك، كله عاريةٌ مستردة، فلماذا يستطيل على الخلق؟! وأعجب ما يكون أن يقطع رجلٌ رحم أخيه للمال! الذي يقطع رحم أخيه للمال فبِعه بيعاً رخيصاً بثمن بخس، ليس لأحدٍ ملكٌ على الحقيقة، إنما هو ملك اعتباري وله آثار مترتبةٌ في الدنيا، إذا سرقه أحد قُطعت يده؛ لكن إذا نظرنا بصورة أوسع وجدنا أنه ملك اعتباري بالنسبة لملك الله عز وجل.

فالإنسان إذا أصبح يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فهذا دليل على الافتقار، وأنه ليس بيده شيء، وأنه محتاج للذي بيده الملك، فأول شيء يعلنه: (الملك لله) مع فقرك إليه: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله).

إذا أصبح عليك الصباح، وفتحت عينك، وحركت لسانك، وذكرت ربك أنك أفضل من الذي حصل الدنيا جميعها، فكونك تذكر الله عز وجل، هذا شكرٌ يحتاج إلى حب، فإذا عجزت أن تؤدي شكر الحب فمتى تؤدي الشكر؟! (والحمد لله، ولا إله إلا الله). وهذا أيضاً إعلامٌ منه أنه عبدٌ، وأن له إلهاً يعبده.

ثم في قوله: (الحمد لله) إشارةٌ دقيقة بعد ذكر الملك في (أصبحنا وأصبح الملك لله) والحمد لله أي: أن الملك له لا لغيره، لو كان الملك لغيره لشقينا قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً [الإسراء:100] بل يد الله ملأى، لا يغيضها شيء سحاء الليل والنهار.

قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم ما أنفق منذُ خلق السماوات والأرض) كم أنفق منذُ خلق السماوات والأرض؟!

لو أرادت الدول كلها أن تعمل تكييفاً مركزياً للكون -حرارة في أيام الشتاء، وبرودة في أيام الصيف- فسيعجزون عن ذلك ولا يستطيعون، انظر إليه كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض!

لما قرأتُ هذا الحديث خطر ببالي أن أقدر النفقة التي أنفقها ساكنو الشارع الذي أسكن فيه -وهو شارع طوله: خمسون متراً فقط- فحسبت بالآلة الحاسبة واعتقدت أن مسكني مقياس في البناء والتشطيب والديكورات، وهو مسكن متواضع جداً جداً بالنسبة للناس الذي يشتري أحدهم الشقة بسبعين مليون جنيه. أحد أصدقائي له صديق سعودي عنده شقة من دورين في عمارة وهذا السعودي أراد أن يبيع هذه (الفيلا) الصغيرة، ووكل صديقي أن يبيعها، وأعلن إعلاناً في الصحف أن هناك (فيلا) للبيع، في ميدان لبنان، والمواصفات مع صاحب الإعلانات، يقول: كاد قلبي أن يقف عندما اتصل لي أحدهم وقال: بكم تبيع هذه (الفيلا)؟

قال: بمليون وسبعمائة ألف.

قال له: أكيد تشطيبها سيء.

ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني أنه ثمن بخس، مليون وسبعمائة ألف!

فخطر ببالي أن أعمل حساباً للشارع الذي نسكن فيه ثلاثين عمارة، في كل عمارة خمسة أدوار، كل دور يكلف كذا، والتشطيب كذا. ثم خطر ببالي أن آخذ الشارع الذي بجانبي، والشارع الذي بجانبي، فإذا بي أجد خلال ثلاثة أو أربعة شوارع فقط أن النتيجة معي: ستين مليون جنيه، فوزع تلك النتيجة على المدينة كلها، ثم وزعها على الجمهورية كلها، ثم وزعها على العالم، وانظر هذا العالم كله الذي هو مبني على الأرض كم نتيجته؟ ثم تدبر قوله صلى الله عليه وسلم فانظر كم أنفق منذُ خلق السماوات والأرض؟! لتعلم غناه، ومع ذلك وحتى تقوم الساعة يقول الله عز وجل: (لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم قاموا في صعيدٍ واحد فسأل كل واحدٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أخذتَ إبرة وأدخلتها في البحر المحيط، فانظر كم أخذَتْ هذه الإبرة من البحر، فهذا الذي ينقص مما عند الله تبارك وتعالى، فالحمد لله أن الملك له، تبارك وتعالى: (يدُه ملأى لا يغيضها شيء سحاء الليل ولا النهار).

أولاً: تقول: الحمد لله بعد ذكر الملك، أي: الحمد لله أن الملك له.

ثانياً: أن الله عز وجل وَلَو يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس:11].

وتدبر يا أخي الكريم إذا وقعت في مظلمة فإنك تتمنى تَلَفَ ظالمك وتتمنى له الشر، ومن غيض قلبك تتمنى لو أنه أمامك وأنه عُرِّض لأفتك الأمراض، وأنه ذليل وأنك تتشفى فيه.

الله عز وجل ليس كعباده، يملأ الإنسانُ الأرضَ ظلماً وبغياً وعدواناً ويستجيب الله له ويتوب عليه، ويجعله من أفضل أوليائه، وهذا هو الفرق بين صفات الله وصفات عباده، صفات الله عز وجل كلها حسنى.

فالحمد لله أن الملك له، هذا أول ذكرٍ تذكره أيها الأخ الكريم عندما تفتح عينك في الصباح، فكم عدد المسلمين الذين يفتتحون يومَهم بغير الذكر؟! إذا علمت أن عددهم أقل من القليل، علمت أن أكثر أهل الأرض أدعياء للمحبة، ولا يحب أحدٌ أحداً إلا أكثر من ذكره، كما ذكر سفيان الثوري على رابعة العدوية ، فذكر شيئاً من الدنيا، فقالت: يا سفيان من أحب شيئاً أكثر من ذكره!

فقال لها: صدقتِ.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها الإخوة الكرام: جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام في النصوص، قرآناً وسنةً.

فإذا أرسل المرء طرفه في حياة هؤلاء يتعجب منهم، أنهم يؤدون العبادة بكل الحب، ومن أراد أن يقلدهم عجز وتعب، قال لي قائلٌ يوماً: كلما قرأتُ سير العلماء أو سير الصحابة، فأردت أن أجتهد كاجتهادهم عجزتُ، فما هو السبب؟

قلت له: السبب أن الأمر يمر بمراحل، فالأمر على ثلاثة أقسام:

- أمر وجوب.

- أمر استحباب.

- أمر إباحة.

والنهي على قمسين:

- نهي تحريم.

- نهي كراهية.

فإذا أمرت بأمر فهو أحد هؤلاء الثلاثة، ولا أتصور أنك تفعل الأمر المستحب وأنت مقصر في الواجب؛ لذلك فإن من درب نفسه على الواجب سهُل عليه فعل المستحب؛ لأن باب المستحب واسع جداً، لا يأتي على فعل كل المستحبات إلا نبي.

لكن الواجب يستطيع كل مكلفٍ أن يفعله، لماذا؟

لأنه مأمورٌ به على سبيل الحث والإلزام، ويؤاخذ إذا قصَّر فيه، وإذا علمنا أن من أصول الشريعة أن الله رفع الحرج عن الناس، فلا يُتَصَوَّر أن يأمرهم أمر إيجابٍ يعجزون عن فعله.

إذاً: كل أمرٍ دل على الوجوب فبإمكان المكلف أن يفعله، فإذا عجز عن فعله عجزاً حقيقياً سقط الواجب عنه وصار معذوراً عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنْب). وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).

إذاً: الواجب كله بإمكان العبد أن يفعله.

أما المستحب: فلا يستطيع الإحاطة بالمستحب كله إلا نبي.

ولذلك جُعل الاستحباب علامة الالتزام.

من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب

قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ في شيء أنا فاعله كترددي بقبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته).

إذاً: هناك حبان:

1- حبٌ يأتي بعد الفريضة.

2- حبٌ يأتي بعد المستحب.

قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذا هو الحب الأول (ولا يزال) تأمل هذا الفعل الأول: فَعَل ما افترضه الله فأحبه الله، ثم لا يزال، أي: باستمرار (يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وهي حرفٌ لانتهاء الغاية، تقول: أكلتُ حتى شبعت، مشيتُ حتى تعبت، فكلمة (حتى) حرف لانتهاء الغاية، ولم يذكر هذا اللفظ إلا في النوافل (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه) لكن هذا يدل على أن شوط المحبة لم ينته بعد، هو أحرز المحبة لكنه ما أنهى الشوط (ولا يزال يتقرب .. حتى) إذاً: لا يصل إلى آخر شوط المحبة حتى يتقرب إليه بالنوافل، فإذا وصل إلى آخر شوط المحبة، استحق الثمرة: (كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ...)، إلى آخر الحديث.

ونحن نقيس التزام الإنسان عادةً بالنوافل، فهل تتخيل أن رجلاً يصوم يوم الإثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر أو يوماً دون يوم فيأتي عليه رمضان فيفطر؟!

أنا أعلم يقيناً أنه لا يفطر رمضان لما أراه يصوم الإثنين والخميس؛ لكن يمكنه أن يصوم رمضان ويقصر في النوافل، هل رأيتم رجلاً قام الليل وضيع الفريضة؟ لكن يمكن أن يصلي الفريضة ويضيع قيام الليل.

إذاً: أي العلامتين أدل على التزام هذا الإنسان؟

متابعة النوافل لا الفرائض.

فأنت يا من تسأل! لماذا تعجز إذا أردت أن تقلد الصحابة؟ لو نظرت في نفسك لوجدت أنك قصرت في كثير من الواجبات، فأنى لك إحراز المستحبات؟ لا تستطيع الصبر على المستحب إلا إذا أديت الواجب كما أُمِرت، وكان الصحابة كذلك، فعلوا الواجب؛ لأنهم كانوا يحبون الله.

الصحابة يتسابقون على الموت

يا أخي الكريم! أمرنا الله عز وجل بشيء فيه لمسةٌ جميلة، رأيتها واضحةً جليةً في حياة الصحابة، أنهم كانوا يذكرون الله عز وجل في أحلك الظروف. والإنسان إذا وقع في شر يفقد عقله، ولا يستحضر في هذا المجال إلا من يؤمِّن نصره، ومن يحب، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

وأنت مقبل على عدوك وخائف نتيجة الحرب، اذكر الله عز وجل يثبت قلبك: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45] وكان ذكرُ المحبوب في وقت الخوف من علامة الحب عند بني آدم انظر إلى عنترة بن شداد يقول:

ولقد ذكرتكِ والرماح كأنهاأشطان بئر في لَبان الأدهمِ

فوددت تقبيل السيوف لأنهابرقت كبارق ثغرك المتبسمِ

هذا فائق جداً! الرجل في الحرب والكر والفر، وينظر إلى الرقاب وهي تطير.

الحرب قائمة على قدم وساق، يقول: إن الرماح كأنها أشطان بئر، أنت عارف عندما يكون ثَمَّ بئر ويريد الإنسان أن يستسقي الماء من البئر فيرسل الدلو بحبل، فالرمح عندما يدخل في صدر الفرس مثل هذا الدلو عندما ينزل البئر.

في لَبان الأدهم: أي في صدر الأدهم وهو الجواد الذي يركبه.

فـ(وددت تقبيل السيوف): من كثرة حبه لـعبلة، فإن السيوف ذكَّرته بها وهي تلمع فأحب أن يصل إلى السيوف ويقبلها، ويرى أن هذا من علامة الفخار، أن يذكر محبوبه في مثل هذا الوقت! والله عز وجل أمرنا أن نذكره في وقت الخوف، فتن ظاهرة جداً، ومن قرأ غزوات المسلمين وجد هذا واضحاً جلياً، كانوا يتسابقون على الموت.

أنس بن النضر قَلَّ مَن يعرفه إلا الدارسون، وهو عم أنس بن مالك : في ليلة أحد وجد أنه سيموت في أول من يموت، ثم لما اشتدت الحرب وصرخ الشيطان: مات محمد، وانقسم المسلمون .. وجلس بعضهم يبكي .. فمر أنس بن النضر على جماعةٍ من المسلمين قد ألقَوا أسلحتهم وجلسوا يبكون قال: ما يبكيكم؟

قالوا: مات النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وقاتل حتى قُتِل.

وهذا عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله في صبيحة أحد قال لابنه جابر : يا بني! إني أراني سأقتل في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوص بأخواتك خيراً، وكان مِن أول مَن قُتِل.

وعبد الله بن جحش كان يقول: اللهم لقني عدواً عظيماً حرثُه -سلطان- عظيماً كيده، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني: فيم قتلت يا عبد الله؟ أقول: فيك يا رب.

وهذا عمرو بن الجموح كان شديد العرج، وكان له ستة أولاد كلهم من الفرسان يقاتلون في سبيل الله، فأراد في غزوة أحد أن يخرج فيقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أولاده: يا أبانا! إنك ممن عَذَر الله عز وجل؛ فبكى وقال: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، وشكاهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: دعوه لعل الله أن يرزقه شهادة، وماذا يفعل أعرجٌ في حرب فيها كر وفر؟ فقُتل أيضاً مع الذين قتلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يطأ بعرجته في الجنة وما بها من عوج).

فعندما تنظر إلى هؤلاء الصحابة الذين كانوا يتسابقون على الموت: أفتظن هؤلاء ينافس بعضُهم بعضاً على حُطام الدنيا؟

أبداً!

فقضية العبادة بالحب كانت موجودة جداً عند الصحابة؛ لأنهم حافظوا على الفرائض التي هي على سبيل الوجوب، فهان عليهم المستحب، كالصبر على المظالم مثلاً:

قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنت كذلك فكأنما تسفهم المل -الذي هو الرماد الحار- ولا يزال معك عليهم من الله ظهير ما دمت على ذلك).

فأي الناس يصبر على مثل هذا الذي قاله هذا الصحابي؟ قليل.

فالمستحب دائرته واسعة جداً جداً، لا يحيط بها إلا نبي.

فهذه هي الأوامر، فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يراعون مثل هذا، فكان عندهم ذوق عالٍ جداً.

انظر ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عن أكل الغراب، فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، قال: (مَن يأكل الغراب وقد سماهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟!)

فمجرد أن يسميه فاسقاً لا يؤكل.

انظر! يستدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، لو كان في الغراب خير ما سماه فاسقاً؛ فيستدل بالتسمية على تحريمه، وهذه حجةٌ عجيبة تدلك على ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الفطنة العالية.

وكذلك مثله ما رواه الطبراني في الأوسط بسندٍ فيه لين، أن عبد الله بن عمر وابنه سالم بن عبد الله ، كانا عند الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فقال الحجاج لـسالم : خذ هذا الرجل وخذ معك سيفاً فاضرب عنقه على الباب.

فأخذه سالم وأخذ السيف معه وانطلق به من الباب، فقال له سالم : أصليت الصبح؟

قال: نعم.

فقال له سالم : خذ أي طريق شئت.

ثم رجع والسيف في يده.

فقال له الحجاج : أقتلت الرجل؟

قال له: لا.

قال له: لِمَ؟

قال: لأن أبي هذا -وأشار إلى أبيه عبد الله بن عمر - حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن صلى الصبح فهو في ذمة الله).

شخص في ذمة الله كيف أقتله وأجور على حمى الملك، أأقتل مَن هو في ذمة الملك؟!

فأطرق الحجاج وسكت.

فقال عبد الله بن عمر لابنه: إنك مسالم، إنما سميتك سالماً لتسلم!

فكان له من تسمية أبيه نصيب.

هذه أشياء تعد في غاية البساطة بالنسبة لمواقفهم الكبيرة، وإنما تلقوا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بآذانٍ مفتوحة، وبقلوب مفعمة بالإيمان، وهذا سمت المحب، لا أن يسمع وهو متضايق كاره، فيذهب عليه نصف الكلام، أو ثلث الكلام أو ربع الكلام أو كل الكلام، إنما كانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيرمقونه، تكون أعينهم مثل (الكاميرا) المسجلة، ما يفعل هذا إلا محب.

اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لماذا لا نحب الله للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net