إسلام ويب

إن للشيطان خطوات للإيقاع بالإنسان، إذ يبدأ بتهوين الصغائر في نفسه، ثم يقوده إلى الكبائر، ثم إلى الكفر والعياذ بالله، ولقد حذر الله منه وبين أنه عدو مضل مبين يجب الحذر منه، والكبائر هي كل وعيد ختمه الله بنار أو بعذاب أو بلعنة أو بغضب، وأما الصغائر فقد حذر الله عز وجل منها أيضاً، ولكنها أخف من الكبائر، وبين الشارع أنه لم ينج من اقترافها أحد، فما من رجل يقع بجهل أو هوى في الصغائر فيعترف بذنبه ويتوب إلا تاب الله عليه.

خطورة موالاة اليهود والنصارى

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن موسى عليه السلام لما قتل الفرعوني قال: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15]، كل عدو مضل لكن ليس مبيناً، لكن صفة الإضلال صفة أساسية ورئيسة في العداوة، من ظن أنه سوف يأتيه نفعاً من عدوه فهو سادر في أودية الضلال، والذي يعتمد على عدوه أشد منه ضلالاً.

فربنا تبارك وتعالى قد حذرنا وخالفنا أمره، خالفنا تحذيره، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120] كلام واضح غاية الوضوح لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] أي: من سواكم، إذاً: لا يأتي من مخالفك في المذهب خير، سواء كان كافراً، أو كان فاسقاً، أو مبتدعاً لا يأتيك منه خير، قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118] يعني: لا يقصرون في إفسادكم، الخبال يعني: الفساد (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي: ودوا من قلوبهم لو وقعتم في العنت.

فأفواههم ما بين الحين والحين تظهر هذه البغضاء؛ لكن لأن الحرب خدعة والحياة مكر فهم لا يستطيعون أن يخرجوا ما في صدورهم على ألسنتهم، إنما يخرج لبداً، وما تخفي صدورهم أكبر، فهل هذا الكلام العربي المبين واضح أم غامض؟

يقول تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ [آل عمران:118] وما من آية إلا وهي واضحة، لا يسمى الشيء آية إلا إذا كان واضحاً: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ ) فهو كلام عربي واضح: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

ثم ذكر ربنا تبارك وتعالى نماذج للمفارقات بيننا وبينهم، وأنهم لا يستحقون منكم أن ترفعوا لهم رأساً، بل انبذوهم نبذ النواة، ولا ترفعوا لهم رأساً.. لماذا؟ لأن هناك تبايناً بينكم وبينهم: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمران:119]وهم بالمقابل لا يحبونكم، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، ولم يذكر: (ويكفرون بكتابكم)؛ لأن هذا الإضمار فيه وضوح، إنما صرح في الأولى لأن كل شيء يبني على الحب والبغض، ما من حركة في الكون أو سكنة إلا يتبعها حب أو بغض: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] فإذا كانوا يكرهونكم فالإضمار أقوى وأبلغ.

وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119] لا يقول: ويكفرون بالكتاب كله؛ لأنه واضح، إذا فارقناهم في المحبة فكل شيء يأتي بعد المحبة ضرراً علينا، فيكون الإضمار أقوى من التعريف.

كما قال ربنا تبارك وتعالى في قصة يوسف لما نادى على صواع الملك: قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:74-75] هذا أقوى من أن يقال: يسجن، يعاقب، يجلد، فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] أي: ما خطر ببالكم عقوبة له يستحقها.

فإضمار الجزاء أقوى من تعيينه، كذلك إضمار تكذيبهم للكتاب أقوى من تعيينه، لاسيما بعدما ذكر التباين في المحبة: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، هذه الآيات في غاية الوضوح، أنه لا يأتيك من عدوك نفع على الإطلاق، وذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآيات نزلت في اليهود ، وما ندري والله ما الذي يجري، فألسنتهم تنطق بالسوء، هذا واضح غاية الوضوح: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] ونحن نعلم، ومع ذلك عز علينا أن نقول مثل ما قال الشاعر العربي -لما حدث بين قومه وبين آخرين موادعة ومهادنة، وكان الآخرون يعتدون عليهم، فاتفقوا أن يفتحوا صفحة جديدة، فإذا بهؤلاء يغدرون مرة أخرى، فقال هذه الأبيات التي اختارها أبو تمام وأودعها في ديوان الحماسة، ثاني قطعة في هذا الديون الكبير، وهي أبيات يصح أن أقول فيها: إنها شعار المرحلة، يقول:

صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ

عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا

لكنهم لئام، فرجعوا مرة أخرى ونقضوا العهود، قال:

فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ

شر صريح وواضح، وعريان، غير مستتر، ولم يبق سوى العدوان، لا نقول: نحن مصرون على السلام، ولابد من السلام، ولابد من دفع عجلة السلام.. لا

وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِغَدَا واللَّيْثُ غَضْبَان

بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌوَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ

كل هذه مشيات للأسد.

وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلاْنُ

الزق: قربة من جلد، إذا كانت ملآنة ونخستها بإصبعك يفيض الماء، يريد أن يقول: كفى فقد بلغ السيل الزبى، هذا معنى الكلام

وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ

وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ

مثل أن يضرب شخص شخصاً آخر فيقول المضروب: الله يسامحك، فيضربه مرة ثانية، فيقول: الله يسامحك، يظل يضربه مائة مرة وهو يقول: الله يسامحك، لا، هذا اسمه: إذعان وخضوع واستسلام، ولا يجوز أن يقال: حليم، إنما يقال: ضعيف، سموا الأشياء بمسمياتها حتى لا ينخدع الناس، لا تقل: هذا حلم، قل: هذا ضعف.

وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِلِلذِّلَّةِ إذْعَانُ

وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ

مددت يدك مرة واثنين وعشراً وعشرين ومائة.. ومع ذلك فهو لئيم، يضرب اليد التي امتدت إليه للسلام، لم يبق إلا الشر، هذه هي سمات العدو، وهذه هي طريقة الرد على العدو.

الشيطان يوقع الإنسان في الكبائر

إن أعدى أعداء الإنسان الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الشيطان ذئب الإنسان) ، وقد ذكرنا قبل ذلك: أن هذا الشيطان نصب فخوخاً لبني آدم ستة تندرج تحتها كل أجناس الشر، وهي تترقى إلى أسفل، وقد يتعجل المرء، فهذا عدوك يترقى بك في المهالك إلى أعلى، فكيف يترقى الشيطان بك إلى أسفل؟

الشر الأول: أن يوقعه في الكفر، فإن نجا العبد من الكفر أوقعه في البدعة، فإن نجا من البدعة أوقعه في الكبيرة، فإن نجا من الكبيرة أوقعه في الصغيرة، إذاً: هذا تدني وتدرج لأسفل، وهذا لا يناسب كيد الشيطان، فيقال: إن هذا تدرج يائس مفلس، يريد أن يوقع بك الضر على أي وجه، لا يدعك سالماً على الإطلاق.

يبدأ بالكفر، فإن نجا لا يتركه، لكن يتدرج به إلى أسفل رجاء أن يرجع به مرة أخرى إلى الكفر.

هناك كلمة حسنة يقولها علماء السلف، يقولون: إن المقاتل لا يغير عقيدته، ولكن يغير موقعه.

أنت رجل لك هدف، إذا مضيت في هذا الطريق القصير اعترضتك عقبات كثيرة، فليس من الحكمة أن تدخل وتجابه كل هؤلاء الأعداء في هذا الطريق، لكن ارجع إلى الوراء وابحث عن طريق آخر ولو كان بعيداً، المهم أن تصل سالماً.

إذاً: رجوعك القهقرى إلى الخلف ليس هزيمة، ليس النصر أن تكسب أرضاً، وأن تتقدم إلى الأمام إذا كان في التقدم عطبك، اعلم أن النصر ألا تدمر وتهلك، ولذلك فإن القادة العسكريين يجعلون رجوع الجيش سالماً منهزماً من أبواب النصر؛ لأنه يستطيع أن يهاجم بهذا الجيش مرة أخرى، لكنه لو استمر على مواجهة العدو بدون سلاح قوي فهذه الهزيمة.

فهذا الشيطان إن عجز أن يلقيك في الكفر يتدنى بك الصغائر ثم الكبائر، ثم إلى الكفر مرة أخرى.

البدعة بريد الكفر وبوابته، وكذلك الكبائر إن أصر العبد عليها واستحلها كفر، إذاً: أخذه من الكبائر إلى الكفر، وقد يأخذه من باب المباح ويلقيه في الكفر، قال عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] إنها خطوات ماكرة خفية، فقد يدخل الكفر من باب المباح وهو لا يدري.

فتكلمنا عن الكفر، وتكلمنا عن البدعة، والآن نتكلم عن الكبائر:

سبب تسمية الكبيرة وأقسامها

إنما سميت الكبيرة كبيرة لجسامة جرمها، وأنكر جماعة من المعتزلة أن يكون في الذنوب صغائر وكبائر، قالوا: ( كل ذنب كبير إذا قيس بجانب الذي عصيته)، ويقول بلال بن سعد : (لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظم من عصيت)؛ لذلك عظموا المعصية، وقالوا: إن كل ذنب كبير. وهذا خطأ، وهو مخالف للشرع وللعقل.

أما مخالفته للشرع: فقد قال الله تبارك وتعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، وهذه الآية واضحة، فجعل الذنوب كبائر، وفواحش، ولمماً.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك؟) ونزل في ذلك قول الله تبارك وتعالى مصدقاً كلام نبيه ومرتباً: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68].

الذنوب فيها كبير، وفيها أقل، وفيها أقل، ومن جهة العقل فقد اتفق العقلاء: أن من لطم رجلاً ليس كمن قتله، فإن من قتل رجلاً بحديدة فأرداه لا يعامل -لا في أعراف البشر، ولا في أحكام الله عز وجل- معاملة الذي لطم.

فكما أن الإيمان يتفاوت، فكذلك الظلم يتفاوت، وكذلك الفسق يتفاوت، وكذلك الذنوب تتفاوت، فهناك ذنوب كبيرة، عظيمة جسيمة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منها نحو ثلاثين كما في الأحاديث الصحيحة، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب) يشير إلى أن الكبائر لا تنحصر لا في سبع ولا في تسع، إنما مجموع ما ورد في الأحاديث الصحيحة من الكبائر يصل إلى ثلاثين، وقد اتكأ كثير من العلماء الذين صنفوا في الكبائر على أحاديث ضعيفة، لكننا لا نعول إلا على الصحيح.

إذاً: ما هي الكبيرة؟ وما حدها؟

تعريف الكبيرة وحقيقتها

الكبيرة هي: كل وعيد ختمه الله عز وجل بعذاب أو بنار أو بلعنة أو بغضب، كل هذا كبيرة، وكل معصية أوجبت الحد فهي كبيرة، وألحق العز بن عبد السلام بهذا: من استهان بالذنوب حتى لو تبين له أنها حلال، نضرب مثلاً لذلك: لو أن رجلاً أراد أن يزني فوطئ امرأة، فاكتشف أنها زوجته، هل الإثم ينحط عن هذا الإنسان؟ الجواب: لا، كذلك لو أقدم على قتل إنسان يظنه معصوم الدم -أي: لا يحل له أن يقتله- فاكتشف عندما نظر في جثته أن هذا قتل أباه أو أخاه، وأن دمه هدر، فهذا يؤاخذ؛ لأنه لما قتل كان يعتقد أنه يقتل معصوم الدم، ولا عبرة في أن يقول: إن هذا كان حلال الدم؛ لأنه قتل أبي أو قتل أخي فوجب منه القصاص، وهذان المثلان ضربهما العز بن عبد السلام فيمن يستهين بالذنوب.

فالكبيرة هي ما ختم بعذاب أو غضب، كقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فهذا واضح أنه من أكبر الكبائر، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر هذا من السبع الموبقات، التي بدأها بـ: (الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أي: ينبغي أن يقتل بحق: إما زنا بعد إحصان، أو ردة عن الإسلام، فالقتل العمد من السبع الموبقات، ولقد ختمه الله عز وجل بخمس عقوبات.

كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا بكل أسف استهان به كثير من المسلمين، مع أن العقوبة مضاعفة على صاحبها!: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -هذه كلها تؤذن بأن الذي سيأتي من الكبائر-: المسبل إزاره) الذي يطيل الإزار تحت الكعبين، والكعب: هو العظم الناتئ في أعلى القدم، وهناك كثير من المسلمين يجرجرون أزرهم، ويقولون: المهم القلب، ويقولون: نحن لا نفعل ذلك خيلاء، وحسبك ما ورد من الوعيد في مقدم الكلام: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -كيف يقال: هذه قشور، أو هذه صغيرة وقد تقدمها هنا الوعيد؟!-: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) في الأسواق يحلف بالأيمان الغلاظ أن هذه السلعة جيدة وممتازة، وهو يعلم أن هذه السلعة مكتوب عليها: صنعت في بلد كذا، وهو الذي وضع هذه الصناعة، كثير من التجار يسأل، مثلاً عن البضاعة اليابانية فيجد لها قيمة، وجميع الناس يقبلون عليها، فهل يجوز لنا أن نأتي ببضاعة من الصين أو من أي بلد ونضع عليها صنع في اليابان ، والناس يقبلون على ذلك؟ فهذه سرقة، وحرام شرعاً.

كذلك تغيير مقاسات الملابس، يعلمون مثلاً أن المقاس الأكبر هو المطلوب، فيأتي التاجر على المقاسات المتوسطة ويضع عليها مقاساً كبيراً، فأنت تنظر إلى الورقة الموضوعة على الملابس وتشتري، ثم تجد أن هذا الذي كنت تظن أنه يلائمك، على مقاس ولدك الصغير، وهذا كله حرام وغش وفسق، ولا يجوز، ويحلف بالله العظيم أن هذه السلعة صنعت في اليابان، أو في البلد الفلاني، فهذا ينفق سلعته بالحلف الكاذب. وقوله: (والمنان) -الذي إذا فعل منّ- فهذه كلها تؤذن أنها من الكبائر.

فالكبيرة: ما لعن فاعلها، وهذا ما ذكره العلماء في الحد، إذا لعن الله أحداً أو لعن رسوله أحداً فقد ارتكب كبيرة، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) وهذا الحديث من الأحاديث التي فيها جواز لعن المعين، كما في الحديث الحسن: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن جاري ظلمني. فقال له: خذ متاعك، وقف على قارعة الطريق. فأخذ الرجل متاع البيت ووقف على قارعة الطريق، فمر رجل، فقال: مالك يا فلان؟ فقال: جاري ظلمني. فقال: لعنه الله، قاتله الله.. ومضى. وجاء آخر فقال: مالك يا فلان؟ فقال: ظلمني جاري؛ فقال: لعنه الله، قاتله الله.. ومضى. وجاء ثالث -وهكذا دواليك، والجار يسمع- فجاء الجار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! مره أن يرد متاعه إلى الدار فإن الناس لعنوني) .

وفي النساء المتبرجات قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العنوهن إنهن ملعونات) المرأة التي تسير في الطريق متبرجة كاشفة عن شعرها ونحرها وصدرها وساقيها ويديها قال: (العنوهن إنهن ملعونات) لا تقل: لعنة الله على فلانة بنت فلان.. لا، لكن قل: لعنة الله على المتبرجات، فهذا يشمل جنس المتبرجات، ولكن لا نلعن فلانة بنت فلان؛ لاحتمال أن تتداركها رحمة الله عز وجل فتتوب، وأصل اللعن: الطرد من الرحمة.

فأيما نص وجدت فيه لعناً لصاحبه فهذا داخل في أبواب الكبائر.

أسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم كبائر الذنوب وصغارها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حقيقة اللمم وعدم انفكاكه عن الإنسان

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32] (اللمم): ما يلم بك مما لا تستطيع دفعه، فيقع المرء فيه إما بجهل وإما بهوى. و(اللمم): الصغائر.

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل ابن آدم خطاء) فأنت لا تنفك عن ذنب أبداً، لابد أن تقع في الذنب، فاجتنب الكبائر، فإذا وقعت في الصغائر بجهل أو هوى غفر الله لك؛ لأنه قال بعد ذلك: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] أي: أنه لم يسوِ اللمم بالكبائر، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، إذ كل ابن آدم خطاء، فلابد أن يصيب ذنباً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب؛ غفرت لعبدي. ثم أذنب ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب؛ غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب؛ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) أي: ليس إذناً أن يفعل ما يشاء؛ لكنه طالما يعترف أنه مذنب، ولا يجحد أنه عاصٍ، ويرجع إلى ربه؛ فإن الله أكرم من أن يبقي الذنب عليه بعد اعترافه.

فهذا الحديث من جملة أحاديث كثيرة تبين أن العبد لابد أن يقترف الذنب، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة) لابد أن يأخذ حظه من الزنا، قال: (فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة: فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .

فاللمم الذي أشار إليه ابن عباس : كل شيء ما عدا الفرج. هذا هو اللمم الذي لابد أن يقع فيه ابن آدم، من الذي لم ينظر إلى ما حرم الله؟ من الذي لم يتكلم بما يغضب الله؟ من الذي لم تسمع أذنه إلى ما حرم الله من الغيبة والنميمة والتجسس؟ من الذي ما ضرب ظلماً؟ من الذي ما خطا برجله إلى معصية؟

من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

فهذا كله من اللمم.

فإذا وقع العبد في زنا الفرج سمي زانياً، ولا يسمى زانياً -أي: الذي يوجب الحد الشرعي كالجلد والرجم وغيرهما- إذا نظر إلى المحرمات، ولا يسمى زانياً إذا بطش، إنما يسمى زانياً شرعاً وعرفاً إذا صدق الفرج ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحسن في الجاهلية فأسلم أعطاه الله عز وجل أجره مرتين، ومن أساء عوقب بالأول والآخر) فالفرج هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه؛ ولذلك كان الفرج هو الكبيرة، وكل ما عدا ذلك من مقدماته فهو اللمم.

وفي الحديث الصحيح (أن رجلاً قابل امرأة في الطريق، ففعل معها كل شيء إلا الجماع، فبينما هو يمشي إذ دخل في حائط، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني فعلت كذا وكذا، فسكت عليه الصلاة والسلام حتى نزل قوله تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] فقال: يا رسول الله! أهذه لي أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة).

فما من رجل يقع بجهل أو هوى في شيء من اللمم فاعترف بذنبه وتاب؛ إلا تاب الله عز وجل عليه، فهذا وعد الصدق الذي وعدنا ربنا تبارك وتعالى، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الكبائر والصغائر للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net