إسلام ويب

إن القيام بتربية الأهل وتعليمهم من أوجب الواجبات على المسلم، فالأهل أمانة عظيمة ومسئولية يجب القيام بها وعدم التفريط فيها، والزوجة تعتبر من الأهل الذين يجب تربيتهم وتعليمهم، وقد تحدث الشيخ عن تربية الزوجة، ذاكراً هديه صلى الله عليه وسلم في تربية نسائه وتعليمهن أمور دينهن، ثم تكلم عن الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها.

أمانة القيامة برعاية الأهل وتربيتهم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ما هو وقود النار وبأي شيء تسعر؟

ما هو حطبها وبأي شيء توقد؟

إنها توقد بالناس والحجارة، إن الناس الذين يشتعلون هم وقود جهنم وحطبها.

وقد أمرنا الله تعالى في هذه الآية برعاية الأهل والقيام عليهم، وأن القيام عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو وقاية لهم من عذاب الله، وأهلك -يا عبد الله- مسئولية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) فأهل بيتك إذاً مسئولية ستسأل عنها يوم القيامة وتحاسب، وأهل بيتك هم أمانة في عنقك، أمانة من الأمانات التي حملنا الله إياها وناءت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها وأشفقن من حملها، لكننا حملناها نحن، ويجب علينا أن نقوم بأداء الأمانة.

هديه صلى الله عليه وسلم في تعليم نسائه وتربيتهن

وفي هذه الخطبة نتحدث عن موضوع مهم يتعلق بهذا، وهو تربية الزوجة؛ نظراً للتفريط فيه، وكثرة الإهمال، حتى شاعت الفواحش في الزوجات، وانتشرت المنكرات في حياتهن، بسبب تفريط الرجال، وعم الجهل أوساط كثير من الزوجات؛ لتقصير الأزواج في تعليمهن، وسيسألون عنهن يوم القيامة.

ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في تربية زوجته؟ وماذا كان يفعل مع زوجاته؟ وكيف كان يقوم بأمر تعليمهن وتأديبهن وأمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر بل حتى ملاطفتهن صلى الله عليه وسلم؟

تعليمه صلى الله عليه وسلم لنسائه أمور العقيدة

لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم زوجاته أمور العقيدة، ويخبرهن بتوحيد الله وعظمته سبحانه وتعالى.. كان شرح الأسماء والصفات يأتي في خلال الأحاديث التي يعظ بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته، وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما يقول لـعائشة : (من حوسب يوم القيامة عذب، قالت عائشة : أوليس يقول الله: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:8] كيف تقول -يا رسول الله- من حوسب يوم القيامة عذب والله يقول عن صاحب اليمين الذي يؤتى كتابه بيمينه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:8]؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم -موضحاً ومعلماً وشارحاً لهذا الأمر من أمور العقيدة لزوجته عائشة وواعظاً لها أيضاً-: ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك) .

إذاً: الحساب اليسير ليس هو الحساب الذي إذا نوقشه العبد فإنه يعذب، ولكن من نوقش الحساب ومن حوسب عذب، وإنما يتجاوز الله عن المقربين وأهل اليمين فينجيهم بفضل منه وكرم، وحسابهم يسير لا يسمى حساباً، أي الذي يؤدي إلى العذاب.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته الأذكار والاستعاذة من الشرور

والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك يعلم زوجته أذكار الصباح والمساء، وكيف تستعيذ بالله من الشرور، لما رأى القمر قد طلع قال: (يا عائشة ! استعيذي بالله من شر هذا؛ فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) لقد فسر لها تلك الآية من سورة الفلق: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:2-3] وقد فسرها تفسيراً عملياً، ووضح لها المراد لما أشار إلى هذا القمر، وهو آية الليل لما ظهر في السماء، وأخبرها وأمرها أن تستعيذ بالله من شره؛ فإن الشرور تحدث في الليل وفي النهار، فهي تستعيذ بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب، ومن شر ما يحدث في الليل من الفتن، والإثم والفواحش، والشرور والآفات بأنواعها، حتى لدغ الحية والعقرب.

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على الخوف من الله

وكان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر سحاب في السماء أو ظهرت ريح أقبل وأدبر ودخل وخرج منزعجاً مما يرى، فكانت عائشة تقول: (الناس يستبشرون إذا رأوا السحاب، وأنت أراك تفعل ما تفعل!!) فبماذا أجابها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد انتهز هذا السؤال ليخوفها بالله، ويبين لها كيف يكون المؤمن في عدم أمنه من مكر الله قال: (يا عائشة ! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)أرسل الله عليهم سحاباً وعليه ضلة، فظنوه مطراً ففرحوا واستبشروا، ولكن كانت ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها.. وهكذا يكون تخويف الزوجة بالله، وتوضيح عذاب الله، وأن المسلم لا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى.

تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجته على عدم جواز القول على الله بغير علم

وكذلك قد تستعجل الزوجة في الإجابة عن شيء أو تتسرع في الحكم على شيء، وهنا يعلم الزوج زوجته مفهوماً مهماً من المفهومات الإسلامية، وقاعدة عظيمة، وهي: عدم جواز القول على الله بغير علم، وعدم جواز الحكم على الأشياء بغير دليل شرعي، وعدم جواز التسرع في الإجابة .. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ميت من صبيان الأنصار، فصلى عليه صلاة الجنازة، قالت عائشة : فقلت: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءاً ولم يدركه..) حكمت بأنه عصفور من عصافير الجنة، فإما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أوحي إليه بشيء في أطفال المؤمنين، أو أنه أراد أن يؤدبها على تسرعها وأن يلفت نظرها لذلك، فقال لها: (أو غير ذلك يا عائشة ! خلق الله عز وجل الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقهم في أصلاب آبائهم) رواه الإمام مسلم وغيره. فهذا من الأمور المهمة في المنهج العلمي الذي يقوم الرجل بتعليمه لزوجته.

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على حفظ اللسان

ونظراً لكثرة آفات اللسان عند النساء؛ فإن على الزوج المسلم أن يراعي ذلك في زوجته، فإن الله تعالى قد ذكرهن داخلات في القوم وذكرهن منفصلات عنهم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الحجرات:11] فهؤلاء النساء داخلات في القوم، لكن مع ذلك كرر التنبيه سبحانه وتعالى، وخصصهن بالنهي أيضاً، ولذلك ترى -يا عبد الله- الغيبة والنميمة في أوساط النساء كثيرة، فماذا فعلت أنت في موعظة ومقاومة هذه الأخلاق الرديئة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليرضى من زوجاته شيئاً ولو كان قليلاً يسيراً.. فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، التي نقلت بأمانة حتى ما كان عليها، وما كان من أخطائها نقلته لتتعلم الأمة، عن عائشة قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا..) دافع الغيرة عند النساء قوي، ربما انزلقت في شيء من الغيبة، قالت: يكفيك من زوجتك هذه صفية أنها قصيرة، كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) لمزجته وطغت عليه من شدتها وعظمها.. قالت رضي الله عنها: (وحكيت له إنساناً -مثلت له حركة أو قولاً- فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) فلا يجوز أن تمثل فعلاً لشخص، أو تحكي قولاً له على سبيل الاستهزاء والتنقص، مهما أوتيت لا تفعل ذلك، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك على زوجته ويوقفها لما قالت تلك الكلمة.

وروى النسائي -رحمه الله تعالى- بإسناد صحيح في كتاب عشرة النساء ، عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: ابنة يهودي -صفية بنت حيي بن أخطب بنت زعيم اليهود قتل زوجها، قتله المسلمون في المعارك التي دارت والحصارات بين المسلمين واليهود، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية تأليفاً لها ولقومها، ورعاية لها لما صارت عنده مسلمة من أمهات المؤمنين، فهي أمنا وإن كانت من أصل اليهود؛ لأنها أسلمت والمسلمون إخوة والمؤمنون إخوة، لا يضر ما يكون من أصلهم، قالت حفصة عن صفية : بنت يهودي. فبكت صفية لما سمعت ذلك تأثراً، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة : ابنة يهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي) إنك من سلالة موسى وهارون، فجدك موسى نبي، وأخوه هارون عمك نبي، وإنك لتحت نبي، فهذا شرف فبم تسخر عليك؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله يا حفصة -ذهب إلى حفصة .. توجه إليها بالكلام مذكراً بالله- كيف تقولين هذا؟!) هكذا يكون الموقف ممن زل لسانها في حق أختها، ولو كان الدافع قوياً، ولو كانت الغيرة عند النساء، لكن المنكر يبقى منكراً وينبغي إنكاره.. رضي الله عن أمهاتنا، فهن أمهاتنا كلهن رضي الله عنهن.

إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يراه من المنكرات عند نسائه

ومما ينبغي على الزوج المسلم في تربية زوجته: مقاومة ما يحصل لديها من المنكرات، مما تتخذه من اللباس أو الزينة ونحو ذلك، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير -مثل الستارة- فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة وفيها تصاوير ذوات الأرواح منقوشة عليها، وهذه ليست أصناماً، وإنما هي صور ذوات أرواح منقوشة ومرسومة على الستارة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، لقد كان وعظه قوياً، لم يدخل البيت، قام على الباب ولم يدخل، هكذا التربية بالفعل والقول معاً.. قالت عائشة : (فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة) فبالفعل والقول يكون الإنكار على الزوجة، وليس دائماً بالضرب كما يفعل بعض الناس، ولا بتقبيح الوجه، ولا بالفحش، وإنما بالموعظة.

أيها المسلمون: قارنوا -بالله عليكم- بين هذه التصرفات النبوية، وبين ما يفعله الناس اليوم، عندما يذهبون بزوجاتهم إلى السوق فيتركون الزوجات في السوق ويعطونهن الأموال، بناءً على طلبهن أو غير ذلك، ثم تشتري المرأة ما تشتري من غير رقيب ولا حسيب، من الأمور التي فيها منكرات ومحرمات أو غير ذلك، من هذه الألبسة التي فيها تصاوير، أو صلبان، أو الآنية المطلية بالذهب والفضة، أو التماثيل التي توضع في البيوت من ذوات الأرواح للزينة، أو غير ذلك من الأمور المحرمة، التي قد تزين بها المرأة بيتها، والزوج ساكت، بل إنه لا ينتبه فضلاً عن أن يدقق، وليس هناك متابعة ولا محاسبة.

والآن القضية ليست قضية تصاوير منقوشة أو مرسومة فقط، المسألة تعدت إلى أمور محرمة تدخل البيوت، أمور فيها إهدار للعرض الذي صانه الله، والشرف والكرامة التي جاءت بهما الشريعة.. أمور فيها إفساد للأولاد والبيت عموماً.. أشياء من اللهو المحرم الذي يبعث عليه الشيطان الرجيم، كل ذلك يدخل بيتك -يا عبد الله- عن طريق الزوجة أو غيرها، وأنت لا تحرك ساكناً، ولا تمنع منكراً، فما هذه العيشة؟! أي حياة هذه؟! وعلى أي شيء تقوم؟ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:109].

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على العبادة

كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي زوجاته على العبادة، وعلى قيام الليل، كان يوقظهن صلى الله عليه وسلم (أيقظوا صواحب الحجرات، أيقظوهن، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) هكذا كان ينذر عليه الصلاة والسلام وكان يخوف، كان بيته شعلة من النشاط الدائم في طاعة الله.. ذكر بالنهار، وقيامٌ بالليل.. وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] وكانت المتابعة على العبادة، سواء كانت بدنية أو كانت مالية، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة ! لا تحصي فيحصي الله عليك) لا تبخلي بالصدقة، لا تمنعي الصدقة، لا تقتري فيها، أطلقي يدك في الصدقة، ما بقي إلا كتفها، ما بقي إلا هذا، أما الباقي فإنه ذاهب، لكن عند الله الذي تصدقت به هو الذي يبقى.. ما بقي منها إلا الكتف، كان يقول لها: (لا تحصي فيحصي الله عليك ولا توكي فيوكي الله عليك) فإذاً: كانت المتابعة حتى في قضايا المستحبات، وليس فقط قضية الواجبات أو النهي عن المحرمات.

مراعاته صلى الله عليه وسلم فلتات اللسان حتى على الأعداء

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي فلتات اللسان -كما قلنا- وأمور اللسان، حتى قضايا الفحش في الأعداء كان يراعي ذلك، كما جاء في الحديث المعروف عن عائشة قالت: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! -السام أي: الموت- فقال: وعليكم، ولم يزد، قالت عائشة : فقلت: وعليكم السام واللعنة وغضب الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! لا تكوني فاحشة. قالت: فقلت: يا رسول الله! أما سمعت ما قالوا؟ لقد قالوا: السام عليك. قال: أليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم، إن الله عز وجل لا يحب الفحش ولا التفحش) .

حتى في الأعداء لا يكون الإنسان فاحشاً ولا متفحشاً إلا فيما دعت إليه المصلحة الشرعية الواضحة، كما حصل في بعض المواقف، أما أن يطلق الإنسان لسانه بكل شيء حتى في العدو، فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له حتى لا يتعود اللسان على هذا.

تقول عائشة : (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: بئس أخو العشيرة -أي: هذا الرجل فيه شر، فذمه النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يرى وجهه ويدخله عليه- تقول: ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله! قلت له ما قلت ثم ألنت له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن من شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه) إذاً: انتبهي يا أيتها الزوجة، لا تكوني فاحشة فتكوني مذمومة، أو تكوني مكروهة مبغوضة من خلق الله منبوذة، وإنما هو طيب اللسان وحسن المعشر.

اللهم اجعلنا من القائمين بحقوق أهليهم، واجعلنا ممن ينقذون أهليهم من نار وقودها الناس والحجارة، اللهم كف عنا نار جهنم، وباعد بيننا وبينها كما باعدت بين المشرق والمغرب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

عاقبة إهمال تربية الأهل

الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان وسار على سنته إلى يوم الدين.

أيها المسلمون: إن هذا التقصير الذي يوجد من قبلنا في حقوق أهلينا أمر مؤسف، يعود ضرره ووباله علينا نحن، فكم من إنسان أردته زوجته المهالك! وكم من إنسان قد جره أهله إلى الفتن والمحرمات! يقولون له في كل إجازة: إلى أين ستأخذنا؟ وأين ستذهب بنا هذه السنة؟ وقد لا يرضون إلا بالذهاب إلى بلاد الكفر وأماكن المعصية، والرجل ينجر إلى المهلكة ويكون عبداً لزوجته، فتعس ذلك العبد.

لا نقول -يا عبد الله- كن قاسياً فظاً غليظاً، ولا نقول: اضرب واكسر العظم وأخرج الدماء، كلا والله! لكن هذه سنة نبيك، وهذه معالم الهدى ظاهرة بينة، فعليك الاتباع، والأخذ بهذه السنن، والقيام على الأهل، والاحتساب عليهم في المنكرات، وأمرهم بالمعروف والعبادة والتقوى والطاعة، والحج والعمرة والصدقة، ومتابعة المرأة في صلاة الفجر وغير ذلك من الواجبات الشرعية.

الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني في ظل ما يعتني به علاج الغيرة، والغيرة أمر طبعي عند النساء، والغيرة هي: الحمية والأنفة، أمر معلوم ومشاهد، ومعروف ومنتشر، فإن من طبيعة النساء الغيرة.. صحيح أن التي تغار أو عندها هذه الغيرة الشديدة يحتمل منها ما لا يحتمل من غيرها من النساء اللاتي ليس عندهن هذه الغيرة، لكن لا بد من موقف، وقد كانت تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجاته في قضية الغيرة تربية عظيمة، تدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وعلاجه للأمور بالرفق والتأني.

هذه المرأة التي خلقت من ضلع أعوج، إن جئت تقيمه كسرته وكسرها طلاقها، فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت إليه أخرى بقصعة فيها طعام، قيل إنها صفية وكان طبخها جيد للغاية، فأرسلت بصحفة من طعام إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عند عائشة ، فضربت عائشة يد الرسول الذي أتى بها وهي الجارية التي أتت بالصحن، ضربت يدها فسقطت القصعة فانكسرت من غيرتها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين بغاية الهدوء فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام الذي انسكب على الأرض، أو ألقي على الأرض، جمعه في الصحفة، بعد أن لم الكسرتين بعضهما إلى بعض، ويقول عليه الصلاة والسلام لمن معه: (غارت أمكم، كلوا).

هذا تعليقه صلى الله عليه وسلم، أمكم أم المؤمنين غارت فكلوا، فأمرها حتى جاءت بقصعتها مكان التي كسرت، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول -الجارية الصغيرة التي جاءت- وترك المكسورة في بيت التي كسرتها، غاية العدل والهدوء والاتزان منه صلى الله عليه وسلم في علاج هذا الأمر.

وفي رواية عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى النبي صلى عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة مؤتزرة بكساءٍ ومعها فهر -وهو حجر ملء الكف- ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا غارت أمكم) مرتين.

وعن عائشة في رواية قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية ، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناءً فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته -ندمت ورجعت- فقال: (إناء كإناء وطعام كطعام) أن تردي لها إناءً كإنائها وطعاماً كطعامها، كالطعام الذي أفسدتيه.

معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال نسائه

ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي زوجاته، وكان يدقق في الملاحظة والعبارة والكلمات، كان يراعي مشاعر الزوجة ويعرف هل الزوجة راضية عليه أم ساخطة، هل هي متضايقة أو مسرورة، لم يكن عليه الصلاة والسلام من نوع الرجال الذي لا يبالي بزوجته، أرضيت أم سخطت، أفرحت أم أنها اغتمت، كلا! بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يتابع كل هذا فيقول لـعائشة رضي الله عنها: (إني أعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى. قلت: بم تعلم يا رسول الله؟! قال: إذا كنت علي غضبى فحلفت قلت: كلا ورب إبراهيم، وإذا كنت عني راضية قلت: كلا ورب محمد) والقسم في الحالين بالله سبحانه وتعالى، لكن إذا كان بينها وبينه شيء فإذا أرادت أن تحلف بأي مناسبة قالت: لا ورب إبراهيم، وإذا كانت راضية ومسرورة قالت: لا ورب محمد قالت: (صدقت يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك) وهي باقية على محبتها له، لكنها لا تهجر إلا اسمه، لا تهجره هو صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً من لطيف عبارتها، وتدليل المرأة نفسها عند زوجها.

مواقفه صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال نسائه

وكان النبي عليه الصلاة والسلام له مواقف طريفة مع زوجاته في هذه المراعاة أيضاً، كما حدَّث النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي، فأهوى إليها أبو بكر أبوها ليلطمها وقال: يا ابنة فلانة! أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر مغضباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ! كيف رأيت؟ أنقذت من الرجل) أمسك بأبيها قبل أن يضربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة كيف رأيت؟ أنقذت من الرجل) ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك وقد اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة ، فقال: (أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا) هكذا روي الحديث في كتاب عشرة النساء للنسائي رحمه الله.

إباحته صلى الله عليه وسلم للهو البريء والمتعة المباحة

وقد كان من مراعاته لزوجته عليه الصلاة والسلام: إباحة اللهو البريء والمتعة المباحة للزوجة.. ولذلك يقول في الحديث: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربعة: ملاعبة الرجل امرأته ...) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعبهن، وكان يسرب إلى عائشة جواري صغيرات السن في مثل سنها، فقد تزوجها وهي صغيرة، فيلعبن معها باللعب، وكان عليه الصلاة والسلام يتحاشا تنفير هؤلاء الضيوف من عند زوجته، وسابق زوجته صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة : (خرج معي مرة وكنت خفيفة اللحم في أول عمري فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك. فسابقني فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر بعد مدة وقد حملت اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا ثم قال لي: تعالي أسابقك. فسابقني فسبقني، فضرب بيده كتفي وقال: هذه بتلك).

هكذا كانت ملاطفته عليه الصلاة والسلام لزوجته، وهي جزء من تربيته عليه الصلاة والسلام، كان يراعي كل ذلك، وهذا باب طويل له شواهد كثيرة ومتعددة في كتب السنة تدل على عنايتة صلى الله عليه وسلم بأهله.

فنسأل الله أن يوفقنا أجمعين للقيام بحق أهالينا وإحسان تربيتهم، اللهم قنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل بيوت الطهر والعفاف، وأن تطهر بيوتنا من المنكرات والسيئات، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن أقاموا شريعتك في مساكنهم، اللهم طهر بيوتنا ومجتمعاتنا من النفاق والرياء والكذب والفحش يا رب العالمين، واجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم ارحمنا برحمتك إنك أنت أرحم الرحمين، واغفر لنا يا غفار إنك أنت الغفور الرحيم.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم والاعتداء يا رب العالمين.

اللهم انشر السنة والتوحيد في أرجاء الأرض إنك أنت أكرم الأكرمين، وأقر أعيننا بنصرة دينك يا رب العالمين.

وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تربية الزوجة للشيخ : محمد المنجد

https://audio.islamweb.net