قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات، وهي علم ومعرفة:
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] أيها المستمعون! ويا أيتها المستمعات!:
أولاً: بيان السنة في الطلاق، وهي أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه بجماع ] فالطلاق الشرعي يجب أن يكون في طهر لم يمسها فيه. فيا رجل! ويا فحل! لا تطلق امرأتك إذا أنت جامعتها في طهرها، ولا تطلقها وهي حائض أبداً، بل طلقها وهي طاهر قبل أن تجامعها في ذلك الطهر. وعد ذلك شهر من الأشهر.
وهناك خلاف بين أهل العلم، فالجمهور على أن من طلق في الحيض فإن طلاقه ينفذ، ومن خالف الجمهور يقولون: ما دام الطلاق بدعة فلا ينفذ الطلاق في الحيض.
[ ثانياً: أن يكون الطلاق واحدة، لا اثنتين ولا ثلاثاً ] وهذه بدعة أخرى. والجمهور يقولون: إذا قال: أنتِ طلق ثلاثاً أو أربعين فقد تطلقت، وما بقي شيء. ومن خالف الجمهور يقولون: الطلاق الثلاث يكون بكلمة طالق طالق طالق، وأما قوله: أنت طالق أربعين طلقة فهي واحدة. والله تعالى يقول في سورة البقرة:
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
[البقرة:229].
والذي فتح الله به علي -وكما تعرفون فأنا لست بعالم- ولكن الذي فتح الله به علي في هذه القضية، وأنا مطمئن إليه: هو أن الله أراد الرحمة بعباده في قوله:
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
[البقرة:229]. بمعنى: أنك تطلقها لرفع الضرر. وإذا انتهت العدة أو ما انتهت ثم راجعتها فهذه طلقة أولى، ثم عش معها سنة .. سنتين .. ثلاثاً، فإذا ضاقت بكم الحياة فطلقتها طلقة ثانية، فإذا عشت معها بعد ذلك فانتبه، فإذا طلقتها الثالثة لا تحل لك أبداً حتى تنكح زوجاً غيرك. وأما أن يقول: بالطلاق، أو عليه الطلاق، أو الطلاق بالثلاث، أو أنتِ طالق ثلاثاً فكل هذا يتنافى مع مراد الله في هذه الآية. فتأملوا هذا.
فالطلاق مرتان، وفي الثالثة انتهى كل شيء. وأما قوله: أنتِ طالق طالق طالق فلا يتم الطلاق، وليس هذا طلاقاً، وهي ما تطلقت؛ لأنها هي ممسوكة، وهو لا يطلق إلا الممسوكة. وإذا قلت: أنتِ طالق بالثلاث، فأنت لم تمسكها وطلقتها، ثم لم تمسكها وطلقتها، بل هنا لا يوجد مسك.
بل الطلاق يكون إذا طلقتها وانطلقت، ثم إذا لم تنته عدتها وراجعتها فهذه طلقة، ثم إذا طلقتها بعد عام .. عامين .. ثلاثة فتكون قد طلقتها طلقة ثانية، فإذا راجعتها فيجوز لك ذلك، وإذا انتهت العدة فتردها بعقد جديد، وإن لم تنته العدة فأت بشاهدين اثنين كما علمتم. ثم إذا طلق الثالثة فلا تحل له أبداً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنه ما هو أهل لها، ولذلك أهانه الله عز وجل، فلا يتزوجها حتى تتزوج ويموت زوجها أو يطلقها، وبعد ذلك له أن يراجعها ويتزوجها. فافهموا هذه القضية.
[ ثالثاً: وجوب إحصاء العدة ] ومعرفة أيامها [ ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته؛ لما يترتب على ذلك من أحكام الرجعة والنفقة والإسكان ] فهو أولاً: ينفق على هذه المرأة، فلابد أن يعرف كم يوماً مضت أو بقيت، وثانياً: لما تنتهي العدة لا تحل له، بل تبين منه وتخرج من بيته. فلا بد من إحصاء الأيام وعدتها. فإذا طلقها يوم الخميس فيبدأ يعد ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار.
[ رابعاً ] من الأحكام: [ حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه ] بل تبقى في بيتها [ إلى أن تنقضي عدتها، إلا أن ترتكب فاحشة ظاهرة كزناً أو بذاءة، أو سوء خلق وقبيح معاملة، فعندئذ يجوز إخراجها ] أو آذت أذىً شديداً فله أن يخرجها، وأما إذا ما آذت ولا فعلت فاحشة فيجب أن تبقى في بيتها، وينفق عليها زوجها حتى تنقضي عدتها، فإذا انقضت خرجت إلى أهلها، فإن راجعها رجعت له.
[ خامساً: لا تصح الرجعة إلا في العدة، فإن انقضت العدة فلا رجعة، وللمطلقة أن تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها ] فلا يجوز أبداً لمن طلق زوجته وانتهت عدتها أن يردها إلا بعقد جديد، وأما إذا كانت ما زالت في أيام العدة فله أن يراجعها على الفور، ويشهد اثنين وله ذلك، وأما إذا انتهت العدة وانقضت ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض فحينئذ لا تحل إلا بعقد جديد. هذا في الطلاق الرجعي.
وأما الطلاق البائن فهو الذي يطلقها ويراجعها، ويطلقها ويراجعها، ثم في الثالثة يطلقها، فلا رجعة، بل قد بانت بينونة كبرى، فلا تحل له إلا بعقد جديد، وبعد أن تنكح غيره وتتزوج.
[ سادساً: لا تحل المراجعة للإضرار، ولكن للفضل والإحسان وطيب العشرة ] وأما تقول: أراجعها حتى أكبتها وأؤذيها فهذا حرام، ولا يجوز لمؤمن. وقد أذن الله لك في إرجاع زوجتك قبل انتهاء العدة، فإذا أردت أن تراجعها لتحسن إليها وتحسن إليك فيجب أن تراجعها، لا أنك تريد أن تؤذيها وتضرها، فهذا حرام ولا يجوز. فانو بالمراجعة الإحسان إليها، لا أنك تردها من أجل أن تؤذيها وتضرها. وما دامت في بيته فقد يضربها، ولكن إذا خرجت وتطلقت فما يؤذيها، ولا يقوى على أذيتها. فلا يرجعها لأنه يريد أن ينتقم منها، والعياذ بالله، وأن يؤذيها، فلا يحل هذا ولا يجوز.
[ سابعاً: مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة معاً ] فمن هداية الآيات التي تدارسناها: مشروعية الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة، كما هو واجب في العقد. ففي عقد النكاح لا بد من شاهدين عدلين يشهدان، وإلا فالنكاح باطل. وأما الرجعة فالشهادة فيها سنة، فلو ما فعلت تصح الرجعة، ولكن الأفضل أن يشهد اثنين، فيقول: أشهدكم أني راجعت زوجتي.
وكذلك الطلاق، وبينا هذا غير ما مرة. فإذا أردت أن تطلق زوجتك لأنك ما استطعت أن تصبر على أذاها، وقد حاولت عاماً .. عامين وما أطقت، ورأيت أنه لا بد لك من الفراق والخروج من هذه المحنة، فحينئذٍ تنتظرها حتى تحيض وتطهر، وتأتي بعدلين اثنين إلى منزلك، وتقول لهما: أشهدكما أني طلقت أم فلان، وهي تسمع، فهي طالق.
وطلاق الجهال عندنا اليوم يقولون: بالطلاق، وعلي الطلاق، وأنتِ طالق بالثلاث. وكل هذا باطل وحرام حرام، وما هو من الإسلام أبداً.
فافهموا معنى الطلاق، فهو أن تطلق المربوطة معك برباط وعقد النكاح. فتعلم كيف تطلقها، فهو لا يكون بالغضب، فتقول: أنتِ طالق، وعلي الطلاق، وبالطلاق، بل يكون لما تعرف أنك ما تسعد معها، أو هي لا تسعد معك أبداً. وهي مؤمنة وأنت مؤمن، فلابد من فراقها؛ لرفع الأذى والضرر، وحينئذٍ تنتظر وقتها الذي تطهر فيه ولا تجامعها، وتأتي باثنين شاهدين عدلين، وتقول: أشهدكما أني طلقت فلانة. والإرجاع كذلك.
[ ثامناً: يشترط في الشهود العدالة ] فقد قال تعالى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ
[الطلاق:2]. لا بد وأن تكون العدالة معروفاً بها الشاهدين، وموجودة فيهما [ فإذا خفت العدالة في الناس ] وما أصبح يوجد العدول [ استكثر من الشهود ] ثلاثة .. أربعة .. خمسة.
[ تاسعاً: وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى، والرزق من حيث لا يرجو ] وقد سمعتم ما حصل لـعوف بن مالك ، فقد أخذ ولده أسيراً، فلما أكثر من ذكر الله عز وجل وتقوى الله، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله رد الله عليه ولده والغنم معه. وهكذا من امتحن بكذا يكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله ليل نهار؛ يفرج الله ما به.
[ عاشراً: تقرير عقيدة القضاء والقدر ] وكما تعلمون أركان الإيمان ستة، والركن السادس: الإيمان بالقضاء والقدر. ومعنى القضاء: الحكم، والقدر: ما كتبه وقدره. فلا يحدث حادث حتى والله جلوسنا هذا ودرسنا هذا إلا والله إنه مكتوب قبل أن يخلق الله الأرض والسماوات، وموجود في كتاب المقادير. فلا يقع في الكون حادث إلا وهو مكتوب في القضاء والقدر، وبسببه المقتضي لذلك. فلنقل: آمنا بالله.
[ الحادي عشر: كفاية الله لمن توكل عليه ] فمن توكل على الله فلم يعصه ولم يخرج عن طاعته وفوض أمره إليه فالله يتولاه، وما يضيعه أبداً.
قال الشيخ في النهر: [ روى القرطبي عن الربيع بن خثيم قوله: إن الله تعالى قضى ] أي: حكم [ على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله:
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
[التغابن:11]،
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
[الطلاق:3]،
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ
[التغابن:17]،
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
[آل عمران:101]،
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
[البقرة:186] ].