بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد وصلنا في شرح الأحاديث المختارة من التجريد الصريح إلى قوله: (باب: من تطيب واغتسل).
عقد هذا الباب للاغتسال بعد الطيب إذا بقي أثر من الطيب بعد الغسل فلا يضر؛ لأن الاغتسال إذا بقي بعده لون أو رائحة صعبت إزالته بعد أن أوصل الإنسان الماء إلى كل جسده ودلكه، فما بقي داخلٌ في العسر، والعسر مرفوع عن هذه الأمة؛ لقول الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78]، فلا يجب على الإنسان استعمال الصابون أو نحوه مما يزيل كل آثار الوسخ، وهنا يلزم التفريق بين أمرين:
الأمر الأول: ما هو متجسد فوق الجسد يمنع وصول الماء إليه، وهذا الذي يسمى بالحائل، فالحائل الذي يكون فوق الجسد يمنع وصول الماء إليه لا بد من إزالته.
والأمر الثاني: هو ما كان بداخل الجسد من لون، أو رائحة، أو أمر قد استحكم؛ كالدهان إذا دخل في داخل الجسد تشربته في المسام، ومثل ذلك الألوان التي تدخل ولها نفوذ فتدخل به داخل الجسد، فهذه لا يلزم إزالتها، فإذًا فرق بين الأمرين، ومن هنا إذا ادهن الإنسان بدهان، دهن به وجهه، أو يديه، وتوضأ، أو اغتسل، وبقي أثر الدهن على وجهه، أو على يديه، فلا حرج في ذلك إلا إذا كان الدهن متجسمًا فوق جسده، مثل بعض الدهان الغليظة، مثل: الفازلين أو غيره من الدهان الغليظة التي تبقى ملبدة فوق الجسم؛ فهذه لا بد من إزالتها، أما ما سوى ذلك فلا يلزم إزالته، وكذلك الخاتم الذي يستعمله الإنسان إذا كان في يده فلا يلزم إزالته وتكفي إجالته، والفرق بين الإزالة والإجالة: أن الإزالة هي القلع، والإجالة هي أن يديره؛ حتى يصل الماء إلى ما تحته.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم) هذا طرف من حديث عائشة السابق، وفيه أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم للإحرام قبل أن يغتسل، وللحل قبل أن يفيض، فالتطييب للإحرام سنة، وهو بالطيب الذي لا يبقى أثره بعد الغسل، أو يبقى منه الشيء الخفيف، ولا منافاة بين هذا وبين ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أتاه بالجعرانة، كما في حديث يعلى بن أمية أنه: (سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا نزل عليه أريتك، فبينما هو عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل قد تضمخ بالطيب وعليه جبة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أحرم بعمرة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي، فدعاني عمر، فنظرت إليه فإذا هو يغط قد ارْبَدَّ وجهه، فلما أُسْرِيَ عنه دعا بالرجل، فأمره أن يخلع جبته، وأن يزيل أثر الطيب عنه، وأن يفتدي)، فهذا الرجل كان قد تطيب بعد إحرامه، والنبي صلى الله عليه وسلم تطيب قبل الإحرام، واغتسل؛ أي: غسل أثر الطيب في اغتساله، ولكن بقي شيء منه، وقد ذكرنا من قبل أنه لبد شعره، وتلبيد الشعر هو: جعل الصمغ عليه؛ لئلا يتساقط منه شيء، فتلبيد الشعر يقتضي بقاء شيء من أثر ما كان فيه من الطيب، والوبيص هو اللمعان، فـعائشة كانت ترى وبيص الطيب في مفرقه، والمفرق هو: وسط الشعر حيث يفرق الشعر إلى قسمين، وهذا حال من أحوال شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تارة يسدله خلفه، وتارة يفرقه نصفين حتى يبلغ شحمة أذنه، و«الفرق» آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفرق شعره، و«المفرق» هو وسط الرأس، وهو مكان ضرب السيف من الرأس، ومنه قول الأحوص بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح رضي الله عنهم:
فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعلو مفرقك الحسام
(يعلو مفرقك الحسام) المفرق هو وسط الرأس، فعائشة قالت: (كأني أنظر)؛ أي: لتأكيدها على ثبوت الطيب وبقائه كأنما تنظر إليه بعد مدة طويلة، فهي موقنة بوجوده، (كأني أنظر إلى وبيص الطيب)، والطيب المقصود به: الذريرة، ذريرة المسك، (في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في شعر رأسه، في أعلى شعر رأسه، (وهو محرم)؛ لأنه قد لبد شعره.
وهذا الحديث يؤخذ منه من الأحكام أن ما عسرت إزالته مما في الشعر أو في البدن من الأثر فهو معفو عنه إذا غسله الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سبق أن عرفنا أنه يوصل الماء إلى أصول الشعر، وأنه يخلله، وينفضه، ويفيض عليه ثلاثًا، فما عسر وبقي بعد ذلك فهو معفو عنه.
ثم قال: (باب: تخليل الشعر أثناء الغسل).
أي: باب وجوب تخليل الشعر، والمقصود بتخليله: إدخال الأصابع في أثنائه ليدخل الماء معها حتى يصل إلى أصوله؛ لأن الشعر يتعقد ويتجعد؛ فيمنع وصول الماء إلى ما تحته من الجسم، وتخليله في الغسل واجب بالإجماع، وتخليل الشعر في غسل اللحية في الوضوء محل خلاف بين أهل العلم، وقد ورد في حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم (أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت لحيته فخلل لحيته)، ولكن الفعل لا يقتضي الوجوب، فالفعل يقتضي أن هذا حصل من النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يقتضي الوجوب، وأنتم تعلمون أن السنة ثلاثة أقسام: قول، وفعل، وتقرير؛ فالقول تؤخذ منه الأحكام كلها، يؤخذ منه: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، والفعل يؤخذ منه حكمان فقط، وهما: الإباحة، والندب، والتقرير لا يؤخذ منه إلا حكم واحد، وهو: الإباحة فقط، فالتقرير لا يدل على الندب، ولا على الوجوب، فضلًا عن الدلالة على الكراهة، والتحريم، والفعل لا يدل قطعًا على الكراهة، ولا على التحريم، ولا يدل أيضًا على الوجوب، فبقي أنه يدل على الندب، أو على الإباحة فقط، والقول تؤخذ منه الأحكام كلها.
ولا شك أن الوجه هو ما واجهك؛ أي: ما تراه من الإنسان عندما يقابلك؛ ولذلك قال الشاعر:
خذا وجه هرش أو قفاها فإنه كلا جانبي هرش لهن طريق
(خذا وجه هرش)؛ أي: ما يواجهك منها، وهي: ثنية معروفة بين مكة والمدينة.
خذا وجه هرش أو قفاها فإن كلا جانبي هرش لهن طريق
فالوجه إذًا ما يواجهك، وقد أمرنا الله بغسل الوجه، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6]، وهذا يقتضي غسل ظاهر اللحية، لكنه لا يقتضي تخليل باطنها؛ لأن ذلك هو مثل باطن العينين، وداخل الأنف، وداخل الفم، أما داخل الأنف وداخل الفم فقد اختلف فيهما أهل العلم: هل يدخلان في الوجه، أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أن داخل الأنف هو من الوجه، فيجب الاستنشاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر)، والأمر يقتضي الوجوب في الأصل، فهذا يقتضي وجوبه في الوضوء لا في الغسل، وقالت طائفة بإخراج داخل الفم، فقالوا: المضمضة لا تجب؛ لأن الفم الأصل فيه الإغلاق عند المقابلة، فهو مستور بالشفتين، بخلاف الأنف، فليس له ما يغلقه عند المقابلة، فيدخل داخل الأنف في الوجه؛ لأنه يواجهك عند المقابلة، ولا يدخل داخل الفم في الوجه؛ لأنه لا يواجهك عند المقابلة، وذهب بعضهم إلى وجوب المضمضة والاستنشاق معًا في الغسل وفي الوضوء، وذهب آخرون إلى سنيتهما في الغسل وفي الوضوء معًا، وكل ذلك مأخوذ من تفسير الوجه، ما معنى الوجه؟ هل هو ما يواجهك، أو هو العضو بكامله؟ وعلى هذا تخليل اللحية، إذا كانت اللحية خفيفة كالشعرات المتطايرة فلا بد من تخليلها وغسل ما تحتها، أما إذا كانت كثة تستر ما تحتها؛ فالراجح عدم وجوب تخليلها في الوضوء، لكن يلزم تخليلها في الغسل، وأما شعر الرأس، فلا تخليل فيه في الوضوء قطعًا؛ لأن الواجب في الوضوء هو مجرد المسح، والمسح مبني على التخفيف، أما في الغسل فلا بد من تخليله أيضًا؛ فهنا أطلق في الباب لفظ الشعر، فهو يشمل شعر الوجه (الحية) وشعر الرأس.
قال: (وعنها)؛ أي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده)، هذا الحديث هو رواية من حديث عائشة السابق في وصف غسل النبي صلى الله عليه وسلم وهيئته، فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل...)، سبق أن (إذا) إذا جاء بعدها الفعل الماضي في مقدمة الكلام لا يقصد به المضي؛ لأن (إذا) تقتضي الاستقبال؛ فالمقصود بذلك: أنه إذا أراد أن يغتسل، فهو مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6]، ليس المقصود: إذا قمت في الصف فيجب عليك أن تغسل وجهك حينئذ، بل المقصود: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، كذلك هنا إذا اغتسل، معناه: إذا أراد الغسل من الجنابة، و(من) ابتدائية، معناه: الغسل الذي أصله الجنابة، وسبب وجوبه الجنابة، (غسل يديه) وذلك قبل إدخالهما في الإناء، فيغسل يمينه بشماله، وشماله بيمينه، وغسلهما هو إلى الكوعين فقط في بداية الوضوء والغسل، وهذا الغسل- أي: غسل اليدين في بداية الوضوء والغسل- لا يجزئ عن غسلهما مرة أخرى عند الإكمال، فأنتم ترون بعض الناس إذا كانوا يتوضئون يغسلون أيديهم في بداية الوضوء، فإذا غسلوا وجوههم غسلوا الأيدي فقط من الكوعين إلى المرفق، وهذا لا يجزئ؛ لأنهم تركوا غسل الكفين والأصابع، وغسلهما واجب، والغسل الأول سنة فقط، غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في بداية الوضوء سنة، وغسلهما بعد غسل الوجه واجب، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ[المائدة:6]، فهذا مما يخطئ فيه كثير من عوام الناس.
(غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة)؛ أي: أكمل وضوءه للصلاة، كما سبق بيانه؛ أي: وضوءًا كوضوئه للصلاة، (ثم اغتسل)؛ أي: بعد إكمال وضوئه اغتسل، فبينت ذلك؛ بينت قولها: (ثم اغتسل)، فقالت: (ثم يخلل بيديه شعره)؛ أي: هيئة غسله: هي أن يخلل الشعر، فيبدأ بعد أعضاء الوضوء بغسل الرأس، فيخلل شعره أولًا بأصابعه؛ أي: يدخل أصابعه في الماء، ثم يخلل بها أصول الشعر قبل أن يصب عليه الماء؛ ليجعل للماء منافذ في داخل الشعر؛ حتى يصل إلى أصوله، والعطف هنا عطف بيان، فقولها: (ثم اغتسل)، (ثم يخلل)؛ أي: ليس بعد نهاية الغسل، بعض الناس يفهم أنه: ثم اغتسل، فإذا انتهى من الغسل خلل الشعر، وهذا غير صحيح؛ لأن العطف هنا هو للتفسير، مثل قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[الأنفال:41]، فكثير من الناس يظن أن هذه أخماس جميعًا، فتكون الأخماس ستة، وهذا ممنوع عقلًا وشرعًا، فالمقصود: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ[الأنفال:41]، ثم فصل ذلك الخمس فقال: وَلِلرَّسُولِ[الأنفال:41]؛ أي: الخمس الذي هو لله يقسم على خمسة: وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ[الأنفال:41]، (ثم يخلل بيده) المقصود: بيديه معًا، ولكن اليد مفرد نكرة، فإذا أضيفت إلى الضمير تعم، مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ[الأحزاب:50]، فـ(العم) مفرد، و(الخال) مفرد، ولكنه أضيف إلى الضمير فعم، ومن ذلك قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
(الحسرى) هي: البهائم الميتة من الجوع، فيقول (بها)؛ أي: بهذه المفازة جيف الحسرى، (فأما عظامها فبيض وأما جلدها)؛ أي: جلودها؛ لأن الحسرى ليس لها جلد واحد بل جلود لكن المفرد إذا أضيف إلى الضمير يعم؛ فلذلك قالت: (ثم يخلل بيده)؛ أي: بيديه فهو للعموم، (شعره)؛ أي: شعر رأسه ولحيته، (حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته)، (إذا ظن)؛ أي: أيقن، و(ظن) تأتي لليقين غالبًا، وتأتي للظن قليلًا، ومن ورودها لليقين في القرآن قول الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ[البقرة:249]؛ أي: قال الذين يوقنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلب فئة كثيرة بإذن الله، (ظن أنه قد أروى) في هذه الرواية (أروى)، وفي الرواية الأخرى (روّى)؛ أي: أوصل الماء إلى أصول الشعر، كأن الشعر نبات يسقى، يروّى، (أروى بشرته)، والبشرة هي: ظاهر الجلد، (أفاض عليه الماء)؛ أي: صب الماء على سائر جسده ثلاث مرات، وذلك بصبه على الرأس ثلاثًا، ثم بإطلاق الماء على بقية جسده، فالتثليث المقصود به على الرأس فقط، لا على سائر الجسد، (ثم غسل سائر جسده)؛ أي: بعد أن يغسل رأسه ثلاثًا يغسل سائر جسده، والسائر، والسار: البقية، يقال: جلست سائر النهار؛ أي: بقية النهار، ومن ذلك قول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أكتع
(ترى الثور فيها)؛ أي: في وقت الظهيرة، (مدخل الظل رأسه)، (وسائره)؛ أي: بقية جسمه، (باد إلى الشمس أكتع)؛ أي: كاملًا، والسؤر والسار والسائر كلها بمعنى: البقية، ودلالة الحديث على ما جلب له في الباب واضحة، وهي تخليل الشعر في أثناء الغسل، وقد صرحت بذلك عائشة في هيئة غسل النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقة ذلك اليوم إذا فتح الإنسان عليه الماء فينبغي أن يبدأ أولًا بغسل يديه، ثم بعد ذلك يتمضمض، ويستنشق، ثم يغسل وجهه، يغترف من الماء يرفع يده ليستبقل الماء النازل من موضعه، ثم يغسل به وجهه ثلاثًا، ثم يده اليمنى إلى المرفق، ثم يده اليسرى إلى المرفق، ثم يبل يديه، ثم يدخلهما في شعره حتى يصل إلى أصوله، ثم يعرض رأسه للماء النازل؛ حتى يكون ذلك بمثابة ثلاث غرفات، ثم يدلك الشعر، ثم يغسل رقبته وعاتقه الأيمن وذراعه الأيمن إلى المرفق، ثم يغسل شقه الأيمن، ثم يغسل شقه الأيسر، والأصل البداءة بالظهر قبل البطن، لماذا؟ لأنك إذا غسلت يدك تبدأ بظاهرها قبل باطنها، فكذلك إذا غسلت شخصك تبدأ بالظهر قبل البطن، وهكذا في غسل الرجل يبدأ الإنسان بغسل ظاهرها قبل باطنها.
ثم قال: (باب: إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يتيمم).
عقد هذا الباب لصورة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تتكرر مع كل إمام، وهي إذا ذكر- أي: تذكر- في المسجد أنه جنب، سواء كان ذلك في أثناء الصلاة أو قبل أن يشرع في الصلاة؛ فإنه ينصرف من المسجد، ولا يلزمه التيمم لخروجه من المسجد؛ لأن الجنب لا يحل له دخول المسجد حتى يرفع الحدث عنه، فإذا كان في أثناء المسجد، فالخروج ليس مثل الدخول، فيجوز له الخروج، وهذه قاعدة عامة: أنه يغتفر في الأثناء ما لا يغتفر في الابتداء، فإذا كان الإنسان في خارج المسجد، وهو جنب، فلا يدخل المسجد حتى يرفع الحدث عنه، لكن إذا كان في داخل المسجد فتذكر، فخروجه ليس مثل الدخول؛ لأنه يغتفر في الأثناء ما لا يغتفر في الابتداء؛ فلذلك لا يلزمه التيمم.
وقوله: (يخرج كما هو) الذي في صحيح البخاري: (خرج كما هو)، والمكتوب عندكم: (يخرج كما هو)، لكن الرواية التي روينا بها الصحيح: (خرج كما هو، ولا يتيمم)؛ أي: خرج من المسجد كما هو، إذا ذكر ذلك خرج كما هو؛ أي: على هيئته، والكاف هنا هي لبيان الحال لا للتشبيه، لا يقصد بها التشبيه، بل يقصد أنه يخرج على هيئته، (ولا يتيمم)؛ أي: لا يلزمه التيمم للخروج من المسجد.
فقال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أقيمت الصلاة وأذن في الصفوف قيامًا فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه)، هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه من مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: (أقيمت الصلاة)؛ أي: أقام بلال الصلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (وعدلت الصفوف)؛ أي: سويت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم حتى تعدل الصفوف، والمقصود بتعديلها: استواؤها حتى يقع التقارب بين المصلين والتناظر بينهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحضهم على ذلك، وينهاهم عن أن يتركوا للشيطان فرجة، ويقول: (ما لي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم حتى تعدل الصفوف، وقوله: (قيامًا) حال من الصفوف؛ أي: حال كون الصفوف قيامًا، (فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفاء للترتيب والتعقيب، معناه: بعد إقامة الصلاة وتعديل الصفوف والناس قيام، (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته، فدخل على الناس في المسجد، فلما قام في مصلاه)؛ أي: في المكان الذي يصلي فيه، وهو أمام الصف الأول، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم محراب، ولم يتخذ المحاريب الخلفاء الراشدون بعده، وأول من اتخذ المحاريب والمقصورات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حين خاف على نفسه من القتل، فالمحاريب في اللغة تطلق على المصليات مطلقًا، فالمحراب إذا جاء في القرآن المقصود به المصلى، وإذا جاء في السنة فالمقصود به المصلى: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ[آل عمران:39]، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا[آل عمران:37]، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ[سبأ:13]، المقصود بالمحاريب: المساجد، ثم بعد أن بنى معاوية المقصورة أطلق على مكان صلاة الإمام وحده (محراب)، ولكن ليس هذا الإطلاق لغويًّا، بل هو إطلاق اصطلاحي، فالمحاريب في اللغة هي المساجد مطلقًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له محراب، وإنما كان يصلي بين يدي الصف في وسطه، فهذا مصلاه؛ فلذلك قال: (فلما قام في مصلاه)؛ أي: في المكان الذي يصلي فيه عادة، (ذكر أنه جنب)؛ أي: تذكر أنه جنب (فقال لنا: مكانكم)، وأطلق القول هنا على الإشارة؛ لأنه ثبت في الرواية أنه أشار إليهم بيده: أن مكانكم، فالقول هو ما يفهم من حال الشيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إليهم بيده، ففهموا من ذلك أنه يقول لهم: انتظروا، ولو لم يقل ذلك بلسانه؛ لأن هذا من قول الحال، وهو في بعض الأحيان يكون أبلغ من قول المقال، لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فأشار إليهم بيده: أن انتظروا؛ فلذلك قال: (فقال لنا: مكانكم)؛ أي: الزموا مكانكم، ومكانكم منصوبة بفعل محذوف تقديره (الزموا)، (ثم رجع)؛ أي: بعدما اغتسل، رجع إلى بيته فاغتسل، ثم خرج إلينا، (ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه) (ورأسه يقطر) دل ذلك على أنه لم يستعمل منشفة لأثر الماء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الحر لا يستعملها، كما في حديث ميمونة: (ثم رفعت إليه الخرقة فلم يُرِدْها)؛ أي: لم يأخذها، وذلك أن أثر الماء ينفع في التبرد، فبقاؤه مما ينفع في التبرد، وقد استدل بهذا بعض أهل العلم على أن المغتسل من الجنابة، وكذلك المتوضئ إذا كان يرفع الحدث لا ينبغي أن يزيل أثر الغسل والوضوء بالمنشفة، إلا إذا كان عليه ضرر في ذلك، قالوا: لأن ذنوبه تخرج مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء؛ فيدعون القطر، لكن الذي يبدو أنه يجوز له إزالة أثر الماء، ولو كان ذلك من غسل الجنابة ولو كان من الوضوء الواجب، تجوز له إزالة ذلك مطلقًا ولو لم يكن في بقائه ضرر.
(فكبر فصلينا معه) (كبر)؛ أي: أحرم. وظاهر ذلك أنه لم يعد الإقامة، فذلك يؤخذ منه أن الإقامة يجوز فصلها عن الصلاة لعارض، وقد ورد في ذلك عدد من الأحاديث، منها: (أنه صلى الله عليه وسلم أُقيمت له الصلاة فتقدم ليصلي فقام رجل أمام الصف، وهو رجل من الأعراب، فقال: يا رسول الله، علمني مما علمك الله. فانفتل إليه، فوضع يده على كتفه فعلمه ساعة، ثم رجع إلى مصلاه فأحرم)، فإذا انفصلت الإقامة عن الصلاة بعارض، فلا تعاد الإقامة مرة أخرى.
قال: باب: من اغتسل عريانًا وحده في خلوة:
عقد هذا الباب؛ لأن الإنسان إذا أراد الاغتسال يمكن أن ينزع عنه ثيابه، وأنه في ذلك على حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون عند الناس، والحالة الثانية: أن يكون في خلوة؛ أي: في مكان هو فيه وحده، فإن كان عند الناس فلا بد من التستر، كما يأتينا في الباب الذي بعد هذا، وإن كان في خلوة؛ أي: في مكان خال، فيجوز أن ينزع عنه ثيابه ولو لم يكن في غرفة أو ستر، فإذًا إذا كان الإنسان وحده ليس عنده أحد سواء كان في داخل مغتسل أو كان في العراء فيجوز له نزع ثيابه عنه، وأن يغتسل عريانًا، أما إذا كان في حضرة الناس فلا بد أن يتستر، فقال: (وحده) وأكد ذلك بقوله: (في خلوة) فهذا معنى وحده؛ لأنه يفهم من قوله وحده أنه يغتسل وحده لا يغتسل معه إنسان آخر، فأكد المقصود بقوله: (في خلوة)؛ أي: لم يكن عنده أحد ينظر إليه.
قال: وعنه؛ أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا لا يرى من جلده شيء؛ استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما كدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لـموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا[الأحزاب:69])، هذه قصة من قصص الأنبياء وحديث من أحاديث الأنبياء، وقد جاء في صحيح البخاري في هذا الموضع بألفاظ غير هذه، ولكن المؤلف لا يلتزم ألفاظ البخاري في الباب الذي يوردها فيه؛ فلذلك اختار رواية له أخرى غير الرواية التي أوردها البخاري في كتاب الغسل، وهو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى، وهو موسى بن عمران كليم الله، (كان رجلًا حييًّا)؛ أي: شديد الحياء، والحياء من كمال الخلق، وتعريف الحياء هو: وصف يحمل على إتيان الجميل واجتناب القبيح، وهو خلق من الأخلاق الرفيعة، بل هو خلق الإسلام، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء)، وهو شعبة من شعب الإيمان، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، وكذلك في الحديث الآخر: (وإن الحياء شعبة من شعب الإيمان)، وموسى عليه السلام كان شديد الحياء؛ فلذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كان رجلًا حييًّا ستيرًا)؛ أي: كثير التستر، وذلك مظهر من مظاهر الحياء، ثم فسر ذلك بقوله: (لا يرى من جلده شيء؛ استحياء منه)؛ أي: لا يرى الناس من جلده؛ أي: من باطن جلده، ولا يقتضي ذلك أنه كان يستر وجهه ويديه وما بدا منه، بل المقصود ما يُستر عادة من الجلد لا يرى منه شيء، (استحياء منه)؛ أي: الذي يحمله على ذلك الاستحياء، فاستحياءً مفعول لأجله، وهو مصدر قلبي منصوب على العلة، (فآذاه من آذاه من بني إسرائيل)؛ أي: آذاه قومه من بني إسرائيل بألسنتهم وقد بين ذلك الأذى، (فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده)، قالوا: إنه لا يستتر هذا التستر إلا من عيب، إلا لأن به عيبًا بجلده، وهذا العيب إما أن يكون برصًا؛ أي: بياضًا، وإما أن يكون أدرة، والأدرة هي: انتفاخ الخصيين، وهو عيب ومرض، وإما آفة: أي: علة أخرى، كنقص في خلقته، أو جرح فيه، أو غير ذلك، كالأمراض التي فيها عدوى أو نحو ذلك، وهذا من سوء ظن بني إسرائيل وقبح طويتهم، فقد جبلهم الله سبحانه وتعالى على سوء الطوية، فهم يتهمون نبي الله عليه السلام بما برأه الله منه لقبح طويتهم، فيظنون أنه لا يتستر إلا من يستر عيبًا، ولا يستحيي إلا من حياؤه لنقص فيه، وذلك لأنهم هم لا يقع منهم الحياء، وقد زال عنهم بالكلية، وقد عرف ذلك منهم؛ ولهذا فإن حكمة الله سبحانه وتعالى في خلق اليهود هي أذى الناس، خلقهم الله للأذى كما خلق السرطانات والأمراض المعدية والأوبئة، حكمة الله في خلقها الأذى وامتحان الناس، وكذلك حكمة الله في خلق اليهود؛ ولهذا فإنهم عادوا الله جل جلاله فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، وقَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، وزعموا أن عزيرًا ابن الله، وكذلك هم أعداء أنبياء الله فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[البقرة:87]، وكذلك هم أعداء ملائكة الله مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[البقرة:98]، وهم كذلك أعداء كتب الله المنزلة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[النساء:46]، وهم أعداء الاقتصاد؛ لأنهم أول من جاء بالربا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ[النساء:161]، وأكالون للسحت، وهم كذلك أعداء البشرية كلها؛ لأنهم يفسدون في الأرض، كما قال الله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[النساء:161]، وكما قال: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ[المائدة:42]، فهذا وصفهم، فهم يسعون في الأرض فسادًا كما شهد الله عليهم بذلك في كتابه، فإذا عداوتهم للمسلمين ليست بدعً، فهم أولًا أعداء الله، وأعداء ملائكة الله، وأعداء أنبياء الله، وأعداء كتب الله المنزلة، وأعداء اقتصاد البشرية، وأعداء البشرية كلها، وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، فإذًا لا يستغرب منهم أن يفعلوا أفاعيلهم الحاصلة الآن، فقد قتلوا عددًا كبيرًا من أنبياء الله، وأهدوا رأس نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى بغي من بغاياهم، خابوا وخسروا.
فلذلك آذوا موسى، وقد نعى الله عليهم ذلك، وبين أن موسى رد عليهم ردًا هو في غاية الأدب: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ[الصف:5]، (وإن الله أراد أن يبرأه مما قالوا لـموسى) إن الله أراد أن يبرئه، أراد أن يبرئ موسى، وهذه إرادة كونية لا إرادة تشريعية، وإرادة الله تنقسم إلى قسمين:
إرادة تشريعية وإرادة كونية، فالإرادة التشريعية هي: المرادفة للأمر، والإرادة الكونية هي: المرادفة للمشيئة؛ أي: شاء الله ذلك بقدره لا بأمره التشريعي؛ ولذلك لا يجوز لموسى أن يأتي عريانًا بظاهر التشريع، ولكن ذلك حصل بالإرادة الكونية لا بالإرادة التشريعية؛ لذلك قال: (وإن الله أراد أن يبرئه)؛ أي: أن يظهر براءته مما قالوا لموسى، (فخلا يومًا)؛ أي: خلا موسى بنفسه يومًا وحده ليس عنده أحد؛ أي: في خلاء من الأرض، (فوضع ثيابه على الحجر)؛ أي: على حجر كان حوله، (ثم اغتسل فلما فرغ)؛ أي: انتهى من غسله، وقد كان الغسل من الجنابة من ملة الأنبياء السابقين بخلاف الوضوء، فالوضوء من خصائص هذه الأمة ولم يكن من الملل السابقة؛ ولذلك فصل الوضوء تفصيلًا في القرآن ولم يفصل الغسل، لم تبين لنا هيئة الغسل في القرآن وبُينت لنا هيئة الوضوء، فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، أما في الغسل، فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا[المائدة:6]، فهو معروف لديهم من ملة إبراهيم عليه السلام؛ فلذلك كان أنبياء الله يغتسلون من الجنابة، فهذا من الشرع المشترك بين الشرائع كلها الغسل من الجنابة.
(ثم اغتسل فلما فرغ)؛ أي: فرغ من غسله، أقبل إلى ثيابه؛ أي: أقبل موسى عليه السلام إلى ثيابه ليأخذها فيلبسها، (وإن الحجر عدا بثوبه)؛ أي: الحجر الذي وضع موسى عليه ثيابه (عدا بثوبه)؛ أي: هرب بثياب موسى، فجعل يجري بها إلى ملأ من بني إسرائيل، و(عدا) معناه: جرى، وقوله: (بثوبه)؛ أي: بثيابه، وهو نظير ما سبق من أن النكرة إذا أضيفت للضمير تعم؛ لأننا سبق أن ذكرنا أنها ثياب، وهنا جاء الإفراد، (وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر)؛ أي: خرج يشتد عدوًا في أثر الحجر يطارده بعصاه، فجعل يقول: (ثوبي حجر، ثوبي حجر) جعل موسى يقول للحجر: ثوبي، معناه: أدِّ إلي ثوبي، ورد إلي ثوبي، حجر منادى؛ أي: يا حجر، و(حجر) مبني على الضم؛ لأنه منادى مفرد، ثوبي حجر، ثوبي حجر، (حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل)؛ أي: حتى انتهى الحجر بثياب موسى إلى ملأ من بني إسرائيل، فدخل فيهم، و(الملأ) الجماعة والعدد، (فرأوه عريانًا)؛ أي: رأوا موسى عريانًا أحسن ما خلق الله؛ أي: رأوا صورته وباطن جسده الذي كان مستورًا عنهم بملابسه فإذا هو أحسن ما خلق الله؛ أي: على أحسن صورة، والله سبحانه وتعالى يصطنع أنبياءه على عينه فيكمل خلقهم وخُلقهم، وقد امتن على موسى بذلك فقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[طه:39] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ[طه:40]، وهذا يقتضي تمام صورته وحسنها؛ لأنه بنظر الله سبحانه وتعالى، وعلى عينه، فيتبارك بالنظر الإلهي إليه فيكون أجمل وأحسن ما يمكن أن يتصور، بنظر الله إليه جل جلاله؛ فلذلك قال: (أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون)؛ أي: أكمله براءة مما يقولون ويزعمون، (وقام الحجر)؛ أي: توقف الحجر عن العدو كأنما هو قائم، (فأخذ ثوبه)؛ أي: أخذ موسى ثوبه فلبسه، (وطفق بالحجر)؛ أي: شرع، (طفق) من أفعال الشروع؛ أي: بدأ بالحجر يضربه بعصاه، (ضربًا بعصاه)؛ أي: يضربه ضربًا، والمصدر هنا نائب عن فعله (ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا) هذا قسم من النبي صلى الله عليه وسلم، (إن بالحجر لندبًا)؛ أي: أثرًا كأثر الضرب في جسد الإنسان؛ أي: تورمًا، فالحجر صار كالإنسان فلما ضرب تورم من أثر الضرب، فأصبح به ندب، والندب هو الارتفاع في الجسم، ويطلق أيضًا على أثر الجرح أو أثر الخراج أو نحوه إذا برئ، ومن ذلك قول غيلان:
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب
(ملساء ليس بها خال)، وهو المنتزع من الثآليل والشام، (ولا ندب)؛ أي: انتفاخ أو انخفاض، كأثر الجرح، (ليس بها خال ولا ندب)، (من أثر ضربه)؛ أي: من أثر ضرب موسى، وبين أن ذلك الندب إما أن يكون ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، تورم من أثر الضرب بالعصا، (فذلك قوله)؛ أي: هذا هو معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى[الأحزاب:69]، وهم بنو إسرائيل الذين آذوه بما زعموا، فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا[الأحزاب:69]، بهذه القصة، وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا[الأحزاب:69].
وهذا الحديث من شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا ثبت بشرعنا فيما لم يرد فيه شرع لنا، وتذكروا هذه القيود فإنها مهمة، شرع من قبلنا شرع لنا إذا ثبت بشرعنا فيما لم يرد فيه شرع لنا؛ إذا ورد شرعنا بخلافه فلا عبرة به، وإذا لم يثبت بشرعنا، وكان من الإسرائيليات، لا يؤخذ به، إذًا لا بد أن يكون ثبت بشرعنا، ولا بد أن يكون فيما لا شرع فيه لنا، فشرع من قبلنا شرع لنا إذا ثبت بشرعنا فيما لم يرد فيه شرع لنا، وهذا وجه الاستدلال في القصة.
ثم بعد ذلك قال: وعنه رضي الله عنه؛ أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب يغتسل عريانًا، فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى، وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)، هذا حديث آخر من أحاديث الأنبياء وهو من شرع من قبلنا، وفيه إثبات اغتسال أيوب عليه السلام عريانًا بخلاء من الأرض ليس عنده أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدث بهذا الحديث، فرواه عنه أبو هريرة قال: (بينا أيوب)؛ أي: بينما كان أيوب، (يغتسل عريانًا)، وهذا في خلاء من الأرض ليس عنده أحد، (فخر عليه جراد)؛ أي: في أثناء اغتساله نزل عليه صورة جراد من السماء، وهو من ذهب، (فجعل أيوب يحتثي)؛ أي: يجمع ذلك الجراد في ثوبه؛ لأنه على صورة الجراد، وهو من الذهب، (فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه)؛ أي: كلمه الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى يكلم أنبياءه بكلام يليق بجلاله وقد قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ[الشورى:51]، فيكلم أنبياءه من وراء حجاب، ويكلمهم وحيًا؛ أي: في رؤيا المنام، ويكلمهم بواسطة الملك، يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء، وكل هذه أنواع من أنواع الوحي، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن العلماء أوصلوا أنواع الوحي إلى اثني عشر نوعًا، أنواع الوحي إلى كل الأنبياء تصل إلى اثني عشر نوعًا، (فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟) فـأيوب أغناه الله سبحانه وتعالى، فأعطاه ضعف ما كان لديه وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[الأنبياء:84]، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ[ص:43]، فقد آتاه الله سبحانه وتعالى ضعف ما كان لديه من الأهل والمال، وشفى سقمه، وذلك بعد أن ابتلاه ثماني عشرة سنة، وهو صابر على البلاء، حتى مر عليه رجلان من بني إسرائيل، فقالا: (لقد أذنب أيوب ذنبًا لم يذنبه أحد من خلق الله، قد ابتلاه الله ثماني عشرة سنة، فلم يرفع عنه البلاء)، فلما سمع ذلك أيوب رفع يديه إلى الله عز وجل وقال: ربي، إني مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين. وكان من شدة حيائه من الله لا يستطيع أن يسأله أن يرفع عنه الضر، بل قال ذلك تعريضًا فقط، لم يقل: فارفع عني الضر، قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[الأنبياء:83]، فاستجاب الله دعاءه في تلك اللحظة، وقد افتقر حتى إن امرأته لم يكن لديها ما تطعمه به، فكانت تبيع قرون رأسها فتقطع قرون رأسها فتبيعها، فجاءت وقد تركته في مكان بقرب مزبلة من المزابل ومكان لرمي القمامة لبني إسرائيل، فإذا أيوب قد عادت إليه صحته، وكمل جسمه، وأخرج الله له ماءً، فاغتسل منه، وقال له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ[ص:42]، وأنزل الله إليه لباس من لباس الجنة، وأغناه، فلم تعرفه، فسألته: أين ذلك الرجل الضرير الذي كان هنا لعله تخطفته الكلاب؟ فقال: أنا أيوب، قد أنعم الله علي، وردَّ عليَّ صحتي؛ فلذلك قال له ربه جل جلاله: (ألم أغنك عما ترى؟)، (عما ترى)؛ أي: عن الذهب الذي هو من شأن الدنيا، وهذا يقتضي أن من تمام غنى الإنسان غنى قلبه بحيث لا يتعلق بشيء من أمر الدنيا، قال: (بلى، وعزتك)؛ أي: قال أيوب لله عز وجل: بلى أغنيتني عن ذلك، وهي إقرار بما حصل، (وعزتك) قسم بعزة الله أنه قد أغناه عن ذلك الذهب، (ولكن لا غنى بي عن بركتك)، فهذا الأمر ليس معتادًا بل هو من بركات الله؛ لأنه ذهب في صورة جراد، فقال: (بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك) فهو من بركة الله، أما لو كان من عند أحد من الناس لما أخذه، بل إنما أخذه لأنه من بركات الله النازلة من عنده مباشرة، وهذا الحديث مثل سابقه يدل على جواز اغتسال الإنسان عريانًا إذا لم يكن عنده أحد.
ثم قال: (باب: التستر في الغسل عند الناس).
قد ذكرنا أن الاغتسال للإنسان صورتين: أن يكون خاليًا وحده، وأن يكون بين الناس، فذكرنا حكم الاغتسال خاليًا إذا كان وحده، والآن عقد هذا الباب لاغتساله إذا كان بحضرة الناس، فقال: باب التستر؛ أي: حكمه حينئذ أن يتستر، وألا يتعرى عند الناس؛ أي: بحضرة الناس وعند الحضور والقرب، فقال: عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: (ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ)، وقد اختصر الحديث، فالحديث بكامله عن أم هانئ، وهي ابنة أبي طالب، هو عبد شمس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه عبد الله، وأمهما، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، وكان أحب أعمامه إليه، وهو الذي قام برعايته بعد موت عبد المطلب، وهو الذي حماه من المشركين لما تألبوا عليه، ونصره الله به عليهم مدة من الزمن، وأحيا حلف المطيبين الذي كان في الجاهلية، ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعًا مستميتًا، وقال فيه قصيدته اللامية المشهورة التي يقول فيها:
وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه وساع ليرقى في حراء ونازل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيًا غير ناعل
وحيث ينيخ الأشعرون رحالهم بمفضى السيول من إساف ونائل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والخلائل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
وأم هانئ هي إحدى ابنتيه، فكان له أربعة أولاد وابنتان، وأمهم جميعًا فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت بهاشمي، وكان بين كل ولدين من أولادها عشر سنين، فولدها الأكبر طالب، وقد مات في أيام بدر، ولا يعرف هل مات على الإسلام أو على الكفر، وبعده عقيل، وبينهما عشر سنين، وبعد عقيل جعفر، وبينهما عشر سنين، وبعد جعفر علي، وبينهما عشر سنين، وله ابنتان، هما: أم هانئ، وجمانة؛ فـأم هانئ أكبر بنتي أبي طالب، وقد أسلمت يوم الفتح وحسن إسلامها، وهي أم لثلاثة أولاد، هم أولاد هبيرة من بني مخزوم، فابنها جعدة هو الذي يفخر، ويقول:
أبي من بني مخزوم إن كنت جاهلًا ومن هاشم أمي لخير قبيل
فمن ذا الذي يَبْأَى عَلَيَّ بخاله كخالي علي من ندى وعقيل
وهي تحدث عن نفسها رضي الله عنها، وقد روى عنها هذا الحديث مولاها أبو مرة، وحدث به النضر، فرواه عنه مالك بن أنس، والبخاري يرويه عن مالك بواسطة رجلين من أصحابه؛ أي: من أصحاب مالك، وحدث به في هذا الموضع عن إسماعيل بن أبي أويس، عن خاله مالك بن أنس، فقال: (عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وسبب ذهابها إليه أنها أجارت الحارث بن هشام، وهو أخو أبي جهل، وقد كان شديد القتال للمسلمين، وقد هرب يوم بدر، فعيَّره حسان بن ثابت بقوله:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
فأجابه الحارث بقوله:
الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدًا أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فررت منهم والأحبة فيهم طمعًا لهم بلقاء يوم مفسد
وقد أجارته أم هانئ، وكان علي يريد قتله، فجاءت هي إلى النبي صلى الله عليه وسلم تريد أن يَرُدَّ علي عن قتله، وقد أجاره النبي صلى الله عليه وسلم حين أجارته أم هانئ، وفي ذلك يقول حسان يعير الحارث عند أول إسلامه يقول:
الحارث بن هشام قد أجير بما قد قال في أُمِّ هانئ من الغزل
الذي أنجاه من القتل هو ما قد قال في أم هانئ من الشعر، فجاءت هي إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستشفع به، (قالت: (ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح) )؛ أي: في أيام الفتح، وكان ذلك في اليوم الثاني من أيام الفتح، وعام الفتح هو العام الثامن من الهجرة، فقد فتح الله مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة الثالث والعشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة، (فوجدته يغتسل؛ أي: وجدته في أثناء الاغتسال، وهو في قبته التي بنيت له، وفاطمة...)؛ أي: ابنته، (تستره)، وفي رواية في الصحيح: (بثوب)؛ أي: كان يغتسل خلف ظهر فاطمة، وفاطمة ترفع ثوبًا تستره به عن أعين الناس، وهذا وجه الاستشهاد من الحديث، فهو يدل على أن الإنسان إن كان يغتسل بحضرة الناس فلا بد أن يتستر عنهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تستر، وإن كان هذا فعلًا، والفعل كما سبق لا يدل على الوجوب، لكن عرف الوجوب من القرائن، ومن أمور أخرى، وهي وجوب ستر العورة، و(فاطمة تستره، فقال: من هذه؟)، وذلك لأنها سلمت عليه، كما في الرواية الأخرى، وفي هذا الموضع من الصحيح أنها سلمت عليه؛ أي: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أن الأجنبية يجوز أن تسلم على الأجنبي؛ لأنها ليست محرمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يرد عليها السلام، وأن يكلمها في غير خلوة ولا ريبة، (فقلت: أنا أم هانئ)؛ أي: أجابته هي فعرفته على نفسها، فقالت: (أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبًا بـأم هانئ، فلما فرغ...)؛ أي: فرغ من غسله، (صلى ثماني ركعات)، وكان ذلك في وقت الضحى، وهذا يدل على جواز النافلة في النهار في السفر، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى نافلة النهار في السفر إلا في هذا اليوم وحده؛ ولذلك اختلف الصحابة في حكمها، فكان ابن عباس يقول: (لو كنت مسبحًا لأتممت)؛ أي: لو كنت متنفلًا لأتممت الفريضة، وهو في السفر يقصرها، أما نافلة الليل فلم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم، لا في حضر ولا سفر، (فلما انصرف)؛ أي: انصرف من صلاته، قلت: (هذا ابن أمي زاعم أنه قاتل رجلًا من أحمائي قد أجرته، فقال: أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، فآجره النبي صلى الله عليه وسلم بفعلها.
ثم قال بعد هذا: باب: عرق الجنب، وأن المؤمن لا ينجس:
عقد هذا الباب لطهارة المؤمن، وطهارته تقتضي طهارة جميع أجزائه، بما في ذلك لعابه ومخاطه وعرقه، فكل ذلك طاهر، ويدخل في ذلك لبن المرأة المرضع، فلبنها طاهر؛ لأنه بمثابة أجزائها إذا كانت مسلمة، أما إذا كانت ميتة فهو تابع لجثتها، وسيأتي الخلاف في جثة الميت المسلم؛ هل هي طاهرة أو متنجسة؟ والعرق لم يرد ذكره في هذا الحديث، ولكن البخاري أخذه من عموم طهارة المسلم، فعموم طهارته تقتضي طهارة جميع أجزائه، وبالأخص ما كان غير منفصل عنه في حال الحياة، أما ما كان منفصلًا عنه فهو ميتة؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أزيل من الحي فهو ميتة)، إذا قطع منه شيء من أعضائه فإنه ميتة ما دام حيًّا.
قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة، وهو جنب فانخنست منه، فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال: سبحان الله! إن المسلم لا ينجس)، هذا الحديث حصل لـأبي هريرة، وهو يرويه، وجاء فيه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة)، (في بعض طرق المدينة) وهذه رواية عدد من الذين رووا الصحيح، وهي أوضح من الرواية التي بين أيديكم، والرواية التي بين أيديكم ثبتت أيضًا: (في بعض طريق المدينة)، وفي بعض الروايات: (في طريق من طرق المدينة)، فيعلم أنه كان في داخل المدينة لا في طريقها؛ أي: في طريق الوصول إليها، بل كان ذلك في طريق من طرق المدينة، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جنب، وفي الرواية التي بين أيديكم: (فانخنست منه)، والانخناس هو: الاختفاء؛ أي: اختفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يسمى إبليس بـ(الخناس)؛ لأنه يختفي يخنس؛ فلذلك قال: (فانخنست منه)، وفي رواية أخرى: (فاحتبست منه)؛ أي: احتبست عنه، وفي رواية أخرى: (فانبجست منه) انبجست منه؛ أي: اندفعت فرقًا منه، وفي رواية أخرى: (فانتجست منه)، انتجست منه، معناه: عددت نفسي نجسًا، فلم أستطع مقابلته على نجاستي.
(فذهب)؛ أي: فذهب أبو هريرة، وظاهر السياق أن الذي ذهب هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس هذا مقصودًا، بل المقصود أن أبا هريرة هو الذي ذهب فاغتسل، (فجاء)؛ أي: إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أين كنت يا أبا هريرة؟) وفي لفظ في الصحيح: (أين كنت يا أبا هر؟) وذلك لملاطفته لأصحابه وحسن خلقه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، قال: (كنت جنبًا)؛ أي: عندما لقيتني، (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة)، وذلك احترام وتقدير من أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم يحبونه حبًّا شديدًا ويقدرونه ويجلونه إجلالًا عظيمًا؛ ولذلك قال عروة بن مسعود الثقفي لما عاد إلى قريش عندما أرسلوه في السفارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية: (يا معشر قريش، لقد زرت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، فما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، فوالله إنهم عنده لكأنما على رءوسهم الطير إذا تكلم، وإذا بصق لم تقع في كف أحدهم إلا دلك بها وجهه ورأسه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا أمر اتبعوا أمره)، هذا حال أصحابه معه، وكذلك حال التابعين بعدهم، فقد تربوا على الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، فقد أدركت جعفر بن محمد، وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنذر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر وجهه وغشيه الرحضاء وقمنا عنه ورحمناه)، فكانوا يحبونه حبًّا شديدًا، ويقدرونه ويجلونه، وهو أهل لذلك بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا لم يستطع أبو هريرة أن يجالسه وهو جنب حتى يغتسل؛ ولهذا قال عثمان رضي الله عنه: (فوالله ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إجلالًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعه بيمينه لم يمس بها ذكره بعد.
فخاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (سبحان الله!)، وهذا يدل على الاستغراب، وهو ذكر وتنزيه لله وثناء عليه، ويأتي استغرابًا لما حصل، ويكثر ذلك في السنة في استغراب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع أمرًا يستغربه يقول: سبحان الله! إن المسلم لا ينجس، فعلم أبا هريرة أنه لم يكن نجسًا عند جنابته، فقال: (إن المسلم لا ينجس)، وفي رواية في الصحيح قال: (إن المؤمن لا ينجس)؛ أي: لا يتصف بالنجاسة مطلقًا حتى ولو كان جنبًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر