بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده خير الدين، وأرسل به أفضل الرسل وأنزل به أفضل الكتب، وارتضاه للناس وقال فيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3] .
وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، العاشر من شهر ذي الحجة وهو واقف بعرفة بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً ووقف في الموقف، وكان ذلك في العام العاشر من الهجرة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا اثنين وثمانين يوماً، وقد بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أنزلت هذه الآية، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: لم يتم شيء إلا نقص. وقد صح عنه رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتاه فقال: (يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معاشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: وما هي؟ فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3] ، فقال عمر : أما إنها أنزلت يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة).
إن هذه الآية قد حددت أن الدين المرضي عند الله هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يزداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن ينقص منه، ولذلك قال مالك رحمه الله: قد أنزل الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
ومن هنا: فكل ما يزيده الناس وكل ما ينقصونه من الدين فإنما هو إما إفراط وإما تفريط، فالإفراط بالزيادة في الدين والتفريط بالنقص منه والتقصير عما طلب فيه، وكلا الأمرين مقيت شرعاً، والتوسط بينهما هو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الله به الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ارتضى من عباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو المصلحة المتوسطة التي تراعي أمور الدنيا وأمور الآخرة، وتراعي حقوق الأفراد، وتراعي حقوق الجماعات، وتراعي حقوق الرب جل وعلا وحقوق العبد، وهذه الأمور لا يمكن أن يراعيها مشرع إلا العليم الخبير اللطيف الذي يعلم السر وأخفى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14] .
من هنا فلا يمكن أن يأتي أحد بأعدل مما شرعه الله لعباده، ولا يمكن أن يأتي بما هو مصلحة إلا ما شرع الله لعباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو مصلحتهم، لكن قد يغيب عن الإنسان وجه المصلحة فيه؛ لأنه لا يخطر بباله ما يتعلق بالآخرة، فيظن أن المصلحة مقصورة على أمور الدنيا فقط.
ولذلك فمصائب المؤمنين وبلاياهم هي عين المصلحة عند الله، وذلك أنها تكفر من سيئاتهم، وترفع من درجاتهم، وتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وتلهمهم اللجوء إليه وتذكرهم به سبحانه وتعالى، فإن الغنى مدعاة للطغيان ومدعاة للنسيان، فإذا لم يمرض الإنسان ولم يشتك من أية شكوى؛ لم يتذكر حاجته إلى الباري سبحانه وتعالى، ولم يحسن الضراعة إليه والدعاء.
وكذلك فإن المصالح الأخروية لا يمكن أن تدرك بمقتضى العقول الدنيوية؛ لأن الإنسان إنما ينطلق من المعايير المادية التي يمكن أن تقاس بها أمور الدنيا، ولا يمكن أن تقاس بها أمور الآخرة، فالوزن باعتبار الدنيا إنما هو بالثقل والوزن في الآخرة إنما هو بما عند الله، ولذلك رجحت بطاقة قدر الكف فيها (لا إله إلا الله) على السجلات التي سدت الأفق، فطاشت السجلات، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ[الأعراف:8].
ولذلك فالوزن الدنيوي هو وزن مادي تراعى فيه الظواهر فقط، والوزن يومئذ -أي: في يوم القيامة- هو الحق الذي لا يمكن أن يلتبس بغيره، ولا أن يخالطه باطل في وجه من الوجوه، إذا عرفنا هذا أدركنا أن كل ما شرعه لنا ربنا سبحانه وتعالى فهو عين المصلحة لنا وإن خفي علينا ذلك، وأن علينا أن نرضى بكل ما شرعه الباري سبحانه وتعالى بكل استسلام وطمأنينة، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى غني عنا وعما يصيبنا وعما يعطينا، فهو الغني الحميد لا يصل إليه نفع ولا ضر من عباده، (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
وقد بين سبحانه وتعالى أن الخلائق جميعاً لو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.
ومن هنا يعلم أن العبادة إنما هي لمصلحة العابد لا لمصلحة المعبود، وأن المنتفع بها هو العابد وحده، وأن الله قادر على هداية الناس أجمعين وإلهامهم طريق الحق وأطرهم عليه أطراً، ولكنه يبلوهم بالخير والشر ويمتحنهم بذلك، ولهذا قال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ[يونس:99-102].
الأيام التي خلت فأخذ فيها الله السابقين أخذاً وبيلاً، يعيدها الله سبحانه وتعالى ويكررها؛ لأن من سنته التي هي مصلحة أهل الأرض بقاء الصراع الأبدي فيها بين الحق والباطل.
ومن هنا فلو توقف هذا الصراع لحظة واحدة، فخلص الحق على الأرض واستقام الناس، أو خلص الباطل على الأرض وكفر الناس، لم يكن لهذه الدنيا معنىً ولا فائدة، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فلذلك امتحننا الله بهذه الحياة الدنيا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؟) ، فهذه الدنيا دار استخلاف وامتحان، يمتحننا الله سبحانه وتعالى فيها، فلو تمحض فيها الحق لنجح الناس جميعاً، واستحقوا الخروج من هذه الدنيا التي هي دار الأكدار إلى دار القرار، ولو كفروا جميعاً لرسبوا في الامتحان، وحل عليهم غضب الله الأكبر: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله).
فاحتيج إذاً إلى أن يبقى في هذه الأرض صراع مستمر بين الحق والباطل، وهذا الصراع لابد فيه من مروق وخروج على صراط الله ومنهجه، وهذا المروق والخروج منه ما يسير عن يمين الصراط ومنه ما يسير عن يساره، فما كان عن يمين الصراط فهو غلو وتجاوز للحدود التي حدها الله سبحانه وتعالى، وابتداع في الدين، وما كان عن شماله فهو تقصير عن الدين ونقص منه، وكلا الأمرين مذموم، وهذا الصراط الدنيوي الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، هو تمثيل للصراط الأخروي الذي هو جسر منصوب على متن جهنم: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فيمكن أن يقوّم الإنسان نفسه الآن في طريقه: فإن كان سالكاً لهذا الطريق لا يميل ذات اليمين ولا ذات الشمال مع بنيات الطريق ويلتزم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى رجاء أن يثبت على ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27] ، وإن كان يميل ذات اليمين أو ذات الشمال مع بنيات الطريق، فليخف على نفسه يوم القيامة، عندما يرتجف الصراط، أن يميل عنه يميناً أو شمالاً، نسأل الله السلامة والثبات، ودعاء الأنبياء يومئذ: اللهم سلم سلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على مقربة من الصراط يقول: (اللهم سلم سلم)، فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على نجاته في سلوكه لهذا المنهج الرباني وهذا الصراط المستقيم؛ حتى يقيس بذلك نجاته على الصراط الأخروي يوم القيامة، ونحن نعلم أن الصراط الأخروي مزلة مدحضة كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصراط الدنيوي كذلك صعب جداً وبالأخص في أيامنا هذه أيام الفتن التي هي كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فلابد أن يحرص الإنسان كل الحرص على ألا يضع قدمه إلا في مكان معتدل في سواء الطريق، وأن يعلم أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داعٍ يدعو إليه: يا عبد الله! إلي إلي، وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه.
ثم إن علينا أن نعلم أن الاعتدال على هذا الصراط منهج متكامل يكمل بعضه بعضاً ويصدقه، فلا يمكن أن يكون الإنسان معتدلاً في اعتقاده على الصراط المستقيم ومائلاً في عمله؛ لأن عقيدته تدعوه إلى العمل، إذا استقامت عقيدته دعته إلى الاستقامة على العمل، ولا يمكن أن يكون مستقيماً في عبادته غير مستقيم في معاملته؛ لأن العبادة تدعو إلى حسن المعاملة، ولا يمكن أن يستقيم في تعامله مع الله وينحرف في تعامله مع المخلوقين؛ لأن الاستقامة مع الله سبحانه وتعالى تقتضي لين الجانب لعباده والاستقامة في الخلق، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤدياً لحقوق الأقربين مقصراً في حقوق الأبعدين فيكون على الصراط المستقيم؛ لأن أداء حقوق الأقربين مقتضٍ منه للزيادة في أداء حقوق الآخرين حتى لا يكون مطففاً.
ومن هنا فهذا المنهج الرباني متكامل يكمل بعضه بعضاً، وإذا حصل الميل في جانب من جوانبه أدى ذلك إلى اختلال البنيان كله، ألا ترون أن حجراً واحداً في أساس البنيان إذا كان مائلاً فبنيت عليه الأسوار الطويلة والمباني الشاهقة، كان ذلك سبباً لتزحزح تلك المباني الطويلة، ولا يقول أحد: هذا الحجر مساحته يسيرة صغيرة، والبناء طويل جداً، لعلمه أن ذلك البناء الطويل مبني على ذلك الحجر الواحد، فإذا مال مال البنيان كله.
من هنا على الإنسان أن يحرص على الاعتدال في كل هذه الأمور على المنهج المستقيم، وأن يحرص على الانطلاق من هذا المنهج في كل صغيرة وكبيرة، وهو بالاستسلام لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نرضى جميعاً بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء تعلق بالعقائد أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق أو بأمور الدنيا، فلابد أن نستسلم؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الصراط، ومن زاد فيه أو نقص منه فإنما خرج عن ذلك الصراط وضل ضلالاً بعيداً، وسيستمر في غوايته؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن من ضل عن بداية الطريق لابد أن يفتن بأنواع الفتن التي تقصيه، ولا يزال في ابتعاد عن المحجة بعد ذلك، قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:110-111].
فلابد إذاً من الحرص على هذا الصراط المعتدل المستقيم، والغريب في الشأن أن هذا الصراط هو أيسر السبل وأقومها، وأن كثيراً من الناس لا يصبرون على الاستقامة، فهم يملون العافية، نسأل الله الاستقامة والثبات، ومن هنا فيريدون الزيادة أو النقص من دين الله كحال أهل سبأ، الذين أنعم الله عليهم بأنواع النعم في الأرض والأمن واستقامة الحرث وغير ذلك، فملوا هذا: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ[سبأ:19] .
فلنحذر من أن نمل العافية، ولنحرص على الاستقامة على هذا الدين وعلى وسطه وسوائه.
ثم علينا أن نتعلم أن الميل ذات اليمين أو ذات الشمال في أي جانب من جوانبه مقتض لاستمرار ذلك في الجوانب الأخرى من حيث لا يشعر الإنسان.
فمثلاً: في الجانب العقدي، إذا أخذ الإنسان بسواء الطريق، أدى ذلك منه لاستقامة عمله كله، ولانطلاقه من المبدأ الصحيح، فلا يكون غالياً مجاوزاً للحد في الاعتقاد، فذلك مدعاة لمسلسل من الأخطاء لا حصر له، وإذا بالغ الإنسان في إتباع ما تشابه من القرآن, أو في إتباع ما تشابه من السنة وغلا في ذلك لابد أن يصل إلى حد يكون به مبتدعاً آتياً بما لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما لم يقله أحد من قبله، ومن هنا يزداد ضلالاً بعيداً ولا يزال في ذلك الطريق المظلم الموحش، نسأل الله الثبات والاستقامة.
وهذا الذي يؤدي بالناس إلى تكفير المسلمين، ويؤدي بهم إلى الغلو في الدين، بأن يأخذوا جزئية واحدة ليست من المحكم البين فيجعلوها محكاً للناس ومعياراً لهم، يمتحنونهم على أساسها، فليس ذلك من المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنما كان يأخذ الناس بمحكم الدين وبالأسهل والأخف، وعندما سأله جبريل عن الإيمان ذكر ستة أمور فقط، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وعندما أتاه رجل وقد حضر الصف فقال: (يا رسول الله! أسلم وأقاتل أو أقاتل ثم أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتكلفين، لذلك لا تجدون في أي حديث ولا في أيه آية مناظرة على الطريقة المنطقية، أو على الطريقة الفلسفية، مع أي حبر من أحبار أهل الكتاب، أو عالم من علماء ذلك الزمان، أو فيلسوف من فلاسفتهم، بل عندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه فيهم الكتاب المحكم البين من سورة آل عمران حين قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[آل عمران:64] ، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المباهلة التي أمره الله بها.
وكذلك في مجادلته للمشركين إنما كان يقرأ عليهم القرآن، فعندما أتاه عتبة بن ربيعة وهو ابن عمه، وكان شيخاً كبيراً محترماً في قريش، وأراد أن يجادله وذكر له حجج المشركين التي أوحتها إليهم الشياطين وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ[الأنعام:121]، استمع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أدب حتى أكمل ما معه من الحجج، فقال له: اسمع أبا الوليد ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ[فصلت:1-4] ، حتى قرأ عليه صدر هذه السورة، فهذه مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يقنع الناس، فما يظنه الناس سبباً للهداية أو سبباً للإقناع من النظر الفلسفي والمنطقي وتركيب الأشكال والجدل وغير ذلك، فإن أدى إلى إقناع شخص فليكن ذلك الشخص واحداً في المليون، وقد أسلم الملايين المملينة في أنحاء الأرض مشارقها ومغاربها من غير مجادلات فلسفية ولا تركيب أشكال منطقية.
وقرئ عليهم هذا القرآن، فمن هداه الله منهم رأى أنه عين الصواب والحق واستسلم له، ولذلك فإن رجلاً من أحبار اليهود من أهل اليمن كان في ديره يتعبد ذات ليلة، فمر راكب من حوله يقرأ سورة النساء، فاستمع إليه الراهب حتى بلغ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا[النساء:47] ، فلما سمع هذه الآية نزل مسرعاً من الدير وأقبل إلى المدينة مؤمناً وهو يلمس وجهه ويخاف أن يطمس على قفاه قبل أن يقبل الله إسلامه!
وهكذا فإن أسعد بن زرارة و مصعب بن عمير حين قدما المدينة وذهبا إلى بني عبد الأشهل وجاءهم أسيد بن حضير يريد طردهما من المدينة، وقد أرسله بذلك سعد بن معاذ ، أقبلا إليه فرحبا به وأدنيا مجلسه، ثم قالا: هل لك في أن نعرض عليك بعض ما جئنا به من هذا الكتاب الذي أنزل على صاحبنا -أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإن كان حقاً عندك قبلته، وإلا خرجنا وتركنا لك مكانك، فقال: قد أنصفتما، فجلس إليهما فقرآ عليه القرآن فبادر إلى الإيمان ولم يخالف في كلمة واحدة مما قرئ عليه.
ومثل هذا ما حصل لـجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أرسل المشركون عمرو بن العاص و عمارة بن الوليد إلى النجاشي بالهدايا، وهم يريدون إخراج المهاجرين من الحبشة، وأتيا التجار الكبار والملأ من أهل الحبشة فزينا لهم إخراج المهاجرين، وقالوا: هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك -وأولئك يعبدون عيسى من دون الله! ويزعمونه ابناً لله- فشق ذلك على المهاجرين، فلما دعاهم الملك للمناظرة، وجمع حوله الملأ من قومه قام عمرو بن العاص فتكلم فقال: إن هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك، فتقدم جعفر بن أبي طالب فبين لهم عقيدة المسلمين في عيسى وقرأ الآيات التي أنزلها الله في ذلك: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[آل عمران:59] ، وبين أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فأخذ النجاشي عوداً فقال: والذي يحلف به النجاشي لم يزد عيسى على هذا شيئاً قدر هذا العود، فاقتنع النجاشي بذلك وأسلم وحسن إسلامه، ورجع وفد المشركين خائناً.
وفي المقابل أيضاً إذا حصل التقصير في جانب الاعتقاد والنقص فيه، أدى ذلك أيضاً إلى التفريط في كثير من الأمور التي عليها ينبني أمر هذا الدين، فلابد أن نعلم أن التفريط في هذا الجانب مقتض لأن يقبل غير المسلم في المسلمين، وأن يتغاضى عن الكفر الصريح، وأن يتغاضى عن التعدي على حدود الله، وأن يتغاضى عن الابتداع البين الذي هو هدم للدين، وأن يترك ركناً من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يترك ما أخذ الله علينا العهد به من القيام بالقسط والعدل في الأرض، وهذا ما أكده الله في كتابه، فقد قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ[النساء:135] ، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ[المائدة:8] .
ومن هنا فالذين يريدون التنازل والمحاباة والمسامحة لابد أن يصلوا إلى خروج ومروق عن الجادة بالكلية، فهذا الدين دين فرقان يميز بين الحق والباطل، ولا يمكن أبداً أن يلبس فيه الحق بالباطل، فلبس الحق بالباطل هو الفتنة بعينها، وقد قال الربيع بين أبي الحقيق :
إنا إذا مالت دواعي الهـوى وأنصت السامع للقـائل
واصطرع القوم بألبابهـم نقضي بحكم عادل فاصل
لا نجعل الباطل حقـاً ولا نلط دون الحق بالباطـل
نخاف أن تسفه أحلامنـا فنخمل الدهر مع الخامـل
فلذلك لا يجوز أن يصل الإنسان في محاباة الناس إلى حد التجاوز، فقد عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك فلم يقبل، وعندما عرض عليه المشركون أن يسكت عن سب آلهتهم لم يفعل في البداية حتى أنزل عليه في ذلك الأمر المؤقت فقط: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:108] .
وعندما عرضوا عليه أن يعبد آلهتهم ويعبدوا إلهه أنزل الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون:1-6].
فعرفوا أنها المفاصلة، ولا يمكن أن يقع بعدها أي ميل ولا ركون، وقد قال الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ[هود:113] ، وقال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا[الإسراء:73-75].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربي أصحابه على هذا المنهج، فهذا سعد بن أبي وقاص تضغط عليه أمه وهي أحب الناس إليه وأمنه عليه وتضرب عن الطعام! فلما كادت أن تموت أتاها سعد فهمس في أذنها فقال: يا أماه! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً تلو أخرى على أن أرجع عن شيء من ديني ما رجعت فاحيي أو فموتي.
فلذلك لابد أن نعلم أن مسلسل التراجع والمسامحة سيصل بالناس إلى ما يعرف اليوم بالأنترفيت أي: الدين العالمي، وهو دين مشوه يجمع كل الأديان وكل الأيديولوجيات، وقد بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية، وأراد به أصحابه أن يجمعوا -أولاً- الديانات الثلاث السماوية، ويأخذوا الأمور المتفق عليها بين المسلمين واليهود والنصارى فيجعلون من ذلك ديناً موحداً! وهذا ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وهو غاية في التغيير والتبديل.
ومثل هذا ما حصل لدى بعض المسلمين -أيضاً- من السعي لمحاباة المبتدعة، حتى أرادوا أن يجعلوا مذهباً خامساً للمسلمين متفقاً عليه وهو المذهب الجعفري! وقد انعقد لذلك مؤتمر في الأزهر لإرضاء الشيعة، وأرادوا أن يتكلموا عن المذاهب الخمسة، وأن يجعلوا مع المذاهب الفقهية السنية المتبوعة مذهباً خامساً وهو مذهب الجعفرية لمجرد السياسة وإرضاء الشيعة الروافض.
وهذا لا يمكن أن يستقيم بحال من الأحوال، ولا أن يقره المسلمون، ولا أن يرضوا به، وقد حاول المستعمرون من قبل كثيراً من الطعن في الدين ومن محاولة التراجع عنه، فلم يستجب لهم المسلمون، والذين يستجيبون لمثل هذه الدعايات لابد أن يتركهم التاريخ على الأثر، ولهذا فقد قال الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله وهو في بيئة مليئة بالشيعة وأنواع المبتدعة: لقد حاولت في بداية الأمر في سوريا ولبنان الدعوة إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة، حتى تبين لي أني أضرب في حديد بارد، وأن هذا الأمر لا يمكن أن يستقيم بحال من الأحوال، فما اتفق معهم على شيء إلا نقضوه، فعرف أن ذلك من المستحيلات وأنه لا يمكن أن يقع، ولهذا ذكر في كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، أن من أراد السعي للتقريب فلابد أن يكون مسعاه بتقريب المبتدعة إلى الصراط المستقيم، لا إلى تقريب الصراط المستقيم إلى المبتدعة، فالصراط المستقيم ثابت في مكانه.
فلذلك لا حرج في أن ندعو المبتدعة إلى ترك ما هم عليه من بدعهم وتقريبهم إلى الصراط المستقيم، لكن من المستحيل أن نحاول تقريب الصراط المستقيم إليهم وزحزحته عن مكانه.
فهذا في جانب الاعتقاد.
أما في جانب العبادة فمن المعلوم كذلك أن الله سبحانه وتعالى أعطى للمخلوق حقوقاً، فلعينه حق، ولزوره حق، ولأهله حق ولعمله الدنيوي حق، ولغرمائه حق، ولذريته حق، ولجيرانه حق، ولدعوته حق، وهذه الحقوق لابد من أدائها، فمن أداء حق الله الحرص على أداء كل حق رتبه الله، والذين يتغافلون عن هذا أو ينسونه إنما يجعلون العباد نداً لله فيظنون أن تلك الحقوق ند لحق الله، وهذا غاية في الانحراف؛ لأن تلك الحقوق ما رتبت إلا بترتيب الله.
فمن حق الله عليك أن تنام عند حاجة بدنك إلى النوم، ومن حق الله عليك أن تأكل عند حاجة بدنك إلى الأكل، ومن حق الله عليك أن تشرب عند حاجة بدنك إلى الشرب، ولذلك أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار البالغ، على الرجل الذي كان قائماً في الشمس لا يستظل، وبين أن هذا من الغلو الشديد، وأن من رغب عن سنته فليس منه، وأنكر كذلك على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً حتى عرف الغضب في وجهه وقال: (أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ونهى الذين أرادوا التبتل ومنهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ونهى أيضاً الحولاء بنت تويت وكانت امرأة من بني تيم بن مرة، كان ينفق عليها أبو بكر، فكانت تقوم الليل كله ولا تنام، وكانت تصوم الدهر كله، فجاءت تزور عائشة رضي الله عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذه؟ فقالت: فلانة. تذكر من صلاتها وصيامها -أي: تثني عليها عائشة بذلك- فقال رسول الله: (مه! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، إن الله لا يمل حتى تملوا).
ومعناه: اجتهدوا أن تؤدوا من الأعمال الصالحة ما تطيقون فقط، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيق.
وقال لـعبد الله بن عمرو بن العاص حين كان شاباً قوياً فكان يصوم النهار دائماً ويقوم أكثر الليل: (إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وأمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يومين من الأسبوع: الإثنين والخميس، فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم صيام داود: أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبر عبد الله وضعفت سنه قال: ليتني أخذت برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما دخل في اليوم العشرين من رمضان، والرسول يريد أن يدخل معتكفه فرأى الأخبية في المسجد قد كثرت فقال: (ما هذا؟ فقيل: أمهات المؤمنين يعتكفن فقال: آلبر ترون بهن؟).
فذلك لابد أن يعرف الإنسان أن الاجتهاد الزائد في أداء حق الله في مقابل التعطيل لحقوق الآدميين ليس من الاستقامة على المنهج الصحيح، ولا هو من سلوك سواء الطريق، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً من الأنصار يلزم المسجد فسأل: من يقوم عليه؟ فقيل: أخوه، فذكر أن أخاه الذي يعمل ويجاهد ويجمع المال من حله وينفق على أخيه هذا أفضل منه، وهذا يقتضي أن المؤمن المعتدل المتكسب الذي ينفق على من تلزمه نفقته أفضل من الذي ينقطع للعبادة فيكون كلاً على الآخرين وعالة عليهم.
من هنا علينا أن نعلم أن الإنسان إذا أراد المبالغة في العبادة وتجاوز الحد فحينئذ لا يمكن أن يشاد الدين إلا غلبه، ولابد أن يأتي وقت يضعف فيه أمام بدنه، أو أمام عقله، أو أمام نفسه، أو أمام شهوته، أو أمام المرض الذي يصيبه، ولابد كذلك أن يصاب بإحباط من كثرة ما يحصل، ولذلك حصل لبعض الذين دخلوا هذا الباب وبالغوا فيه أنه كان يظن أن مقامه عال جداً، فلما حضره الموت ندم غاية الندم وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب.
فالذي يريد المبالغة في العبادة وتجاوز الحد فيها لابد أن يبتلى بأحد أمور: إما أن يحتقر المنهج المستقيم فيريد أن يزيد على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا غاية الضلال البعيد، ولذلك قال ابن مسعود : (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً).
وقاعدة أهل السنة والجماعة: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهي عكس قاعدة المشركين، فالمشركون يقولون: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ[الأحقاف:11].
كل خير فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه رضوان الله عليهم، ولا يمكن أن يأتي الآخر بأفضل مما جاءوا به، ولهذا قال مالك رحمه الله: إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها.
أو أن يبتلى بأمر آخر وهو: الابتداع، بحيث يشرع ما لم يأذن به الله، فيظن أن الدين ناقص وأنه يكمله من عنده، وهذا شريك الأول في الضلال المبين؛ لأنه زعم أن الله تعالى لا يعلم ما يتمم به دينه ويكمله، فجاء هو ليكمله باجتهاد من عنده!
وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أن أعظم ما في البدع من المنكر: أن صاحبها يظن أنه يكمل الدين، وأن الدين كان ناقصاً قبل اجتهاده هو، وأنه جاء بجديد يكمل به الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يزعم أن قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3] غير صحيح، نسأل الله السلامة والعافية.
أو أن يبتلى بالغرور، بأن يبالغ في العبادة فيظن نفسه وصل إلى مقام عالٍ، وقد يخيل إليه الشيطان أنه قد حطت عنه التكاليف، وأن له أن يقع في المناكر والمعاصي! ويظن بذلك أنه وصل إلى مقام لا يتضرر بالمعصية، كما زعم اليهود الذين قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً[البقرة:80] ، فهذا الحال هو من سلوك طريقهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يكون في هذه الأمة من يسلك طريقهم، فقال: (لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟!).
فاليهود الذين قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ[آل عمران:24] اتبع آثارهم غلاة الناس في العبادة من هذه الأمة الذين يزعمون أنهم وصلوا إلى مقام لا يعذبهم الله فيه، بل يصل الغرور ببعضهم إلى درجة كبيرة من الوقاحة فيقول: لو أن الله رماني في النار لانطفأت! نسأل الله السلام والعافية.
فهذا غاية في الانحراف والبعد عن الطريق المستقيم، وعن هذه المحجة.
بل ربما ابتلي بأمر آخر وهو: أن يزعم أنه وصل إلى مقام يتحد فيه العابد بالمعبود، وهو الذي يسمونه بوحدة الوجود، أو بمقام الحلول، أو بوحدة الوحدة، أو بالاتحاد، أو بوحدة الشهود، وكلها اصطلاحات ترجع إلى هذه الفكرة من أصلها، وإن كانت بينها فروق دقيقة.
فيزعمون أن الإنسان إذا عرف أتاه اليقين ويتأولون قول الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر:99] بهذا، وهذا غاية في الغلط وسوء الفهم، فاليقين الموت، (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي: حتى يأتيك الموت، والذين يزعمون أن المقصود باليقين هنا مقام معلوم يصلون إليه، قد انحرفوا غاية الانحراف وضلوا عن سواء السبيل وقادهم الشيطان بأزمتهم إلى الكفر البواح، نسأل الله السلامة والعافية.
وربما ابتلي المبالغ في العبادة أيضاً بأمر آخر وهو بالازدراء، فيسول له الشيطان أن كل عمله غير مقبول عند الله، وبالتالي فأداؤه للعمل وتركه له سواء، ومن هنا سيترك العمل من هذا الوجه، بل ربما ابتلي بالوسوسة في الإخلاص، فيظن كل عمل غير خالص، فلا يزال يعيد الصلاة أو يعيد الوضوء، كما ترون الموسوسين الذين إذا غسل أحدهم وجهه لم يكد ينتهي منه، والمبالغين في العبادات يصابون بأنواع من البلاء، وهكذا الذين يتجاوزون الحد المشروع يصابون بكثير من أنواع البلاء من هذا القبيل.
وبالمقابل المقصرون أصحاب التفريط في العبادة هم الذين ابتلوا بالميل ذات الشمال عن هذا الصراط، فنسوا الحكمة التي من أجلها خلقوا، ونسوا أنهم ما خلقوا إلا لعبادة الله، ففرطوا في عبادته وقصروا فيها، وتمنوا على الله الأماني وتعلقوا بالظنون، ولذلك فإن الشيطان يستهويهم إلى الوقوع في معاصي الله، ولا يذكرهم إلا بآيات الوعد وأحاديثه وينسون الوعيد.
أولئك يتركون في البداية المندوبات، ثم يتركون السنن، ثم يوصلهم ذلك إلى ترك بعض الواجبات، ثم إلى ترك الأركان، ثم إلى سوء الخاتمة عند الموت، نسأل الله السلامة والعافية، فكل تقصير وترك للعبادة فهو مدعاة لأن يأخذ الإنسان نقصاً وتقصيراً من المقام الذي فوق ذلك الذي انتقص منه.
إذا قصر الإنسان في رواتب الصلاة فلابد أن تقع في الصلاة خدوش، وما يشكوه الناس من جمود الدموع، فإذا قرئ القرآن لا يبكون، مع أنه لو قرئ على الجبال لتفجر منها الماء، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21] ؛ سببه التقصير في العبادة.
وما يشكوه الناس من عدم الخشوع في الصلاة سببه التقصير في النوافل، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الناس يطمئنون في الفريضة ما لا يطمئنون في النافلة، وإذا أراد أحدهم أن يصلي النافلة نقرها نقراً ولم يبال بها، حتى في الاستقبال وفي الالتفات وفي عدم تسوية الظهر في الركوع وغير ذلك، وإذا أراد أن يؤدي الفريضة حاول إتقانها، لكن لا يمكن أن يتقن الفريضة ما دامت نافلته هكذا.
فالنفل هو سياج الفرض، وكل خدش فيه سيصل إلى الفرض، ولذلك مثل العلماء للنافلة -وبالأخص الرواتب للصلوات- بأنها كلحاء العود، وإذا انتزع اللحاء يبس العود -اللحاء: القشر- والذين يقصرون في عبادة الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكونوا من أوليائه؛ لأن أولياءه هم الذين يأنسون به سبحانه وتعالى، فلا يحزنون عندما يحزن الناس، وإذا جاءت المصائب عرفوا أنها من عند الله، وأنها كانت مكتوبة قبل أن تكون، فرضوا بما قدره الله، وإذا جاء الرخاء والسراء لم يغتروا بذلك؛ لعلمهم أن ذلك كان مكتوباً وله أجل مسمى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23].
والذين يقصرون في العبادة لا يمكن أن يتذوقوا طعم الخدمة الخاصة للجبار سبحانه وتعالى، ولا أن يستشعروا نعمة الانتساب إليه سبحانه وتعالى، فلذلك لابد أن يوجد فيهم من الجفاء وغلظ الطبع وسوء المعاملة وسوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى ومع رسوله ومع شرعه الشيء الكثير، فهم لا يحترمون القرآن ولا يقدرون السنة، ولا يحترمون شعائر الله ولا يعظمونها: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32].
ولذلك لا يحبون الناس الحب في الله، فإذا رأوا من يعبد الله سبحانه وتعالى ويحبه ويدعو إليه لا يحبونه، ولا يجدون في أنفسهم حباً له؛ لأن الجانب العاطفي في التعامل مع الله لديهم قد انخرم، وبذلك لا يعرفون الحب في الله، فالحب في الله إنما يكون من الاستقامة على المنهج ولزوم عبادته، فإذا عرفت أنك مقصر في أداء حق الله الذي يستحقه من العبادة أحببت جبريل وميكائل؛ لأنهما يعبدان الله العبادة التي يستحق، وأحببت كل عابد لله؛ لأنه يؤدي الحق الذي تحب أنت أن تؤديه وأنت عاجز عنه.
وكذلك فإن الذين يقصرون في العبادة يصابون بأمراض أخرى، من أعظمها الجسارة على المعصية، فإن العابد لله سبحانه وتعالى تنهاه عبادته عن المعصية، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت:45] ، والذي لا يجد هذا السور بينه وبين المعصية كان مع المعصية في لحاف واحد، يجد نفسه معها في كل أحيانه، بينما من كان في العبادة بينه وبين المعصية سور عظيم، ومن هنا فجوارحه لا تنقاد إلى المعصية وتستمر فيها حتى لو استزله الشيطان إليها، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201] .
كذلك فإن التقصير في العبادة مقتضٍ من الإنسان ألا تكون همته عالية وأن يرضى بأقل المنازل، فمن كانت همته عالية أراد أن يزداد كل يوم بل كل ساعة قرباً إلى الله، وأن يكون من المنافسين في الدرجات العلى من الجنة، وأن يكون من الذين تتجافى جنوبهم عن مضاجعهم عند النوم يتذكرون السباق، وأن الله سبحانه وتعالى قد فتح المسابقة الآن لعباده، فمن لم يخذله الله كان من المتسابقين إليه بالطاعات في هذا الوقت الذي فتحت فيه أبواب العبادة، وأذن فيه الملك الديان للمناجين بالمناجاة له، ولم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية، ولا رفع شعاباً، فهم يتسابقون في التقرب إليه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57] ، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90] .
والذي يقصر في العبادة في الرخاء، إذا جاء وقت الشدة لم يكن من الذين تستجاب دعواتهم في ذلك الوقت؛ لأنه لم يتعرف إلى الله في الرخاء، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
والذين يقصرون في العبادة لا يكونون أئمة ولا سادة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى الدعاء بهذا الدعاء وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[الفرقان:74].
فلابد من لزوم المنهج الوسطي الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط في جانب التعبد.
وليعلم الإنسان أن خير العبادة عبادة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلك العبادة متنوعة بتنوع الحال، وأنها مترتبة على الأوقات والأزمنة، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الصباح حاول أن تقوله في الصباح، وما كان يقوله في المساء حاول أن تقوله في المساء، وما كان يفعله إذا أوى إلى فراشه فحاول أن تفعله، وما كان يفعله في قيام الليل فحاول أن تفعله، وما كان يفعله من الرواتب، وما كان يفعله في الحضر والسفر من العبادات فحاول أن تؤديه، وبذلك تكون قد لزمت سواء الطريق، ولا تجد ما يتعب بدنك ولا ما يتعب عقلك ولا ما يتعب روحك، ولا تكون مقصراً، بل تكون من المزادين في القرب، الذين يسيرون سيراً وئيداً يؤدي إلى المقصود دون استعجال، وبكل تأنٍ وتؤدة.
وهذا ما يحبه الله ورسوله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد قيس : (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة).
فإذا كان الإنسان متأنياً في عبادته يؤديها بصدق وإخلاص وبحضور بال، ويكلف منها ما يستطيع وما يطيق، ولم يكن من الذين يريدون خرق المسافات وقطع الطريق في أسرع الأوقات، الذين لا يبقون ظهراً ولا يقطعون مسافة؛ فإنه بذلك سيصل إن شاء الله تعالى إلى المقام المرضي عند الله، ولا يزال في زيادة وترق طيلة حياته، فإذا عجز عن شيء كتب له كاملاً كما كان يفعله في صحته، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى لملائكته إذا مرض العبد أو سافر: انظروا ما كان يفعله عبدي في صحته وحضره فاكتبوه له).
فالله سبحانه وتعالى لا يمل حتى تملوا، وهو غني عنا وعن عبادتنا، ولا يمكن أن نتقرب إليه بما لم يشرع لنا، فالذي يمكن أن تضره ويمكن أن تنفعه يمكن أن تتقرب إليه بنفع لم يأمرك به، ويمكن أن ترفع عنه ضرراً لم يأمرك برفعه، لكن الذي لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، لا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ولا يمكن أن تتجاوز ذلك بحال من الأحوال.
كذلك في جانب المعاملة، لابد أن نعلم أن أكثر ما يفرق القلوب في المعاملات هو ما يتعلق بالمال، فجمع المال لابد فيه من التوسط بلا إفراط ولا تفريط، فالذين يفرطون في جمعه وينفقون أوقاتهم لجمعه سيفقدون أوقاتاً ثمينة وفرصاً نادرة للعبادات، الذي يظل طيلة يومه مشتغلاً بالصفق في الأسواق، ستفوته أوقات الإجابة، سيفوته وقت النزول، سينام عن الأوقات التي يحصل فيها السباق بين العابدين المتسابقين إلى الله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26] ، سيفوته الصف الأول في كثير من الأحيان، سيفوته الرباط: (سبق المفردون)، سيفوته كثير من الخيرات.
والذي يبالغ في جمع المال وجمع حطام هذه الدنيا والاشتغال بها يصاب بعدد من البلايا:
أولاً: أن تكبر هذه الدنيا في نفسه فتكون أكبر مبتغاه، وتكون غاية علمه، فيمتلئ بها قلبه ولو كانت يده صفراً منها، فالمشغولون في الدنيا ليسوا بالضرورة أغنياء، فكثير من الأغنياء الدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم، وكثير من الفقراء الدنيا ليست في أيديهم ولكنها في قلوبهم!
ولذلك فالمحذور شرعاً هو: تعلق القلب بها وأن يجعلها الإنسان أكبر همه ومبلغ علمه، وأن يكون عابداً لها، فخدمته وسعيه من أجلها، وهذا هو الخطر الماحق، وقد تضر بصاحبها ضرراً عظيماً فتؤدي به إلى حد التجاوز والطغيان، وقد قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7] وقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27].
فالبغي والطغيان وتجاوز الحد إنما يحصل بالمبالغة في جمع الدنيا.
وفي المقابل لابد من أن نعرف أن التقصير في جمعها هو قصور من الإنسان، فالذي ينصرف عنها بالكلية، ولا يريد أن يدبر شيئاً من أمور الدنيا، ولا أن يكتسب شيئاً: خارج عن المنهج الصحيح، ولم يسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب وأعملها ولم يتركها، ولو كان الزهد المحمود شرعاً مقتضياً لترك الأسباب والانقطاع للعبادة والرهبانية، لعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما لم يعملوه، ووجدنا منهم التجار، ووجدنا منهم الأغنياء المنفقين في سبيل الله، ووجدنا أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على الآلاف من الأرامل واليتامى، ووجدنا أنه ادخر قوت سنة لأهل بيته، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم أفاء الله عليه أرض بني النضير، فادخر بعضها لعياله، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يغرس النخل بيده بأبي هو وأمي، وكان يحلب الماء بيده صلى الله عليه وسلم، وساعد في غراس نخل سلمان الذي كاتبه عليه أولياؤه، ورأيناه يذهب إلى الأسواق ويشتري ويمشي فيها، وهذا ما استنكره عليه المشركون، وأقره الله عليه في كتابه، ورأينا أصحابه وهم أفضل أهل الأرض بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، منهم التجار كـأبي بكر رضي الله عنه الذي كان يعول كثيراً من الأسر وينفق عليهم من ربح تجارته، وكان رأس ماله أربعمائة درهم، فكان يبيع فيها في البز -أي: الملابس والزيت- فما ربح أنفقه على الذين ينفق عليهم.
ووجدنا كذلك عبد الرحمن بن عوف وكان تاجر الله في هذه الأرض، بارك الله له في صفقاته، فهو ينفق على كثير من اليتامى والمساكين، وقد أوصى بثلث ماله لبقية أهل بدر فكان غناهم جميعاً.
ووجدنا منهم الزبير بن العوام الذي كانت استثماراته في الأراضي الشاسعة والمزارع الكبيرة، وقد ترك مالاً كثيراً كان ثمنه الذي قسم بين زوجاته غنىً لهن!
ومنهم أبو طلحة الأنصاري الذي كان له من المزارع الشيء الكثير، وكان يملك بيرحاء وهي أحسن مزرعة في المدينة، وكان يصلي تحت كل نخلة ركعتين.
ووجدنا منهم سعد بن عبادة بن دليم وكان من كبار التجار والأغنياء الذين إذا رجعوا من صلاة الضحى ذهبوا إلى مزارعهم، وإذا ارتفع النهار ذهبوا إلى تجاراتهم، فإذا حان وقت الزوال اشتغلوا بالصلاة، فإذا رجعوا منها قاموا بحق أهليهم، وهم يوزعون أوقاتهم هذا التوزيع، ولا يفوتهم شيء من الخير.
إذا عرفنا ذلك عرفنا أن المنهج المعتدل يقتضي عدم الإفراط وعدم التفريط.
فالذي يظن أن الزهد في الدنيا يقتضي منه ألا يشتغل بجمع الدنيا كاذب مخالف للمنهج الصحيح، وإنما سلك طريق اليهود والنصارى الذين ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم.
والذي يظن أن الله لا يرتضي لعباده جمع الدنيا من حلها كاذب، فإن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً وقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ[الملك:15] ، وجعلنا خلفاء في الأرض فقال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30] ، وأمرنا بإصلاحها وعدم إفسادها بعد إصلاحها، فكل هذا يقتضي منا أن نعمل وأن نصلح في هذه الأرض، لكن مع ذلك لابد أن نعلم أن الإصلاح فيها، وأن جمعها لا يقتضي أن تكون في القلوب، بل تكون في الأيدي على وفق المنهج السابق.
والذين يفرطون في جانب جمع المال يصابون ببلايا، من أعظمها: العبودية للمخلوق، فإن الإنسان مفطور على الحاجة والفقر: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطر:15] .
ومن هنا فإذا كان الإنسان عازفاً عن مزاولة الدنيا بالكلية، لا يعمل أي عمل يدر عليه نفقته فهو عبد لغيره، فالذي ينفق عليه له عليه كل الضغوط؛ لأنه يخافه ويحبه ويمكن أن يطيعه في كثير من المواقف، ولذلك لابد في تحقيق العبودية لله من الاستغناء عن المخلوقين، وأن يجد الإنسان نفسه وليس عليه لأحد أي ضغط، فلا خوف ولا طمع يصده عن قول الحق وعن العبودية لله سبحانه وتعالى، وبذلك يستطيع الإنسان التحرر من الأغيار، وما لم يفعل الإنسان ذلك فهو تبع لغيره، ومن عيال الغير، محتاج إلى من يقوم على شئونه في كل أوقاته.
كذلك مما يبتلى به المفرط في أمور الدنيا: أنه كثيراً ما تتعلق نفسه بها وقلبه بها فيبتلى بمحبتها من حيث لا يشعر، وإن كان يتصنع في الظاهر ويبدي للناس أنه لا يحبها، لكن قلبه مائل إليها، ومن هنا نشاهد اليوم أهل الكنيسة وهم يتظاهرون بالانقطاع عن الدنيا وهم أشد الناس ولوغاً فيها، بل لا تكاد تنصرم مدة يسيرة إلا وفضائحهم تعلن في الإعلام!
وقد كانوا في الصدر الأول قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعون الأموال ويكنزونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم قصصاً من ذلك، والمنقطعون فيما يبدو للناس كثيراً ما يأتيهم الشيطان من قبل الشبهات ومن قبل الشهوات، وكثيراً ما يصابون بضعف في العقل يقتضي من الشيطان أن يستضعفهم فيوسوس لهم الوساوس، فيتخيل أحدهم المرائي في يقظته، فيرى أنه رأى كذا يقظة لا مناماً، وهي أحلام ورؤى، وهي أضعف من مرائي النوم.
مرائي اليقظة التي تحصل للإنسان إذا جاع أو مرض أو أجهد نفسه بالرياضات، يرى في اليقظة مثلما يرى في المنام، كالذي يصاب بحمى الملاريا، فإنه في حال يقظته يهذي كأنه يحلم وهو يقظان غير نائم، فكذلك الذي أجهد نفسه في العبادات ولم يسلك الطريق السوي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بهذا الهذيان، فيرى أحلاماً في اليقظة فيخيل إليه أنها صدق، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل أو اللوح المحفوظ أو غير ذلك من الأمور، وكلها من أحلام اليقظة، وذلك أنه عندما ضعف ضعفاً شديداً خيل له الشيطان ذلك.
وقد يكون بعضها من المرائي لكنها أضعف درجة من رؤيا النوم، فرؤيا النوم أقوى منها؛ لأنه في جسمه وعقله أقوى منه عند استضعافه في حال اليقظة.
كذلك فإن الذي يبالغ في الانقطاع عن الدنيا كثيراً ما يصاب بالتفريط في حقوق الآخرين، فهو مفرط في حقوق بدنه من الرعاية الصحية والنظافة، ومفرط في رعاية أهله، ومفرط في أداء ديونه وقضاء حقوقه، كل هذه الأمور يفرط فيها والشيطان يغره بأن الذي عليه هو الصواب، وهو كلما ازداد به العمر ازداد بعداً عن المحجة والصراط المستقيم.
جانب آخر من هذه الجوانب يتعلق بالمال، فهذا الدين دين وسط بين الإفراط والتفريط، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] ، فالذين يسرفون هم المفرطون الذين يبالغون في إنفاق المال فيضعونه في غير محله الشرعي وكأنه ملك لهم يتصرفون فيه حيث شاءوا وكيف شاءوا، والواقع أنه أمانة عندهم من الله سبحانه وتعالى استخلفهم فيها لينظر كيف يعملون.
ولهذا أدب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج القويم، فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ[الإسراء:29] ، فلابد أن يكون الإنسان متوسطاً في الصرف، وألا يكون مسرفاً وألا يكون مقصراً، فالحد الوسط هو المنهج الصحيح وهو الاعتدال في هذا الباب، الذين يفرطون في جانب الإنفاق يسرفون فيبالغون في الإنفاق، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة، فيتجاوزون الحد المرضي شرعاً، ففي أمور الآخرة ينفقون أكثر مما حدده الشارع ويريدون بذلك المبالغة فيرجعون إلى الحد الذي ذكرناه في الإفراط في العبادة.
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أنفق جذاذ نخله جميعاً في يوم واحد، غضب عليه غضباً شديداً، وعندما سمع أن رجلاً من الأنصار -وكان عليه دين- قد دبر ستة أعبُد، فعندما توفي جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد هذا التصرف وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وجعل له الثلث فقط.
وقد كان كثيراً ما يرد التصرفات في هذا الجانب إذا كان فيها غلو ومبالغة، فقد قال لـكعب بن مالك عندما بشره بأن الله قد تاب عليه: (يا كعب بن مالك ! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله أم من عندك؟ فقال: بل من عند الله، فقلت: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أخرج من مالي كله في سبيل الله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).
وكذلك عندما جاء يعود سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع وهو مريض قال: (قلت له: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: فالثلث والثلث كثير -وفي رواية: كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، فقلت: يا رسول الله! أأخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك، وعسى الله أن ينفع بك أقواماً ويضر بك آخرين)، فكان سعد آخر العشرة موتاً، وورثه اثنا عشر ولداً من أولاده لصلبه.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أولئك المبالغة في الإنفاق، وفي المقابل قد يقبل من بعض الناس ذلك؛ لعلمه بقوة إيمانه واستقامته على المنهج كـأبي بكر، فقد خرج من ماله كله في سبيل الله وقبل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما جعل الله في قلبه من الإيمان والقناعة؛ ولأنه مكتسب عارف بأمور التجارات أيضاً؛ ولأنه -قطعاً- سيؤدي حقوق عياله ولا يمكن أن يظلمهم حقاً لهم، فلذلك قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أما من سواه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم ولا يقبل منهم هذا النوع من المبالغات.
وكذلك فإن الذي يبالغ في السرف فيما يتعلق بأمور الدنيا لابد أن يكون من المبذرين وهم إخوان الشياطين، وهذا النسب من شر الأنساب، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد بين الله سبحانه وتعالى ضرر التبذير وأثره العظيم، وبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب المسرفين، ولذلك قال العلامة محمد مولود بن أحمد رحمه الله:
والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى
ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف
فيكفي في كف كفك عن الإسراف أن الله لا يحب المسرفين، فالسرف في أمور الدنيا يقتضي من الإنسان أن تكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وأن يحبها حباً شديداً فهو يتتبع موضاتها ويشتغل بها غاية الاشتغال، فكلما ازداد حطبها ازداد لهبها، ويزداد الإنسان ولوعاً بها ويتعلق قلبه بها حتى يؤثرها على الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، وقد قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20] ، وقال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ[البقرة:200] ، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء:18-19].
كذلك في المقابل التقصير في مجال الإنفاق مقتضٍ للبخل، وأن لا يؤدي الإنسان الحقوق التي عليه، فالذي يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده شر الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من منع رفده وأكل وحده وضرب عبده).
قوله: (من منع رفده) معناه: منع الماعون ولم يعط خيره للآخرين، فلم ينفعهم مما آتاه الله، فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن ننفق مما آتانا فقال: امِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] ، وهذا يشمل الإنفاق على النفس، والأهل، والجيران، والإنفاق في أمور الدنيا، والإنفاق في أمور الدين، وتركه من التقصير والتقتير وهما مذمومان شرعاً.
فالمقترون مقصرون عن أداء الحقوق وهم متصفون بصفة البخل التي هي شر الصفات، والذي يتصف بها ويصاب بالشح لابد أن يبتلى بنقص الإيمان وتراجعه دائماً، ولذلك قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الحشر:9] ، فالشحيح لا يفلح أبداً، فلذلك لابد من التوسط في هذا المنهج بين المبالغة بالإنفاق وبين التقتير والتقصير.
كذلك في جانب الخلق:
من الأمور المهمة أن يعرف الإنسان أن المنهج المستقيم هو هذا الدين الوسطي الذي يقتضي من الإنسان تحسين الخلق للناس بألا يكون إمعة تابعاً، كل أموره يقضيها غيره، وألا يكون مستكبراً جواظاً لا يطيع في صغيرة ولا كبيرة، فالحد الوسط يقتضي من الإنسان أن يكون إيجابياً غير سلبي، كما قال الشاعر:
لعمرك ما إن أبو مالك بواهٍ ولا بضعيف قواه
ولا بألـد له نازع يعادي أخاه إذا ما نهـاه
إذا سُدته سُدت مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه
وكما قال الآخر:
إذا القوم أموا بيته فهو عامد لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله
يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً فكل الذي حملته فهـو حامله
فتىً قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائل ولا رهــل لبـاته وبآدله
فهذا يقتضي من الإنسان تمام الشخصية، وألا يكون إمعة مقلداً في كل الأمر بحيث يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وبألا يكون أيضاً جافياً يتقيه الناس مخافة شره، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شر الناس من تركه الناس اتقاء شره).
فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على الاستقامة في الخلق، فلا يكون من الذين ينقادون لكل أحد فيقبلون البدع ويقبلون المنكر ويسكتون بمشاهدة المنكرات، ويظنون أن ذلك من الخلق والحياء، فهذا غلط، بل هو من الإفراط في الحياء حتى يتجاوز الإنسان الحد، وأنت ولو كنت صغيراً ضعيفاً فأنت مكلف من عند الله وجندي من جنود الله، ومن هنا فلابد أن تحرس الثغر التي تتولاه وألا يؤتي الإسلام من قبلك.
فلهذا لابد أن تكون يقظاً وأن تكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر كبيراً كنت أو صغيراً غنياً كنت أو فقيراً عالماً أو جاهلاً، لابد أن تقوم بالحق الذي عليك لله، وأن ترعى الدين فيما يليك وألا يدخل من هذا الثغر الذي أنت قائم عليه، فأنت حارس في الخدمة، ولا يغرك شيطان بدعوى الحياء، فإن الحياء الذي يمنع من تغيير المنكر أو الأمر بالمعروف أو السؤال عن أمر من الدين هو الحياء الذميم المقيت شرعاً، كما قال العلامة محمد مولود رحمه الله:
أما الحيا الذميم فالمانع من تغيير منكر أو السؤال عن
أمر من الدين ونحو ذلك وهو الذي عد من المهالك
ولذلك فإن أم سليم رضي الله عنها عندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة إذا احتلمت فرأت ما يراه الرجل هل عليها من غسل؟ قالت: إن الله لا يستحي من الحق. وافتتحت كلامها بذلك.
فلابد أن يعلم الإنسان أن الاستحياء من الحق ذميم وليس من الخلق الطيب الحميد، وأن يعلم أن محاباة الناس والسير معهم في ما هم فيه، وحضور مجالسهم ولو كان فيها ما لا يرضي الله، والإغضاء عن ذلك ليس هو من الخلق الحميد، بل الخلق الحميد يقتضي من الإنسان أن يصبر على أذى الناس فيما يتعلق بشخصه هو، لكن لابد أن يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله، فقد قالت عائشة رضي الله عنه: (ما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وما غضب لنفسه، إنما كان يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله)، فهذا الذي يغضب فيه المؤمن: يغضب إذا انتهكت حرمات الله، أما حقوقه هو فيتغاضى عنها ويسامح فيها، لكن حقوق الله لا يقبل فيها ذلك.
ومن هنا فالمبالغة في تحسين الخلق ولينه حتى لا يستطيع الإنسان أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، ولا قولاً للحق، ولا وقوفاً بموقف صواب، ويقتضي الخجل من قول الحق، ومن إنكار المنكر، كل هذا من الإفراط المذموم الذي لا خير فيه.
وفي المقابل أيضاً التفريط في الخلق بأن يكون الإنسان جافياً فظاً غليظاً في كل الأمر، حتى في أمر الله إذا أمر بمعروف أتى بفظاظة وغلظة، وإذا نهى عن منكر أتى بفظاظة وغلظة، وكأنه ملك قائم على رقاب العباد، فهذا النوع ليس مرضياً عند الله أيضاً، بل هو من التفريط في الخلق.
فلابد أن يكون الإنسان متأدباً بالخلق الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159] .
إن التفريط في الخلق يقتضي من الإنسان أن يسوء أدبه مع والديه وهما أمن الناس عليه، وأن يسوء أدبه مع جيرانه المسلمين ولهم حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وأن يسوء أدبه مع كبار السن من المسلمين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم توقيرهم فقال: (لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها).
ويقتضي سوء الأدب مع الملائكة الذين يشهدون على انتهاره للصغير واعتدائه على الحقوق، ويقتضي سوء الأدب مع الملك الديان سبحانه وتعالى، فلابد أن يتذكر الإنسان قدرة الله عليه، فهذا أبو مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنت أجلد غلاماً لي بالطريق فإذا صوت من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود! فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار).
فلذلك كان التفريط في الخلق يقتضي من الإنسان أن يكون كالبهائم التي لا خير فيها، نسأل الله السلامة والعافية.
فلابد أن يحسن الإنسان خلقه وأن يهذب نفسه وأن يزكيها وأن يكون ذلك بالمنهج الصحيح وعلى وفق الخلق النبوي.
إن كثيراً من الناس اليوم في جانب الخلق يجمعون بين الإفراط والتفريط، ففي جانب لا يستطيعون إنكار المنكر ولا تغييره ويزعمون أن ذلك للحياء، وفي جانب التفريط لا يجالسون بعض الكبار كأصهارهم مثلاً ولا يؤاكلونهم، ويظنون أن ذلك من الحياء والخلق، وهذا إفراط والأول تفريط.
فكلا الأمرين مقيت شرعاً، فلو كان هذا من توقير الكبار؛ لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاكل أبا بكر و عمر و علياً و عثمان وهم جميعاً أصهاره، وكان يجالسهم في بيوتهم، (وأتى علياً و فاطمة وهما في فراشهما فقال: على مكانكما، حين أرادا القيام إليه، فجلس بينهما فجعل ظهره في بطن فاطمة ورجليه في بطن علي ، قال علي : فأحسست برد رجليه في ظهري!).
فهذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلقه، ولا يمكن أن يرغب مؤمن عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يظن أن خلقاً أحسن من خلقه بحال من الأحوال، فالله تعالى يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4] ، فلا يمكن أن نأتي نحن بخلق من عند أنفسنا ويكون أعظم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أو أحسن منه، هذا من المستحيل.
فلذلك الذي يفعل مثل هذا النوع جمع بين الخصلتين، جمع بين الإفراط والتفريط، وهذا منتشر كثيراً، وقد علمت أن بعض البيئات عندنا هنا -مع الأسف- تجد الرجل فيها لا يصلي مع صهره في مسجد واحد، ولا يستطيع أن يليه في الصف، وهذا من الإفراط في الخلق والمبالغة فيه وهو غير مشروع، وليس له وجه من الناحية الشرعية أبداً، ولا يعوده إذا مرض ويقاطعه مقاطعة كاملة والله تعالى يقول: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21] .
أين المودة والرحمة إذا كان الإنسان مقاطعاً لأهل زوجته: لا يشرب عندهم، ولا يأكل، ولا يعود لهم مريضاً، ولا يسلم عليهم، ويقاطعهم بالكلية؟!
فإذاً هذا ليس من الخلق المحمود شرعاً، بل هو من الإفراط المقيت في الخلق.
إن علينا أن نعلم أن هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا يدخل في كل شئون حياتنا، وأن المنهج المستقيم فيه مانع للتطرف، والتطرف يشمل الأمرين: يشمل الإفراط والتفريط، فكلاهما طرف، والتطرف مشتق من الطرف: (فكلا طرفي قصد الأمور ذميم).
واليوم يشتهر على ألسنة الإعلام إطلاق التطرف على جانب الإفراط فقط؛ وذلك أن الذين يطلقونه في الإعلام كلهم من المفرطين، فلذلك هم جميعاً متطرفون لكنهم يريدون نقل التطرف إلى الجانب الآخر فقط.
والواقع أن طرفي المنهج كلاهما تطرف، إن الذي يعرف هذا المنهج المرضي عند الله سبحانه وتعالى ويعلم أنه ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يرغب بنفسه عنها، فالله تعالى يقول: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130].
فلذلك لابد أن ننزل هذا المنهج إلى أعمالنا كلها، وأن نعرض عليه صغريات أمورنا وحياتنا وواقعنا، فمن هذه الأمور التي ينبغي أن تعرض على هذا المنهج الوسطي المستقيم ما يتعلق بمعاملة النساء وخلطتهن.
فهذا الجانب المنهج المستقيم فيه: أن المرأة أخت الرجل وأن بينهما من التعاون على البر والتقوى ما شرع لهما، وأن كل واحد منهما مكلف، حرم الله عليه أشياء وأوجب عليه أشياء، وحد له حدوداً لا يمكن تعديها، وأن كل واحد منهما مسئول عن رعاية هذا الدين ونصرته.
وأن الإفراط بتجاوز هذا المنهج مقيت، وأن التفريط في التقصير دونه مقيت شرعاً، والناس في هذا الباب في خلطة النساء يجمعون بين الأمرين: بين الإفراط والتفريط.
ففي مجال الإفراط نجد بعض الناس يزدري النساء ولا يحترمهن كبشر ولا يقدرهن هذا التقدير، ولا يشاور ولا يستفتي في أمور الدين النساء ولو كن أعلم وأعقل منه، مع أن الله أمرهن بتعليم الناس فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ[الأحزاب:34] ، وإذا أفتته امرأة فتوى لم يثق بها، فهذا إنما هو إفراط لا خير فيه وتفريط في حق المرأة نفسها.
ومثل ذلك في المقابل: التفريط في حقوقهن، أقصد الإفراط بتجاوز الحد فيما يتعلق بالتعامل معهن؛ كالاختلاط المحرم والخلوة المحرمة وكلام الريبة والخضوع بالقول، وكل ذلك مما حرمه الله ومن الحدود الخارجة عن المنهج السوي المستقيم.
ونجد بعض الناس في التعامل مع النساء يفرط ويبالغ، فلا يظن أنه عليه أن يرد السلام على المرأة إذا سلمت عليه، ويظن أن النساء أيضاً لا يسلمن على الرجال ولا يشمتن عاطساً، فيتكلم مع المرأة في أمور الدنيا لكن إذا عطس لا تشمته ولا يشمتها، وإذا سلم لا ترد عليه ولا يرد عليها! فترك الأمر الواجب المأمور به شرعاً، الذي هو من الحقوق الشرعية، ومن حقوق الإخوة الإسلامية، وهو يخوض في الحديث وأطرافه، بل ربما كان الحديث الذي يخوضان بما لا يحل الخوض فيه أصلاً كالخضوع بالقول وأحاديث الريبة، يتكلمان في الريبة ولا يرد أحدهما السلام على الآخر ولا يشمته إذا عطس، ولاشك أن هذا جمع بين الإفراط والتفريط.
ونجد بعض الناس لا يدخل على النساء في بيت إذا أراد تدريسهن فيجعل بينه وبينهن حائلاً مثلاً، أو يأمرهن بمغادرة المسجد، أو بما يمنعهن من الذهاب إلى الدروس، أو يمنعهن من الذهاب إلى المحاضرات، وكل هذا مخالف للمنهج النبوي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وكان يدرس النساء وكن يجلسن إليه، وقد قلن له: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فجعل لهن يوم الخميس.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل بينه وبين النساء حاجزاً، بل كن يصلين معه في المسجد فكان يقول: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولوها)، وكان يأمر الرجال ألا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، وكان يأمر النساء ألا يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال من السجود لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال.
وكن يشهدن معه الفجر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وكن يشهدن معه صلاة العيد والاستسقاء والجمع، وفي حديث أم عطية : (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليهن، ويرد عليهن السلام، ويعودهن إذا مرضن، وكان أصحابه يفعلون ذلك، وفي صحيح البخاري : أن أبا بكر قال لـعمر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نزور أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا، ثم قاما.
وكان عمر رضي الله عنه يزور العجائز من الأنصار ويخدمهن، فكان يحتلب الشاة لعجوز من الأنصار، وخرج ذات ليلة يعس، فسمع عجوزاً من الأنصار تضرب وبراً وهي تقول:
على محمد صـلاة الأبـرار صلى عليك الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكى بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
فجلس عمر على بابها يبكي حتى طلع الفجر.
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في زقاق من أزقة المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى قراءتها فقرأت قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم أتاني، نعم أتاني)، وجلس يبكي.
فلذلك لابد أن نعلم أن المنهج المستقيم في خلطة النساء يقتضي هذا، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
ولا نتمكن من أن نتتبع جزئيات هذا الموضوع، لكن تكفي اللبيب الإشارة، وقد علم أن المنهج المستقيم منهج وسطي في كل الأمور صغائرها وجلائلها، وأن الإفراط في كل أمر مقيت شرعاً وأن التفريط مذموم، وأن كل فضيلة بين رذيلتين، وقد عرف ذلك بالأمثلة التي ذكرناها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر