بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أحمد الله تعالى على اللقاء بكم في هذا المكان المبارك، وفي هذا الشهر في أول هذه السنة وهو شهر الحرام، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه، المتجالسين فيه، المتزاورين فيه، الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).
وأخرج مالك في الموطأ ومسلم في الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ ).
وأخرج أيضاً عنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ).
نسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم وأن يجعلني وإياكم في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا التمسك بسنته، وأن يحيينا عليها وأن يميتنا على ملته، وأن يحشرنا تحت لوائه وأن يبعثنا في زمرته.
الله سبحانه وتعالى هو الغني عن عباده أجمعين، خلق الجن والإنس لحكمة بينها في كتابه، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهو غني عنهم وعن عبادتهم، فلو شاء ما خلق إبليس، ولما خلق الكفر ولا الضلال.
ولو شاء لكان البشر والجن مثل الطير والجبال والشجر وغير ذلك من الخلائق التي تسجد لله طوعاً، والخلائق تنقسم إلى قسمين: إلى خلقٍ موحد خالص وهو أكثر الخلائق، وإلى خلقٍ ينقسم إلى قسمين: موحدٍ مطيع، وعاصٍ لمنهج الله مخالف له، وقد بين الله ذلك في قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].
ولو شاء لجعل الناس كمن سبقهم من الخلق في هذه الآية موحدين طائعين جميعاً.
ولكنه جل وعلا شرع منهجه وبين طريق الاستقامة، وجعل هذا الطريق محفوفاً بالمكاره، وامتحن الناس بسلوكه، فجعل لهم صراطاً دنيوياً هو تمثيل للصراط الأخروي، والصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان يسقط بالكلوب الواحد سبعون ألفاً في قعر جهنم، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلّم ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي يكون استقامته على الصراط الأخروي.
وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط والمنهج الدنيوي بلاحب بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفي كل بابٍ داعٍ يدعو إليه، وفوق السورين منادي الله: (يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه)، وهذه الأبواب المفتحة التي عليها ستور هي بنيات الطريق تميل يميناً أو شمالاً، ومنها كبائر الإثم والفواحش، ومعاصي الله جل جلاله.
ومن سلك الطريق الوسط بين السورين ولم يدخل باباً من تلك الأبواب المغلقة، فإنه ناجٍ على هذا الصراط الدنيوي، ويكون ذلك سبباً لنجاته على الصراط الأخروي، ومن مال ذات اليمين أو ذات الشمال فانزلق في بنيات الطريق وفي تلك المهاوي التي هي مهاوي الردى، فلا يلومن إلا نفسه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى ).
وهذا المنهج السوي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، والأديان التي قبله هي حق وهي من عند الله في وقت نزولها على الأنبياء، لكن علم الله أنها لا تصلح لتطبيق مستمر، ولذلك نسخها عندما تنتهي صلاحيتها، أما هذا الدين فقد جعله الله صالحاً لكل زمان ومكان، ولذلك قال فيه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فما سواه من الديانات إنما كانت مؤقتة لفترة محددة، فبعد أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا المنهج السوي لا يقبل الله من أحد إلا أن يسلكه، ولذلك قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، فقد قامت الحجة بمحمد صلى الله عليه وسلم على الثقلين الإنس والجن، وجاء بهذا الصراط المستقيم والمنهج القويم المعتدل الموافق للفطرة والعقل، الذي يضمن للناس جميع مصالحهم في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة، ويقتضي تمام العدالة ويقتضي كل مصلحة، ويقتضي تجنب جميع المفاسد، فهو الخير المحضُ والمصلحة المحضة والعدل المحض والصراط السوي، وهو معصوم محفوظ بحفظ الله لكتابه، فقد قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
ولا يزال هذا الدين كما أُنزل من عند الله، وكما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تتفاوت الأفهام في فهم بعض نصوصه، وتتفاوت التطبيقات في تنزيله وتطبيق أوامره.
والخلاف فيه ينقسم إلى قسمين: إلى خلاف مقبول وخلاف مردود.
القسم الأول: الخلاف المقبول، وهو الخلاف في الاجتهاد حيث يسوغ للإنسان أن يجتهد إما في تصحيح النص وإما في فهمه، فالله تعالى أقام العدل في الأرض بنوعين من أنواع علمه، أحدهما: القدر النافذ وهو سر الله المكتوم الذي لم يعلمنا إياه ولم يتعبدنا به، والعلم الثاني: هو الشرع، وهذا قد علمنا الله إياه وتعبدنا به، فيجب علينا أن نتعلم شرعه وأن نعمل به.
وهذا الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله مظروف في هذين الوحيين: الكتاب والسنة، وهذان الوحيان يتكاملان ولا يتناقضان أبداً ولا يختلفان، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
والسنة العملية هي بيان للقرآن؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطبيقه وفعله، فحيث خفيت دلالة اللفظ، أي: لم يصح، أو كان قابلاً للتصحيح والتضعيف، فهنالك الخلاف سائغ؛ لأنه خلاف في مكان أذن الله بالاختلاف فيه، والله قادر على أن يحسم الخلاف من الأصل، وكان بالإمكان أن ينزل إلينا الشرع مرقماً في مواد كالقوانين، لكنه أراد أن يأتي به بهذا الأسلوب المعجز، فيأتي منه ما يفهمه الصحابة، وما يفهمه بعدهم التابعون وما يفهمه أتباع التابعين، وأهل كل عصرٍ يفهمون منه ما لم يفهمه من سبقه، ويبقى القرآن جديداً على ذلك، لا تنقضي عجائبه، ولا تذهب جدته، وكل أهل عصرٍ يفهمون منه ما لم يفهمه من سبق.
ولو كانت عجائبه تنقضي أو لو كانت علومه تنتهي، لكان الأولون قد سبقونا إلى تفسيره وشرحه، وكان كلامنا في منهج الله سبحانه وتعالى كلاماً مكرراً، لكن الواقع أن أهل كل زمان يفتح الله لهم فيه ما لم يفتحه لمن سبقهم، وذلك تابع لتقسيم الأرزاق، كما أن الله جعل الرزق في الأرض يوم خلقها في الأيام الأربع الأول من خلق العالم، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، ومنذ ذلك الوقت وهو يخرج منه في كل فترة لأهل الأرض أرزاقاً، تارة يعيشون في المناجم، فإذا نضبت أو نقص سعرها أخرج لهم السمك، فإذا قل سعره عالمياً خرج لهم النفط، وإذا قل سعر النفط أو نضب خرج لهم شيء آخر، وكل ذلك من الأرزاق التي كانت في الأرض منذ خلقها من الأيام الأربعة الأول، لكن هذا تدبير الملك الديان جل جلاله.
وكذلك قسم بينهم العلم والفهم كما قسم بينم الأرزاق، ولهذا قال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التفسير: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.
ويقول أحد علمائنا رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخلُ فهم المسائل التي تنعقلُ
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزلِ
وكل ذلك بقدر الله جل جلاله وتقسيمه، ولا يمكن الاعتراض عليه أصلاً، فكل ما يوزعه فهو على العدل تماماً، إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
ومن هنا فهذا النوع من الخلاف خلاف سائغ، وقد أحال الله عند وجوده إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهاد الراسخين في العلم، قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ [الشورى:10]، وقال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [النساء:59]، فيحصل الخلاف وهو مقبول، ولكن الفيصل فيه والحكم العدل الذي لا يُعزل ولا يُبدل، والشاهد المعدل الذي لا يُطعن فيه هو هذا الوحي المعصوم، فإذا لم يجزم الوحي بترجيح أحد القولين فيه، فمعنى ذلك أن الأمر ولله الحمد من رحمة الله الواسعة، وأن ذلك مما سكت عنه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه، فحينئذٍ ينبغي أن يتناصف المختلفان فيه، وأن يعذر كل واحد منهما الآخر؛ لأن الوحي لم يحسم هذا الأمر، والله سبحانه وتعالى أحاله إلى اجتهاد الراسخين فيه.
القسم الثاني: الخلاف المردود، وهو الذي لا يُقبل أصلاً، والخلاف المردود معناه في ما حسنه النص، فأي أمرٍ جاء فيه الوحي الصحيح الصريح من عند الله، فلا مجال للرد فيه ولا للخلاف؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، ويقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فيقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فما حسمه الوحي صحيح صريح لا مجال للخلاف فيه، ومن خالف فيه لا بد أن يرد عليه قوله.
ولذلك قال أئمتنا المجتهدون ما قالوا، فهذا أبو حنيفة يقول: إذا جاء الوحي في كتاب الله فعلى الرأس والعين، وإذا جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رباهم فعلى الرأس والعين، فإذا كان اجتهاداً من عبيدة وزر بن حبيش وأضرابهم فهم رجال ونحن رجال، ويقصد التابعين. وقال مالك: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي: حيث صح الحديث فذلك مذهبي. وقال أحمد بن حنبل: إذا وجدتم قولي خالف شيئاً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط.
فلا يمكن أن يكون أحد من الناس نداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفاً لأمره، ولا يُقبل من أحدٍ أن يقول: نعم هذا الحديث صحيح وهذا معناه لكنني أرده، هذا ما يمكن أن يقع من مسلم.
وهذا المنهج السوي له خصائص، وهذه الخصائص هي علامات عليه، ويمكن استنباطها من قواعده العامة، ويمكن أيضاً أن تكون خصائص نصية ورد النص ببعضها.
فمن هذه الخصائص: أن هذا المنهج رباني، فالمنهج الإسلامي منهج رباني، ومعنى ذلك أنه عبادة لله سبحانه وتعالى يُبتغى به وجهه، ويُتقرب إليه به، فلا يمكن أن يُشرك فيه معه غيره فهو لا يقبل الشرك.
ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
وربانية هذا المنهج تتضح في قصد وجه الله الكريم به، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163]، وتتضح كذلك بقصد التعبد به، (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، في الحديث: ( إنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك )، وقال: ( وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: نعم. قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، فهذا المنهج يُتعبد الله به، ويُقصد به وجهه الكريم، ولا يمكن أن يُشرك فيه معه غيره، وهذه خاصية من خصائص هذا المنهج.
الخاصية الثانية: أن هذا المنهج المرجع فيه إلى الوحي، وأن أهله مستسلمون له قابلون لحكم الله فيه جميعاً، فالمنهج منهج الإسلام السوي، ولا يمكن أن يُعدل فيه عن الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فلا بد أن يكون المرجع فيه عند التنازع وعند الاختلاف وعند تجدد جديد هو الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا بد أن نعلم أن كتاب الله بلسان عربي مبين، وأنه على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: ما هو من واضح الدلالة الذي يعرفه كل الناطقين بالعربية، مثل قول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فأنتم جميعاً تعرفون تفسير هذه الآية، وكل إنسان منكم يجوز له أن يفسرها؛ لأنها من واضح الدلالة الذي لا يختلف اثنان في دلالته ومعناه، كذلك قوله: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، لا يختلف اثنان في دلالتها، وكل إنسان يجوز له تفسيرها من الناطقين بالعربية.
المرتبة الثانية: ما هو من غريب اللغة، لم يعد في لغة التخاطب بين الناس، وهذا لا يمكن أن يشرحه ولا أن يفسره إلا من كان عارفاً بلغة العرب ويعرف شواهدها ومفرداتها، لكن يمكن أن يستعين بالمعاجم والمراجع في لغة العرب، وهذا مثل قول الله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51]، فكلمة قسورة هي الأسد، لكن لم تعد الآن شائعة في التخاطب بين الناس، ومن لا يعرف مفردات اللغة لا يمكن أن يفهمها، ومثل قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، فالأب هو علف الحيوان، أو هو السفل، أي: الحبوب النشويات، وكل ما ليس من الفاكهة من جنس المطعومات النباتية فقد فُسر بالأب، لكن الأب لم يعد الآن في لغة التخاطب بين الناس، فأصبح من غريب اللغة، ولا يمكن أن يفسره إلا من كان عارفاً بمفردات اللغة أو راجعاً إلى المعاجم.
المرتبة الثالثة: ما كان في دلالته إجمال يعرفه أهل الاستنباط دون سواهم، فمثلاً قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، هل الغسل يشمل الدلك، أو هو مجرد صب الماء؟ وهل غسل الوجه يشمل المضمضة والاستنشاق، أو يشمل الاستنشاق دون المضمضة؟ لأن الفم في الأصل مغلق ليس داخله مما يواجهك، والوجه هو ما يواجهك، والأنف ليس مغلقاً، وكذلك ما بين العذار والأذن هل هو من الوجه أم لا؟ فكل هذا المرجع فيه إلى ذوي الاستنباط الذين يعرفون دلالات الألفاظ من الأصوليين.
المرتبة الرابعة: ما هو متشابه، أي: خفي الدلالة، قد يكون خفاؤه في وقتٍ، ويزول عنه الخفاء في وقتٍ آخر، وقد يكون خفاؤه مستمراً إلى الآن، كفواتح السور فهي من المتشابه الخفي الذي استمر خفاؤه، وقد يكون متشابهاً في بعض الأحيان دون بعض، أو يطلع على معناه بعض أهل العلم دون بعض، كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا [المائدة:106-108]، هذه الآية من المتشابه لدى بعض أهل العلم دون بعض، ولذلك قال ابن العربي: هي أشكل آية في كتاب الله، وقال القرطبي: ليس فيها أي إشكال، فـ ابن العربي هي عنده من المتشابه، والقرطبي ليست عنده من المتشابه، ولذلك قد يكون التشابه شخصياً لدى بعض الناس دون بعض، وقد يكون التشابه وقتياً، فمثلاً قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ [النساء:115]، كانت من المتشابه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن زال عنها التشابه الآن؛ لأنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ليس للمؤمنين سبيل إلا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الإجماع لا اعتبار له في حياته؛ لأنه إما أن يوافقهم وإما أن يخالفهم، فإن وافقهم فالعبرة بقوله لا بقولهم؛ لأنه الرسول المعصوم المبلغ، وإن خالفهم فإجماعهم فاقد الاعتبار لمخالفته للنص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده، لكن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أصبح سبيل المؤمنين هو ما أجمعوا عليه، فزال عنه التشابه وعُرف، فصار عطفاً على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، وهكذا.
والخاصية الثالثة هي: الشمول، فهذا الدين جاء نظاماً شاملاً لجميع أعمال الإنسان، ففيه خبر ما قبلنا وفصل ما بيننا وخبر ما بعدنا، فيبين لنا ما كان من خلق آدم وما سبقه، وما كان من الأمم السابقة لنا، ويبين لنا أحكامنا نحن وكيف نعبد الله، وكيف نتعامل في ما بيننا، ويبين لنا خبر ما بعدنا من أشراط الساعة وما فيها من المشاهد والجنة والنار وما يتعلق بذلك.
وهو تغطية شاملة لكل ما يحتاج إليه الإنسان من المعلومات، ولذلك قال الغزالي رحمه الله: الوحي عقل من الخارج، والعقل وحي من الداخل، وكلاهما من عند الله سبحانه وتعالى، فالوحي عقل للإنسان فهو ينور له ويشرح له ويبين، كوظيفة العقل بالنسبة للإنسان، فالإنسان إذا فقد العقل يكون كالبهيمة، ولا يمكن أن تكون تصرفاته متزنة ولا معقولة، وكلما ازداد عقلاً كانت تصرفاته حكيمة رشيدة، وكذلك الوحي كلما ازداد الإنسان علماً به اتزنت تصرفاته وكانت حكيمة رشيدة، وكلما جهله كان كالبهائم واقترب إليها، فهو بمثابة العقل في البيان والإيضاح وإلجام الإنسان على المحظور والمخاوف، وإرشاده إلى كل ما هو نافع له.
والعقل هو كذلك بمثابة الوحي إلا أنه من الداخل، أي: هو من الإنسان، ولكنه أيضاً إلهام من عند الله، وتأييد من عنده، ولذلك خص الله به هذا الجنس البشري من بين الحيوانات الأخرى، وما ذلك إلا من فضل الله جل جلاله، فالإنسان لا يستطيع أن يزيد عقله ولا أن يكمله، بل كل ذلك من فضل الله، وما من أحدٍ إلا هو راضٍ عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به، فأقل الناس عقلاً يظن أنه أعقل الخلائق.
والله سبحانه وتعالى بنى هذا الدين فأتم بنيانه، وكمله وجمله وجعله محتوياً على كل ما يحتاج إليه، فالله تعالى هو العليم الحكيم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، لا تخفى عليه خافية، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، فهو الذي يعلم ما في غدٍ ويعلم ما دون القيامة وما في القيامة ويعلم من يدخل الجنة ومن يدخل النار ويعلم أحوالهم فيهما، ولذلك لا يمكن أن يشرع شيئاً هو ناقص الخلفية فيه، أو ناقص العلم به، وأهل الدنيا يمكن أن يتواطؤوا على عقوبة أو نظام أو قانون يرتبونه على مصالح يرونها، ولكن كثيراً ما تنقلب تلك المصالح مفاسد فيتراجعون عما شرعوه، ولذلك تسمعون كثيراً: القانون رقم كذا الصادر من تاريخ كذا، المعدل قرار كذا من تاريخ كذا، ولا يزال التعديل يستمر، والسبب ما هو؟ نقص العلم، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، لكن الملك الديان لا ينقص علمه، فعلمه بجميع الخلائق الآن كعلمه بها قبل أن يخلقها، هو على ما عليه كان، ولذلك يشرع عن علمٍ، فإذا أحل لعباده شيئاً فمعناه أنه قد يكون مصلحة لهم في بعض الأحيان وقد لا يكون مصلحة لهم، وإذا أوجب عليهم شيئاً فمعناه أنه مصلحة دائمة، وإذا حرم عليهم شيئاً فمعناه أنه مفسدة دائمة، وهكذا.
فإذاً هذا عن علمٍ وحكمٍ، ولا يمكن أن يقع فيه الخلاف.
نعم أيد الشارع حالة واحدة هي استثناء من هذا، وهي حال الضرورة، فكلما ذكر محرماً يقول بعده: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، وقال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]، فالضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورات تقدر بقدرها فقط، وهي حالات نادرة وهي استثناء، لكن لا يمكن أن يكون في ما حرم الله في غير الضرورة أية مصلحة للعباد، بل شره متمحض، وأذاه متمحض، وضرره متمحض.
ولا يمكن أن يكون الشيء واجباً أوجبه الشارع على الناس يأتي بضررٍ أبداً، كل ما شرعه الشارع وأوجبه على عباده فمعناه أن نفعه متمحض لهم، وأنه لا ينقلب ضرراً أبداً، فلذلك جاء الشرع شمولياً يغطي كل جوانب حياة الإنسان، فالإنسان مؤلف من ثلاثة عناصر هي العقل وجاء خطابه وهو الإيمان، والجسم وجاء خطابه وهو الإسلام، والروح وجاء خطابها وهو الإحسان، فكل جاء له خطاب يغطي كل حاجياته.
وجاء هذا الوحي متكاملاً؛ ففيه ما يتعلق بالتعامل مع الله جل جلاله، وما يتعلق بالتعامل في ما بيننا، وفيه الأخلاق والقيم الرفيعة، وفيه كذلك المواعظ والذكرى والعبر، وفيه كذلك المرغبات والمرهبات من الوعد والوعيد التي تكون حافزاً للإنسان ومقدماً له في إقدامه على الطاعات وهروبه من المعصية، فجاء شاملاً كاملاً، وإذا أراد الإنسان تجزئته فقال: أنا أهتم بالعقائد ولا أهتم بالفقه، ولا أهتم بالأخلاق ولا أهتم بالقيم، فلا يمكن أن يستقيم له ذلك؛ لأن هذا الوحي متكامل في ما بينه، ولا يمكن تجزئته ولا تقطيعه، وقد قال الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
وكذلك إذا قال الإنسان: أنا آخذ فقط الأمر بالمعروف ولا آخذ النهي عن المنكر، أو أنا آخذ بالنظام المدني من الإسلام، ولا آخذ بالنظام الجزائي، لا آخذ بنظام العقوبات، لكن آخذ بالنظام المدني فما عندي مانع في الأحوال الشخصية مثلاً الأنكحة والفرائض والتركات، وما عندي مانع من البيوع أن تكون على وفق الشرع، لكن لا أقبل الحدود والقصاص، أو لا أقبل مثلاً القانون التجاري، أو قانون البنوك، هذا لا يخضع للشرع، أما ما سواه فما عندي مانع من إجرائه على الشرع، هذه تجزئة غير مقبولة؛ لأن الذي جاء من عنده البيع والشراء والنكاح والتركة هو الذي جاء من عنده بقية الأحكام، فهي بناء متكامل لا يقبل التجزئة أصلاً.
إذاً هذه خاصية من خصائص هذا المنهج وهي الشمول.
والخاصية الرابعة من هذه الخصائص: هي الاعتدال، فهذا المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى منهج متوسط ليس فيه إفراط ولا تفريط، فكل فضيلة بين رذيلتين، فمثلاً من الفضائل المشكورة بين الناس الشجاعة، وهي بين رذيلتين هما الجبن والتهور، والجبن مصيبة ذميمة في الإنسان، والتهور صفة ذميمة فيه، وبينهما الحد الوسط المعتدل هو الشجاعة، وكذلك الكرم والسخاء صفة حميدة في الإنسان، لكنها بين رذيلتين هما البخل وهو صفة ذميمة في الإنسان، والتبذير وهو صفة ذميمة في الإنسان، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، فهذ المنهج منهج معتدل لا إفراط فيه ولا تفريط.
وفي جانب التعامل مع الله جلا جلاله، إذا أراد الإنسان الإفراط في هذا الجانب فقال: أنا سأصلي الليل كله وأقوم الليل كله وأصوم النهار كله، سيتعطل العمل والإنتاج، ولن يقوم بحق عياله ولا بحق نفسه، ( إن لعينك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه )، فهذا ليس معتدلاً، وكذلك في المقابل، إذا وقع التفريط في التعامل مع الله، فنقص الإنسان من الفرائض أو اقتصر عليها ولم يزد عليها أي شيء من النوافل، فهذا أيضاً تفريط ونقص وغبن كبير، لكن الحد الوسط هو أن يقسم الإنسان وقته باعتدال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وخير القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه )، فيؤدي كل حقٍ إلى مستحقه.
ولذلك في التعامل مع الله سبحانه وتعالى لا بد من هذا الاعتدال المقتضي عدم الإفراط وعدم التفريط، ولذلك لا تعارض بين التوكل على الله والعمل بالأسباب، فأنت ترمي شباكك في المحيط وتطلب الرزق بذلك من عند الله سبحانه وتعالى، ولكن تعلم أنه لن تنال إلا ما كان قد كتب لك، وأن ما كتب لك من الرزق لا يمكن أن يمنعه أحد أن يصل إليك، لكن لا تترك العمل، فأنت مؤمن بقدر الله خيره وشره، وتؤمن بأنه لا يصيبك إلا ما كتب لك، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، لكن يجب عليك أن تؤمن بالأسباب، فإذا رأيت الجدار سيسقط عليك أو رأيت السيارة مسرعة إليك يجب عليك الفرار عنها، فهذا السبب من أسباب الهلاك، ولا يحل لك التعرض له، وإذا وقفت على الشارع تنتظر السيارة وقلت: أجلي مكتوب، فهذا جنون وليس مقبولاً أصلاً، ولا هو اعتدال في هذا المنهج، ولا يمكن أن يقع أصلاً.
وكذلك في التعامل مع النفس، فالنفس لها حقوق، فيجب عليك أن تستر للبدن كما يحتاج إلى السكن، ويجب عليك أن تغذي جسمك بما يحتاج إلى التغذية، وأن تتعالج من المرض بقدر الحاجة، وأن تنظف بدنك، وتتجمل بقدر نعمة الله عليك وما استطعت، لكن المبالغة في ذلك بأن تشغل وقتك جميعاً بتسريح لحيتك وبدهن وجهك وباستعمال النظافة وبالأكل والشرب والملابس، فهذا إفراط لا خير فيه أبداً، ويؤدي إلى السرف ومجاوزة الحد.
وفي المقابل أيضاً إذا لم تعتني بصحتك ولا بتغذيتك ولا بنظافتك ولا بحسن ملابسك، ولا بأخذ شيء من نعمة الله عليك، فهذا قطعاً أيضاً تفريط وتقصير، وهو مناف لهذا المنهج المعتدل السوي.
وكذلك في التعامل مع الناس، قد أنزل الله تعالى الناس منازلهم، وجعلهم على درجات، فأمن الناس عليك وأولاهم بحسن معاملتك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أفضل الخلق وأمنهم عليك، فهو أولى بك من نفسك، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، ولذلك يجب عليك إكمال الأدب معه، وأن تتأدب معه غاية الأدب، وهذا يقتضي قبول كل ما جاء به من عند الله، وتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته بكل ما أمر، وألا يُعبد الله إلا بما جاء به من عنده، وأن تستمع لقوله من أي جهة صدر، وألا تستنكف عنه مطلقاً، وتكون وقافاً عنده، فإذا بلغك أي شيء عنه تطأطئ له رأسك، كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأنما على رؤوسهم الطير.
والإفراط في التعامل معه أن تعطيه بعض خصائص الإلهية، فهو الرسول صلى الله عليه وسلم هو أمن الناس عليك وأحبهم إليك، لكنه لا يُعطى شيئاً من خصائص الله جل جلاله، وقال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى بن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله)، كذلك في المقابل لا بد أن تتأدب معه أدباً كاملاً، فلا بد أن تجله وتوقره وتعزره، وأن تصلي عليه، وأن تحبه أشد من حبك لنفسك التي بين جنبيك، فهذا هو الاعتدال في المعاملة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو هذا المنهج السوي.
وكذلك بعده الوالدان بعد أن أوصى الله تعالى بالإحسان إليهما، وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، فوالداك اللذان ولداك لا بد أن تُحسن إليهما، ولكن لا بد أن يكون ذلك معتدلاً بهذا المنهج.
والاعتدال هو برهما وطاعتهما ما لم يأمرا بمعصية الله، والإحسان إليهما، وخفض الجناح لهما أن تكون ذليلاً أمامهما، فلا ترفع عليهما صوتك، ولا تخاطبهما بما يكرهان، ولا تفعل شيئاً تقدما إليك بالنهي عنه، لكن مع ذلك إذا بالغت في طاعتهما فجعلت أمرهما نداً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونداً لأمر الله، فهذا قطعاً إفراط وتجاوز للحد، وفي المقابل إذا قصرت أيضاً فآثرت أمر غيرهما ممن دونهما عليهما، أو نقصت في الإحسان إليهما وأنت قادر على ذلك، فهذا تفريط.
وكذلك في التعامل بين الزوجين، فقد أوصى الله كل واحد منهما بصاحبه خيراً، فقال: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، فالصاحب بالجنب هو الزوج والزوجة، وكلاهما صاحب للآخر بجنبه، وكلاهما أمر الله بالإحسان إليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوان لديكم أخذتموهن بشرط الله، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، وإن المرأة خُلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه انكسر، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج )، فمعاملة الزوج لزوجته لا بد أن تكون معتدلةً، بحيث إن يؤدي إليها حقها ويكرمها ويحسن إليها ويصبر عليها، لكن إذا حصل الإفراط فسلم إليها زمامه وانقاد لأمرها في مقابل أبويه مثلاً أو في مقابل واجباته الأخرى، فهذا إفراط مخالف لهذا المنهج السوي.
وكذلك التفريط إذا نقص من حقها أو أساء إليها أو لم يحسن معاملتها ولم يكرمها، فهذا تفريط مخالف لهذا المنهج السوي، وكذلك معاملة الزوجة لزوجها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )، وهذا يقتضي أن حق الزوج آكد من حق الأبوين، فإذا كانت الزوجة تريد المنهج السوي في التعامل مع زوجها، فتطيع أمره وتكرمه وتقبل معروفه وتعفو عن إساءته، وأن تحاول أداء كل حقه إليه، وتحاول إعانته على نوائب الحق وعلى أمور الدنيا.
أما خلاف هذا المنهج السوي فهو الإفراط، كما إذا أفرطت الزوجة في حق زوجها فساعدته على معصية الله، فخالفت أمر الله تقرباً إلى زوجها، فهذا إفراط مخالف لهذا المنهج، وكذلك العكس إذا فرطت فنقصت من حقه ونقصت من إكرامه، فهذا أيضاً تفريط مخالف لهذا المنهج.
وهكذا في التعامل مع بقية المسلمين، فالمسلم أخو المسلم، وهذه الأخوة تقتضي منه أن يحرص على جبر خاطره، وألا يغضبه في غير حق شرعي، وألا يوجه إليه كلاماً يسؤوه، وألا ينظر إليه نظرة تؤذيه، وألا يأخذ شيئاً من حقه، وأن يؤدي حقه كاملاً إليه، ومنه الدعاء له وتشميته إذا عطس، ورد السلام إذا سلم واتباع جنازته إذا مات وعيادته إذا مرض، وأمره بالمعروف ونهيه عن منكر والنصيحة له وتعليمه وإكرامه بالابتسام في وجهه، ومساعدته بما لا يضر الإنسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، وهذا يشمل كل مسلم، ويتأكد ذلك في حق جيرانه أنه قال: ( ما زال جبريل يحثني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه )، وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره )، وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره )، وقال: ( الجار أحق بصقبه )، وقال: ( جار الدار أحق بدار الجار )، وكل ذلك يقتضي إكرام الجار والجار المسلم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن له حقين فقال: ( الجار المسلم له حقان، والجار الكافر له حق ).
فإذاً الجار المسلم المنهج السوي في التعامل معه أن تشركه في ما لديك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر: (إذا طبخت لحماً فأكثر مرقته ثم تعاهد جيرانك )، فإذا أنعم الله عليك بأية نعمة حاول ألا تختص بها دون جيرانك وأن تشركهم فيها، فتعودهم إذا مرضوا، وترد عليهم السلام، وتطلع إلى أخبارهم، وتنصح لهم وتشاورهم في أمرك، وتقبل مشورتهم إذا شاوروك، وتبذل لهم النصيحة فـ(الدين النصيحة)، وهذا يقتضي ألا تحتقر أي أحدٍ من المسلمين، فاحتقار المسلمين مطلقاً حرام، سواء كان ذلك بالسخرية، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، أو كان ذلك باللمز والغمز والهمز، وقد قال الله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، وقال: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، أو أن ينظر إليه نظرة تؤذيه فيكرهها، أو بتغيير قلبه بما ليس بلازمٍ شرعاً، يخاطبه بكلامٍ ليغضب من غير سبب، فهذا حرام، وأعظم من ذلك الاعتداء كالبغي والظلم، فالبغي على المسلمين وظلمهم أكبر وأعظم لا شك، وهذا من الذنب الذي لا يُترك، فالذنوب ثلاثة أقسام: ذنب لا يُغفر وهو الشرك بالله، وذنب لا يُترك وهو حقوق العباد، وذنب في مشيئته إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه، وهو حقوق الله المتمحضة.
ولذلك الاعتدال في حق المسلمين أن تقدرهم وتحترمهم، وألا تقدسهم وألا تنقص من حقوقهم، والمبالغة بأن تقدسهم وتجعلهم كالمعصوم وهم غير معصومين، أو أن تلتمس منهم ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، أو أن تنسب إليهم ما لا يستطيعون، فهذا قطعاً غلو فيهم وهو ممنوع شرعاً، والعكس أيضاً وهو احتقارهم وازدراؤهم والكلام فيهم وأكل غيبتهم والتسلط على أعراضهم أو تكفيرهم وتفسيقهم وتبديعهم بما ليس بحقٍ شرعي، فهذا تفريط في حقوقهم، والحد الوسط هو إحسان معاملتهم، وفي الحديث: ( تبسمك في وجه أخيك صدقة )، و( تعين الرجل على دابته فترفعه عليها وتحمل له عليها متاعه صدقة )، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وقال: ( إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بُد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).
أما الكافر، فإذا كان جاراً للإنسان بأن كان ذمياً من رعايا الدولة الإسلامية، أو كان مستأمناً أمنه أي مسلم من المسلمين كبيراً كان أو صغيراً بالغاً أو غير بالغ ذكراً كان أو أنثى، فهذا له ذمة الله ورسوله وهو في أمان المسلمين، ولا يحل الاعتداء عليه بأي وجهٍ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ( أن من قتله لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من أربعين خريفاً )، فهذا الجار له حق واحد وهو حق الجوار، فتحسن إليه بما يقربه إلى الإسلام، ويدعوه إليه وتفهمه، وتكون حريصاً على هدايته، فإذا مرض تعوده كما عاد النبي صلى الله عليه وسلم المرضى اليهود، وإذا جاع تُطعمه في كل ذي كبدٍ حراء أجر، في كل ذي كبدة رطبة أجر، وتُهدي إليه وتؤلفه بذلك، وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60].
ومن ذلك إحسان التعامل معه، فإذا بدرت إليك منه إساءة حاول الصفح والصبر، وإذا نلت خيراً فحاول إشراكه فيه والإهداء إليه ليكون ذلك داعياً لإسلامه.
وقد اهتدى كثير من الخلائق بإحسان المعاملة، وفي غزوة حنين أتى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بأوطاس، فكانوا يسألونه، فكان يُعطي الرجل ما بين الجبلين من الإبل وما بين الجبلين من الغنم، ويعطي الرجل من الذهب حتى ما يقله، وما يستطيع أن يحمله، فكان كل رجلٍ يرجع إلى أهله فيقول: (يا قومي! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)، فيدخلون في الإسلام في البداية طمعاً، ولكن سرعان ما يتقلب ذلك وينقلب إلى الخير والصلاح.
وقد عُرف في تاريخنا إسلام عدد من الناس بسبب إحسان الجوار، وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالكوفة وجاره رجل من اليهود من أهل الذمة، ففقد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه التي كان يجاهد فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدها وبحث عنها، فإذا هي تُباع في السوق، فبُحث عن بائعها فإذا هو ذلك اليهودي الجار، فخاصمه علي رضي الله عنه إلى القاضي، وعلي هو الخليفة والقاضي شريح، فلما جلس دخل إليه علي رضي الله عنه مع خصمه اليهودي، قربه القاضي وقال: اجلس هنا يا أمير المؤمنين، فقال: لا أجلس حيث خصمي، فقال: دعواك يا أمير المؤمنين، فقال: ما زلت جائراً منذ اليوم، تقول: اجلس هنا يا أمير المؤمنين وتقول: دعواك يا أمير المؤمنين! وهذا يُرعب الخصم، فقل: اجلس يا علي مع خصمك ودعواك يا علي، في وقت الخصام هو خصم، فلذلك يعامل معاملة الخصم، فأسلم اليهودي وأقر بسرقة الدرع.
وكذلك كان جار لـأبي حنيفة من أهل الذمة، وكان يشرب الخمر في بيته ويغني على مزماره في الليل، وكان أبو حنيفة طويل القيام في الليل، فخرج أبو حنيفة ذات يوم في الكوفة، فمر على صبيان يلعبون فقال أحد الصبيان: هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب، فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً، فكان يسمع صوت هذا الذمي يغني، وينشد قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغرِ
كأني لم أكن فيهم وسيطاً ولم تك نسبتي في آل عمرِو
وبينما أبو حنيفة يصلي ذات ليلة فقد صوت هذا الذمي، فلما صلى الصبح طرق عليه الباب، فكلمته زوجته فقال: أين جاري فلان؟ قالت: ذهب به العسس، أي: الشرطة، فذهب أبو حنيفة حتى جاء إلى الشرطة واستنقذه منهم وأخرجه من السجن، وجعل يده على كتفه وجعل يقول: أضعناك يا فتى، أضعناك يا فتى، يقصد الأبيات التي كان ينشدها، أضاعوني وأي فتى أضاعوا، قال: أضعناك يا فتى، فأسلم هذا الرجل الكتابي بسبب إحسان المعاملة.
ونظير هذا كثير جداً في تاريخنا الإسلامي، فهذا الاعتدال في التعامل وفي الخلق وفي الإحسان إلى الخلائق هو المنهج السوي، وهذا الاعتدال خاصة من خصائص هذا المنهج الرباني الإسلامي.
ومن خصائص هذا المنهج عموميته، أي: إنسانيته، فهذا الدين ليس دين العرب ولا دين قريش، ولا دين بني هاشم، بل هو دين الله الملك الديان جل جلاله، وقد أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم واختاره، واختار له بني هاشم واختار لبني هاشم قريشاً، حتى وصل الاختيار إلى آدم، لكن اختاره للرسالة لأداء هذا الدين إلى الأبيض والأسود والأحمر جميع الخلائق، وهم جميعاً لهم حظ من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وحقهم في هذا الدين سواء، فلذلك يمكن أن تقع الفوارق الدنيوية، فتقع الفوارق الاجتماعية بين الناس، هذا رجل وهذه امرأة، هذا رجل وهذه امرأة، أو الجوانب الاجتماعية، هذا من طبقة متقدمة وهذا من طبقة متأخرة، أو هذا من الفوارق الاقتصادية، هذا غني وهذا فقير، أو الفوارق الرسمية، هذا ملك وهذا مملوك، أو الفوارق الثقافية هذا عالم وهذا جاهل، أو الفوارق العمرية هذا شيخ كبر السن، وهذا قصير العمر مات صغيراً، هذا كله في الحياة الدنيا، ويمكن أن يوزع الناس فيه إلى طبقات كثيرة حسب هذا الكلام.
لكن هذه الفوارق لا اعتبار لها أمام الشرع، وذلك أن هذا الفوارق مدتها محصورة يسيرة، فإذا وقف أحدكم على المقبرة هل يستطيع أن يميز بين قبر كبير أو قبر صغير؟ هل يستطيع أن يميز بين قبر طال عمره ومن كان قصر العمر؟ هل يستطيع أن يميز بين قبر الضعيف وقبر القوي؟ هل يستطيع أن يميز بين قبر الأبيض وقبر الأسود؟ هل يستطيع أن يميز بين قبر الملك والمملوك؟ هل يستطيع أن يميز بين قبر الغني والفقير؟ أبداً، هذه الفوارق مدتها محصورة يسيرة، ثم تزول بالكلية، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].
ثم بعد ذلك في القيامة ينقسم الناس إلى فرقتين فقط، فمنهم شقي وسعيد، وتفاوت أهل الجنة فيها إنما هو بالتقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فتفاوت أهل الجنة في طبقاتها الكبيرة، ( إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء )، فهذه طبقات القيامة وهي كبيرة جداً، وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].
وهذا التفاوت العظيم بين أهل الجنة فيها مرجعه فقط إلى صفة واحدة وهي التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فمن كان أتقى لله كان أرفع منزلة في الجنة، وأعلى قدراً عند الله، سواءً كان ذكراً أو أنثى معمراً أو منقوصاً من عمره غنياً أو فقيراً ضعيفاً أو قوياً ملكاً أو مملوكاً أبيض أو أسود عربياً أو غير عربياً، لا اعتبار لهذه ميزانهم عند الله واحد، فعندما يدخل من باب الجنة يكون المعيار واحد، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وقبل ذلك في المحشر الناس على طبقتين فقط فمنهم شقي وسعيد.
وإذا علمنا ذلك عرفنا أن هذه الفوارق لا ينبغي أن تكون مجالاً للتفاوت بين الناس ولا التفريق بينهم ولا لفضل أحدٍ منهم ولا لنقص حقه، فالله تعالى خلقهم من نفسٍ واحدة، وكان قادراً على أن يفعل كل واحدٍ منكم آدم نفسه، كالشجر، فالشجر ترى كل شجرة تقوم على ساقها وحدها، والله قادر على أن يخلق البشر كذلك، لكن قدر أن يجعلكم من نفسٍ واحدة لتتآخوا فيما بينكم، ولتعلموا أن هذه الفوارق لا اعتبار لها، وإنما مثالها مثال قوم ركبوا في السيارة، فركب اثنان في مقدمها، وركبت البقية في مؤخرتها، قطعوا مسافة ثم نزلوا عن السيارة يمشون، فالذي كان في مقدمها لا تطلق عليه أنه كان في المقدم، والذي كان في مؤخرها كذلك لا تطلق عليه أنه كان في المؤخر، قد وصلوا جميعاً، فكذلك تفاوت أهل الدنيا فيها هو تفاوت أهل السيارة فيه.
فلا اعتبار لهذه الفوارق لا بين الذكورة والأنوثة، ولا بين الألوان ولا بين المستويات الاجتماعية ولا بين المستويات الاقتصادية ولا بين المستويات الثقافية ولا بين المستويات السياسية، الجميع تفاضله بصفة واحدة، وهي التقوى، والجميع يوم القيامة على ذلك فمنهم شقي وسعيد، وإذا نظرنا إلى الكهول تأكد لنا ذلك.
ولذلك مما يزيدنا إيماناً والتزاماً بهذا المنهج الوسطي زيارة القبور دائماً، فزيارة القبور تذكر الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، لكن تزاور بهذا المعنى وبهذا الروح لا تلتمس من الأموات شيئاً ولا تخاطبهم، إنما تدعوا لهم وتسلم عليهم، ثم تنظر إلى حالهم، وتفكر في أن هذا الشخص قد يكون في الحياة الدنيا منعماً لا يتحمل الشمس، ولا يتحمل العرق ولا الوسخ، وهو الآن دخل الدود في عينيه وفي مخه وفي جميع أطرافه، وقد يكون يكتم كثيراً من الأسرار، وها هي أسراره فشت بين الناس ووثائقه وكل ما كان مكتوباً لديه مفاتحه عند غيره، وملابسه يلبسها من سواه، وزوجته قد يتزوجها من سواه، إذا لم تتعظ بحاله فتذكر حال أهله بعده، أنت الآن يحبك أهلك حباً شديداً، لكن تذكر أن الأموات كذلك هذا الميت الذي يمشي عليه الذئب والهر والفارة والحمار، وتمر من فوقه السوافي والرياح، وقد كان أيضاً حبيباً إلى أهله حباً شديداً، وكانوا يظنون أنهم لا يستطيعون العيش بعده، فلما مات حزنوا عليه ومكثوا أسبوعاً يبكون أو أسبوعين والناس يعزونهم، ثم نسوه فرجعوا يضحكون ويتصرفون في أمورهم، فهذه موعظة وعبرة.
الدرجة الثالثة: أن تتذكر حالك أنت، فأنت الآن حي تتصرف، لكن أحسن أحوالك أن تموت بين المسلمين فتغسل كما غُسل هؤلاء الأموات، ويُصلى عليك كما صُلي عليهم، وتُدفن كما دُفنوا، فلذلك لا بد أن تختار لنفسك ما ينجيك قبل أن تصل إلى ما صاروا إليه، فإنهم قد حيل بنيهم وبين عملهم، وأسارى ذنوب لا ينفكون وأهل قرب لا يتزاورون، ومصيرك قطعاً هو مصيرهم.
ولذلك كانت هذه خاصية من خصائص هذا المنهج الإسلامي خاصية مهمة، وهي تقتضي عدم الغلو في هذه الطبقات التي جليناها.
فمثلاً الغلو في هذه الطبقات يقتضي أن تريد المرأة أن تكون رجلاً، أو أن تضمن حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في الميراث وفي الطلاق وفي كثيرٍ من الأمور، وتسمعون الصيحات بذلك، وهذا قطعاً غلو في إهمال هذه الصفة وإزالتها بالكلية وهذه الفوارق.
وفي مقابل ذلك أيضاً نجد من يحتقر الجنس النسائي، ويريد منعه من حقوقه كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وهذا اعتداء مخالفة لهذا المنهج، فالأول إفراط والثاني تفريط، والحد الوسط ماذا تتوقعون؟ تتوقعون أن نقول 20% ؟ الحد الوسط أن تأخذ المرأة ما حد الشارع لها من الحقوق، وأن ترضى به وألا تتعدى ذلك، فالله تعالى هو أحكم الحاكمين وهو أكرم الأكرمين، وهو الذي خلق الرجال وخلق النساء، وأعطى كل ذي حقٍ حقه، ولا يمكن أن يوجد حكم أعدل من حكمه، ومثل ذلك في كل الفوارق الأخرى، فالإفراط فيها أو التفريط يقتضي حصول الشحناء والبغضاء.
وانظروا مثلاً إلى قضية القبلية، فالله تعالى جعل الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وقد اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، فقالت طائفة منهم: معناه ليُعرف الإنسان بنسبته إلى القبيلة فلان من قبيلة كذا، وهذا قول الجمهور، وقالت طائفة أخرى: معناه ليوصل بعضهم المعروف إلى بعضه، فيحسن بعضهم إلى بعض، معناه صلة الرحم.
وعموماً هذه الصفة وهي صفة القبيلة الناس فيها على هذه الفوارق الثلاثة، والمنهج الإسلامي المعتدل يقتضي أن تتخذ في إطارها، تعرف أن بينك وبين فلان صلة ورحماً فتؤدي إليه حقه، وتحسن إليه ما استطعت من معروف، وأن تتعرف إلى غيرك بالانتساب إلى قبيلته، لكن الإفراط في القبلية والغلو فيها بحيث ترى أن هذه القبيلة أفضل ممن سواها، وأنها لا يمكن أن تتزاوج مع القبيلة الفلانية، أو أن هذا يستحق هذه الوظيفة؛ لأنه من القبيلة الفلانية أو أنه يستحق من الخدمة ما لا يستحق غيره؛ لأنه من هذه القبيلة، هذا قطعاً إفراط في هذه الصفة، والعكس أيضاً الذي يريد تحطيم القبائل نهائياً ولا يعترف بهذا النظام، ولا يريد الانتساب إليها ولا ذكرها أصلاً، يريد تحطيم الأنساب، وأن يكون البشر مثل البهائم ليس لهم أنساب ولا قبائل، هذا أيضاً تفريط، فلذلك الحد الوسط هو المنهج المعتدل السوي المطلوب.
وهكذا في المجال السياسي، فالذي يريد أن يكون مثلاً النظام الذي يدعمه نظاماً معصوماً لا يخطئ ولا يمكن أن يرد عليه شيء، ويوافقه في كل ما صدر عنه من قرارات وكل ما صدر عنه من قوانين، وكل ما تصرف من تصرفات، ويطبل له على كل ذلك، هذا قطعاً مفرط موغل وهو صاحب غلو، وفي المقابل الذي يتنكر للحق، كل النظام لا يرضاه يكون باطلاً لديه، ولا يُقبل منه معروف ولا حق، ولو فعل كل تصرفٍ رشيد لا يُقبل منه ولا يستمع إليه، هذا أيضاً مفرط، والحد الوسط هو أن تلزم العدل، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152]، وقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
والعدل يقتضي أن تنظر إلى كل إنسان بعينين، عين ترى ما فيه من الخير، وعين ترى ما فيه من الغي، فلا يجرمنك ما رأيت فيه من الغي على أن تتنكر لما فيه من الخير، ولا يقتضي منك أيضاً ما رأيت فيه من الخير أن تقدسه حتى تُنكر ما فيه من الغي، تكون معتدلاً بالنظرة إليه، مقراً له بما فيه من الخير، ومع ذلك إذا كان فيه غي أيضاً ترده.
وهذا التعامل ينبغي أن يكون مع جميع الأشياء، فالذي يريد التعامل مع الكفار مثلاً في الأعداء بما أنهم عادونا مثل اليهود هم أعداءً لنا، وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله خمس مرات، وهم أعداء الأنبياء جميعاً، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[البقرة:87]، وهم أعداء الله في خلقه قالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، وقالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، وهم أعداء الملائكة: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، وهم أعداء الاقتصاد: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161]، وهم أعداء البشرية كلها: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [المائدة:64].
لكن مع ذلك لا يجرمنا كل هذا الذي فعلوه على التنكر لماضيهم المشرق، فقد فضلهم الله في حقبة مضت على العالمين، وكتب لموسى التوراة بيمينه فيها تفصيل كل شيء، وفي ذلك الوقت كان في بني إسرائيل أكثر أنبياء العالم فضلهم الله بذلك، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما ذكر النصارى الروم ذكر أنه يعرف فيهم خمس صفات كلها صفات حميدة، فهذه الصفات الحميدة وهو يقاتلهم، لكن لم يمنعه قتاله لهم من أن يبين ما فيهم من الصفات الحميدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المشركين ومع اليهود ومع المنافقين لم يكن أبداً يتنكر لما فيه من الخير والمعروف، فعندما سمع رجل ينشد قول الشاعر: والمجد خالصه لعبد منافِ. فقلبه وقال: المجد خالصه لعبد الدار. التفت إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا، وأنشده أبو بكر القصيدة، وسمع قول قيس بن الخطيم في حرب بعاث في قصيدته التي مطلعها:
أتذكر رسماً كاطراد المذاهبِ لعمرة وحشاً غير موقف راكبِ
ديار التي كادت ونحن على منى تطالعنا لولا نجاء الركائبِ
تبدت لنا كالشمس تحت غمامةٍ بدا حاجب منها وضنت بحاجبِ
إلى أن يقول في القصيدة:
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مخراق لاعبِ
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود وازورار المناكبِ
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم (هل صدق؟)، وهم أعداؤهم الخزرج، قالوا: نعم، فشهدوا بصدقه وقالوا: والله لقد خرج إلينا في ثياب عرسه وجالدنا كما قال.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أقر حسان بن ثابت رضي الله عنه على إنشاده للشعر بين يديه بما فيه من الصفات التي يفخر بها الأنصار من الصفات الحميدة، ولو كانت في أسلافهم الذين ماتوا في الجاهلية، وكذلك في رثاء حسان للمطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن المطعم بن عدي حي فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له )، فرثاه حسان في قصيدته التي يقول فيها:
ولو أن مجداً أخلد الدهر واحداً من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
فأقر النبي صلى الله عليه وسلم حسان على مدحه لهذا المشرك الذي مات على الشرك، لكن لم يمدحه إلا بما فيه؛ لأن الصفة لا تنفي إلا ضدها، فإذا قلنا: فلان شجاع فليس معنى ذلك أنه كريم، وإذ قلنا: فلان بخيل فليس معنى ذلك أنه جبان، فالصفة لا تنفي إلا ضدها، فإذا مدحناه بأمرٍ فيه فليس معنى ذلك أننا نمدحه في كل الصفات، هو لم يمدحه بأنه مؤمن موحد، إنما مدحه بالمجد والشرف في قومه، وهذا حاصل.
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل النضر بن الحارث بن كندة وهو من بني عبد الدار يوم بدرٍ جاءته رسالة من ابنته قتيلة بنت النضر تقول فيها:
يا راكباً إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفقُ
أبلغ به ميتاً بأن تحيةً ما إن تزال بها النجائب تخفقُ
مني إليك وعبرةً مسفوحةً جادت بدرتها وأخرى تخنقُ
هل يسمعن النضر إن ناديته إن كان يسمع هالك لا ينطقُ
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشققُ
صبراً يقاد إلى المنية متعباً رسف المقيد وهو عان موثقُ
أمحمد يا خير ظل كريمة في قومها والفحل فحل معرقُ
ما كان ضرك لو مننت فربما من الفتى وهو المغيظ المحنقُ
أو كنت قابل فدية فليأتين بأعز ما يغلو لديك وينفقُ
والنضر أقرب من أخذت بزلة وأحقهم إن كان عتق يُعتقُ
سالت دمعتاه رحمة لهذه المرأة، وقال: ( لا يُقتل بعد اليوم قرشي صبراً ).
وكذلك حتى في تعامله مع من يسيء الأدب إليه، فقد كان يوماً صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فدخل نسوة من قريش فرفعن أصواتهم وتكلمن في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر بن الخطاب فاستحيين وسكتن، فقال عمر: (أي عديات أنفسهن؛ تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فتكلمت إحداهن فقالت: لأنت أفض وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا المنهج إذا أردنا تطبيقه في شؤون حياتنا، فمثلاً ما يتعلق بما كان لدى آبائك وأجدادك من الخير، المنهج السوي أن تتعرف لما كان لديهم من الخير، وتحاول أن تحيط به، وأن تأخذ ما كان لديهم من الخير، وقد قال أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد شرحه لموطأ يحيى عن مالك: إن أهل المغرب اعتمدوا رواية يحيى عن مالك، وينبغي لأهل كل بلدٍ أن يحافظوا على ما كان لدى إسنادهم من العلم، فيبدءون به قبل ما سواه.
فلذلك تبدأ أولاً لما كان لديهم من الخير ثم تزيد عليه، فلا حرج في الزيادة، لكن لا يجرمنك ما لديهم من الخير ولو كان آباؤك خيرة العلماء والصالحين أن تتنكر لما لدى غيرهم، فلا تزعم أن الخير محصور في ما لديهم، بل خذ الخير ممن سواهم.
وكذلك لو كان لديهم بعض الخطأ، فكان آباؤك من حملة السلاح فكانوا ربما عسفوا أو ظلموا أو أخذوا شيئاً ليس لهم، وهذا ذنب من الذنوب، لكنه ليس هو كل ما فيه من الصفات، فلا يجرمنك هذا أيضاً على احتقارهم وازدرائهم وإنكار معروفهم وخيرهم في المقابل أيضاً، قد يرفعون الظلم وقد ينصرون المظلوم، وقد يعينون على نوائب الحق، وقد يكرمون أهل العلم، وقد يفعلون أشياء أخرى تكفر هذه السيئات، فكل هذا ممكن، ولذلك لا بد أن يكون الإنسان معتدلاً مع أسلافه وأجداده.
وهكذا في كل شؤون حياتنا، مثلاً في الفقه لأنك لست مجتهداً، لا بد أن تدرس وأنت طالب على مذهب معين، وهذا المذهب هو المذهب الذي تجده في بلادك؛ لأنك لا تستطيع أن تسافر إلى بلاد بعيدة لتختار مذهباً آخر، فابدأ أولاً بما لديك، فإذا درست في المذهب المالكي درست الفروع التي فيه، وليس هذا يقتضي منك أن تُنكر المذاهب الأخرى، أو أن ترى أن مذهب مالك هو الراجح دائماً، أو أن كل ما ليس في مختصر خليل فليس بشرع، أو أن كل ما فيه فهو وحي منزل، هذا لا يجوز، لكن في المقابل أيضاً لا يجوز لك الاعتداء على أهل العلم ولا ازدرائهم ولا احتقارهم، فهذا علم، وإذا زدت عليه ودرست سواه هذا خير، وإذا عرفت الدليل ازددت علماً، وإذا لم تعرفه على الأقل حصلت على هذا ولم تدع ما سواه لم تدع أكثر منه، ولن تدعي انحصار العلم فيه.
وهكذا في التصوف مثلاً، فإذا عرفت أن كثيراً ممن ينتسبون إلى التصوف فيهم من الصلاح والورع والزهد والعبادة وقيام الليل والإكثار من ذكر الله تعالى، وإصلاح قلوب كثير من الذين يحبون الدنيا ويرغبون فيها، شيء كثير، فهذا خير كثير، اعرفه لهم وقدره لهم، لكن في مقابل ذلك إذا وجدت منهم أخطاء مخالفة للسنة في بعض الجوانب، سواءً كانت عقدية أو كانت عملية، فلا يجرمنك ذلك على التنكر لما لديهم من الخير، أقر لهم بما لهم منهم من الخير والفضل، ورد ما خالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا في التعامل مع جميع الخلائق انظر إليها هذه النظرة. مثلاً بعض الشباب يعزفون عن المدارس النظامية مطلقاً، ويرون أن الدراسة في المدارس النظامية بما أن مناهجها ليست جيدة في كثير من الأحيان، أنها ينبغي أن تُنبذ وتُرد، ونحن نعلم أن المدارس النظامية ليست مرضية 100%، لكن على الأقل فيها بعض الفوائد والجوانب الجيدة، فأقر بهذا الجوانب الجيدة، ولا يمنعنك الإقرار بها أيضاً من إنكار ما فيها من الباطل، ولا يمنعنك ما فيها من الباطل من الانتفاع بما فيها من الحق.
وهذه قاعدة شرعية عامة، بينها العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، يقول فيها: لا يُترك الحق للباطل، فلا تترك زيارة القبور من أجل ما يظهر عندها من البدع، ولا تُترك الصلاة في المساجد لما يحصل فيها من البدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت وفيه ثلاثمائة وستون صنماً، وقد نظم هذه القاعدة الشيخ محمد عالي بن عبد الودود رحمة الله عليه فقال:
لا يُترك الحق لأجل باطلٍ من فاسقٍ في دينه مماطلِ
فأت المساجد وزر لا تدعِ لما ترى في ذي وذي من بدعِ
فالحق للباطل ليس يُتركُ وإن أردت مدركاً فالمدركُ
لذا دخول سيد الأنام للبيت مع ما ثم من أصنامِ
واعز لعز الدين والكفاف في شرحه فيه لك الكفاف
وتطبيقنا لهذه القاعدة يشمل أيضاً الدخول في الوظائف، فكثير من الناس يرى أن خزينة الدولة ربما دخلها بعض الموارد المحرمة، مثلاً بعض ما أصله رباً أو ضريبة ليست تطبق فيها إجراءات الضرائب ليس فيها عدل وإنصاف أو غلول أو غش، فلذلك يتورع عن العمل الحكومي مطلقاً، وهذا خطأ غير صحيح، فإذا ترك العمل الحكومي أهل الورع، فمن سيعمل فيه؟
وفي المقابل أيضاً بعض الناس ينظر إلى الدولة على أنها بمثابة المستعمر الفرنسي مثلاً في أيامه، فيرى أنها بمثابة المستعمر كل ما فيها حلال وليس لديها مصداقية، وهذا خطأ، فالنظر إلى الدولة على أنها جهات منها للشعب ولهذا الشعب، والمال الذي تحت أيدي الحكام ليس للحكام، إنما هو مال هذا الشعب، فلذلك هو مال معصوم، وهو للمسلمين لا يحل الغلول منه ولا صرفه إلا في وجه شرعي، ولا يحل للإنسان أكل أي شيء منه والاعتداء عليه، والدولة هي مؤسسة الشعب، فلذلك إن مات رئيس أو حصل عليه انقلاب أو انتخب غيره، فالدولة باقية كما هي، والموظف الذي كان موظفاً في أيام هذا النظام هو نفسه الذي صار موظفاً في عهد النظام السابق، كان يتقاضى راتباً من النظام الماضي وأصبح يتقاضى نفس الراتب في النظام الجديد، فهذا دليل على أن الدولة هي مؤسسة لهذا الشعب، فلا بد من حصول مصداقيتها للناس، ولا بد من هذه النظرة المعتدلة إليها.
ومثل هذا ما يتعلق بقضية التكفير، وهي قضية من القضايا الشائعة الآن بين الشباب، ومن الأمور التي لا بد من تطبيق هذا المنهج عليها، فكثير من شباب المسلمين يقرؤون سورة المائدة مثلاً فيقرؤون فيها قول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فيقول: إن الحكام كفار لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله عليهم.
لكن الجواب أن هذه الآية إما أن تكون محكمة قطعية الدلالة، وإما أن تكون ظنية الدلالة، فإذا كانت قطعية الدلالة فهذا شيء، وإذا كانت ظنية فهذا شيء آخر، وهي قطعاً ظنية الدلالة، ووجه ذلك أن الآية لم يقل الله فيها: ومن حكم بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، بل قد قال فيها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فلو كان كل من لم يحكم بما أنزل الله كافراً لكنتم جميعاً كفاراً، لأنه لا أحد منكم يحكم بما أنزل الله الآن، فأنتم جميعاً لم تحكموا بما أنزل الله، فإذاً الناس في هذه الآية ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من حكم بما أنزل الله وهذا خارج من الآية.
القسم الثاني: من لم يحكم أصلاً لا بما أنزل الله ولا بغيره، فهذا أيضاً خارج وهو استثناء من الآية؛ لأن الآية من العام المراد به الخصوص، والعام المراد به الخصوص دلالته على أفراده غير قطعية عند الأصوليين.
فيبقى صنف واحد وهو من حكم بغير ما أنزل الله، وهؤلاء ينقسموا إلى ثلاثة صور:
الصورة الأولى: من حرف ما أنزل الله وبدله من عند نفسه وقال: هو من عند الله، كما فعل اليهود، فالكتاب المقدس عندهم التلمود الآن ليس هو الذي أنزل الله على رسله، وإنما هو كتاب كتبوه من عند أنفسهم وقالوا: هو من عند الله وما هو من عند الله، فهذا الآن قطعاً كفر، من بدل شرع الله وزعم أنه من عند الله، فهذا كافر قطعاً.
الصورة الثانية: من بدل شرع الله بالتطبيق ولكن لم يزعم أنه من عند الله، وضعه قانوناً وسكت عما أنزل الله، وكان هذا القانون مخالفاً لما أنزل الله، فهذا اختلف فيه أهل العلم في تفسيره، والمرجع فيه إلى الراسخين في العلم، ولكن كل ما اختلف فيه فالقاعدة العامة لدى أهل السنة أنه لا يكفر به.
الصورة الثالثة: هي من أقر بحكم الله أنه كذا، وحكم هو بخلافه من أجل مصلحة للبقاء على كرسيه أو ليأخذ رشوة، فهذا قطعاً لا يكفر إجماعاً، ولكنه عاصٍ ظالم فاسق، بظلمه، تتفاوت درجاته باختلاف ذلك إذا كان مجتهداً في بقاء كرسيه، ورأى أنه الأولى والأصلح، وفعل ذلك باجتهاده وهو مخطئ، ولكنه لا يفسق، إنما يكون ظالماً فقط، وإذا فعل ذلك وهو قادر وحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم فاسق في نفس الوقت يفسق فسقاً بذلك وهكذا.
إذاً من المهم أن تُطبق هذه القاعدة على كل أمورنا وشؤوننا، وما أستطيع أن أتتبع خصائص هذا المنهج، لكن نسأل الله تعالى أن يوفقنا لسلوك طريقه المستقيم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر