إسلام ويب

بشائر النصرللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن بشائر النصر تلوح بالأفق، ومن هذه البشائر عودة المسلمين إلى دينهم، وتغييرهم للمنكرات، وعمق فهمهم لطبيعة الخلاف مع عدوهم، وهذا النصر لابد له من أسباب من أهمها: اللجوء إلى الله تعالى، والتمسك بمنهجه. وللنصر مظاهر واضحة مشاهدة للعيان من ذلك: الشجاعة والاستبسال في الدفاع عن دين الله، وتقديم النفس والنفيس في ذلك، وانتشار العلم وأهله

    1.   

    أسباب نصر الله لعباده

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أحمد الله تعالى على الاجتماع بكم في هذا المكان الطيب المبارك في بيت من بيوت الله تعالى في هذا اليوم الذي هو أشرف أيام الأسبوع، والذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: ( خير أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أرسل إليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، فما من دابة إلا وهي مطرقة مسيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس والجن ).

    فهذا الوقت المبارك الذي ثبت في الصحيحين والموطأ من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ( أن فيه ساعة الجمعة لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله حاجةً إلا أعطاه إياها ) وذلك في كل جمعة يجتمع في هذا البيت الذي أمر الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه في جملة بيوته، ونلتقي في ذات الله عز وجل، وأن نتدارس كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يجمعنا لنؤمن بالله وحده، والكفر بالطواغيت كلها، نلتقي على هذا ونسأل الله تعالى أن يجمعنا بعد اجتماعنا هذا الذي منا به علينا في الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرشه جل وعلا، حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    إن الموضوع الذي اختاره الإخوة لجلستهم هذه هو بشائر النصر، موضوع مهم تشرئب الأنفس للتحدث فيه، وذلك أن النصر أمر محبوب، يحبه المؤمن، ويحبه الكافر، وهو أمر يحتاج إلى تحديد، ومفهومه الواقعي أن يكتب الله عز وجل العاقبة والتمكين لمن أراد نصره، ولا يكون النصر إلا من عند الله كما قال الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، لذلك فإن النصر يحتاج إلى وسائل، وله مبشرات تسبقه، وله ظواهر بعد حصوله، فهذه العناصر الثلاثة هي التي سنتحدث عنها.

    العمل وفق ما يرضي الله

    العنصر الأول: أسباب النصر، لا شك أن ما عند الله عز وجل لا يطلب إلا بمرضاته، وأن النصر طلب عظيم عند الله تعالى، وهو من نعمه ومن فضائله، فلذلك لا يطلب إلا بما يرضي الله تعالى، فمن طلبه بعداوة الله أو بما يؤدي إلى سخط الله تعالى فقد ابتغى في الماء جذوة نار.

    بذل النفس في سبيل الله

    وكذلك من أسبابه: أن يبذل الشخص نفسه لله تعالى، وأن يؤمن بقدره وقضائه، فهذا سبب عظيم من أسباب النصر به الثبات الذي يكتب بعده النصر، ولهذا قص الله علينا في كتابه قصص السالفين الذين كتب لهم النصر من الأنبياء والذين تلوهم بإحسان، وذكر في تلك القصص ما يدل على قوة إيمانهم بالله تعالى، وبقضائه وقدره، وبين لنا ما لاقوه من المرارات في سبيل ذلك.

    الاعتماد على الله في كل حال وعدم الاعتماد على النفس

    ومن وسائل النصر: أن يجزم الشخص بأن كل ما أوتي من قوة وطاقة ليس صانعاً للنصر، إنما النصر من عند الله، فالله وحده هو الذي يكتبه لمن شاء، ومتى شاء، ولا يتعلق ذلك بعدد ولا بعدة، ولهذا قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل حين كتب عليهم أن يقاتلوا أعداءهم وهم قلة، وامتحنهم قبل ذلك بكثير من الامتحانات -التي سنتعرض لها إن شاء الله في بشائر النصر- قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وأعاد التجربة في هذه الأمة الصالحة يوم حنين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف مجاهد في سبيل الله، فلما أعجبهم كثرتهم وعَددهم وعُددهم بين الله عز وجل لهم أن النصر إنما هو من عند الله، فليس نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمجاهدين المقاتلين، بل قد نصره الله تعالى إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، ولذلك عاتب المؤمنين على ما وجدوه في أنفسهم وتحدث به بعضهم، فقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:25-26]، فهذه السكينة إنما تنزل من الله من النصر وبه انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفئة القليلة هي ثبتت معه التي لا يتجاوز أعدادها مائةً من الرجال والنساء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول وهو على ناقته الشهباء: ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، وهوازن في مائة وعشرين ألف مقاتل يولونه أدبارهم، وينهزمون أمامهم، والمسلمون ينتهبون ما خلفوه على آثارهم من الغنائم.

    فإذاً هذا السبب الواضح الذي أظهره الله تعالى وأبداه هو نفسه، والذي كان المؤمنون قد فرحوا به يوم الأحزاب عندما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءهم عدوهم من أعلاهم ومن أسفل، ولم يستطع أحد منهم أن يخرج إلى الخلاء من الهول والخوف في هذا الوقت أنزل الله عليهم جنوداً لم يروها، وأيدهم بنصره وتوفيقه، فجاءت الريح فهزمت المشركين وأعادتهم من حيث أتوا يجرون الخسائر، وتركت غنائمهم للمسلمين.

    فهذا سبب من أسباب النصر يغفل عنه كثير من الناس، حتى إن كثيراً منهم يرى أن أعداء الله تعالى وطواغيت الأرض يوصفون بالنصر في بعض المواقف، وما ذلك إلا لتغير مفهوم النصر عند هذا الناطق الأبله الذي لا يدرك حقائق الأمور، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وإن للباطل صولةً فيضمحل، كم هي الصولات التي ارتفع فيها قول أهل الباطل، وارتفعت فيها رءوسهم، ثم نكست من حيث أتت، وانتكست راياتهم، والتي تحقق غاياتهم، وأعز الله عز وجل دينه وأظهره بعز عزيز أو بذل ذليل، كل هذا يدلنا على أن الله عز وجل قادر على الانتصار من أعدائه، وأنه إنما يمتحن أولياءه بالصمود والصبر والتضحية في سبيل إقامة دينه وإعزازه، ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

    ابتلاء الله لعبده ونبيه إبراهيم عليه السلام

    إذاً النصر جاهز في الصناديق قبل المعركة، ولكن الله تعالى يدخره للامتحان، فإذا جاء الامتحان يأتي النصر للناجحين، للذين نجحوا وهو جائزتهم في نجاحهم.

    وانظروا إلى رجل كان من السابقين، طرده الآشوريون ورموه في النار بالمنجنيق، فلما مسه حر النار حينما اقترب منها قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فخاطب الله النار فقال: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وكان قد تألب عليه أبوه وإخوانه وبنو عمه وجميع عشيرته، وأرادوا أن يتخلصوا منه بشر متخلص حين رموه بالنار التي لا تستطيع الطير أن تمر بينها وبين السماء، فنصره الله تعالى هذا النصر العزيز، والمكبتة لأعدائه، وأخرجه من هذه النار، فآمن به لوط وخرج معه مهاجراً إلى الله عز وجل بعد أن ترك الدار والأهل والأنصار، فنصره الله تعالى وأعزه، وجعل له لسان صدق في الآخرين، فأمر محمداً صلى الله عليه وسلم باتباعه، وأمر أمته بأن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ما هذا إلا جائزة على نجاح إبراهيم في امتحان عظيم امتحنه الله به، وهذه الامتحانات إذا قرأتموها في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستعلمون أن كل ما تسمعون في العصور المتأخرة من الامتحانات لا يساوي شيئاً في جنب امتحانات إبراهيم .

    عداوة آزر لإبراهيم

    أولاً: عداوة أبيه، وحسد ذوي القربى كما تعلمون هو شر الحسد، ولذلك قال الحكيم من قبل:

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً

    فأشد ظلم المضاضة هو الظلم الصادر من ذوي القربى، وأبوه كان مهيئاً لأن ينصفه، ولذلك خاطبه إبراهيم بخطاب أديب مهذب وقال: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:44-45]، وعندما أراد أن يبلغ إليه رسالة ربه لم يقل: يا أبت! أنت جاهل وأنا عالم أوحى الله إلي بوحيه، وإنما قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43]، لم ينكر أن لأبيه حظاً من العلم، قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً [مريم:43]، مع هذا فإنه خاطبه بهذا اللفظ الذي يخاطب به الابن البر أباه (يا أبت)، ومع هذا خاطبه أبوه اشر خطاب وناداه باسمه الصريح فقال: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46]، مع ذلك يجيبه إبراهيم بآدب جواب فيقول: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً [مريم:47-48].

    رمي إبراهيم عليه السلام في النار

    ثم امتحن برميه في النار بعد أن أقام الحجة على أصحابه حتى سلموا ورأوا الحق بأعينهم وانتكسوا على رءوسهم، وأنكروا ما أقرت به العواطف من قبل قلوبهم عندما خاطبهم فقال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم:42]، حينما أقام عليهم الحجة في ذلك، وقص الله ذلك في مواضع من كتابه، فقال تعالى في سورة الأنبياء: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54].

    هنا كان استدلال إبراهيم استدلالاً عقلياً بحجته الناضحة والواضحة، وكان جواب أصحابه بجواب عاطفي بمجرد التقليد، والتقليد لا يكون إلا عن جهل، ولهذا قال الحكيم:

    عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد

    التقليد لا يكون إلا عن جهل، وهؤلاء ما لهم حجة إلا أنهم وجدوا آباءهم على هذه الحجة، وهذه الحجة الواهية هي التي أخبرنا الله تعالى أن كل ملأ من الذين يدعون إلى الله تعالى يلقي عليهم الشيطان هذه الشبهة، وهي مقابل يلقي الله الحجة على ألسنة أوليائه، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].

    فهنا قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:53-61]، هنا سيحاكمونه محاكمةً عملية، ويخرجون إقراره أمام الناس بفعلته هذه الشنعاء، وما هي الفعلة الشنعاء التي يخرج بها إقرار إبراهيم على النذير، ويعلن للناس كلهم في أنه حطم الأصنام، وأنكر ألوهيتها من دون الله.

    نشر الشائعات

    إذاً هذا الإقرار الذي تقوم به وسائل الإعلام ضد إبراهيم وتنشره وتطبل له هو أنه حطم الأصنام، هذا ذنبه: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء:61]، (على أعين الناس) لو كانت لديهم وسائل إعلام مرئية لأخرجوه في تجهيزاتهم أمام الناس، فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:61-63]، فانظروا إلى إقامة الحجة عليهم، فهو يقول: أنتم كأنكم حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فإذا كنتم تدينون بأن هذه الحجارة تنفع وتضر فلماذا لا ترد على أنفسها؟ وأيضاً فإن حالتها مثل حالتكم، فهي تخضع لكبيرها وطاغوتها.

    فما هو أكبر منها في الحجم وأقدر منها في الطاقة يتصرف فيها ويهدمها ويحطمها فكذلك أنتم، ملككم وهو نمرود يتحكم فيكم وفي مصائركم فكأنه هذا الصنم الذي هو أكبر الأصنام، فقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، هنا جاء دور العقل فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، فهم عرفوا أن الأصنام لا يمكن أن تجيب، وأنها لا يمكن أن تدرك، فصارحوهم بهذا قبل أن يفكروا في عواطفهم، صارحوهم بمنطق العقل دون تفكير في العاطفة، لكن لما نكسوا على رءوسهم ورجعوا إلى عواطفهم قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:65-67]، حينئذ عرفوا أنه لا يمكن أن يقاوم بالحجج ولا بالشبه، فأرادوا التخلص منه، وكان هذا امتحان لـإبراهيم نجح فيه.

    إخراج المشركين لإبراهيم عليه السلام من بلده

    ثم جاء الامتحان الثاني بأن أخرج من دياره ومن أوطانه، وأخرج إلى أرض لا يعرف لغةً فيها، وليس له فيها أي ملك ولا وطن، والقلوب مفطورة على حب أوطانها، ثم بعد هذا امتحن بأن رزق ولداً صالحاً عالماً حليماً على كبر سنه بعد أن قنط وأيس من الولد، ثم امتحن بأن يرمي هذا الولد وأمه في واد موحش لا ماء فيه ولا مرعى، فبادر إبراهيم إلى تنفيذ أمر الله عز وجل، فقالت له تلك المرأة المسكينة: ( يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا الله )، فكانت هذه المرأة مؤمنةً حقاً فنجحت هي الأخرى في هذا الامتحان، فأخرج الله لها المعجزة العظيمة التي ما زالت حتى الآن آثارها مشاهدة، وجعل هذا المكان الذي أخرجت إليه هذه المرأة وهذا الولد الصغير مثابةً للناس وأمناً إلى يوم القيامة، وجعلت قبلةً للمسلمين يتجهون إليها في مشارق الأرض ومغاربها، ثم بعد نجاح إبراهيم في هذا الامتحان بعد أن بلغ ولده الحلم أتاه امتحان آخر وهو أن أمره الله بذبح ولده هذا، وهذا الامتحان هو أعظم من سابقه؛ لأنه سيكون مباشراً للتخلص من ولده بالذبح، مع هذا نجح إبراهيم في الامتحان، فقال لولده: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

    تمكين الله لإبراهيم وجعله إماماً للناس

    ثم لما نجح إبراهيم في هذا الامتحان وأتمه أعطاه الله الجائزة بنصره على أهل الأرض وأهل السماء، وجعله في مكان علي في السماء السابعة، فقد لقيه رسولنا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وجده في السماء السابعة مسند ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو تدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولم تدخله قبل ذلك اليوم، وجعل الله له لسان صدق في الآخرين كما تمنى ذلك على ربه في قوله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:78-89].

    هذا الحكم الذي سأل الله تعالى جعله له جائزة على النجاح في الامتحان فقال تعالى حكايةً عن ذلك: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

    جعله الله تعالى إماماً للناس في الدنيا والآخرة جائزة على هذه الامتحانات العظام التي سماها الله تعالى كلمات، وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] هذه شهادة من رب العزة والجلال أن إبراهيم نجح في الامتحان وأتمه مائةً بالمائة، فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124]، لم يصل إبراهيم إلى الإمامة بالأصوات وعن طريق الديمقراطية، ولم يصل إليها بانقلاب عسكري، ولم يصل إليها بثورة اقتصادية أو زراعية، وإنما وصل إليها بتكليف وتشريف من رب السموات والأراضين الذين فطرهن ونحن على ذلك من الشاهدين.

    فأقامه الله تعالى إماماً للناس، وأناله سلطة الزمان في الدنيا، وأناله الشرف الأخروي وعلو المنزلة عند الله تعالى، وجعل من ذريته خيرته من خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يتبع ملته، وجعل المؤمنين جميعاً من ذرية إبراهيم ، لاحظوا معي هنا، فنحن عندنا بمعيار الدنيا ننسب الناس إلى الأنساب بحسب الإثنات، أو بحسب السلالات، ولكن النسب عند الله تعالى يحصل بأمور أخرى، فالله تعالى خاطب المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، والمؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ليسوا من سلالة واحدة، فيهم من هو من ذرية إسماعيل ، وفيهم من هو من ذرية يعقوب ، وفيهم من ليس من ذرية إبراهيم باعتبار النسب الدنيوي، ولكن باعتبار النسب الديني، فـإبراهيم أب لكل المؤمنين، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78].

    هذا الآن النصر الذي أعطى الله تعالى لـإبراهيم لا يمكن أن ينكره أحد، ولكنه مع ذلك لم يتحقق في مدة واحدة، وإنما جاء في مدد متفرقة وفي أزمنة متفاوتة، وهذا ما سنذكره إن شاء الله تعالى في مظاهر النصر.

    اللجوء إلى الله والثقة به

    ومن أسباب النصر: اللجاء إلى الله تعالى، فإن الله تعالى يمتحن عباده بمحن عظيمة، فإذا رأى منهم الصبر واللجاء إليه أكسبهم النصر، ولهذا انظروا إلى موسى حين أرسله الله تعالى لإخراج قومه من طاغوت مصر فرعون ، جاء فلما أسلم له بنوا إسرائيل وانقادوا وأقاموا الحجة على فرعون لو نفعته الحجج، والله تعالى لم يشاء الهداية لـفرعون ، أمره الله أن يخرج قومه في الثلث الأخير من الليل وهم عصابة قليلة مستضعفة، فأخرجهم موسى .

    فلما وصلوا إلى ضفاف البحر الأحمر إذا فرعون من ورائهم، وإذا الشمس تطلع أمامهم فتريهم البحر، فكأن قائلهم يقول: يا هادي الطريق جرت، إنما أمامك البحر أو الهجر، فيقوم موسى فيقول: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فحينئذ لما رأوا بأعينهم أن العذاب قد حل بهم، وأن الهزيمة قد وقعت جاء نصر الله تعالى في هذا الوقت الحرج، فأمر الله عبده موسى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فجعل الله البحر اثني عشر طوداً من الماء، كل واحد كالجبل الراسخ، بينه وبين الآخر أرض يبس لا تخاف دركاً ولا تخشى، فأخرج الله منها بني إسرائيل.

    فلما تبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا في البحر أمر الله البحر أن تلتطم أمواجه فوق فرعون وأصحابه، فالتطمت الأمواج من فوقهم، وذهب كل ما كانوا فيه من سلطان في لحظة واحدة بأمر الله عز وجل الذي لا معقب لحكمه، فقال الله تعالى: كن، فكان الأمر على ما أراد سبحانه وتعالى في لحظة عين أو أقل من ذلك.

    هنا تقوضت هذه الدولة العظيمة وهي دولة الفراعنة التي دامت آلاف السنين، وطغت وبغت، وصرفت الأنهار والسفن، وصنعت المصانع لعلها تخلد، ونحتت التماثيل والصور، تقوضت كلها في لحظة عين أو أقل من ذلك، وكتب الله البقاء والسيطرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فنصره الله تعالى هنا لا بجند ولا بعدة ولا بعتاد، وإنما بإيمانه بالله تعالى، وتصديقه بوعده، وهذا عندما رأى من بني إسرائيل الإيمان كتب لهم النصر.

    وفي هذا خاطبنا الله تعالى مستبطناً لهذه القصة في قوله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ [الصافات:114-116].

    فهذا النصر الواضح من عند الله تعالى به كانت الغلبة لهذا الملأ المشرف، وهذا السبب بالذات من الأسباب وهو اللجاء إلى الله تعالى في وقت الأزمة، ولهذا قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، فوقت الأزمات يكون اللجاء إلى الله تعالى سبباً من أسباب النصر، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، فالله تعالى يرشد إلى الضراعة إليه وسؤاله في وقت الأزمات.

    وهذا ما حققه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في اليوم السابع عشر من رمضان عندما كان مواجهاً لقريش ومن معها ولإبليس وجنوده في بدر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة من أصحابه، وليس معهم من السيوف إلا ثمانية، وليس لهم من الخيل إلا ثلاث، ويقفون في وجه أكبر جيش في جزيرة العرب في ذلك الوقت جيش قريش، وفيه ألف مقاتل، أي: ألف سيف في مقابل ثمانية أسياف.

    فقام الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى ما وعده من النصر حتى سقط رداءه عن كتفيه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه الصديق فقال: ( يا رسول الله! حسبك من استنصار ربك، فإن ربك لا يخلف الميعاد )، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم هذا، ولكنه يعلم أن السنة الكونية أنه في وقت الأزمات لا بد من استنصار الله تعالى واللجأ إليه، وكثرة الضراعة بين يديه.

    وهذا ما تحقق في ذلك الموقف العظيم الذي أعز الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه خمسة آلاف من الملائكة مسومين، وهزم أعداءه أمامهم، فسلطه على رقابهم، فأعطوه ما وعده، فكان صلى الله عليه وسلم يقتل من شاء منهم صبراً، ويأسر من شاء، وغنم كل ما كان في أيديهم، وتتكرر هذه التجربة في المواقع كلها.

    التمسك بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم

    كذلك من أسباب النصر: التحقق من سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فنصر هذه الأمة كله نصر لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت في صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يخرج البعث، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يخرج البعث فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يخرج البعث فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).

    فإذاً كان الفتح والنصر لهذه الأمة تتميماً لنصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك فإن المؤمنين قد جربوا في كل سقوفهم وقتالهم في جميع تاريخهم الطويل الممتد أنهم كلما تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الله عليهم النصر المبين.

    وتحضرني الآن قصة من هذا وهي من آلاف القصص في هذا المجال، وهي قصة قتيبة رضي الله عنه حين حاصر مدينةً من مدن القوقاز، وكان معه أصحابه، وفيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصروا هذه المدينة شهراً فلم تفتح عليهم، فقال قتيبة للجيش: إنكم قد تركتم سنةً من سنن نبيكم فانظروا ما هي، فإن الله لم يكن ليؤجل عنكم النصر إلا بترك السنة، فتذكر مشايخهم فقالوا: لعل ما ترك السواك، وكانوا في أرض قليلة الشجر، فأخرجوا الخيل تبحث عن الشجر فأتوهم بالسواك، وكان ذلك في وقت الضحى، فبدأ المسلمون يستاكون، فلما رآهم عدوهم قالوا: هؤلاء يحدون أسنانهم ليأكلونا وظنوا أنهم يحدون أسنانهم ليأكلون بها، والواقع أنهم يريدون تطبيق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الله تعالى أمسك النصر عنهم، وأخره ليتذكروا هذه السنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير هذا كثير.

    1.   

    مبشرات بين يدي النصر

    البشائر هي ما يعلم الله تعالى به عباده ويذكرهم بما وعدهم، وبأن هذا الأمر لا بد صائر، وبأنه لا بد واقع، وهذه البشائر تختلف فمظاهرها قد لا تكون مشعرة بوجود نصر لدى المؤمنين، ولكن الواقع أن النصر على أثره لا محالة.

    اليأس والقنوط عند كثير من الناس

    فمن هذه البشائر الاستيئاس العام. أن يستيئس الناس ويظنوا أن الهزيمة قد حنت، وأن وعد الله تعالى لم يتحقق، وهذه البشارة كثيراً ما تحصل، فإنه لم يرسل الله تعالى رسولاً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلا تحقق في لحظة من لحظات حياته أن أيس الناس وأصبحوا يقولون: أين ما وعدنا الله تعالى؟ ويستعجلون وعد الله تعالى، ويشك بعض مرضى القلوب في وعد الله، وحينئذ ينزل نصر الله تعالى، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى في خواتيم سورة يوسف التي كلها هي مظهر من هذه المظاهر يذكر الله تعالى في آخرها قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، انظروا إلى هذه الآية العظيمة حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ [يوسف:110]، معناه: من هذا الموقف وحده، والواقع أن الرسل لا يمكن أن يستيئسوا مطلقاً؛ لأنهم يعلمون أن العاقبة للمتقين، وأنهم إنما أرسلهم الله تعالى ليعز بهم الدين، ولكنهم لا يعلمون هل يكون ذلك في هذا الموقف أو متأخر، أو حتى قد يكون بعد موتهم.

    فمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم وعده الله تعالى أن يفتح عليه كنوز كسرى وقيصر، ولم يقع ذلك في حياته، بل حين أخرجه قريش ثاني اثنين إذ هما في الغار عندما خرج في أثره سراقة بن مالك وعده صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا طريد أخرج من داره يوجه وجهه لله تعالى، يحاصره أهل الأرض كلهم، ويتمالئوا عليه ومع ذلك يعد هذا الرجل بسواري كسرى الذي هو في مملكته في مدائنه من وراء حصونه من وراء جيوشه، يعده بسواري كسرى ويتحقق هذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، بعد أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لقي الله بخمس سنين يلبس سراقة بن مالك سواري كسرى ويمشي بهما أمام المهاجرين والأنصار.

    ولهذا فإن لحظة الاستئياس لا بد أن تقع، حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا [يوسف:110]، معناه وظن الناس، والمقصود بهم أتباع الرسل، أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، (أنهم قد كذبوا) في القراءة الأخرى وتفسيرها هكذا: ظن أتباع الرسل أنهم قد كذبوا، معناه: أن الوعد ليس صحيحاً وليس متحققاً، والمقصود بأتباعهم هنا مرضى القلوب منهم، وفي القراءات الأخرى وهي التي تقرءون بها قراءة نافع : وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، معناه ظن الرسل أنهم قد كذبوا، وأن أصحابهم قد كذبوهم؛ لأنهم لم يروا المعجزة الآن. والواقع أن الرسل لا يستطيعون الإتيان بالمعجزة في وقت معين، وإنما يأتي بها الله تعالى إذا شاء، ولذلك قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35].

    وقت نزول النصر

    ثم قال تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، في هذه اللحظة يأتي النصر من غير مقدمات، جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110]، ينجي الله تعالى بعد وقوع النصر من شاء، فيكتب لهم النصر العاجل في الدنيا، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يأخذ آخرين شهداء، ويعلي منزلتهم عنده، ومع ذلك ينزل عليهم النصر في قبورهم.

    فالشهداء الذين يرزقهم الله تعالى الشهادة في سبيله ينالون حظهم من النصر في قبورهم، حيث يبشرهم الله تعالى بالجنة، وبما حصل لإخوانهم من ورائهم بالتمكين لدين الله، وهؤلاء هم أعلى الناس حظاً ونصيباً من النصر، لماذا؟ لأن الذين شاهدوا النصر وعايشوه قد يكونون ممتحنين به عند الله تعالى.

    ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاشوا بعده يخافون أن تعجل لهم أجورهم في الدنيا، فلهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو خامس من أسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومن الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، كان صائماً في يوم فقدم له ولده إفطاره، فلما رآه بكى بكاءً شديداً، فبكى كل من في الدار، حتى حان وقت صلاة العشاء، فسألوه: ما يبكيك؟ فقال: ( إننا معشر كنا ضلالاً فهدانا الله برسوله صلى الله عليه وسلم، فآمنا وصدقنا، فكان منا من لقي الله ولم يتعجل شيئاً من أجره، منهم أخي مصعب بن عمير قتل يوم أحد شهيداً ولم يترك إلا سيفه وبردةً كانت عليه، فكنا إذا سترنا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا سترنا رجليه بدأ رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استروا رأسه، واجعلوا على رجله من الإذخر، فلقي الله ولم يتعجل شيئاً من أجره )، وقد بقينا بعدهم ففتح الله علينا الدنيا فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20].

    فكانوا لا يغفلون عن مراقبة الله تعالى لحظة من اللحظات، ويتذكرون أحوالهم، ويتذكرون ما هم فيه، فهم لم يبايعوا الله تعالى على تعجيل نصر، ولا على تعجيل مال، ولا على فتح في هذه الدنيا، وإنما بايعوه على الجنة، ولذلك كانوا يستبطئون التعجل على الجنة، فكان بعضهم يجد رائحة الجنة دون هذا الجبل كما قال أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد قال: والله الذي لا إله إلا هو إني لأجد رائحة الجنة دون هذا الجبل، فاستشهد فلقي الله عز وجل وهو عنه راض، وأخبرنا الله تعالى عن حاله وعن حال أصحابه بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:169-170]، هذا هو النصر المبين فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:170-173]، رجعوا إلى سنة إبراهيم فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174]، وهذا يدلنا على أن النكبات والمصائب في سبيل الله ليست بسوء، ويحرم أن يعتقد المؤمن أن هذه سوء، وإنما يجب على المؤمن أن يعتقد أن كل نكبة تصيبه في سبيل الله هي من أجله ومن زيادة قدره عند الله تعالى، وليست بسوء، فالله تعالى نفى عنها ذلك في كتابه، فقال: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174].

    حصول النصر بعد موت رسول الله وردة العرب عن دين الله

    كذلك من هذه المواقف التي يأتي فيه الاستئياس وينجي الله تعالى فيها من يشاء من عباده ذلك الموقف العظيم الذي كان الامتحان به عظيماً جداً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحب الناس إليهم، وبه كانوا ينصرون، فبينما هم محيطون به والوحي أشد ما يكون تواتراً ونزولاً، إذ قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، وخيره في لقائه فاختار لقاء ربه، فكان الامتحان عظيماً لهذه الأمة، وامتحنت بمحنة لم تشهدها ولم تشهد مثلها أبداً هي أعظم محنة لأهل الأرض وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مثل هذا الشهر، فلما فقده أصحابه ثبت الله تعالى قلوبهم وربط عليها، فقام الصديق فوقف الموقف المثيل فقال: ( أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عدوكم، فلما ارتد العرب عن دين الله كسر قراب سيفه وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟ ) هذا لا يمكن أن يقع؛ لأنه من نقص هذا الدين بأي شيء هو لم يكن حي؛ لأن حياته قد نذرها لله؛ لأنه قد نذر حياته لله، وباع روحه وجسده وماله لله عز وجل في ثواب عظيم وأجر عظيم في جنة الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    فلذلك وقف ذلك الموقف المشرف، وجيش الجيوش، ورد العرب إلى دين الله، وقال: ( والله لا يمنعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقاتلتهم عليه ).

    فهذا الموقف العظيم الذي كان امتحان علينا جاءت بعده الفتوح تترى، ولم تمض سنتان على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أصحابه قد فتحوا ما يزيد على مسافة ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر من الأرض كلها دانت لحكم الله عز وجل، ودخلت تحت طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تمض سنتان حتى انتشرت الخلافة واتسعت ودخل الناس في دين الله، وخرجت الجيوش ونذروا أعمارهم لله تعالى، فلم يرجعوا أبداً.

    فها هو عكرمة بن أبي جهل يخرج في خمسمائة من حفظة كتاب الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القراء الذين هداهم الله تعالى للإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وقد نذروا أرواحهم لله عز وجل لنصرة دينه، وكان همهم إعلاء كلمة الله، لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، ولا يريدون مالاً ولا جاهاً ولا مراكب ولا مفارش ولا بيوتاً، وإنما يريدون إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، فينالون الشهادة عن آخرهم في سبيل الله، خمسمائة من حفظة كتاب الله ينالون الشهادة جميعاً تحت راية القرآن.

    ثم يخرج البراء بن مالك فيرمى به في المنجنيق على مائة وأربعين مقاتلاً داخل حديقة اليمامة، فيقاتل عن الباب حتى يفتحه ويسقطه فيدخله المسلمون فيجدون البراء قد بقر بطنه، وخرجت أمعاؤه، فيقولون: لا تقتلوا البراء ، فيقول أنس أخوه: اخرجوا ولو مات البراء ، فإن هذا اليوم يوم قد ادخره الله للبراء ، وأعز به دينه. فلما دخلوا حملوا البراء على الباب الذي أسقطه فوجدوا فيه مائتين وثلاثة وثمانين ضربةً بالسيف، مع هذا برئ البراء وعاش البراء بعد هذا وخرج يمشي كأنه لم يصب بأي أذى، فنذر لله عمره ألا يرجع إلى المدينة أبداً حتى يلقى الشهادة في سبيل الله، فخرج في جيش المثنى بن حارثة حتى مات تحت خطام الفيل قتله الهرمزان يوم الجسر، يوم جسر أبي عبيد، ومات معه سبعون من الأنصار عندما خنست الدعوة للخزرج، فالناس كلهم يصبرون على إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، ولكن جند الله الذين أيدهم بالثبات، وباعوا أنفسهم لله تعالى قد جربوا أنفسهم فوجدوا أن الناس يتداعون أولاً: يا للمسلمين يا للمسلمين، ثم تبقى الدعوة: يا للمهاجرين والأنصار! عندما ينهزم الضعفاء، ثم تخلص الدعوة للأنصار، تخلص للخزرج في الأخير حتى يصلوا إلى مواقعهم، وذلك أن هؤلاء القوم قد باعوا دنياهم بآخرتهم، ولذلك قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أوصيكم بالأنصار خيراً، فإنهم قد أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم )، وقال فيهم: ( إنكم ستجدون بعدي أثرةً فاصبروا حتى تردوا علي الحوض )، فوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الوعد العظيم، فمن ذلك صبر الأنصار على الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، فكانوا أنصاراً لله حقاً، وحققوا ذلك، وكتب الله النصر على أيديهم في مواقع كثيرة.

    الإيمان بقضاء الله وقدره والتسليم له

    كذلك من بشائر النصر: ما يجده المؤمنون في نفوسهم من الإيمان بقدر الله تعالى، وقضائه والتسليم لأمره، وعندما يتحقق كل مؤمن من هذا الوصف يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ويعلم أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن القلم قد يبس بما هو كائن إلى قيام الساعة، عندما يتحقق هذا يأتي النصر، ولو كان فوق سبع سموات لا بد أن يتنزل، ولهذا فإن كثيراً من المؤمنين قد حصروا، وضيق عليهم في مواقع كثيرة، فرأوا أن هذا إنما هو تذكير من الله تعالى وامتحان، وإنما هو كائن لا بد أن يكون، فخالفهم المنافقون، فقالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، فحذرهم الله تعالى من مقولة المنافقين، وأنتم تعلمون أن هذه المقولة يرددها الآن كثير من الناس داخل صفوف المسلمين، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].

    فهذه تعزية للمؤمنين عما ينالونه في سبيل الله تعالى، وتحقيق لوعد الله تعالى لهم، فلاحظوا هنا أن المنافقين يقولون: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، فهذا من نقص إيمانهم بقدر الله تعالى وقضائه، والله تعالى يقول: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، فهنا يبين أن الموت لا بد آت، وأن أشرف حالات الإنسان التي يموت عليها عندما يموت مقبلاً غير مدبر في طاعة الله تعالى، لا يخاف في سبيل الله وفي ذاته لومة لائم، فهذا من الشرف العظيم الذي يتفاوت الناس بالحصول عليه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا [آل عمران:156] ما ماتوا في البيوت، وكانوا محل الذين قعدوا، لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، وانظروا إلى هذا التعليل العجيب في هذه الآية الكريمة، فيجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم، كثير من الناس عندما يرى من ابتلي في سبيل الله وامتحن يحاول أن يصرفه، وأن يفت من عزيمته، وأن يقلل من جهاده في سبيل الله، فيقول: قد تعبت في سبيل دعوتك فهلا استرحت؟ وهلا تركت بعض الأمر؟ وهلا داهنت؟ وهلا وهلا، والواقع أن هذا من فعل المنافقين الذين لا يؤمنون بقدر الله ولا بقضائه، ولذلك قال: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:156-157].

    فإذاً كثير من الناس إذا رأى من ابتلي في ذات الله عز وجل يقول: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، لو حصل كذا، ويأتي بـ (لو) التي تفتح عمل الشيطان، وكان اللازم أن يأتسي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ( رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته ).

    لاحظوا هذه الكلمة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي تبين موقفاً عظيماً من مواقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف الخلق على الله تعالى، وأكرمهم خَلقاً وخُلقاً، مع ذلك يلتمس العذر لـيوسف ، ويعجب بمواقفه، فيقول: ( رحم الله أخي يوسف ، لو مكثت في السجن ما مكث، ثم أتاني الداعي لأجبته )، وهذه قاعدة عظيمة على كل مؤمن إذا سمع من ابتلي في ذات الله أن يقول: لو كنت أنا مكانه ماذا عسى أن أفعل؟ يقدر في نفسه المواقف، وهذه القاعدة قعدها الله تعالى في موقفين:

    أحدهما: هنا فيما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث، ثم أتاني الداعي لأجبته ).

    فكل شخص منا ينبغي أن يعرض هذا الموقف على نفسه، ويقول: لو كنت في مكان فلان إذاً ماذا عسى أن أكون، وما هو الموقف الذي سأتخذه.. وهكذا، مثلما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

    الموقف الثاني: بينه لنا فيما يتعلق بقذف المؤمنات الغافلات في سورة النور، فقال تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12].

    فإذا سمع المؤمن أياً كان بأي دعوى وأي شبهة تحاك ضد أولياء الله تعالى الذين ما عرفهم إلا في بيوت الله، وما عرفهم أهل مكر ولا خداع، وما عرفهم أهل معصية ولا دعارة، وإنما عرفهم في بيوت الله تعالى متطهرون متوضئون يتجهون إلى ربهم، ويسجدون لبارئهم، ولا يركعون لغير الله، إذا سمع أي شبهة تحاك أو تناط من هؤلاء يجب عليه أن يتذكر هذا الموقف الذي سيلقى الله تعالى عليه ويقول: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:16-17]، فهذا الموقف العظيم بينه الله تعالى لنا بهذه القاعدة الجميلة من قواعد كتاب الله، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12]، وأول من طبق هذه القاعدة هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه عندما حدثته زوجته أم أيوب رضي الله عنها فقالت: إن الناس يتكلمون ويزعمون أن عائشة شرفها الله تعالى قد فعلت الفاحشة، فقال أبو أيوب : يا أم أيوب ! لو كنت مكانها أكنت فاعلةً؟ قالت: لا والله، فقال: هي والذي نفسي بيده خير منك.

    فهنا طبق أبو أيوب هذه القاعدة قبل أن تنزل الآية، طبقها على زوجته قبل أن تنزل الآية، فلما نزلت الآية جاءت موافقةً لهذا لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12]، قالوا: وكان هذا لا يستثنهن، ولا يمكن أن يقع علينا، وكنا ننزه أنفسنا عنه، فإخواننا أشرف منا وأعلى منزلةً عند الله تعالى، وأقوى إيماناً، وأكمل تضحيةً، فلماذا لا نطبق القاعدة هنا كما طبقها أبو أيوب الأنصاري.

    إذاً هذه المواقف كلها من بشائر النصر السابقة.

    فهم المسلم لطبيعة العداء مع الكفار

    كذلك من بشائر النصر التي تسبقه: اتفاق المؤمنين واجتماع كلمتهم على فهم مكائد أعدائهم، فالمؤمنون في كل عصر من العصور يمتحنون بتكالب أعدائهم عليهم، ووقوفهم صفاً في وجوههم، فأنتم تسمعون خارج أرض المسلمين كثيراً من الدول والأنظمة القائمة، والجيوش المدججة، وكلها إذا تنافست أو تخالفت في أمر من الأمور قبل أن تكون الدعوى ضد شرع الله عز وجل تجدون الخلاف والشقاق بينهم، لكن إذا كانت الدعوى بيد المسلمين ضد من يؤمن بالله واليوم الآخر اتفقت كلمتهم جميعاً، وصوتوا تصويتاً واحداً في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، وقامت دعواهم جميعاً صفاً واحداً، فانظروا مثلاً لما يحصل في الشيشان، فأنتم تعلمون أن الحرب الباردة بين الروسيين والأمريكان دامت فترةً طويلة ومع هذا لا تجدون لها أي أثر الآن، فتجدون أن المسلمين يذبحون ويقتلون، ومع ذلك فإن أمريكا التي تدعي أنها أم الإنسانية، وأنها هي شرطة الأرض أو شرطة السلام، لا تقف أي موقف في هذا المجال، وتعين الروس على طغيانهم وبغيهم.

    ونظير هذه ما تسمعه الأمة في البوسنة من تكالب أعداء الله تعالى على المؤمنين ووقوفهم صفاً واحداً في وجوههم شرقيهم وغربيهم، ومنعهم دخول السلاح إلى أيدي المسلمين، ومساعدتهم بالسر إذا أمكن، كل هذا من بشائر النصر؛ لأنه يدل على التميز، ومصداق هذا من القرآن قول الله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الفتح:25]، فالله تعالى ذكر أنه ما دام الاختلاط موجوداً، وما دام من المسلمين من هو مغفل عن الوضع، ولا يدرك المكائد الحاصلة، ومن الكافرين أيضاً مما يتفق مع الآخرين في هجومهم، إلا وهو ينسق معهم، حينه قد يتأخر النصر، ولكن إذا تزيلوا فأصبح الصفان متواجهين؛ فهذا صف المؤمنين وهذا صف الكافرين لا بد أن يأتي النصر، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الفتح:25].

    فإن هذه بشارة من بشائر النصر.

    غفلة بعض المسلمين عن دين الله والبعد عنه

    كذلك من بشائر النصر الواضحة: أن يكون الناس قد سرحوا وغفلوا عن الله تعالى في فترات طويلة، ثم يأخذ الله تعالى بنواصي شبابهم ورجوعهم إلى الخير، فإن الشباب هم الذين يكتب الله تعالى على أيديهم النصر في مختلف التجارب فيما مضى، وانظروا إلى أتباع موسى الذين آمنوا به ونصرهم الله تعالى معه، فالله تعالى قد حدثنا عنهم بأنهم فتية شباب فقال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس:83]، (ذرية) معناه شباب، وذلك أن بني إسرائيل كبارهم وشيوخهم قد دأبوا وضربوا على الذلة لفرعون وطاغوته، وتدربوا على العبادة لغير الله تعالى، وأولئك لما خرجوا من البحر قبل أن تجف ثيابهم مروا على قوم يعبدون آلهةً من دون الله فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، مع ذلك كتب الله عليهم التيه أربعين سنةً يتيهون في الأرض حتى ماتوا الكبار الذين تعودوا على الذلة والمسكنة، وتعودوا على طغيان أهل الأرض، ونشأ فيهم الشباب الذين تعودوا على الصحراء والارتحال، والرياضيات العنيفة، فهؤلاء هم الذين كتب الله على أيديهم النصر؛ لأنهم لم يكونوا مخلصين بالعبودية لفرعون وأصحابه، وإنما نشأوا وتدربوا على الحرية في الصحراء.

    عودة المسلمين إلى العمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم

    كذلك من بشائر النصر: أن تجتمع كلمة المسلمين على العودة إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحكيمهن في شئون الحياة كلها، فأنتم تعلمون أن هذه الأمة منذ برهة طويلة وأمرها قائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لم تنتكث منه عروة ولم تنتقض، حتى إذا جاءهم هولاكو ، وجاء بالياسق وهو أول قانون وضعي عرفه أهل أرض المسلمين جعلوا هذا القانون الوضعي، وكانوا الناس يتحاكمون إليه فترة وجيزة، فلما جاءت عين جالوت ونصر الله تعالى أولياءه، وحطم طغيانه هلك ومن كان معه، وانتصر دين الله عز وجل ترك الناس تحاكمهم إلى هذا القانون الوضعي، ثم جاءت فترات أخرى وتكرر الامتحان فامتحن الله أهل الأرض بأن وضع عليهم هذا القانون الوضعي الذي يتحاكم الناس إليه، وقد أمروا أن يكفروا به، فعادوا إليه وخالفوا ما أمرهم الله تعالى به، فكانوا يكفرون بما أمروا بالإيمان به، ويؤمنون بما أمروا بالكفر به، وقد أمروا أن يسخروا به، فأمروا بالكفر بالطاغوت، ومع ذلك آمنوا بالطاغوت وقدسوه وهو القانون الوضعي، وتركوا القرآن ظهرياً وراء ظهورهم، وقامت عليهم الحجة والقرآن ينطق عليهم بذلك، فاقرءوا في سورة الفرقان قول الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].

    هذا الآن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه به الآن يقف فيقول: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30]، هذا الآن الهجران لكتاب الله تعالى بسبب تركه في هذه الأرض قروناً متعددة، فحكم فيها الطاغوت وحكم، واعتلى عرشه، واستقر وانتظم، ثم بعد ذلك جاءت هذه البشارة من بشائر النصر بهذه الصحوة المباركة الداعية إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعادت الناس إلى ذلك العهد ولو في مخيلة ذهنهم، تذكروا أنه قد مضت فترات والقرآن فيها حاكم يتحاكم إليه، وليس كتاباً مقصوداً للبركة يعلق في البيوت للزخارف والزينة، ويعلق على رقاب المعتوهين من المجانين لعل الله أن يشفيهم.

    تذكروا أن هذا القرآن كان يوماً من الأيام حكماً حاكماً على رقاب عباد الله، وأنهم كانوا يحلون حلاله ويحرمون حرامه وكانوا يجاهدون به أعداءهم جهاداً كبيراً، وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52].

    تذكروا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وأنه هو قائد الأمة ومع ذلك هو الذي يصلي بهم ويؤمهم في الصلوات، ويقف على المنبر خطيباً فيهم ليعلمهم دين الله عز وجل، ويقسم المال بينهم، ويغزو ويقودهم في الجهاد في سبيل الله، تذكروا دولة الخلافة الراشدة التي كان الخليفة فيها هو القاضي، وهو الإمام، وهو المكتسب، وهو الضاعية، وهو الآمر بالمعروف، وهو الناهي عن المنكر، تذكروا هذه الأمور التي هي أبعد شيء عن حياتهم وواقعهم، تذكروا الآن واقعهم فوجدوا أنفسهم أبعد ما يكونون عن هذه السنة، وعن هذه السيرة المشرفة، وجدوا أن الذين يؤمونهم ويصلون بهم في مساجدهم ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم أي سلطة ولا أي سلطان يوزع الناس به، ورأوا أن الذين معهم السلطان والقوة، والذين يحكمون في بلاد الله عز وجل، قد عزفوا وانصرفوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يعودوا يتذكرون أن هذا الكتاب إنما نزل ليحكم به في النهار، وليقام به في الليل.

    تذكروا الفرق الشاسع بين حالهم الذي يعيشونه وبين حال الناس في أيام عمر بن الخطاب عندما جاء الرجل الفارسي يتظلم في غلامة له، فوجد عمر مضطجعاً في وقت الضحى تحت ظل نخلة، وهو يلبس مرقعته وليس عنده حارس ولا بواب، فقال: من هذا؟ فقيل: هذا أمير المؤمنين، فقال: رحمك الله، عدلت فأمنت فنمت.

    عندما عدل بين الناس أمن فلم يخف ما اعتدي عليه أحد منهم، فنام دون حارس ولا بواب، ولم يخف أن يقوم مسلم إليه فيحتز رأسه.

    تذكروا الفرق الشاسع بين حياتهم في هذه الأيام عندما كان عثمان رضي الله عنه خليفة المسلمين يأتي في الثلث الأخير من الليل فيضطجع في مؤخرة المسجد، يجتمع عليه حملة كتاب الله يسمعونه القرآن، فيصلح لهم ما يقرءونه من كتاب الله ويروونه عنه، ولو بحث عنه جاءوا إلى المسجد فيجد الخليفة مضطجعاً في المسجد يعلم الناس كتاب الله، يجتمع عليه الصبيان والكهول يقيم لهم تلاوة كتاب الله عز وجل.

    تذكروا الفرق الشاسع بين أيامهم وبين أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما جاءه كاتبه فقال: إن العطاء قد اجتمع في بيت المال، وإن المسلمين قد استغنوا عنه، فرفع عليه الدرة وقال: لا أبا لك، أيستغنون عن مالهم الذي وهبهم الله تعالى وهم يملكونه، ثم قام إلى بيت المال فنزع بابه وأخرج كل ما فيه فوزعه بين الناس، ثم قلَّه بردائه وصلى فيه ركعتين، أخرج كل ما فيه وصلى فيه ركعتين.

    هؤلاء هم الذين يكونون أئمةً منهم الذين يرثون ميراث إبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، الظالمون الذين ينتصبون ويؤمون الناس لا ينالون عهد الله تعالى بإمامة إبراهيم وذريته، إنما ينالها أمثال هؤلاء الذين كنا نتحدث عنهم.

    أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    هؤلاء هم الأئمة الذين يقتدى بهم، ولا يستحي الشخص أن يجعلهم بينه وبين الله تعالى في المشوار، لا يستحي المؤمن عندما يكون في المحراب وأمامه أمثال أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، لا يستحي من الله أن يجعلهم أمامه أئمةً بينه وبين الله، ولكن من دون هؤلاء عندما نسيت الأمة تراثها وعدلت عن هذا المنهج القويم قد نسي هذا الواقع، وانصرفوا وانبهروا بحضارات أخرى، واتبعوا آراء قوم آخرين، ونسوا أسلافهم، ونسوا من أين أتوا؟ ولماذا أتوا؟ وماذا يفعلون؟ فحينئذ حملوا ما لا يتحملون، وقربوا من الخلف، كانوا ينقادون من المحراب فأصبحوا ينقادون من مؤخرة المساجد ثم خرجت القيادة عن المساجد نهائياً، وهذا ما وعده الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لتنكثن عرى الإسلام عروةً عروة، وكلما نكثت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأول عرى الإسلام نقضاً الحكم وآخرها الصلاة ).

    فأول عرى الإسلام في النكث الحكم، وآخرها الصلاة.

    عودة الخلافة على منهاج النبوة

    ومع هذا فإن بشائر النصر تبقى باقية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الذي رواه عنه حذيفة بن اليمان وأخرجه أحمد في المسند وغيره بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة -وفي رواية: على منهج النبي- ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون جبريةً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة وسكت ).

    وهذا الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو إلا مبشر من بشائر النصر، وقد رأت الأمة كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعاقبت عليه الحطط، ورأت سير الصدق في وعد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون منهم جازمون محققون أن الله لا يخلف الميعاد، وأن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم كائن لا محالة، فالإيمان به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن شك فيه فهو غير مؤمن وغير مصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    انظروا إلى قول عائشة رضي الله عنها لما قرأت آية سورة النور في براءتها قالت: لقد وعدني الله تعالى بوعدين: أما أحدهما فقد نلته، وأما الآخر فأنا نائلته لا محالة، الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:23-26].

    فالرزق الكريم قد نالته عائشة رضي الله عنها، والمغفرة لا بد أن تنالها، فلذلك قالت: أما أحدهما فقد نلته، وأما الآخر فأنا نائلته لا محالة، والله تعالى لا يخلف الميعاد.

    فلهذا كان من بشائر النصر كما ذكرنا ما حصل في هذا الحديث.

    تمايز المسلمين فيما بينهم

    وكذلك من بشائر النصر التي يغفل عنها بعض الناس، ولا يشعرون بها: أن هذه التفرقة والتجزئة الحاصلة الآن للمسلمين والتفرق والبغضاء في قلوبهم دليل على أن الله تعالى سيخرج من يجدد أمر الدين، ويعز كلمة الله تعالى ويعلي دينه ووعده لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخرج على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، والناس الآن في أمس الحاجة إلى التجديد، ولذلك فإن هذا التفرق بشير من بشائر نصر الله تعالى وإعلاء كلماته وإعجاز دينه.

    غربة الدين وأهله

    وكذلك من بشائر النصر ما يجده المؤمنون اليوم من الغرابة، فإن المؤمن الملتزم بدين الله تعالى يعد غريباً في وطنه وبين ذويه وبين أقاربه، وهذه الغرابة قد حدثنا عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره: ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: قوم صالحون في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )، وفي رواية: ( هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي ).

    إن هؤلاء القوم الصالحون الذين هم قليل، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم هم الغرباء، وهم الذين ترونهم الآن، فكل من دعا إلى هدىً من عباد الله تعالى، وكل من التزم بالسنة وأحياها وأمات بدعةً يعد غريباً بين الناس، وينظرون إليه كأنه جاء من مجموعة شمسية غير المجموعة التي يعيش فيها، وما ذلك إلا الغرابة التي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي كائنة لا محالة، ولكن هذه الغرابة معها النصر، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والموطأ: ( أنه ذهب يوماً إلى المقبرة فنكث بعود في يده في الأرض فقال: وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني ).

    فإخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتون في آخر الزمان وهم الغرباء، فقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأوصاف متعددة، منها قوله: ( هم نزاع القبائل يجتمعون في ذات الله، لا يجمعهم نسب ولا مال، وإنما يجتمعون في ذات الله )، نزاع القبائل، هذا فلان من قبيلة كذا، وهذا فلان من قبيلة كذا لا يجمعهم نسب، وإنما يجتمعون في ذات الله عز وجل، هؤلاء هم الذين يظهر الله دينه على أيديهم ويعزهم ويعليهم، ويرفع بهم هذه الملة ويطهرها مما علق بها من الأدران والأرجاس.

    ثم إن هؤلاء قد أعلى الله منزلتهم بزيادة أجورهم عند الله تعالى فللواحد منهم أجر خمسين، ولذلك لما حدث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذا العدد الهائل من التضعيف والله يضاعف لمن يشاء، قالوا: ( يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم )، فهؤلاء الواحد منهم يمسك بدينه وكأنه يمسك على جمر؛ لكثرة الغوغاء واللاهين، ولكثرة ما يعاني من الفتن، ولكثرة ما يناط به من الشبهات، ولكثرة ما يشاع ضده من الشائعات، ومع ذلك هم متمسكون بدينهم عاضون عليه بالنواجذ، فهؤلاء بشارة من بشائر النصر، وقد رأيناه، فنسأل الله تعالى أن يثبتهم، وأن يعز بهم دينه، وأن يعلي بهم كلمته في مشارق الأرض ومغاربها.

    وجود الطائفة المنصورة

    كذلك من بشائر النصر: ما وعده الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الفتن مهما علت وانتشرت وكثرت فإن الله عز وجل سيبقي طائفةً من هذه الأمة ثابتةً لا يضرها من خالفها، ولا من خذلها حتى يأتي وعد الله، وذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أنا قاسم، والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي وعد الله وهم على ذلك )، وفي رواية: ( حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

    وفي رواية: ( وهم أهل الغرب )، وهذه بشارة لكم معاشر المؤمنين تختص بكم، ولذلك فإن العلماء اختلفوا في تفسير (أهل الغرب)، فذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى أن مجموع ما وصل إليه من أقوال العلماء ثلاثة تفاسير:

    التفسير الأول: أن (أهل الغرب) معناه أهل القوة والشوكة، وهم أهل الجلد والصبر الذين يصبرون، فإن الشجاعة صبر، الشجاعة ما هي إلا صبر، إذا صبر شخص لحظات قليلة كتب له النصر، إذاً هذه واحدة.

    الثانية: أن المقصود بالغرب مغرب الشمس، وهو يقول: نحن من مغرب الشمس في دول الإسلام، وآخر دار وصل إليها الإسلام دارنا.

    التفسير الثالث: أن المقصود بالغرب الدلو العظيمة، ويقول: إن الدلاء العظيمة في هذه الأرض وهو قد سافر أسفاراً طويلةً فلم يجد دلاءً أعظم من دلاء أهل هذه الأرض فيقول: قد اجتمعت فينا التفسيرات الثلاث، فلم أعلم أن قوماً جاهدوا في سبيل الله فانتشروا بين .... إلا نحن، وأقصد بعض الوقائع في حرب شربدَّا التي يفهمها الناس غلطاً، والواقع أنها كانت جهاداً في سبيل الله لإعلاء كلمته وإقامة دينه، ضحى فيها كثير من المؤمنين من رجالكم بأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، ونصرهم الله تعالى بذلك، وامتحنهم به فقاموا به خير قيام، رحمهم الله وتقبلهم.

    ثم التفسير الثاني يقول: نحن أهل مغرب الشمس، ولا تغرب الشمس على مؤمنين مصلين غيرنا، وهو يقصد أن العالم الجدير في ذلك الوقت لم يكتشف بعد وركن، والواقع أن الغرب يطلق على غرب المدينة مطلقاً، فهو يمشي من هذه الجهة ويمشي مما دونها، ولذلك فسره ابن عساكر رحمه الله تعالى بالشام، فذكر ألف حديث وخمسين حديثاً في فضائل الشام في الجزء الأول من تاريخ دمشق، وهذه الألف والخمسين حديثاً تشعر بأن الشام دار فضل ودار إسلام، ولذلك جاء في سنن الترمذي بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم )، وورد في الحديث الآخر: ( يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم ).

    وفي الحديث الآخر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتقاتلن اليهود ، أنتم شرقي نهر الأردن وهم غربيه، فقال الراوي: ولا أدري ما الأردن يومئذ ).

    فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المعركة الحاسمة مع اليهود ستكون بالشام، وهذا يدل على أن أهل الشام من المنصورين الباقين، وهنا تأتي ملاحظة ينبغي التنبيه لها وهي: أن كثيراً من الناس يسأل الله أن يجعله من الفرقة الناجية المنصورة، ومع ذلك لا يريد المشاركة في أي مواجهة، وكثير منا إذا ذكرت له أي مواجهة يقول: أسأل الله العافية، ولا يرى أنه قد كتب عليه العهد مع الله تعالى أن يدخل المواجهة، وأن يكون هو من قبيلة الصف، ويريد النصر مع هذا، وهذا تناقض في دعوته ودعواه بين يدي الله تعالى.

    ينبغي للمؤمن حينئذ أن يتذكر سؤال نوح أن يقول: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47]، لأنه تأدب مع الله تعالى، إذا كان لا يريد أن يكون جندياً من جنود الله، واقف في صف أولياء الله، في صف حزب الله لا ينبغي أن يسأل الله نصر؛ لأن النصر لا يكون إلا مع الكرب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، النصر لا يكون إلا مع الكرب، الذي يريد العافية والاستقرار في بيته، وأن يقول كما قال السامري : لا مساس، هذا لا يمكن أن يسأل الله النصر، ولا يمكن أن يستجاب له، فقد سأل ربه شططاً.

    كذلك فإن الذي ينبغي أن يسأل الله النصر هو من وقف في المواجهة وعانى الكرب، وكان من جند الله تعالى ومن صفوة الصفوة القائمون على حدود الله، المنافحون عن دين الله، الذين يبذلون أنفسهم وأوقاتهم وأموالهم وعلاقاتهم وعوائقهم في سبيل نصرة دين الله تعالى وإبراز كلمته وإظهارها، فلهذا فإن هذه البشارة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرقة الناجية المنصورة التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، قد ارتبطت أيضاً بأنها ستخالف وتخذل، مع أنها لن يضرها من خالفها ولا من خذلها، هل ستنال العافية من أحد؟ لا، بل ستخالف وستخذل، ومع ذلك سيكتب الله لها النصر، وهذا صريح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

    تغيير المنكرات وعدم الرضا بها

    كذلك من بشائر النصر: أن يعلم الناس أن ما هم عليه يوجد ما هو خير منه، فالذي لا يبحث عن التغيير، ولا يريد تجديد، ويرضى بالقليل الذي بين يديه، وإذا ذكر له الدعوة إلى دين الله قال: نحن أهل الدين، والدين كامل، ولا نحتاج إلى زيادة، هذا الآن لا يمكن أن ينصر، لماذا؟ لأن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالذي ينصر هو من يسعى للتغيير والتجديد والتبديل، ولا يقول: ليس بالإمكان أبدع مما كان، بل بالإمكان أبدع مما كان، الذي لا يرضى عن واقعه، ويرى ما هو فيه، ويدرك ببصيرته النافذة ما هو فيه من مخالفة شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو المؤهل الروحي، هو المؤهل لئن يجدد وأن يهيئ، وهو الذي سيكتب النصر على يديه.

    أما الذي يرضى بما هو حاصل، ويقول: الرضا به من الرضا بقضاء الله عز وجل، هذا الآن غلط فاحش في تصور الرضا بقضاء الله، والذي كذلك لا يقول هذا ولكن يقول: بالإمكان أبدع مما كان، ولكن الذي هو كائن سيكون عندما يخرج المهدي وينزل المسيح عيسى ابن مريم ، فنحن نتبرأ منه، هذا لا يمكن أن ينصر؛ لأنه لم ينجح في الامتحان الذي امتحنه الله تعالى به، والله تعالى يقول: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، نعم، الله تعالى غني عنك، وعن جهدك، وعن مالك، وعن وقتك، وعن طاقتك، وعن طاعتك، ولكن ما الذي بذلته أنت؟ أنت تريد مجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف في الفردوس الأعلى من الجنة فماذا قدمت؟ فهؤلاء قدموا وبذلوا، وأنت ماذا قدمت؟ انظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد عاش بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة، هل تذكر كتب السير أو كتب السنة أنه استراح يوماً واحداً من هذه الثلاثة والعشرين سنة؟ أو أنه أتم شهراً كاملاً دون أن يخرج في سبيل الله تعالى مجاهداً لإعلاء كلمة الله أو داعياً إلى ذات الله؟ أو تذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: قد تعبنا من هذا الغزو، وأتعبنا رواحلنا، فعلينا أن نستريح حتى نستعد لمرة أخرى؟ لا والله ما قال ذلك.

    وانظروا إلى قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عندما كان محاصراً للقسطنطينية في ذلك الجيش الذي هو نعم الجيش، حمل رجل واحد من المسلمين على صف من المشركين فقاتلهم فقال الناس: لا إله إلا الله! قد ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب خطيباً في الناس فقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية على غير ما أنزلت، فإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار، وذلك أن الله لما أظهر دينه وكثر ناصروه قلنا: إن زروعنا قد خربت، فلو جلسنا فيها حتى نصلحها، فكانت التهلكة الجلوس الذي أردنا أن نترك الجهاد في سبيل الله.

    فهؤلاء الخيرة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، ونصرهم الله تعالى وأعزهم، قد بذلوا أنفسهم، وبذلوا أوقاتهم، وقدموا كل ما يستطيعونه، فكتب الله لهم النصر، حين علمه منهم الصدق وحين بذلوا وقدموا.

    أما القاعدون المخلفون الذين يقولون ما قال المنافقون لرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، وهؤلاء يجابون بنفس الجواب، وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:81-83].

    عودة كثير من المسلمين إلى دين الله

    كذلك من بشائر النصر ما تشاهدونه اليوم من رجوع الناس إلى المساجد التي منها جاء النصر، فهذه المساجد هي التي انطلقت منها الراية الأولى، وهي التي خرجت منها الجحافل في مشارق الأرض ومغاربها لتفتح البلاد، ولتدخل العباد في دين الله تعالى، ولذلك فإن أول لبنة من لبنات الدولة هي لبنة المسجد الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحين بنوه كانوا يرددون بصوت مطرب قولهم:

    هذه الحمال لا حمال خيبر هذا أعز ربنا وأطهر

    فهذا المسجد هو الذي انطلقت منه الفتوح، وهو الذي باع الناس في خروجهم منه أنفسهم لله تعالى، ولذلك فهو مؤسسة عسكرية، كما أنه مؤسسة عبادة، فهو المؤسسة التي تكون الرجال بأن يبيعوا أنفسهم لله، ولئن يتقبلهم الله. كثير من الناس يستعدون إلى بيع أنفسهم لله، ولكن الله لا يتقبل منهم، لماذا؟ لأن أنفسهم غير صالحة لهذا المقام العلي الذي هو مقام الشهادة في سبيل الله، هذا المقام لا يناله إلا من توقى في درجات الإيمان، ونال حظه من العبادة، وأخلص في عبادته لله تعالى، هؤلاء هم الذين يمكن أن تثبت أقدامهم، ويمكن أن يجعلهم الله من جنده، والذين ينصرون دينه على الأديان.

    فلذلك فإقبال الناس اليوم على المساجد لتعلم علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللتبليغ عن الله عز وجل والتوقيع عنه، وللمبادرة إلى عبادة الله في هذه الأماكن التي أذن أن يعبد فيها، وأن يذكر فيها اسمه، وللمبادرة في المنافسة في الخير، وللمرور على الملائكة الكرام البررة الذين هم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، فيمروا عليهم عباد الله، ويكتبون بأمر لله يستجيبون لنداء منادي الله، وتكتب الملائكة أسماءهم على مقدمات اللوائح، فهؤلاء هم الذين يصلحون لأن يعز الله بهم دينه، أما الذين إذا دخل أحدهم على باب المسجد استغرب الملائكة مجيئه وقالوا: من أين أتى هذا؟ ما عرفناه يأتي المسجد أبداً، وما وجدنا اسمه في لائحة من لوائح المسجد، هؤلاء لا يمكن أن يستعلوا بهذا الشرف العظيم، ولا أن يكتب لهم هذا الأجر العظيم، بل هم منعوا أنفسهم من هذا إلا من هداه الله تعالى ووفقه وعاد إلى الله وعاد إلى المسجد.

    لذلك فإن مجرد الذهاب إلى المسجد لطلب العلم أو لتعلمه جهاد في سبيل الله، فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم رضي الله عنه في حديث إتيان المسجد: ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يتعلمه أو يعلمه كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانماً )، مع هذا تجدون بعض المقلدين وبعض المؤخرين يزعمون أن المساجد ليست لهذا؛ أن المساجد ليست للعلم، ولا لتعليمه، ولا لتعلمه، ولا للدعوة إلى الله، لماذا تستغلونها لمآربكم؟! وهي للإعلانات أو لما يستحيا أن يذكر في المساجد، إنها بنيت المساجد لذكر الله، والصلاة، وإن ذكر الله يشمل إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وتعليم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما استغل الرسول صلى الله عليه وسلم له المساجد طيلة عمره، واستغل المساجد له أصحابه من بعده ومن خلفهم بإحسان، واتبع مجدهم، وما زال المسلمون يقومون بذلك.

    وهذا الرجوع إلى المساجد اليوم للتبليغ عن الله تعالى، والاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير من بشائر النصر، وإعلاء كلمة الله تعالى، فالله تعالى هو الذي يكتب اللائحة في المسجد، أنتم الآن لا تشعرون، إن الذين يختارون لأن يكونوا في الصفوف في الصف الأول والذي يليه والذي يليه، ما هم إلا فرقة من الناس قد اختارهم الله تعالى لهذه العبادة، وأذن لهم بها، وكتب أسماءهم بلائحة المغفور لهم، فهذه النعمة العظيمة أن ينعم الله تعالى على عبده بأن يأذن له في دخول مسجده، وأن يجعله من جنده، ومن المصلين الذين يكتسبون بالصلاة الأمر في المعروف والنهي عن المنكر، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].

    يكتسبون بالصلاة كذلك عدم الخوف والطمع من غير الله، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19-23].

    فهؤلاء الذين تكتب لهم الشجاعة في فعل الحق وقوله، ويكتب لهم أن يكونوا من جند الله تعالى عمار المسجد الذين يزاحمون الملائكة على عباد المساجد، وهم الذين أنزل الله أسماءهم في لائحة وارتضاها من عباده ليوظفهم في هذه الوظيفة، وذلك من قدر الله تعالى وسبحانه.

    إذاً هذه بعض المشاهد التي شاهدتموها ورأيتموها، والنصر على أثرها آت لا محالة، فسيأتي في عشية يوم أو ضحاه، وأنتم جند الله الذين سيقيم الله نصره على أيديكم، وأسأل الله تعالى أن يريكم ذلك عاجلاً، وأن يأخذ بنواصيكم إلى الخير، وأن يوفقكم لمرضاته.

    1.   

    مظاهر النصر

    التمكن من قلوب العباد

    أما مظاهر النصر فهي متعددة، فمنها: التمكين في القلوب قبل التمكين في الأرض، فإن التمكين للدين والتمكين للهدف الذي يسعى الشخص لأجله، والتمكين للفكر الذي يحمله أولى من التمكين للشخص نفسه، فهذا الدين أهله لا يقدسون الرجال، ولكن يقدرونهم بقدر ما قدموه، فلذلك فإنه ليس ديناً مرتبطاً بالرجال، لو كان مرتبطاً بالرجال لانتهى مع وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الدين لا يرتبط بالرجال، إنما هو دين الله وسيعزه ويمكنه في أرضه، ومن التمكين له التمكين في القلوب، فأنتم الآن تلاحظون، ولا شك أن كل شخص منكم قد لاحظها وجربها أن أولياء الله تعالى الذين يدعون إلى سبيله، ويريدون إعلاء كلمته لهم هيبة في النفوس، وتجد لأعداء الله تعالى رعباً منهم وخوفاً ليس عن سلاح، ولا عن سطوة وقيادة، ولا عن دولة وتمكين في الأرض، وإنما هو جند من جنود محمد صلى الله عليه وسلم هو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم في خصائصه: ( ونصرت بالرعب مسيرة شهر )، فهذا الرعب الذي نصر به ما زال حتى الآن باقياً، وما زال الله ينصر به دينه مسيرة شهر، فتجد الفقير المسكين الذي لا يملك سلاحاً ولا طاقةً ولا حول له ولا قوة مع ذلك ترتعد منه الجبابرة على عروشها، وتخاف منه قادة الجيوش المدججة، بسبب ماذا؟ بسبب هذا الرعب الذي نصره الله به، وهذا التمكين الذي يجده الناس في قلوبهم، وتجدون كثيراً من الناس يلتفون حول هذه الدعوة لا أنهم قد وعدوا بمناصب، ولا وعدوا بمال، ولا أنهم قد رأوا أصحابها تمكنوا، وإنما جمعهم الله تعالى على ما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينها )، يأتون من ديار أهليهم يخرجون كل يوم أو كل ليلة لا يخرجهم إلا نصرة دين الله تعالى، فلا يخرجهم مال يجنونه، ولا شهرة، ولا وظائف، ولا منازل، ومع ذلك يثابرون ويجاهدون ويصبرون على الأذى في سبيل هذه الدعوة، وما ذلك إلا أن الله تعالى هو الذي ثبتهم وهو الذي أخذ بقلوبهم إلى هذه الدعوة، ومكن لها في نفوسهم، فإذاً هذا مظهر من مظاهر النصر وقد حصل، وأنتم تشاهدونه وتعلمونه.

    الشجاعة والاستبسال من قبل أولياء الله

    كذلك من مظاهر النصر: ما تجدونه من الشجاعة لدى أولياء الله تعالى، والدعاة في سبيله في كثير من المواقف التي يبهر لها الذين تدربوا واستعدوا بمختلف العدد، فيرون الشاب الأعزل يقف في وجه الدبابة بتكبيرة واحدة، وبهذا يمكنهم هزيمة الجيوش، وما ذلك إلا مظهر من مظاهر النصر، وقد شوهد هذا في مختلف أصقاع الأرض، فمثلاً تسمعون عن أبي عبد الرحمن الذي لقي الله تعالى في الشيشان، هذا الرجل في يوم واحد دمر عشرين دبابة، ليس معه أسكود ولا أسلحة فتاكة، وإنما رشاش عادي، ولكن معه تكبيرة نابضة من قلب نابض يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بقضاء الله وقدره.

    تسمعون كذلك عن الفتية الذين دخلوا العند على الشيوعيين فأقضوا مضاجعهم في جنوب اليمن، وكانوا يركبون السيارات العادية في أماكن تطوف ضمنها السيارات المصفحة والدبابات لا تستطيع التقدم إليها، وما هؤلاء إلا فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، فاستطاعوا أن يتقدموا في سفوح هذه الجبال الموحشة الملغمة، وأن يدخلوا على الشيوعيين في عقر دارهم، وأن يتجاوزوا كل العراقيل والقيود الموضوعة في وجوههم، ففتحوا للدبابات أبواب الطرق، واستطاعوا أن يمروها فوق الألغام التي لا توضع عادةً ولا تزرع إلا في البحار والمحيطات، ومع ذلك زرعت في التربة لتفجر الجيوش الظالمة، فتغلبوا عليها بإيمانهم لا بسلاح ولا بعدة ولا بعدد.

    انتشار العلم وأهله

    كذلك من مظاهر النصر: ما ترى منه اليوم في مشارق الأرض ومغاربها من العلم الذي امتن الله تعالى به على كثير من الذين لم يبذلوا جهداً في تحصيله من الذين انتسبوا لهذه الدعوة الصالحة، فالله تعالى هو الذي علمهم، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، فتجدون كثيراً من الذين مارسوا هذه الدعوة قد قذف الله تعالى في قلوبهم من الإيمان ما أغناهم به عن كثير من الإفلات في طلب العلم، ووفقوا لتحصيل كثير من زبدته، والوقوف على كثير منه لم يوفق له كثير من الآخرين، فإن كثيراً من الذين أنفقوا أوقاتهم في طلب العلم مثلاً لم يكملوا مثلاً تفسيراً كاملاً لكتاب الله تعالى، ولم يقرءوا مثلاً الموطأ ولا صحيح البخاري ولا صحيح مسلم ، وتجدون بعض الشباب الذين لم تنبت شعرة واحدة في وجوههم وهم الحمد لله تعالى قد أكملوا بعض التفاسير، وقرءوا الصحاح، واطلعوا على كثير من علم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتوفيق من الله تعالى، وهذا من مظاهر النصر التي ينصر الله تعالى بها أولياءه.

    بذل الغالي والنفيس في سبيل الله

    كذلك من مظاهر النصر التي تقع تلك التضحية التي يبذلها أقوام يعلمون ما وراءها من الخسائر، ويعلمون أنهم يمكن ألا يشهدوا وألا يحضروا التمكين الموعود الذي وعده الله تعالى في كتابه، فالله تعالى يقول: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

    فالله تعالى لا يخلف الميعاد، وهو الذي وعد بهذا الوعد الحق الذي تتلونه في كتابه، وينطق عليكم بالحق، فهذا الوعد بالتمكين تجدون كثيراً من الناس اليوم يبذلون كثيراً من التضحيات في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وإعزازه، وهم يعلمون أن أعمارهم قد لا تصل إلى التمكين بحسب الواضح من مظاهر الأمور، وبحسب الموازين المادية المعهودة المعروفة، ومع ذلك لا يعرفون القنوط ولا الفتور، فهم سائرون على هذا الطريق وعلى هذا الدرب حتى يلقوا الله تعالى.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا من جنده الذين يعز بهم دينه، ويعزهم بدينه، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا من جند محمد صلى الله عليه وسلم، والذين هم قرة عينه صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767463245