إسلام ويب

الإيمان وأثره في الحياةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله الإيمان سبباً لدخول الجنة، ولا يكون ذلك حتى تتحقق آثاره على أصحابه كي يؤهلهم لهذه المنزلة العظيمة، وللإيمان أثر كبير في الفرد والمجتمع في كل نواحي الحياة، ومن آثاره على الفرد، آثار روحية تتسم بحسن الصلة بالله، والثبات في المواقف والشجاعة والعزيمة والعزة المتناهية، وكذا آثاره في المال، حيث يعود المؤمن على البذل والتضحية بكل شيء.

    1.   

    الآثار الروحية للإيمان

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله شرط لدخول الجنة الإيمان، فلا يمكن أن ينجو أحد من النار ولا أن يلج الجنة إلا إذا آمن، والإيمان هو ما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الأقوال والأعمال والاعتقادات، وقد طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وفي حياة من رباهم، فجاءت نتائجه باهرة، فحققت مصالح الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة.

    وموضوعنا الآن أحد جوانب هذا الإيمان، وهو آثاره المترتبة عليه.

    لا شك أن هذا الإيمان الذي يغير حياة الناس، ويغير عقلياتهم وتوجهاتهم، لا بد أن يكون مؤثراً في هذه الحياة، وتاركاً للمساته في جميعها، وذلك أن محله بشاشة القلوب، فإذا خالط بشاشة القلوب أثر هذا الأثر البالغ في الجوارح، وفي العقليات، والأخلاق، وغير ذلك.

    فمن هذه الآثار: آثار روحية، ومنها آثار بدنية، ومنها آثار مالية، ومنها آثار خلقية.

    الصلة بالله تعالى

    فأما الآثار الروحية: فمنها أن الإيمان يؤدي بصاحبه إلى الصلة بالله تعالى، والترفع عما سواه، وإن القلب إذا اشتغل بالله سبحانه وتعالى، وتوجه إليه، علم أن الله أكبر، وإذا آمن الشخص بهذه الكلمة المختصرة: الله أكبر! التي يفتتح بها صلاته ومناجاته لله، وحققها في حياته، علم أن هذا الجلال العظيم، وهذه الكبرياء التي هي رداء الله تعالى، لا يمكن أن تجتمع في هذا القلب الصغير مع العبودية لمن سواه، فهذه بداية التحرر من الأغيار، وهؤلاء الأغيار متعددون، فمن الناس من يعبد الأصنام من دون الله، ومنهم من يعبد هواه، ومنهم من يعبد مصالحه الآنية المؤقتة، ومنهم من يعبد الرأي العام وما يتحدث الناس فيه، ومنهم من يعبد الشهرة والظهور، ومنهم من يعبد المال، فإذا حقق الشخص معنى الإيمان بالله تعالى تحرر من كل هذه العبوديات، فكان حراً في نفسه عبداً لله خالصاً.

    وهذه العبودية هي أشرف وصف يتصف به ابن آدم ، ولذلك لاحظوا أن الله تعالى عندما أراد الثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، اختار له هذه العبارة، فقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، لم يقل برسوله ولا بنبيه ولا بخليله، مع أن هذه الأوصاف من أوصاف المدح لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله اختار له وصفاً أسمى منها، وهو العبودية المحضة لله، فمحمد صلى الله عليه وسلم بإيمانه بالله، وهو أول من آمن من هذه الأمة، كما قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، فهو مقدمة المؤمنين وأولهم، ولذلك يسيرون على طريقه، كما قال تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

    فالرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من آمن، فكان هذا الإيمان مقتضى منه لأن يتحرر من كل هذه العبوديات للأغيار، فمن ذلك تحرره من العبودية لهواه، فكان المرء الذي هو حديث عهد بجاهلية، والذي يعيش بين ظهراني الناس وما هم فيه من التفاخر وحب الملك ونحو ذلك، عندما يتحرر من كل هذه الأمور، يجد قوةً في شخصيته عجيبة، فحين عرض عليه قريش أن يملكوه، وأن يكف عن سب آلهتهم، وعرض عليه ذلك عمه أبو طالب الذي كان يؤويه وينافح عنه، فروي أنه أجابه بقوله: ( يا عم! لو جعلوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أتراجع قدر أنملة عما أرسلني الله به، لن أتراجع ). وسواء ثبت هذا الحديث أو لم يثبت، فهكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته كلها، فخرج من عز بني هاشم في مكة مهاجراً إلى الله تعالى، وخرج من ماله وداره، وخرج من أهله وأقاربه، كل ذلك لإعلاء كلمة الله تعالى، وللتخلص من العبودية للأغيار، لم يتقيد بسلطان المجتمع الذي يفرض عليه كثيراً من الضرائب الاجتماعية، ولم يتقيد بالموروث الذي كان سائداً بمكة، ولم يتقيد بالعادات الاجتماعية التي كانت مألوفة في جزيرة العرب، تخلص من كل هذه الأمور، واستطاع أن يكون عبداً لله تعالى، ولذلك أثنى عليه بهذا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1].

    ثم تحققت هذه الحرية أيضاً للذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فنجد أثر هذا الإيمان في حريتهم بالغاً جداً، فالمؤمن عندما يقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم راغباً في الإسلام، يبايعه على نصرة دين الله تعالى، معنى ذلك أنه يتخلص من كل ما فيه، وينبذ كل هذه السلاطين والعبوديات التي كانت سائدةً في المجتمع، يتخلص من سلطان القبيلة، ومن سلطان الجاه والمال وحظوظ النفوس والأهواء، والعادات، وكل هذه الأمور ينبذها وراء ظهره، ويتخلص منها، ولذلك لا يمكن أن يجتمع سلطان الإيمان في قلب عبد وسلطان هذه العبوديات، فالذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بيعتهم واضحة جداً في نبذهم لكل ما كانوا عليه.

    ولهذا لاحظ أعداؤه من المشركين أنه إنما يدعوهم إلى التخلص مما كانوا عليه، وعندما جادلوه بما كان أعداء الرسل يجادلونهم به، من أن هذا الذي يدعوهم إلى تركه هو ما أدركوا عليه آباءهم، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، فكانوا جميعاً يعرضون هذه الشبهة على الرسل، ومهمة الرسل هنا هي تخليصهم من أسر هذه العبودية لغير الله.

    الشجاعة وقوة الشخصية

    ثم أن الأثر الثاني من الآثار النفسية لهذا الإيمان: هو الشجاعة، وقوة الشخصية، فإن الإنسان بطبعه جبان، صاحب هلع وطمع، ولكنه عندما يؤمن ويصلي فسيزول عنه هذا، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا المُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، فالمصلون هم المؤمنون، وهم الذين يعلمون أنه لا يمكن أن يصيبهم إلا ما كتب الله عليهم، ولا يمكن أن يصلهم إلا ما كتب الله لهم، وبذلك يجدون هذا الأثر البالغ للإيمان في نفوسهم، فلا يتأخرون خوفاً، ولا يتقدمون طمعاً، بل يدركون أنه قد رفعت الأقلام، وجفت الصحف عما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن الأسباب لا تؤخر شيئاً من قدر الله ولا تعجله، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء خروجه من بيته: ( بسم الله على نفسي وأهلي ومالي وديني، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، اللهم رضني بقضائك وبارك لي فيما قدر لي، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت ).

    1.   

    مواقف من شجاعة أهل الإيمان

    فهذا الأثر مقتضٍ من الشخص الشجاعة والثبات على المبدأ، فالذي يخاف غير الله تعالى، أو يطمع في غير الله تعالى، لا يمكن أن يتخذ موقفاً عادلاً، ولا أن يثبت عليه إذا اتخذه؛ لأن العوامل كلها تقتضي منه أن يخاف من هذا، أو يطمع في هذا، وحينئذٍ لا يمكن أن يجد في نفسه تلك الشجاعة المقتضية للثبوت على المواقف، ولاتخاذ المواقف الصارمة.

    مواقف من شجاعة الرسل وشجاعته صلى الله عليه وسلم

    لكن أهل الإيمان نجد إيمانهم يدعوهم إلى هذه الشجاعة كاملة، التي جعلت موسى يتحدى فرعون ويقف في وجهه، وجعلت محمداً صلى الله عليه وسلم يتحدى أهل الأرض جميعاً، وجعلته يخاطب الأعراب يوم أوطاس حين ألجأوه إلى سمرة من سمر تهامة، فقال: ( إليكم عني، فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً، لقسمته بينكم ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ).

    وهكذا نجده يثبت في وجه مائةٍ وعشرين ألفاً، في مائة رجل وامرأة فقط، ونجده يثبت يوم أحد في أحد عشر رجلاً وامرأة واحدة، في وجه ثلاثة آلاف من المشركين، ونجده يغزو البيزنطيين في ديارهم، فيذهب إلى الشام غازياً في وقت العسرة، ونجده: عندما أتاه المشرك، وهو نائم تحت ظل شجرة في وقت الهاجرة، فيخترق سيفه ويقف عليه، فيقول: ( يا محمد! من يمنعك مني اليوم؟ فقال: الله، فيسقط السيف من يد المشرك، فيتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرفعه في وجهه، فيقول: من يمنعك مني؟ فيقول: لا أحد )، فالمشرك ليس له ولي يمنعه، والرسول صلى الله عليه وسلم وليه الله فمنعه.

    هذا الإيمان هو الذي يقتضي هذه الشجاعة، الشجاعة ليست عن قوة الأبدان، ولا عن تربية على القسوة كما يعتمده المربون المتأخرون للجيوش، فالجيوش اليوم تربيتها على الشجاعة إنما هي بقتل الضمائر والأحاسيس، يعاملون الناس بالشدة حتى تموت فيهم الرحمة، ويظنون أن هذا مقتضٍ للشجاعة.

    ولكن الواقع أن هذا مجرد عملية فقط للتوازن، لكنه ليس شجاعة في الواقع، الشجاعة الواقعية، لو كانوا يتصفون بها، لما كانوا كالأنعام، يقودهم الطفل الصغير، أو الضعيف المسكين، من هو أضعف منهم عقلاً وبدناً، يسيرهم حتى الموت، فالشجاعة الحسية هي ما كان عليه أهل الإيمان وما زالوا عليه، هي التي حملت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكة ثاني اثنين، وحملته على كثير من المواقف التي كان لها ما بعدها من الأثر.

    وتلك المواقف هي التي جعلت هذا الدين يستمر إلى أن يصل إلينا، تلك المواقف الشجاعة التي وقفها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، هي التي كانت وقود هذا الدين حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار، وكذلك مواقف الذين رباهم من أصحابه.

    مواقف من شجاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

    فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقف موقفاً، لو قدر كل شخصٍ منا نفسه في مكانه لرأى أنه من العجب العجاب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء لهذه الأمة، فهو الإمام، وهو الذي يصلي بالناس، وهو الذي يخطب فيهم، وهو الذي يعلمهم، وهو الذي يقضي فيهم، وهو الذي يقود الجيش، وهو الذي يقسم المالية، وهو الذي ينظم كل الأمور، وكان الوحي أشد ما يكون تتابعاً، فتوفى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة. فكانت أزمة عظيمة لم تبتل هذه الأمة بمصيبة مثلها، ولن تبتلى بمثلها أبداً، لكن كان أبو بكر شجاعاً لحد التحدي، فوقف فقال: ( أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت )، لاحظوا هذه الشجاعة المتناهية التي جعلت هذا الرجل عندما يفقد أحب الناس إليه، يقف بكل ثقة وتكامل عقل وتفكير، فيثبت أمةً بكاملها، ويقول: من كان يعبد محمداً بكل تجرد، وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس محبوباً لديه، وهو أشد الناس حباً له قال: ( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فجاهدوا عن دينه ).

    وكذلك نجده يقف تلك المواقف الشجاعة، حين تأتيه الأخبار من يمين المدينة وشمالها وجنوبها وغربها، أن العرب قد ارتدوا عن دين الله ومنعوا الزكاة، فيقول: ( والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ).

    ونجده حين أراد أن يجيش الجيوش إلى جهات الأرض، قيل له: إنك لن يبقَ معك إلا الضعفة والنساء، فقال: اتركوهم، فإن دخلوا علي فسأحمي الظهور وراءكم، واخرجوا أنتم لإعلاء كلمة الله. فيسير الجيوش للبلاد، ويبقى هو حامياً للظهر، والعاصمة المدينة يكفيها أبو بكر وحده من الحماية.

    أما أهل النجدة والشجاعة فليتفرقوا في الأمصار، وليغزوا في سبيل الله.

    وكذلك نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول يوم بدر: لو شهدها عدوي لما ردعت عنه حتى أقتله أو يقتلني، ونجده يوم أحد يقول لـأبي سفيان : والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. والذر: صغار النمل، فنجده يتخذ تلك المواقف الشجاعة العجيبة.

    ومن أغربها موقفه في حال الموت، بعد أن طعن، وعلم أنه ميت منتقل من هذه الدنيا، لم يتعجل عن مسؤولياته، ولم يتخلص منها، يدخل عليه شاب من الأنصار يجر رداءه، أو قميصه، فيرفع رأسه إليه، ويقول: ارفع ثوبك، فإنه أتقى وأنقى وأبقى. كأنه غير جريح، وكأنه لا يرى الموت نصب عينيه؛ لأنه يعلم أن نصيحة أمة محمد صلى الله عليه وسلم من حقوق الإمامة، ومن واجباته، فلا يتركها إلى الموت.

    نجده حين رتب ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ليباشروا إمامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم والخلافة فيها، فيأمر محمد بن مسلمة أن يحضر معه ثلاثة مائة مقاتل من الأنصار، وأن يحوطوهم في الدار، فإن مضت ثلاث ليال، ولم يبايعوا أحداً منهم، فليضربوا أعناقهم جميعاً؛ لأنه يخاف أن ينحل عقد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تنشق عصاها.

    مواقف من شجاعة شباب الصحابة

    وكذلك نجد هذه الشجاعة لدى غير هؤلاء الأئمة الكبار، بل لدى صغار الصحابة وأولادهم، فنجد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يحدثنا عن مشهد شهده يوم بدر، فيقول: إنه كان يعلم شدة حنق قريش عليه، وعداوتهم له، فنظر إلى نفسه يوم بدر، فوجده في صف، إنما هو من الشباب الصغار، الذين لا تجربة لهم بالحرب، ولم يدخلوا حرباً من قبل، فإذا الشباب الصغار ينادونه كل شخص منهم يمسك بيده، ويقول: يا عم! إذا رأيت أبا جهل فأرنيه، فيقول: سبحان الله! وما حاجتك إليه؟ فيقول: بلغتني شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأريد أن أقتله. فالشباب الذين كان يخاف أنهم لا يؤدون دورهم في القتال، هم الذين يتنافسون في قتل أبي جهل ، وهم الذين قتلوه فعلاً، عندما رآه فأراهم إياه أردوه قتيلاً.

    وهكذا نجد هؤلاء الشباب سباقين إلى الخير دائماً، ساعين لإعلاء كلمة الله تعالى بكل ما تيسر، فنجد شاباً صغيراً هو حبيب بن زيد ، يرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلى مسيلمة الكذاب ، فيأتيه في اليمامة في ملكه، فيقول له مسيلمة : أتشهد أن لا إله إلا الله، فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله، فيقول: أنا أصم، فيقطع يمينه، ثم يعيد عليه السؤال، فيقول: أنا أصم، فيقطع شماله، وهكذا حتى قضى نحبه، وهو يقطع إرباً إرباً، وما ذلك إلا لشجاعته وثباته الناشئ عن إيمانه، فهو أثر من آثار هذا الإيمان.

    وكذلك نجد هذا الأثر واضحاً جداً في موقف البراء بن مالك رضي الله عنه يوم اليمامة، عندما طال الحصار، وحاصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في اليمامة، فقتل كثير من حملة القرآن منهم، وحملة القرآن يحفزهم قرآنهم على التضحية في سبيل الله، وكانت تعرف الشجاعة في القديم في حملة كتاب الله، والقراء هم الصف الأول في الجهاد دائماً، وهم أول من يضحي في سبيل الله، وهم أول من يموت، كلما ازداد الشخص حفظاً لكتاب الله تعالى وعلماً فيه، كان أشجع ممن سواه، وكان أقدم في التضحية وأولى في البذل، فقتل خمسمائة من حفظة كتاب الله تعالى يوم اليمامة، حتى خشي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباد حملة القرآن، فقال البراء بن مالك : ارموني عليهم بالمنجنيق، فجعل نفسه صاروخاً، ورمي به داخل الحديقة، فأخذ سيفه وهو يعلم أنه مقدم على أربعين ألف مسلح، فما زال يضرب يميناً وشمالاً، حتى فتح الباب، وعندما دخل الناس، وجدوا به مائتين وثمانين ضربة بالسيف في بدنه، ووجدوه قد بقر بطنه وشق فخرجت أمعاؤه، فمر الناس من فوقه، ومع ذلك لم يمت في هذه المعركة، عالجه طبيب مسلم، فبرئ، لكنه نذر لله تعالى أن لا يرجع إلى الدنيا حتى يلقى الله، وأن يجاهد أبداً حتى يموت، فخرج إذا انتهت غزوة ورجع أهلها واصل البراء مع غزوة أخرى، حتى قتل يوم ... شهيداً في سبيل الله.

    وهكذا نجد عمرو بن سعيد بن أسيد ، أمره أبو بكر رضي الله عنه على جيش لما يعلم فيه من الشجاعة منذ أسلم، فإن الإيمان حين باشر بشاشة قلبه، أثر فيه أثراً بالغاً، حتى إن أباه، وكان سيداً من سادات قريش، هو سعيد بن العمامة ، الذي كان إذا لوى عمامته لم يجرؤ أحد على أن يتعمم في حضرته، فمرض ذات مرة بمكة، واجتمع عليه أولاده، فقال لهم: لئن رفعني الله من مرضي هذا، لا يعبد رب ابن أبي كبشة في الأرض أبداً، يقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من شجاعة ابنه عمرو أن واجهه بالحق، فقال: اللهم لا ترفعه، وكان ذلك بين يديه، علم أبو بكر هذه الشجاعة، فولى عمراً على جيش من جيوش الشام، فخرج بفتح أحد البلدان، فقابلهم صف عظيم من المشركين فاجتلدوا معهم جلاداً شديداً، وكان عمرو وهو قائد جيش في المقدمة، وهذا الموقع المعتاد لقائد الجيش الإسلامي، فضرب بالسيف في بطنه، فانشقت أمعاؤه، ووصل السيف إلى ظهره، فبادر فنزع عمامته، وطوى بها بطنه، وقاتل حتى انتهت المعركة، ثم دعاهم فلما اجتمعوا إليه، قال: إن الله قد رزق أميركم الشهادة، فانظروا لأنفسكم، فإني ميت، وإن أمعائي قد تناثرت، ولا يجمعها إلا هذا الرداء الذي جمعتها به، فلما حل عنه الرداء توفي شهيداً في سبيل الله.

    وكذلك نجد آخرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تربوا بتربيته، من شرائح مختلفة، يجدون هذا الأثر البالغ في نفوسهم، فها هو بلال بن رباح رضي الله عنه، يؤمن فيخالط هذا الإيمان بشاشة قلبه، فيتحرر بذلك من كل ما سواه، فيجتمع عليه صناديد قريش، فيجمعون يديه ورجليه ورقبته في أغلال الحديد، ويضعونه على الحجارة المحماة في الرمضاء، في وقت الهجير برمضاء مكة، ويحملون أثقل الحجارة فيضعونه على النار حتى يحمر، ثم يحملونه بالحديد ويضعونه عل صدر بلال ، ولا يزيد على أن يقول: أحد أحد.

    وكذلك نجده يقف بصلابة هذا الإيمان هذا الموقف العجيب، إلى أن يتحرر، ويخرج مهاجراً في سبيل الله، ثم يتولى بعد ذلك الأذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد معه جميع المشاهد، لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفاه الله كان من شجاعته أنه أراد أن يسير على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يفارق هذه الدنيا مجاهداً في سبيل الله، فأراد أبو بكر أن يبقي عليه، وأن يقوم بوظيفته التي تركه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبقى مؤذناً، فامتنع بلال من ذلك، وقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تعتقني في سبيل الله؟ فقال: بلى، فقال: إن كنت اعتقتني لله، فدعني أذهب وأقاتل في سبيل الله حتى أموت، فأراد أبو بكر أن يوصي به الجيوش للرفق به ولحمايته ورعايته، فامتنع بلال من ذلك، وقال: وهل أنا إلا رجل من المسلمين، أغزو كما يغزو كل المسلمين.

    وكذلك نجد هذا الأثر في حياة ياسر وابنه عمار ، وزوجته سمية رضي الله عنهم، فإن المشركين اجتمعوا عليهم، وبالغوا في أذاهم، سنة كاملة من الإهانة والتعذيب، بأغلال الحديد، وبالنار، وبالجلد، وبغير ذلك من أنواع التعذيب، وهم في كل ذلك صابرون يمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صباحاً ومساءً، فيقول: ( صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ).

    وهكذا كانت هذه الشجاعة أثراً من آثار هذا الإيمان، وهي المقتضية من صاحبه ألَّا يرضخ للتهديد أبداً، وألَّا يركع لغير الله.

    مواقف من شجاعة التابعين وأتباعهم

    فالذين جاؤوا بعدهم، ممن باشرت بشاشة الإيمان قلبه، استمروا على هذا الطريق، فوجدوا في أنفسهم شجاعة عجيبة، غير مألوفة؛ بسبب هذا الإيمان الذي في قلوبهم، ولهذا كانت لهم المواقف البارزة المشهورة، فمثلاً: في عصر التابعين، كان سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة، وقد عرض عليه عبد الملك بن مروان ، وهو أمير المؤمنين أن يزوج ابنه الوليد ولي عهده ابنة سعيد ، فرفض سعيد ذلك، وأوذي في سبيل الله فصبر، ووقف موقفاً شجاعاً، ولم يزل عليه حتى لقي الله.

    وكذلك الإمام سعيد بن جبير ، عندما ثار الفقهاء، في وجه الحجاج وقاتلوه، وحصلت الهزيمة، فأُتي بسعيد بن جبير أسيراً، وحاول إقناعه بالرجوع عما كان عليه، فوجده أصلب من الحجارة، وأشد ثباتاً وشجاعة، من غيره، فخشي الحجاج أن يؤثر في عقله، فقربه للقتل فقتله.

    وكذلك نجد من وراءهم من أتباع التابعين، حتى من الأئمة المجتهدين، فهذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى، يريد الخليفة أن يجبره على تولي القضاء، فيرفض ذلك، فيقسم عليه الخليفة بالله الذي لا إله إلا هو لتتولين القضاء، فيقول أبو حنيفة : بالله الذي لا إله إلا هو لا أتولاه، فيقال له: أتقسم في وجه يمين الخليفة، فيقول: الخليفة أقدر على التكفير مني، يستطيع أن يكفر عن يمينه، وأنا لا أستطيع ذلك.

    وهذا مالك بن أنس عندما أفتى بعدم لزوم البيعة التي يكره عليها الناس بأيمان الطلاق والعتاق، قام إليه أمير المدينة إذ ذاك فجلده وشهر به، وحمله على حمارٍ فطيف به في المدينة يمر على المجالس، فكان مالك إذا مر بمجلس أو بأي أحد، يقول: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس ، ألا لا طلاق في إغلاق، ألا إن أيمان البيعة غير لازمة، وهم يطوفون به والفتوى تشيع، وتنتشر بين الناس، وهكذا..

    مواقف من شجاعة العلماء

    وكان هذا دأب العلماء في كل العصور، فهم لما يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، أجرأ الناس على قول الحق، وأصدقهم فيه، فنجد سلطان العلماء، العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: عندما جاء إلى مصر فرأى كثيراً من المنكرات، رأى بيوتاً تباع فيها الخمور، ورأى بيوتاً مصرحة للدعارة، فأراد تغيير ذلك، ولكن أمير مصر وقف في وجهه وأراد منعه من ذلك، فقال له العز بن عبد السلام : إما أن يتغير هذا في هذه الليلة، وإما أن أخرج أنا من مصر، فظن الأمير أن خروج سلطان العلماء خروج لشخص واحد لا أثر له، فسكت، فأخذ العز حمارين فجعل على أحدهما زوجته وعلى الآخر كتبه، وخرج بعد صلاة الفجر من مصر، فلما رآه الناس، خرجوا جميعاً في أثره، فجاء الناس إلى الأمير يقولون: أيها الأمير، إن كنت تريد أن تتولى على البيوت والمزارع، فقد بقيت لك، وإن كنت تريد أن تتولى على الناس فقد خرجوا في أثر العز بن عبد السلام ، فيخرج الأمير فيرى حشود الناس خارجة في أثر العز بن عبد السلام ، فيقول: أيها الناس ارجعوا إلى بيوتكم ولكم ما تريدون، فلا يتلفت إليه أحد منهم ولا يجيبه، حتى لقي العز بن عبد السلام فعرض عليه أن يرجع، وأن يحكمه في تغيير ما شاء من المناكر.

    فرجع العز ولم يكلم الناس بكلمة واحدة، لكن حين رآه الناس راجعاً رجعوا جميعاً، لم يكلمهم في الخروج ولم يكلمهم في الرجوع.

    وكذلك نجد هذا الموقف الشجاع أيضاً لـابن تيمية عندما جاء التتار، فقتلوا خليفة المسلمين، واحتلوا العراق، واحتلوا كثيراً من مناطق الشام، وكادوا يصلون إلى دمشق، خرج إليهم يريد أن يستنقذ منهم بعض أسرى المسلمين، فجادل أميرهم في ذلك، فاستنقذ منه عدداً كبيراً من أسرى المسلمين، وحين أتي بهم ظن الناس أن تقرب التتار إليه، وما أطلقوا له من الأسرى، سيغير موقفه حيالها، فقام في الناس خطيباً فقال: يا أيها الناس قد أتيتكم من عند الطاغية، وإنه والله لا يساوي بغلة أحدكم، وإنما هم فيه من نعم هذه الدنيا زائلة؛ لأنهم لم يشكروا الله عليها، وأنهم لا يمكن أن يصمدوا لكم لحظة واحدة، فسعى في الناس حتى خرجوا لقتال التتار، وكان هذا مستحيلاً لديهم، ما كانوا يظنون أن أحداً يصمد أمام التتار، فكان يسير بين الصفين بسيفه، ويقول: بالله الذي لا إله إلا هو لتهزمنهم، فيقولون: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، يقول: إنه رأى علامات النصر، ورأى المؤمنين خرجوا لا يريدون إلا نصرة دين الله، لا يريدون الغنائم، ولا يريدون الشهرة ولا السمعة، لا يريدون إلا نصرة دين الله، وهذا ما حصل في أرض من الأراضي إلا نزل النصر على أهلها، فكانت المعركة الفاصلة التي انهزم فيها التتار، وانحسروا إلى غير رجعة.

    وكذلك نجده عندما ذهب إلى مصر، فأراد أميرها أن يضايقه وأن يسفره إلى الإسكندرية، وأن يسكنه في برج هنالك، قال له: ما تصنعون بي، إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، فلا يمكن أن يضروه بشيء، إذا قتلوه فهو شهيد في سبيل الله، وإذا سجنوه فهي خلوة يتعلم فيها ويعبد الله، وإذا سفروه فهي سياحة ونشر للدعوة، فقال لهم الأمير: إن ضرر هذا الشيخ أكثر من نفعه، فأخرجوه.

    وكذلك نجد هذه الشجاعة الناشئة عن الإيمان أيضاً لدى أحد علماء الشام، وهو الإمام محيي السنة، يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى، فإنه كان من شجاعته أنه وقف في وجه السلطان الذي كان قائماً مقام الشام، حين فرض الضرائب على الناس، فخرج إليه النووي ، وعمره إذ ذاك لا يصل إلى أربعين سنة، فـالنووي لم يصل إلا اثنتين وأربعين سنة، عمره كله، فخرج إليه يكلمه في ذلك، فأراد السلطان أن يضايق النووي وأن يرد مطالبه، فوجده أشجع من الأسد، وأقسى من الحديد، كان خطابه له خطاب الواثق بإيمانه وبصحة موقفه، وجراءته وشجاعته، فلم يكن من السلطان إلا أن يقف صاغراً، أمام النووي وأن يتنازل عن كل ما كان يريد فرضه من الضرائب.

    وكذلك نجد عالماً آخرا من علماء الشام كان جالساً يدرس في مسجد الأمويين بدمشق، فدخل عليه إبراهيم باشا ، وهو طاغية معروف، كان سلطاناً عنيداً، فلما دخل المسجد قام إليه كل من في المسجد، وبقي الشيخ جالساً ماداً رجله يدرس، ومعه مجموعة قليلة من الطلاب، فاغتاظ إبراهيم واستشاط غضباً، وقال: من هذا الشيخ الذي لم يقم إلي، ولم يسلم علي؟ فقيل له: هو فلان بن فلان، ففكر في طريقة إخضاعه وإذلاله، فرأى أنه يمكن أن يغزوه من قبيل المال، فأخذ صرة فيها عشرة آلاف دينار، فأرسلها إليه، فلم يمد الشيخ إليها يده، بل قال: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. وأرسلها مثلاً، فعلم السلطان أن لدى الشيخ استقلالاً ذاتياً، وأنه لا يخضع بالمال.

    وكذلك نجد هذا لدى المتأخرين من الدعاة الذين عرض على كثير منهم، كثير من المغريات، فما أثرت في مواقفهم شيئاً، نجد سيد قطب رحمه الله تعالى، عرض عليه، وهو في حبل المشنقة أن يكتب اعتذاراً واحداً في سطر واحد، فقال: إن هذه السبابة التي أرفعها في التشهد، وأقول فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تخالف ذلك.

    فالاعتذار إلى الطاغوت تكذيب لشهادته: أن لا إله إلا الله، فامتنع أن يسطر بها سطراً واحداً، حتى لقي الله على ذلك، وعندما حُذر وهو في السجن من ذلك، وأتاه من يخوفه أنشده:

    أي يوم من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر

    يوم لا قدر لا أحذره ومتى قدر لا ينجو الحذر

    وكذلك نجد في بلادنا هذه بعض الذين باشر الإيمان بشاشة قلوبهم، فكانت لهم مواقف رائعة جداً، من ذلك: أن رجلاً من العلماء كان صديقاً لأحد الأمراء المشتهرين بالجور، فخرج معه ليلة في سفر إلى بعض المناطق التي أهلها يجلون ذلك الأمير، وخرج معه عدد من بني عمه فخرج العالم مع هذا الركب من بني عم الأمير، فلما نزلوا عند القرية التي يريدونها، أكرموهم إكراماً عظيماً وبنوا، وضربوا خيمتين: خيمة للأمير، وخيمة للركب، فلما كان من الليل اجتمع رأي الركب على أن يغتالوا الأمير، فكان العالم لا يمكن أن يفشي سرهم الذي ائتمنوه عليه، ولا يمكن أن يشارك في غدرهم، فلما ذهبوا إلى الأمير، كان جالساً فجعل العالم يده على كتفه، ورده للأرض، ففهم هذه الإشارة وركب فرسه ونجا بنفسه، ومضت سنة كاملة، فأرسل إليه الأمير أن يأتيه، فجاء إليه، فوجده خالياً في خيمة ليس معه أحد، فأخذ سلاحه وجعل فيه الرصاص بين يديه وهو ينظر، فقال له: بالله الذي لا إله إلا هو تقوم السماء والأرض بأمره، لتحدثني بما نبهتني عليه في تلك الليلة، أو لأقتلنك، فقال له العالم: بالله الذي لا إله إلا هو تقوم السماء والأرض بأمره، وليست يميني كيمينك لا أحدثك به، وافعل ما بدا لك فما قتل مثلي إلا مثلك، فارتعد الأمير حتى وقع منه السلاح ونجا الرجل، وكأن شيئاً لم يحدث.

    هذا أثر من آثار هذا الإيمان مقتضٍ لشجاعة صاحبه وعدم تأثره بمثل هذه المواقف والضغوط.

    1.   

    الآثار المادية للإيمان

    من آثار هذا الإيمان: آثار مادية تتعلق بالتضحية في سبيل الله والبذل في ذلك، وهذا الأثر ناشئ عن معادلة بسيطة، وهي أن المؤمن يعلم أن ما قدمه سيضاعف له، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11]، يعرف أن ما قدمه سيكون: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فلذلك يتقدم بكل ما يستطيع تضحية في سبيل الله، إذا تقدم بنفسه فمات شهيداً في سبيل الله احتسب ذلك عند الله، ولذلك الذي يستطيع أن يفتح أزرار قميصه لاستقبال الرصاص، ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، هو من آمن بالله، وآمن بأنه صائر إليه، والذي يستطيع أن يخرج من كل ماله في سبيل الله، ويأتي به، هو من باشر هذا الإيمان بشاشة قلبه.

    البذل والعطاء في سبيل الله

    ومثال ذلك: أبا بكر رضي الله عنه خرج ثلاث مرات بماله كله في سبيل الله، وكان أبوه شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يرى أن ما يفعله أبو بكر من السفه؛ لأن لديه عيالاً وأسرةً، وهم فقراء وبحاجة إلى المال، فكان أبو بكر ينبه بناته على أمر لا يغضب هذا الشيخ، وإذا سأل عن المال احتلنا عليه، فكانت أسماء تجمع له بعض الحجارة في صرة، فإذا سألهم: ما ترك لنا أبو بكر ؟ جاءته بالصرة، فحملها فإذا هي ثقيلة، فقال: هذا مال كثير، فقنع الوالد بذلك.

    وهكذا جهز عثمان رضي الله عنه ثلاثة آلاف مقاتل في جيش العسرة، واشترى بئر رومة فقدمها لله.

    وكذلك نجد أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه، عندما كان في حديقة له، تسمى بيرحاء، في شمال المسجد، كان يصلي صلاة الضحى في ظل نخلة، فطار طائر فلم يجد مكاناً يخرج فيه من التفاف أغصان النخل، وكثرة ثمارها، وعذوبة مائها، فأعجبه ذلك وهو في صلاته، ففكر فيه قليلاً، فلما سلم، رأى أن يخرج من هذا كله في سبيل الله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها قد كادت تفتنني عن صلاتي، فهي في سبيل الله، فاجعلها حيث شئت)، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في الأقربين من الفقراء والمساكين.

    وكذلك أتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يحمل شطر ماله، حتى كان يمسك إحدى النعلين، ويقدم الأخرى، ويختار اليمنى لله تعالى، واليسرى لنفسه، وكذلك قال له: ( يا رسول الله! إن أحب مالي إلي سهمي في خيبر، فهو في سبيل الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها، وسبلت ثمرتها. فجعلها عمر وقفاً في سبيل الله )، وهي أول وقف معروف في تاريخ الإسلام.

    وكذلك نجد أن كثيراً من المسلمين الذين باشر الإيمان بشاشة قلوبهم، كان أحدهم يكدح ويعمل؛ من أجل الحصول على غذائه، فإذا حصل على ما يتغذى به تذكر يوم القيامة، فبادر، فأتى به للجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، فكان أحدهم يأتي بصرة من تمر، أو من شعير في طرف ثوبه، فيقول المنافقون: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله؟ فأنزل الله في ذلك آيات من سورة التوبة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ [التوبة:58-59]، إلى آخر الآيات.

    وكذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يعمل لامرأة من الأنصار ينزع لها الماء من بئرها؛ لتسقي نخلها، كل دلو بتمرة واحدة، فلما جمع تمرات ملأت كفه، قال: يكفيني هذا من العمل، فخرج به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليقدمه في سبيل الله.

    التضحية بالوقت

    وكذلك نجد هذه التضحية في الوقت أيضاً، فإن أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه لم يستطع أن يصوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان دائماً خارجاً في سبيل الله، إذا جاء من غزوة شد رحله للغزوة التي تليها، حتى توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما توفى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ما رئي بعد ذلك مفطراً إلا يوم عيد، وفي آخر عمره جلس وهو صائم، ففتح المصحف، فقرأ في سورة التوبة قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:38-41]، عندما قرأ هذه الكلمة، طبق المصحف، وقال: أي بني! جهزوني جهزوني، فقالوا: ألم تعز مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً والمشاهد كلها؟ فقال: إن أبركم بي أسرعكم لي جهازا، فخرج مجاهداً حتى لقي الله.

    التضحية بالعلاقة والقربة

    وكذلك نجد أن تضحيتهم كانت عظيمةً، حتى بعلاقاتهم وقراباتهم، فنجد زيد بن أرقم رضي الله عنه، وكان شاباً يتيماً، وكان له ابن عمٍ تزوج أمه، فكان ينفق عليه ويحسن إليه، ولكنه كان منافقاً، فسمعه يتكلم بكلام سيئ، فقال: والله لأبلغن هذا الكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه فأخبره فجاء الرجل يعتذر ويكذب زيداً ، فأنزل الله تصديقه في القرآن، فعرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذنه، وقال: أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة:12]، فهذا الرجل الذي كان أباه بعد أبيه، وأنفق عليه، وأحسن إليه، مع ذلك لم يمنعه كل هذا، أن يبلغ ما سمع منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،ـ فضحى بالعلاقة به في سبيل الله ورسوله.

    وكذلك نجد هذه التضحية حتى بأقرب الأقربين، فسعد بن أبي وقاص عندما دخل في الإسلام، أضربت أمه عن الطعام، فمكثت ثلاث ليال لا تشرب ولا تأكل، فلما كادت تموت اقترب إليها سعد فكلمها في أذنها، فقال: يا أماه! لو كان لك مائة نفس، فخرجت واحدة بعد الأخرى، على أن أرجع عن شيء من هذا الدين ما رجعت عنه، فموتي، أو احيي، فعلمت أنه جاد، فقطعت إضرابها.

    وكذلك نجد هذه التضحية لدى مصعب بن عمير رضي الله عنه، الذي كان أعز فتى في قريش، وكان من إحسان أمه إليه أنها كانت لا يدخل مكة بز، أي: ثياب جديدة، إلا كان أول من يلبس منها مصعب بن عمير ، ولا يدخل مكة طيب، إلا كان أول مستعمل له مصعب بن عمير ، فلما أسلم حاصرته أمه، وقطعت عنه كل الأرزاق، حتى ما تركت له شيئاً يلبسه، وقيدته بالحديد، وأغلقت عليه أربعة أسوار على أن يرجع عن دينه، فلم يتراجع عن شيء منه، ولم يكلمها كلمة واحدة، حتى جعل الله له فرجاً ومخرجا، فماتت أمه فتحرر من قيوده، وحمد الله على ذلك، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سفير في الإسلام إلى المدينة.

    وكذلك نجد من أمثال هؤلاء المضحين بقراباتهم وعلاقاتهم، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عندما أسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان بنو عمه من بني أمية أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أعز فتيانهم، وأنسبهم، لكنه وقف الموقف الشجاع في وجوههم، فكان إذا رأى أي شخص يضام في سبيل الله، حاول عثمان أن يدافع عنه، ولا يجرءون على ضرب عثمان ؛ لعزته في قومه، فكان يدافع عن المستضعفين من المسلمين، ويذهب إليهم، فيجعل نفسه بينهم، ويكافح عنهم وينافح.

    وهذه التضحية في سبيل الله أثر من آثار الإيمان يفقده كثير منا اليوم، فإن كثيراً منا يتمنى أن يكون سالكاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتبعاً لسنته، ولكن حين يعرض على نفسه بماذا ضحى في سبيل نصرة هذا الدين الذي آمن به، وجزم بصدقه، يجد ذلك قليل جداً، يستحي من ذكره أمام الله تعالى.

    إن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يكون إلا بالنظر إلى سنته بماذا كان ينفق وقته؟ لينظر كل واحد منا إلى أربعٍ وعشرين ساعة من عمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولينظر إلى الأعمال التي كانت تأخذ أكثر وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليعلم أنه إن أراد اتباع السنة، فليبالغ في تلك الأعمال التي كانت تأخذ الحظ الأوفر من وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن تلك الأعمال هي إعلاء كلمة الله تعالى، والجهاد في سبيله، ونصرة دينه، هذه هي الأعمال التي أخذت النصيب الأوفر من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن بعثه الله.

    1.   

    الآثار الخلقية للإيمان

    كذلك فإن من آثار هذا الإيمان حسن الخلق، فالإيمان مقتضٍ من الشخص أن يتأدب مع الله تعالى، ومع عباد الله تعالى، وأن يحرص على هدايتهم جميعاً، وأن يحرص على أن يكون سبيلاً للخير إليهم، وهذا مقتضٍ منه لحسن الخلق، وحسن الخلق أول ما يوضع في الميزان، وحسن الخلق يبدأ في حسن التعامل مع الله تعالى، والأدب في امتثال أمره، والأدب في اجتناب نهيه، والأدب في سؤاله، والأدب في تعلق القلب به، والأدب في تعليق جميع الحوائج به.. وهكذا.

    ثم بعد ذلك، الأدب مع الناس، ويبدأ بالأدب مع الوالدين وبرهما، وبحقوق كل واحد من الزوجين على الآخر، وحقوق الأولاد، والجيران، والأقارب، وكبار السن، والصغار.. وهكذا.

    فحسن الخلق أثر من آثار الإيمان، ولذلك نجد أن أشد الناس فظاظة في الجاهلية عندما يدخل الإسلام قلبه، تتغير فظاظته إلى رحمة ورأفة، فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أشد قريش فظاظة في الجاهلية، فيقول: إنه لا يأسف على شيء مثل أسفه على ثلاث بنات له، وأدهن فدفنهن حيات، وآخر واحدة منهن دفنها عندما حفر لها في الأرض وتعلق شيء من الرمل بلحيته، فكانت تنفض عنه الرمل، وهو يريد أن يميتها، ويدفنها حية وبلغ من فظاظته وشدته أنه كان يلطم أخواته على وجوههن، ويضربهن ضرباً شديداً، فلما أسلم كان يخدم جميع الناس، وكان من شدة تواضعه للناس أنه كان إذا قسم مال المسلمين بينهم، يجعل آخر ما يقسمه مال عمر وأقاربه، وكان إذا قسم بين نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حقوقهن، يبدأ بأمهات المؤمنين، ويؤخر حفصة ابنته حتى تكون آخرهن نصيباً، فإن حصل نقص، حصل في نصيبها.

    وكان يلبس مرقعةً، ولا يجد ما يلبسه من الثياب كاملاً، فكان ربما لبس مرقعةً، أي: ثوباً من ثوبين أو أكثر، رقعتان؛ لأنه كان طويلاً جسمياً، فثوب واحد من الثياب العادية لا يكفيه، فيجمع بين ثوبين، ويخيطهما فيلبس ذلك، وكان ينام تحت الشجر، ويحرس بنفسه، وخرج إلى بيت المقدس لفتحه، على بعير له، ومعه غلام له، فكان عمر يركب ويقود به الغلام، فإذا تعب الغلام، ركب الغلام وقاد به عمر حتى يتعب، وهكذا، فيتناوبان حتى وصلا إلى بيت المقدس.

    وكذلك نجد أن خالد بن الوليد الذي كان من شجعان قريش، وأَبطالهم، وفرسانهم المشاهير، عندما أسلم كان أشد الناس ليونة للمسلمين، ورقة ورأفة بهم، وأشدهم فظاظةً وشدةً على المشركين، وهذا ما وصف الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ [المائدة:54]، فهم متواضعون للمؤمنين، كل واحد منهم يقدم مصلحة المؤمنين جميعاً على مصلحته، ويحاول أن يخدمهم بكل ما يستطيع، لكن في التعامل مع الكفار على العكس من ذلك: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، وهذا الأثر يفقده كثير منا في نفسه، فكثير منا اليوم يجد في نفسه مذلة أمام الكافرين وعزة على المسلمين، يتشدد في تعامله مع المسلمين، ويتساهل في تعامله مع الفجرة، وهذا من نقص الإيمان؛ إذ التواضع للمؤمنين، والرحمة بهم، والشفقة على ضعافهم وفقرائهم من الإيمان، والشدة على الكافرين والغلظة عليهم من الإيمان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، وهذا هو ما يفقده كثير منا من آثار هذا الإيمان.

    تهذيب الإيمان للطباع والأخلاق

    ثم إن من آثار هذا الإيمان أنه يهذب الطباع والأخلاق، فكثير من الناس إذا عمل عملاً أياً كان، نظر إليه بمعيار الدنيا، ووزنه بموازين المادة، وهكذا كان أهل الجاهلية يعملون، فالأعمال عندهم كلها مقومة بنتاجها وثمرتها، وكل عمل ينظر فيه إلى ما وراءه من الأرباح المادية، لكن أهل الإيمان تهذبت غرائزهم، فلم تتعلق بهذه السفاسف، وهذه الأوساخ والقاذورات، بل كانوا يزنون الأعمال بحسب ما تؤدي إليه من قرب الله تعالى ومحبته، وكانوا ينظرون إلى الأعمال كلها على أنها تجارة مع الله، فينظرون إلى أربح الصفقات، فيبادرون إليها، وأرباح الصفقات معيارها عندما تكون أشد على النفس وأكره للشيطان، فهذه هي التي يبادرون إليها ويقومون بها أشد قيام.

    1.   

    أثر الإيمان في الاستعداد للموت

    وكذلك من آثار هذا الإيمان: أن صاحبه دائماً في استعداد للموت، ولذلك فإن اليهود عليهم لعنة الله، هم أشد الناس كراهية للموت؛ لأنهم الذين طمس الله على قلوبهم، فلا يمكن أن يدخلها الإيمان ولو آمن منهم عشرون فقط بمحمد صلى الله عليه وسلم لآمنوا جميعاً، لكنهم لا يمكن أن يؤمن منهم عشرون في وقت واحد.

    فلذلك قال الله فيهم: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، فيكرهون الموت كراهة شديدة، ويخافونه خوفاً عظيماً، ويرضون بأي حياة، حتى لو كانت حياة الذلة المسكنة، لكن أهل الإيمان يعلمون أن الموت هو مجرد انتقال من دار إلى دار، وتحول من دار أعمال إلى دار جزاء، فراحتهم تكون بعد الموت، وأما الذين ينقص الإيمان في قلوبهم، فإنهم يغفلون عن هذا فيكرهون الموت كراهة شديدة، ولذلك لا يستطيعون أن يضحوا في سبيل الله تعالى، ولا أن يبذلوا شيئاً في سبيله؛ لأنهم يخافون هذا الموت، وقد عالج الله تعالى هذا العقدة في نفوس الناس بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، ولم نأتِ إلا على القليل من آثار هذا الإيمان.

    نقف عند هذا الحد، ونستغفر الله لنا ولكم.

    والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767490055