إسلام ويب

الضوابط الشرعية لفهم الكتاب والسنة [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وقد أمر الناس بتدبره واستنباط الأحكام الشرعية منه ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعل العلماء لهذا الأمر طرقاً لاستنباط الأحكام الشرعية منه، فمن ذلك تعلم اللسان العربي بنحوه وبلاغته وغيرها، والناس في هذا الفهم والاستنباط على مراتب منه

    1.   

    فهم الكتاب والسنة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    تنوع دلالات القرآن والسنة

    فإن الله أرسل إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين مظروفاً في هذين الوحيين الثقلين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما بلسان عربي مبين، وقد نوع الله سبحانه وتعالى دلالاتهما، فكانت دلالات القرآن متباينة، منه ما هو واضح الدلالة، ومنه ما هو خفي الدلالة، وواضح الدلالة منه ما هو محكم، ومنه ما هو مفسر، ومنه ما هو مبين، ومنه ما هو ظاهر، ومنه ما هو نص، وخفي الدلالة منه ما هو مجمل، ومنه ما هو مشكل، ومنه ما هو خفي، ومنه ما هو متشابه.

    وكذلك في صيغ الأمر والنهي جاءت دلالات القرآن مختلفة، فدل على الأمر تارة بصيغة (افعل) وتارة بصيغة (لتفعل)، وتارة بصيغة المضارع المجرد كقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ[البقرة:233].

    وكذلك على صيغة النهي دل عليها تارة بـ (لا تفعل)، وتارة بالأمر بالترك، وتارة بالتحذير من فعل ما، وتارة بالأمر بالمنهي عنه للتهديد! فكل هذه صيغ تدل على النهي.

    وكذلك في الدلالات الخبرية جاء القرآن والسنة في القصص بدلالات متباينة يكمل بعضها بعضاً ويفسره ويتممه، فعندما يقص الله علينا قصة في موضع من كتابه، جلبت للاستدلال على أمر أو لعبرةٍ ودرس في أمر معين، فإنه يطوي منها ما لا يتناسب مع ذلك الموقع، وينشره في مكان آخر في كتابه عندما تأتي المناسبة لها، وهذا من إعجاز القرآن.

    ومثل هذا في الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يتكلم في أمر فيتقيد في حديثه باعتبار الحاضرين أو باعتبار الزمان، أو باعتبار المكان، فيفصله في بعض الأحيان ويختصره في بعضها، وكل ذلك بهذه الاعتبارات السالفة، ولا تناقض ولا اختلاف بين شيء من هذه الدلالات ولا بين شيء من هذه الألفاظ، بل القرآن كله محكم، أي: أنه كله محكم متقن، ومعجز في صنعته وفي ترتيبه وفي تشريعه، وهو كله متشابه، بمعنى: أن بعضه يصدق بعضاً ويفسره، ولهذا قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ[هود:1].

    وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً[الزمر:23].

    أفهام الناس في القرآن والسنة

    ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الناس في حيال فعل هذا الكتاب والسنة بين طرفين: فالطرف الأدنى هم الذين لا يفقهون هذه الدلالات ولا يستوعبونها، فهؤلاء حظهم منها سؤال أهل العلم لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]. والطرف الأعلى هم الذين يستطيعون الاستنباط من هذه الدلالات، ويعرفون ما وراء الألفاظ بقوة فهمهم الذي أودعهم الله، وبما درسوه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلوم الخادمة لهما، وهؤلاء هم الذي قال الله فيهم: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، فهؤلاء هم الذين يستنبطونه والله تعالى لم يقل: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه جميعاً، وإنما أحال علمه حينئذٍ إلى الذين يستنبطونه منهم.

    ولا شك أن بين هذين الطرفين وسائط كثيرة، وهذه الوسائط هي التي يدور حولها الإشكال، ويكثر فيها البحث والمناورات، أما الطرفان في الغالب فلا خفاء فيهما، فمن بلغ رتبة الاجتهاد المطلق أو رتبة الاجتهاد فيما دون ذلك، لا خفاء ولا إشكال في استنباطه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان كذلك لا يفهم النصوص العربية ليس من أهل اللغة العربية، ولا يستوعب أي خطاب منها، فلا جرم أن يسأل أهل العلم: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]، ولا إشكال حينئذٍ في تصديقه لمن يثق فيه من أهل العلم، لكن الإشكال فيما بين هاتين الواسطتين، وهو الذي سنحاول التعرض لضوابط فهمه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    تفاوت الناس في الأفهام

    إن هذا الكتاب وهذه السنة لم ينزلا لجيل واحد من الناس، ولم يختص الله بهما أهل الاستنباط فقط، وإنما أنزلهما للجميع، لكن جعل حظوظ الناس وأرزاقهم من فهمهما متفاوتة كتفاوت الحظوظ والأرزاق كلها، فالله تعالى هو المدبر الحي القيوم الخالق الرازق، يقسم ما شاء لمن شاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

    يجعل بعض الناس قادراً على الفهم والاستنباط والاستيعاب، ومع ذلك يخفي عليه بعض القضايا السهلة، ليعلم أنه ناقص قاصر: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[الإسراء:85].

    ومن هنا فإن العلم من الصفات المشككة مثل الفهم، والصفات المشككة هي التي لا يتساوى فيها أفرادها كالبياض والسواد والطول والقصر ونحو ذلك، فليس الأفراد على درجة واحدة فيها، وضدها الصفات المتواطئة وهي الصفات التي يستوي فيها جميع الأفراد التي يتصفون بها، كصفة الحدوث، فكل الأشياء تستوي في هذه الصفة، وكصفة المخلوقية، فكل الناس مخلوقون لله تعالى يستوي في ذلك آدم ومن دونه، فهذه هي الصفات المتواطئة وهي ضد الصفات المشككة.

    أما الصفات المشككة فمنها العلم والفهم، والعلم جعله الله تعالى من دخائره والفضائل التي يقسمها لمن شاء من عباده، وجعله من أقاصي إنعامه على خلقه، ومن دقائق ألطافه بعباده.

    درجات الناس في العلوم الشرعية

    فمن فضله على عباده أن علمهم مالم يكونوا يعلمون، ولهذا قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[العلق:3-5]، وقال تعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[الرحمن:3-4]، وقال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ[النحل:78]، وقال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10]، فهذا تعليم الله تعالى لخلقه وامتنانه عليهم بذلك، ولكنه مع هذا لا يمكن أن يعلم أحداً من عباده جميع العلم؛ لأن العلم الحقيقي صفة الله، والله مخالف للحوادث، فلو طلب عالم لا يجهل شيئاً لا يمكن أن يتحقق هذا إلا في الله وحده، فكل من دونه لا بد أن يكون جاهلاً لبعض الأشياء، ولهذا قال الله تعالى لبني إسرائيل بعد أن أعجبوا لما علمهم من العلم في التوراة، قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[الإسراء:85]، فالذي آتاهم من العلم لا يساوي شيئاً من خزائن علم الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن أهل العلم قالوا: إن العلم ثلاثة أشبار:

    الشبر الأول: من ناله تكبر وظن أنه أحاط علماً من كل شيء.

    والشبر الثاني: من ناله تواضع وعرف أنه جهل كثيراً من الأشياء.

    والشبر الثالث: لا يصله أحد.

    ومن هنا فإن المتعالمين أصحاب الشبر الأول يكثرون في آخر الزمان الذي يرفع فيه العلم، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه ذكر فتناً بين يدي الساعة يرفع فيها العلم ويظهر الجهل، ويكثر فيها النساء ويقل الرجال، وإنكم اليوم في آخر أزمنة هذه الأمة، لا تنتظرون إلا أن يصابحكم الدجال أو أن يماسيك )، في آخر الأمم وأنتم تستشعرون أن هذه الفتن صدق حاصلة لا محالة، وهي واقعة فيكم، فاستعينوا الله عليه واحذروها، واعلموا أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرج عنه البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالاً )، وفي رواية: ( رءوساً جهالاً فاستفتوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).

    فسيرفع هذا العلم ولن يبقى إلا هؤلاء الرؤساء الذين يقلدهم الناس ويسألونهم فيضلون ويضلون، يضلون بأنفسهم حين يتكلمون بما لا يحيطون به علماً، حين يتجرؤون على التوقيع عن رب العالمين بما لا يعرفون، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فهذا من أكبر الكبائر، وكذلك قال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً[الإسراء:36].

    1.   

    شروط تحقق الاستفادة من دلالات الوحي

    من هنا فإن أول ما ينبغي أن يستحضره الإنسان في مجال فهم الكتاب والسنة، أن يعلم أن فهمهما ينطبق على نوعين من أنواع العلم:

    النوع الأول: فهم طرق دلالاتهما على الأحكام، وهذا النوع هو علم الأدلة.

    النوع الثاني: علم حال المستفيد ليعرف مقامه هو، وفي أي المستويات، ومن أين يبدأ وإلى أين يقف.

    فحال المستفيد مهم جداً في معرفة دلالة الكتاب والسنة، والمستفيد لا يكون إلا مؤمناً أولاً، فهذا الشرط الأول الذي تستوي فيه جميع الطبقات، فالكفار والمنافقون لا يزيدهم هذا القرآن إلا ضلالاً، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً[الإسراء:9]، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً[الإسراء:10]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً[الإسراء:82].

    فيزيد الظالمين خساراً لإقامة الحجة عليهم، ولأنه يلعنهم على ألسنتهم، وهو إما شافع مشفع وإما ماحن مصدق، فلذلك الشرط الأول من شروط فهمه أن يكون الإنسان مؤمناً به، وهذا الشرط يقتضي الأدب معه، فإن كثيراً من الناس يتجرأ على كتاب الله، ويهجم عليه دون أن يكون مسلماً بكل ما فيه، ودون أن يكون منطلقاً من قاعدة التسليم، فأول شيء تتعامل به مع كتاب الله تنطلق من قاعدة التسليم أنك جاهل، وأنه هو كلام الله، وأنك تريد أن تتعلم منه كما أمر الله، وتريد أن تتدبر، والتدبر الذي أمرك الله به في قوله: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29]، وفي قوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24]، فتنطلق أولاً من قاعدة التسليم بأن كل ما فيه حق، وأن ما قصرت أنت عنه من الفهم، فليس ذلك لعيب في القرآن، وإنما هو لعيب فيك.

    إن كثيراً من الناس يتجاسرون على التدبر دون أن ينطلقوا من قاعدة التسليم، فتجدهم يضربون بعض النصوص ببعض، وتختلف عليهم فيكون هذا مثار الشبهة، نسأل الله السلامة والعافية.

    ومن هنا يفتنون عن كتاب الله، فشبهة واحدة في فهم كتاب الله قد تحول بين الإنسان وكثير من طاعات الله وعباداته، وتصده عن التقرب إلى الله سبحانه وتعالى زماناً، نسأل الله السلامة والعافية.

    معرفة لغة العرب

    الشرط الثاني: بعد الانطلاق من قاعدة التسليم التي هي من الإيمان به، أن يكون الإنسان عارفاً بأوليات هذه اللغة العربية، فهذه اللغة هي التي بها أنزل القرآن وبها تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، والجاهل بأولياتها الذي لا يستطيع الخطاب ولا يحسن الإجابة بها، لا يمكن أن يتدبر ويتفهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك ضرب من العبث، والعبث قد اختلف في حكمه، فقد ذكر خليل رحمه الله كراهة العبث في الصلاة باللحية، فعد من المكروهات: وعبث بلحية أو غيرها، وانتقده كثير من الفقهاء فقالوا: بل العبث حرام.

    ومن الذين ذكروا حرمة العبث المواق رحمه الله تعالى في باب الوديعة من شرح مختصر خليل حيث ذكر أن الاشتغال بطلب العلم في حق العاجز عن ذلك عبث، وهو حرام فكيف يثاب عليه.

    والواقع أنه لا منافاة بين الأمرين، فمن العبث ما هو حرام ومنه ما هو مكروه؛ لأن كله إضاعة للوقت والعمر وإفساد لجهد ليس الإنسان مالكاً له، وإنما هو ملك لله سبحانه وتعالى، والإنسان فيه مأمور أن يصرفه فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وهو نعمة عليه لا بد أن يشكرها.

    1.   

    مستويات ودرجات فهم اللغة العربية

    ثم إن تعلم هذه اللغة أيضاً على درجات متفاوتة، فلا يجب على كل فرد من الأفراد أن يقرأ مثلاً محتوى كتاب سيبويه أو شرح المفصل لـابن يعيش أو شروح التسهيل لـابن مالك مثلاً، فهذه أمور لا تجب على أفراد الأمة وإن كانت تجب كفاية، لا بد أن يكون في الأمة من يستوعب هذا المستوى من فهم اللغة وإتقانه جزيئاته، ولكن ذلك لا يجب على الأفراد.

    فهم الخطاب وإتقان الإجابة

    أما أدنى المستويات فهو فهم الخطاب وإتقان إجابته، فهذا المستوى مختلف في حكمه بين الناس، فمن قدر عليه فالراجح أنه يندب له، وقالت طائفة: يجب عليه، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في المسجد الحرام فسمع رجلين يتحدثان بالفارسية، فانتهرهما وقال: ابغيا إلى العربية سبيلاً. ولا يحرم الكلام في أي لسان في أي مكان، ولكن مقصوده بذلك أنهما لا يمكن أن يتفقها ولا أن يتفهما في الدين ولا أن يتدبرا القرآن إلا إذا فهما الخطاب بالعربية واستطاع إجابته، وهذا أقل المستويات.

    وهذا القدر القليل الواجب أو المندوب على الأقل إنما يتأتى بأحد أمرين:

    إما عن طريق الدراسة، وإما عن طريق خلطة أهل اللغة والتحدث إليهم، ولا يغني فيه مجرد الكلام باللهجات العامية؛ لأن هذه اللهجات منحولة، وكثيراً ما تؤدي بالإنسان إلى سوء فهم كتاب الله، وقد لاحظت أن بعض الأفراد سبب خطئه في فهم كتاب الله اقتناعهم باللهجة العامية، فقد سألني أحد العوام عن قول الله تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا[الحج:72]، قال: (وعدها الله) كيف يكون هذا؟ لأنه يفهم اللهجة أن وعدها بمعنى: ذهب إليها، فهذا انطلاق من لهجة عامية، لا يليق بمن يريد التدبر في كتاب الله والتفهم فيه.

    ومن نوادر معلم الصبيان أن رجلاً في هذا البلد في هذه العاصمة، كان يعلم ولداً القرآن، فسأله: من أبو عيسى بن مريم فضربه ضرباً شديداً، وقال: كل يوم أحفظك قول الله تعالى: وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[آل عمران:36]، فأثرت عليه اللهجة فلم يستطيع استيعاب هذا الكلام، فاقتطع هذه القطعة وظنها أنها جملة مستقلة؛ لأنه لا يعلم أن المبتدأ لا بد أن يكون مرفوعاً، ونظير هذا كثير لو تتبعنا أمثلته لكثرت.

    فهذا المستوى إذاً هو أقل مطلوب أن يتقن الإنسان فهم الخطاب وإزالته باللغة العربية، ولا ينافي ذلك اللحن، بل قد يكون لحاناً، ومع هذا يستطيع التدبر في كتاب الله والتفهم فيه، فهذا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان وهو الذي تضاعفت في أيامه رقعة الإسلام لكثرة فتوحه واشتغاله بالجهاد في سبيل الله كان لحّاناً، وقد أتاه رجل من الأعراب فأراد أن يقضي حاجته ويلاطفه ويلاينه، فسأله فقال: من جاء معك من باديتك؟ قال: ختني؟ فقال: ومن خَتَنَك؟ يقصد ومن ختنُك؟ فقال: سبحان الله حجام كان معنا في البادية، فقال له عمر بن عبد العزيز : الأمير يقصد من ختنُك؟ فعرفه عليه فقال: وما شأنَك؟ يقصد وما شأنُك؟ فقال الأعرابي: عور في عيني وفدع في رسغي فهذا الذي شانه، فقال له عمر بن عبد العزيز : الأمير يريد وما شأنُك؟

    ولهذا فإن هذا النوع من فساد الألسنة هو الذي اقتضى بالصحابة رضوان الله عليهم أن يفكروا في طريقة صيانة هذه اللغة حتى يحفظ بذلك فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيروى أن أبا الأسود الدؤلي رحمه الله وهو من كبار التابعين، كان يوماً بالكوفة وكان يوم قائظاً صائفاً، فدخلت عليه ابنته فقالت: يا أبت ما أشدُّ الحرِ؟ قال: أيام ناجر. قالت: أنا متعجبة لا مستفهمة! فقال: لو كنت متعجبة لقلت: ما أشد الحرَ، فهنا سأل علياً رضي الله عنه أن يتدارك اللغة العربية، وأن يضع لها قواعد تمنع الناس مثل هذا الغلط.

    ويروى أيضاً أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات يوم بالمدينة فرأى صبياناً يرمون هدفاً فيخطؤون في الرماية، فشق ذلك عليه؛ لأنه يريد أن يكون أولاد المسلمين رماة أهل قوة وشجاعة، فلما شق ذلك عليه قالوا: يا أمير المؤمنين! نحن متعلمين، فقال: لخطأكم في ألسنتكم أشد علي من خطئكم بأيديكم! يقصدون نحن متعلمون.

    وكذلك يقال: إن علياً رضي الله عنه بينما هو في مجلس قضائه إذا دخل عليه رجلان يريدان قسم تركة، فقال أحدهما: مات أبينا وترك أبانا حماراً ! فوضع أصل قواعد النحو وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم كلام العرب على ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما دل على حركة المسمى، والحرف ما دل على معنى غير ذلك، وسلمها لـأبي الأسود الدؤلي وقال: انحُ هذا النحو يا أبا الأسود .

    فهم أساليب اللغة المختلفة

    المستوى الذي هو أسمى من هذا وأعلى هو أن يستطيع الإنسان فهم أساليب اللغة المختلفة، فيعرف أن في اللغة حقيقة وفيها مجازاً، وفيها تصريحاً وفيها كناية، وهذا المستوى يمكن الإنسان من أن يعرف على الأقل الفرق بين ما تعارض وما اتفق، علم الدلالات، وهذا المستوى يزيد على ما سبق وهو معرفة مبادئ النحو لمعرفة مبادئ البلاغة.

    والفرق بين النحو والبلاغة هنا في هذا الباب في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: أن النحو يعرف به الإنسان مواقع المفردات من الكلام، ولكنه لا يستطيع التمييز بين الأساليب، فلا يعرف لماذا كانت هذا الجملة اسمية ولم كانت هذه فعلية؟ ولا يعرف لماذا أتي هنا بالاسم الظاهر وهنا بالضمير، ولا يعرف لماذا استعمل هنا اسم الإشارة وهنا الموصول، لكنه بالبلاغة يعرف ذلك.

    تعلم أصول الفقه

    المستوى الذي هو أسمى من هذا هو المستوى الذي يستطيع الإنسان به التمييز بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، ويعرف به أوجه التعارض والجمع، ويعرف به مقتضيات الألفاظ عند تفاوتها، كالتخصيص، والمجاز، والنقل، والاشتراك، والنسخ، وهذا المستوى هو الذي يدرس في أصول الفقه، والإنسان محتاج إليه في استنباطه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يعرف هذا لا يمكن أن يميز بين العام والخاص؛ لأن العام هو لفظ يتناول الصالح له من غير حصر دفعة واحدة، بخلاف المطلق فهو لفظ يتناول الصالح له من غير حصر على سبيل البدلية، فمثلاً جاء رجل، هذا اللفظ مطلق وليس عاماً؛ لأنه لا يمكن أن يدل على كل من في المسجد من الرجال دفعة واحدة، ولكنه يصدق على كل واحد منهم لو خرج من الباب للتدريس، أما العام فلو قلنا: الرجال فهذا اللفظ يتناول جميع من في علم الله من الرجال، فإذاً هذا الفرق بين المطلق والعام، وكذلك الفرق بين المقيد والمخصص.

    إذا استطاع الإنسان أن يصل إلى هذا المستوى ذهب عنه التقليد، وكان مخاطباً مباشرة ًبأن يتفهم في الكتاب والسنة، وأن يأخذ الأحكام منهما، وهذا أمر سهل جداً للغاية، فيمكن أن يصل الإنسان إلى هذا المستوى من العلم بشهر واحد من التعلم، دراسة في شهر واحد يستطيع أن يميز بين الاسم والفعل والحرف، وبين المرفوع والمنصوب والمجرور، ويميز بها طرق تركيب الجمل، ويميز بها بين أنواع الدلالات من الناحية البلاغية، ويميز بها بين مفردات الألفاظ عند الأصوليين، شهر واحد يخرج بالإنسان عن طور الابتداء والتقليد إلى طور التبصر والتدبر، لكن ينبغي هنا أن نعلم أنه إذا جاءته آية فهم دلالتها، وعرف أن الصيغة التي فيها تقتضي أمراً أو نهياً ولم يجد في الكتاب آية أخرى تعارضها، فحينئذٍ لا يحل له أن يقلد أحداً ولا أن يشاوره، كيف تشاور إنساناً وقد جاءتك موعظة من ربك: افعل كذا، فتقول: حتى أستشير فلاناً من الناس، فهذا لا يمكن أن يكون.

    معرفة علوم الحديث

    وكذلك لو جاءه حديث عرف معناه وفهمه، ويزيد الحديث ضابطاً آخر على الكتاب، وهو البحث في إسناده والحكم عليه بالصحة أو الحُسن حتى يعرف هل هو مقبول أو مردود، ولا يلزم التفصيل بين الصحيح والحسن ولا بين أنواع الصحيح ولا بين أنواع الحَسن، المهم أن يميز الإنسان بين المقبول والمردود فقط ويكفيه هذا، لكي يخرج من طور الابتداء والتقليد المطلق.

    إذا كان يعرف أن هذا الحديث عموماً من حيز المقبول لا من حيز المردود، فإنه غير معذور إذا فهم دلالته وجاءه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل كذا فيقول: حتى أستشير أو حتى أسأل فلاناً، فهذا غاية الجهل؛ لأن الرسول واحد هو المرسل إليك من ربك، وقد شرط الله على النبيين السابقين وأممهم أن يتبعوه إذا أمر، فكيف لا يكون هذا الشرط على أمته: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ[آل عمران:81] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[آل عمران:82] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:83].

    فهنا إذا كان العهد قد أخذ على الأمم السابقة وعلى الرسل الذين اصطفاهم الله برسالاته وشرفهم بكلامه على أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكيف لا ينطبق هذا على أمته الذين يرجون أن يحشروا تحت لوائه، وأن يبعثوا في زمرته يوم القيامة وهم أولى باتباعه، وأولى بتصديق ما أخبر به والأخذ بكل ما جاءهم عنه، وقد قامت عليهم الحجة أكثر ممن سواهم.

    معرفة الناسخ والمنسوخ

    ثم بعد هذا نصل إلى مستوى آخر في تدبر الكتاب والسنة، وهو مستوى يستطيع الإنسان به التمييز بين الناسخ والمنسوخ منهما، والعمل عند التعارض، وهذا المستوى لأهل العلم، فهم الذين يستطيعون الحكم بنسخ حديث أو آية، وهم الذين يستطيعون كذلك إثبات التعارض بين الخبرين أو بين الآيتين مع أنه لا تعارض بين قطعيين ولا بين قطعي وظني، وإنما يمكن التعارض بين ظنيين فقط، والقطعية إنما تأتي من قبل الجهتين: من جهة الدلالة، ومن جهة الثبوت، فقطعي الدلالة والثبوت هو آيات القرآن الواضحة المعنى، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواضحة المعنى المتواترة أو الصحيحة إسناداً، فهذه لا يمكن أن يقع التعارض بينها أبداً بالأسماء، لكن قطعي الورود ظني الدلالة مثل الآيات التي دلالتها غير واضحة، أو الأحاديث الصحيحة التي دلالتها غير واضحة، فهذا مما يمكن التعارض بينه، والتعارض بينه يكون إشكالاً على بعض الناس، فيحل لهم بعضهم هذا الإشكال، ومن هنا فمن حكمة الله أن يحتاج بعض الناس إلى بعض حتى في تدبر كتاب الله، ومن هنا فاوتهم فجعلهم درجات متباينة، يكتب لبعضهم من فهم كتابه ما حبسه عن غيره.

    وقد ذكرنا قول العلامة محمد بن مثالي بن متالي رحمه الله:

    وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

    فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

    لا يفهم الواضحات فتخفى عليه، وهنا يحتاج إلى من يفهمه فيسأل عنها، ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة النحل حتى بلغ قول الله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ[النحل:47] فاستشكل قوله: (على تخوف)، كان عمر وهو الخليفة لا يستحيي أن يسأل الناس عما جهل من دين الله، فسأل الناس في المسجد: من يعرف معنى التخوف؟ فجاء رجل من هذيل فقال: يا أمير المؤمنين! هذه لغتنا، فمعناها أخذ الشيء بالتدريج والتقسيط، وأنشده قول الشاعر:

    كما تخوف عود النبعة السفن

    وكذلك فإنه بينما هو في مجلسه أتته امرأة من اليمن، فقالت: يا أمير المؤمنين!

    إن بعلي عبد حقي وترك الوصيد رهوا

    ولي عليه مهيمن فهل لي عليه من مسيطر

    فالتفت إلى الحاضرين، فقال: من فهم منكم كلام هذه المرأة؟ فقال ابن عباس : كلمات كلهن في كتاب الله يا أمير المؤمنين، فقال: هات ما عندك فقال: إن بعلي: معناه إن زوجي والله تعالى يقول: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً[هود:72]، (عبد حقي): بمعنى تركه واضاعه، والله تعالى يقول: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ[الزخرف:81]، بمعنى: التاركين لعبادته، (وترك الوصيد): الوصيد الباب، وفي القرآن يقول الله تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ[الكهف:18]، رهواً أي: مفتوحاً: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ[الدخان:24]، (ولي عليه مهيمن): أي شاهد لقول الله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ[المائدة:48]، فهل لي عليه مسيطر: أي حاكم لقول الله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[الغاشية:22].

    فلم يجعل هذا عمر غير مجتهد في دين الله ولا غير مستوعب لدلالات كتاب الله، ولكن الله تعالى يختص من شاء من هذا العلم بما شاء، وهذا المستوى من مستوى الدلالات هو ما ذكرناه من قبل من استيعاب اللغة وحفظ مجامعها الكبرى، وقد ذكرنا أنه من فروض الكفايات ولا يجب على الأعيان، ولا يمنع جهله من تدبر القرآن والسنة ولا أخذ الأحكام منهما.

    إن هذا التفاوت في فهم الدلالات هو الذي جعل كثيراً من الناس يغلطون فيظنون أن المطلوب في فهم الكتاب والسنة أعلى المستويات في اللغة، فيقولون لمن رأوه يحاول التدبر والتفهم في كتاب الله: لست أهلاً لهذا فاتركه، وهذا غلط فادح؛ لأنه ليس عليه أي برهان من الله سبحانه وتعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله الجميع بتدبر القرآن.

    1.   

    مراتب تفسير القرآن الكريم

    وسأذكر مراتب التدبر إن شاء الله تعالى، ومن هنا يتبين لنا مراتب التفسير، والقرآن نفسه في التفسير على أنواع:

    التفسير للناطقين باللغة العربية

    النوع الأول: هو ما يعرف تفسيره كل ناطق باللغة العربية، وهذا مثل قول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1]، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ[محمد:19] ، كل ناطق باللغة العربية يفهم تفسير هذا، ويحل له أن يعمل بمقتضى فهم هذا النوع، أَقِيمُوا الصَّلاةَ[المزمل:20]، وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى[الإسراء:32]، فهذا النوع من الآيات لا يحل التقليد لمن ينطق باللغة العربية، فيأخذه مباشرة من كتاب الله ولا يتقيد بأي شيء آخر، ونظير هذا من الحديث كثير أيضاً.

    التفسير لأهل غريب اللغة

    النوع الثاني: ما يختص به من كان عارفاً بغريب اللغة، أي: الذي يعرف دلالات الغريب فقط: وهذا مثل قول الله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:50-51]، فليس كل الناطقين بالعربية يفهمون معنى القسورة، ومثل كذلك: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً[عبس:31]، فليس كل ناطق بالعربية يفهم معناها، فهذا يختص بأهل اللغة، وهذا المرجع فيه ليس كتب الشريعة، إنما الكتب فيه كتب الغريب مثل من لديه القاموس أو اللسان، أو كتب المعاجم يستطيع تفسير هذا النوع من القرآن، وليس مطالباً بأكثر من ذلك؛ لأن الرجوع في هذا إلى معاجم اللغة.

    التفسير لأهل المعرفة بالنحو والبلاغة والأصول

    النوع الثالث من أنواع القرآن: هو ما يختص به أهل التدبر والتفهم، وهم العارفون لأقل مستويات النحو وأقل مستويات البلاغة وأقل مستويات الأصول، وذلك من مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، فظاهر هذه الآية يمكن أن يتفهمه كل أحد، لكن إذا أتينا إلى مستوى الاستنباط وأخذ الأحكام منها سيقف حمار الشيخ في العقبة، سنقف عند أول كلمة منها إذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ[المائدة:6] إذا ظرف للمستقبل، فهل هو متصل بالفعل أو غير متصل به، هذا يحتاج إلى استنباط، ( قمتم) فعل ماض ٍوهو يقتضي أن يكون القيام قد حصل، وهذا في المستقبل لأن (إذا) ظرف للاستقبال، فإذا اجتمع المستقبل والماضي ما دلالتهما؟ ومتى يكون ذلك؟ وما معنى قمتم؟ هل معناها أردتم القيام أو معناه: إذا وقفتم في الصف؟ إذا قمتم إلى الصلاة: هل هذا على كل قائم للصلاة أو يختص به من لم يكن على طهارة ؟(إلى الصلاة) هل المقصود بها الفرائض فقط أم تشمل النوافل؟ وهل يدخل في ذلك مجرد سجود التلاوة وسجود الشكر والزلزلة؟ وهل الصلاة على الجنائز داخلة في ذلك وليس في ذلك ركوع ولا سجود؟ هذا يختص بأهل الاستنباط.

    وكذلك قوله: (فاغسلوا) ما معنى فاغسلوا؟ هل هو مجرد إيصال الماء إلى العضو أو يحتاج إلى دلك؟

    وكذلك قوله: (وجوهكم) هل المقصود بالوجه ما يتناول المضمضة والاستنشاق والاستنثار، أو كذلك غسل داخل العينين، أو المقصود به ظاهر الوجه فقط؟ وهذا محل استنباط وبحث، وهكذا في بقية الآية.

    التفسير لأهل الرسوخ في العلم

    النوع الرابع من أنواع القرآن: ما يختص بفهمه أهل الرسوخ في العلم الذين جمعوا علوماً شتى، واستطاعوا التنويع في المعارف، وهؤلاء قلائل جداً؛ لأنه لا يصدق هذا الوصف إلا على من أجاد ثمانية وعشرين علماً، وهذا مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[المائدة:106-108]، هذه الآية يقول ابن العربي في أحكام القرآن: هي أشكل آية في كتاب الله، ومقصوده بذلك أنها ليست على مستوى العوام، ولا على مستوى المبتدئين في طلب العلم، لكن ليس شيء من القرآن مشكل بالكلية، بمعنى: ألا يعرفه أحد، وبالأخص آيات الأحكام، فإن آيات الأحكام منزلة للتطبيق، ومن هنا قال القرطبي في تفسيره رداً على ابن العربي : بل هي من واضح القرآن ولله الحمد، وذكر بيانها.

    التفسير المتعلق بمتشابه القرآن

    النوع الخامس من أنواع القرآن فيما يتعلق بالتفسير: هو المتشابه، وهذا منه ما استأثر الله بعلمه ولا ينبغي الخوض فيه، مثل: فواتح السور (الم - المص - الر - المر- كهيعص - حم - حم عسق)، ونحو هذا، فهذا استأثر الله بعلمه وهو إعجاز وتقريع للناس ومنع أن يأتي أحد بمثل هذا القرآن.

    ومن مظاهر إعجازه أن أهل اللغة وأهل البيان حين أنزل عليهم لم يرتابوا فيه ولم يستشكلوه ولم يسألوا عنه، فلم يأتِ أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يشرح له: ( حم- عسق- أو كهيعص)، بل سكت عليه أهل اللغة مع حرص هؤلاء الجبابرة من قريش على أن يجدوا أي تناقض في القرآن أو أي اختلاف فيه، أعجزهم هذا فسكتوا.

    أثر الزمن في فهم بعض متشابه القرآن

    ومنه ما يدخر لبعض الناس دون بعض أو في وقت دون وقت، فمن المتشابه ما يزول عنه التشابه بالزمن؛ فيكون متشابهاً في فترة تاريخية ثم يزول عنه التشابه، وذلك أن هذا القرآن غير منزل للصحابة وحدهم، ولا للتابعين وحدهم، ولا لأي عصر من العصور، بل هو منزل لكل هذه العصور، يأخذ منه كل عصر حظه، ويبقى القرآن بعد ذلك كيوم أنزل.

    ولهذا فإن الشافعي رحمه الله قال في تفسير قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً[النساء:115]، قال: الآن انجلت، هذه الآية كانت متشابهة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس للمؤمنين سبيل إلا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عطف سبيل المؤمنين على ما جاء به، والعطف يقتضي المغايرة، فكانت مشكلة من المتشابه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم زال عنها التشابه في أيام الشافعي ، فعرف أن سبيل المؤمنين هو الإجماع، والإجماع غير معتبر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إما أن يوافقهم وإما أن يخالفهم، فإن خالفهم فإجماعهم فاسد الاعتبار لمخالفته للنص، وإن وافقهم فالعبرة بقوله لا بقولهم.

    لكن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أصبح إجماع المسلمين حجة وهو سبيل المؤمنين.

    ونظير هذا قول الله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ[النحل:8-9] (ويخلق ما لا تعلمون) جاء بصيغة الفعل المضارع المقتضي للاستقبال، وذلك في عد المراكب والامتنان بها، وقد انجلى لنا اليوم من ذلك السيارات والطائرات والمراكب الفضائية وغيرها من أنواع ما يركبه الناس، وربما ينجلي لمن وراءنا ما هو أكثر من ذلك.

    وكذلك قوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ[النحل:9]، كان هذا مشكلاً أيضاً حتى عرفت الرادارات التي يقع بها تقويم سير الطائرات والسفن في البحر، وهي تسير وفق خطوط مائلة غير معتدلة، ولكن تقويم سيرها إنما يتم بواسطة الرادارات التي تحدد مسارها، وربما انجلى ما هو أكثر من هذا وأبين.

    ومما انجلى في أيام النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل عليه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً[الفتح:27] فقالوا: أو فتح هو؟ واستشكلوا ذلك غاية الاستشكال، واستعظم ذلك المشركون لأنهم صدوه عام الحديبية، فلما كان من العام القابل أخرجهم الله صاغرين، فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء، ودخلوا مكة ثلاثاً لا يضايقهم فيها مشرك، وحقق الله لهم وعده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على الصفا رفع صوته بهذا التشهد حتى سمعه المشركون: ( لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله حقاً حقاً تعبدا ًورقاً )، فحقق الله ما وعد، ولهذا كان ابن رواحة رضي الله عنه يرتجز بين يديه فيقول:

    خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله

    واليوم نضربكم على تأويله

    فقد قاتلوا عن هذا القرآن قبل أن يفهموه، قاتلوا على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله، وتأويله: معناه خروجه للعيان، وبرزه وانجلاء معناه، ولهذا قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ[يونس:39] ولما: لنفي الماضي المنقطع، معناه وسيأتيه تأويله وقد تحقق ذلك.

    وضوح المتشابه لبعض الناس دون الآخرين

    كذلك فإن من هذا المتشابه ما يكون واضحاً لدى بعض الناس وخفي لدى بعض، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل فواتح السور وهي من المتشابه خفي، قال: أنا من الراسخين في العلم الذين يعرفون تأويله، وهذا أخذ منه بشطر الخلاف، فإن الله سبحانه وتعالى قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[آل عمران:7].

    وقد اختلف في تفسير هذه الآية وفي محل الوقف منها، فذهب جمهور أهل التفسير إلى أن محل الوقف في الآية هو وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7]، فيكون قوله: (والراسخون في العلم) مبتدأً وهو من عطف الجملة على الجملة، وقال آخرون: بل( الراسخون في العلم) اسم معطوف على الله، معناه: وما يعلم تأويله والراسخون في العلم، فيكون الوقف على العلم.

    لكن القول الأول أرجح؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا تقسيماً، والتقسيم لا بد فيه من طرفين على الأقل، والطرف الأول بارز واضح، وهو قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ[آل عمران:7]، والطرف الثاني غير بارز فلا يمكن أن يكون إلا قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7]، فيكون المعنى على هذا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ[آل عمران:7] وأما: ((َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) فـ: يُقولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[آل عمران:7]، فيكون هذا قسيماً للقسم السابق لا عطفاً على اسم الجلالة، وهذا الوجه هو أرجح في التفسير؛ لأن أما تقتضي التقسيم:

    أما بفتح الهمز والتشديد للشرط والتقسيم والتأكيد

    فهي لتفصيل المذكور.

    نكتفي بهذا القدر، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755999418