إسلام ويب

أحكام الجهادللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجهاد في الإسلام متنوع إلى أنواع ومراتب، وأول أنواعه جهاد النفس ثم جهاد الشيطان ثم جهاد الكفار ثم جهاد المنافقين، وقد بين أهل العلم مراتب هذه الأنواع، كما بين فقهاء الإسلام ما يتعلق بجهاد الكفار من أحكام سواء من حيث الوجوب وعدمه، والتصرفات المشروعة والممنوعة وغيرها.

    1.   

    معنى الجهاد وحكمه

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده من أنفسهم, وقد شرع الدين لمصالح العباد, فما من مصلحة إلا جاء الدين يكفلها ويضمنها, فما عرف الناس مصلحته وأثره فإن مصلحته دنيوية, وما جهلوا مصلحته وأثره فإنه مصلحته أخروية, ولذلك يقسم المتشرعون والدارسون لعلوم الشريعة أحكام الشرع إلى قسمين: أحكام تعليلية, وأحكام تعبدية, فالأحكام التعليلية: ما كانت مصلحته دنيوية, والأحكام التعبدية: ما كانت مصلحته أخروية.

    والأصل في الأحكام الأخروية -أي: التي مصلحتها أخروية- أن لا يدرك العقل مصالحها وحكمها, فالعقل لا يمكن أن يستوعب لماذا أوجب الله لطلوع الفجر صلاة ركعتين, ولزوال الشمس أربع ركعات, ولدلوكها أربع ركعات, ولغروبها ثلاث ركعات, ولغرب شفقها أربع ركعات, فهذا لا يمكن أن يصل إليه العقل؛ لكنه يدرك ما مصلحته دنيوية, كتحريم الربا, والسرقة, والزنا, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, ونحو ذلك من الأحكام التي مصلحتها دنيوية.

    والجهاد هو مما فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده, وليس فرضه مختصاً بهذه الشريعة المحمدية الخاتمة, فقد كان مفروضاً في الشرائع السابقة, فقد فرض على أنبياء الله من لدن نوح عليه السلام أن يبذلوا جهدهم في إعلاء كلمة الله، وهذ معنى الجهاد, الجهاد مشتق من الجهد, والجُهد: هو الطاقة, بخلاف الجَهد, فالجَهد: هو المشقة, وفعل الجُهد هو: جَهِد, وأما فعل الجَهد فهو: جَهَدَ بفتح الحروف الثلاثة.

    فبذل الجهد لإعلاء كلمة الله واجب منذ نزلت الشرائع, وقد بذل نوح جهده في إعلاء كلمة الله, وتعرفون أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً, ومكث بعد ذلك في الأرض في الدعوة ما الله عليم به من السنوات, نحن لا نعرف قدره ولا نقدره, لكننا نعلم أن الله خاطبه بقوله: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ[هود:48], سلام من الله وبركات كل ذلك يقتضي طول العمر والتمتيع في الحياة الدنيا بعد هبوطه ونزوله.

    ثم بعد ذلك لم يأتِ نبي قط إلا فرض عليه الجهاد، سواء كان ذلك بالهجرة كما فرض على إبراهيم , أو بالقتال المباشر، وقد فرض ذلك على عدد كثير من الأنبياء, لكن الذي يميز هذه الأمة: أن الجهاد في الماضي لم يكن يباح لأهله الغنائم, وأحلت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً, فقد كان الأنبياء السابقون إذا غنموا جمعوا الغنائم فجاءتها نار من عند الله فأكلتها.

    فإذا كان فيها غلول، أي: أخذ بعض الغزاة شيئاً من الغنيمة، فإن النار تمتنع عن أكلها, وكان الأنبياء حينئذٍ يبايعون قومهم، فمن لصقت يديه بيد نبيه فذلك دليل على أن الغلول فيه وفي أصحابه, كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد أحلت الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهذه الأمة، فقد رفع الله عنها الإصر مطلقاً, أي: أن كل الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة قد رفعت عن هذه الأمة, فخاطب الله عموم الأمة بما كان يخاطب به المرسلين من قبل, فقد كان الله يخاطب المرسلين برفع الحرج عنهم, وخاطب بذلك عموم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78].

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث أن خطاب هذه الأمة هو خطاب الأنبياء السابقين, فقال: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]).

    فهذه الأمة مشرفة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى مكرمة, فلذلك أحل لها ما لم يحل لمن قبلها, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي), وذكر منهن: (وأحلت لي الغنائم), فأحلت له الغنائم ولم تحل لأحد من قبله.

    1.   

    الحكمة من مشروعية الجهاد

    إن حكمة مشروعية الجهاد هي: إعلاء كلمة الله وإعلان اللواء له، وإثار الآخرة على الأولى, والسعي لتمكين الدين في الأرض.

    فالله سبحانه وتعالى أخذ بيعةً على عباده, وقد أكدها في الكتب المنزلة, فقد أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن, وهي بيعة ماضية شاملة لكل الأمم: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

    وهذا الجهاد إنما هو لمصلحة البشر, فإن الله جعل الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل, فمنذ أهبط الله آدم و حواء , وهما يمثلان الحق, وإبليس وهو يمثل الباطل انقسم أهل الدنيا إلى حزبين: حزب الله: وهم الذين يسعون لإعلاء كلمة الله وتحقيق العبادة له. وحزب الشيطان: وهم الذين يسعون لإغواء الناس وصدهم عن سبيل الله.

    وهذان الحزبان كلاهما يبذل جهده في سبيل نصرة ما هو عليه, فأهل الإيمان يقاتلون في سبيل الله ويبذلون جهدهم من أجل إعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لرب العباد, وتحريرهم من عبادة كل من دونه.

    وحزب الشيطان يسعون لتعبيد العباد لإبليس, وصرفهم عن سبيل الله, وقد جعل الله مصلحة الدنيا باستمرار هذا الصراع, إذ لو توقف الصراع لحظةً واحدة لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251], وذلك أن هذه الدنيا دار عمل ولا جزاء, وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل, فلو استقام الناس جميعاً ولم يبقَ على الأرض شرك ولا كفر ولا ظلم ولا عدوان ولا فسق لاستحق الناس أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم نجحوا في الامتحان, وحينئذٍ تنتهي الدنيا؛ لأن أهل الدنيا لا يمكن أن يدخلوا الجنة وهم أحياء في حياتهم الدنيا.

    ولو لم يبقَ على الأرض للحق صوت, وكفر أهل الأرض جميعاً أو فسقوا وظلموا أنفسهم وابتعدوا عن منهج الله لاستحقوا عقاب الله, والله سبحانه وتعالى سريع العقاب, وهو يمهل ولا يهمل, ولا يمكن أن يترك أهل الظلم على ظلمهم, وقد تعهد بذلك: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ[آل عمران:179].

    فلا بد حينئذٍ أن يأتي انتقام من الله جل جلاله, وهذا الانتقام لو جاء لأهلكهم جميعاً, فعلم أن مصلحة الدنيا هي بوجود الصراع بين الطائفتين, وعلم أنه لا يقصد في الجهاد القضاء على الباطل, فليس من أهداف أهل الدعوة ولا أهل الجهاد ولا أهل الإيمان أن يقضوا على الشرك والكفر بالكلية؛ لأن هذا مستحيل؛ لكن هدفهم هو الدرء والدفع, دفاع الله الناس بعضهم ببعض؛ لأن الشرك من حكمة الله أن يبقى، ومن مصلحة الدنيا أن يبقى فيها ظلم وعدوان وإيمان يتصارعان حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وإذا أراد الله أن تنتهي هذه الحياة الدنيا فإنه سيقبض أرواح المؤمنين بريح لينة تأخذ أرواحهم من آباطهم, وحينئذٍ لا يبقى على الأرض من يقول: الله, ويتهارج الناس تهارج الحمر، وهم حثالة أو حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة, وعليهم تقوم الساعة, فلا تقوم الساعة إلا على شرار الناس.

    1.   

    أنواع الجهاد

    وهذا التدافع بين الحق والباطل يأخذ أنواعاً منوعة, وكله يسمى جهاداً, فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد المشركين بالقرآن فقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52], وأمره بجهاد المنافقين والمشركين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73], وقد جاهد الكفار بالسنان، وجاهد المنافقين باللسان, فلم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين قط, إنما جاهدهم باللسان.

    وكذلك ثبت عنه أنه قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم), وقد جاء هذا من حديث ابن عمر و أنس بن مالك رضي الله عنهما, وبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن الجهاد أنواع كثيرة, وقد أوصلها أهل العلم إلى أربع عشرة درجة, منقسمة إلى أربعة أنواع:

    1.   

    النوع الأول: جهاد النفس

    أولاً: جهاد النفس وهو أربعة مراتب:

    المرتبة الأولى: التعلم

    جهادها على تعلم ما أمر الله به, فالنفس لا تنقاد لتعلم ما أمر الله به إلا بمشقة وصعوبة, وهذه المشقة تارةً تكون من الدارسين وتارة تكون من المدرسين, وتأخرنا عنكم قد يكون من جهادكم في ذلك, فلذلك دائماً في طلب العلم مشقة, ولذلك يعتبر جهاداً, وقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه, كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. وأحاديث أن طلب العلم يعادل الجهاد في سبيل الله كثيرة جداً.

    وهذه الأحاديث تدل على فضل طلب العلم, وقد ورد في ذلك عدد كثير من الأحاديث مثل: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع, وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء), فالعالم غير المعصوم يخطئ, لكن إذا أخطأ فالاستغفار له حاصل، فيستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء, ومن هنا قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.

    المرتبة الثانية: العمل

    ثم بعد ذلك جهادها على العمل بما تعلمته, فالإنسان إذا تعلم أمر الله قيل له: افعل، واترك. وعرف أن هذا من عند الله جل جلاله جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فليس له الخيار: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36], فلا بد أن يبادر الإنسان لامتثال الأمر واجتناب النهي إذا تعلمه, أما الإنسان الجاهل الذي لم يتعلم الحكم بعد ولا يدري هل هذا حلال أو حرام هو في فسحة حتى تقوم عليه الحجة بمعرفة الحكم, لكن بعد أن يعرف الحكم قامت عليه حجة الله, ولذلك كان العلماء في خطر إذا لم يعملوا بما علموا, وكذلك كل من تعلم, وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت فأقول: بل علمت, فيقال: ففيمَ عملت فيما علمت.

    وكذلك أخرج عنه أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله أن لا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي, ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي.

    فلا بد أن يعمل الإنسان بما تعلمه, والإنسان إذا تعلم ولو شيئاً يسيراً فعمل به بورك له فيه, وقد أحسن من انتهى إلى ما عمل, فإذا كان الإنسان كلما تعلم شيئاً بادر إلى العمل به فقد أحسن قطعاً.

    المرتبة الثالثة: الدعوة

    ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة وهي: جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان وعمل به, فالإنسان إذا قطع شوطاً في العلم وعمل بذلك؛ ولكنه اعتزل الناس وانفرد ولم يسعَ لإعلاء كلمة الله لم يحقق البيعة التي في عنقه, وأنتم تعرفون أن اللبيب العاقل صاحب الدين والمروءة إذا تحمل ديناً فإنه سيسعى لا شك لسداده وقضائه, وإذا كان يمضي عليه السنة والسنتان والثلاث والأربع ولم يفكر في سداد الدين هل يكون صاحب دين وأمانة؟ هو مجروح في الشهادتين حينئذٍ ولا خلاق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إيمان لمن لا أمانة له), ونحن جميعاً قد تحملنا ديناً عظيماً من عند ربنا جل جلاله لا نستطيع إنكاره والحجة قائمة علينا به, فكل من لم يفكر فيه أو يبذل فيه مالاً أو تذكيراً أو وقتاً فقد تحمل ديناً ولم يسدده، ولم يفكر في سداده, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة).

    وكذلك قال: (من لم يغز أو يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق), وفي رواية: (مات ميتةً جاهلية).

    ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يحدث به نفسه), أي: يعزم عليه ويفكر كيف يتأتى له ذلك.

    فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان بيعته مع الله، وأن يعلم أن الناس فيها على قسمين: صادقون, ومنافقون. والصادقون هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه, وهذا هو النفاق العملي, وقد قال الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ[الأحزاب:23-24].

    المرتبة الرابعة: الصبر على طريق الحق

    ثم المرتبة الرابعة من جهاد النفس: هي جهادها على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله جل جلاله, فالإنسان في هذه الحياة الدنيا فتح عليه جبهات كثيرة، وأصيب بكثير من المشغلات والملهيات عن الله, فالدنيا دار الغرور, والإنسان فيها كثيراً ما يغتر بشبابه أو بقوته أو بالزمان الذي هو فيه أو بالملهيات والزخارف الدنيوية, فيحتاج إلى أن يتطهر من ذلك كله، ولا يتطهر منه إلا بمنازعته بالصبر؛ أن يصبر على الحق, فالصبر على مر الحق سواء كان الحق للإنسان أو عليه هو الذي يقتضي النجاة على الصراط يوم القيامة, فهذا الصراط الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله صراط معنوي، وهو تمثيل للصراط الأخروي, والصراط الأخروي: جسر منصوب على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف, وعليه كلاليب كشوك السعدان، يدخل بالكلوب الواحد سبعون ألفاً في النار, يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف, ومنهم من يمر كالريح المرسلة, ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل, ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً, ومنهم من يزحف على مقعدته فناجٍ مسلَّم، ومخدوش مرسل, ومكردس على وجهه بنار جهنم.

    وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي, فمن يمسك نفسه عند الغضب, ويمسك نفسه عن معاصي الله إذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها, وإذا جاءه الخطاب كان من المبادرين إليه, إذا سمع: حي على الصلاة حي على الفلاح كان من المجيبين لداعِ الله, وإذا جاء وقت الزكاة كان من المزكين, وإذا جاء وقت الصوم كان من الصائمين, وهكذا في كل عبادة من العبادات، وهكذا في كل الأوامر والنواهي، هذا الإنسان يرجى له النجاة على عقبات الصراط, وهي عقبات شديدة.

    والذي لا يجيب داعي الله سبحانه وتعالى, فإذا جاء وقت الصيام لم يكن من الصائمين, وإذا جاء وقت الزكاة لم يكن من المزكين, وإذا جاء وقت الحج لم يفكر فيه, وإذا جاء وقت الصلاة لم يفكر فيها وهكذا, هذا يوشك أن يسقط عن الصراط يمنةً أو يسرةً يوم القيامة؛ لأنه قد اتبع بنيات الطريق، ولم يسلك جادة الصراط في الحياة الدنيا, وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت:46].

    1.   

    النوع الثاني: جهاد الشيطان

    ثم بعد هذا جهاد الشيطان: وهو مرتبتان: جهاده فيما يلقيه من الشهوات, وجهاده فيما يلقيه من الشبهات, فالشيطان يسعى لإغواء الناس، وقد أقسم بعزة الله ليغوينهم قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[ص:82-83].

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى: أنه سلط على الناس, فأوتي طاقةً عجيبة فهو لا يمل, وجنوده عددهم كبير, وهو يأتي من بين يدي الإنسان ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17], وهو أوتي جندين مؤثرين:

    أحدهما: الشبهات التي يلقيها على الإنسان, وهي في التصور والعلم, فمنها: شبهات التعامل مع الله، وتشمل شبهات عقدية, وشبهات في العبادات, ومنها شبهات في التعامل مع الناس، أي في الأخلاق، والاتهامات, والتصنيف، والمعاملة.

    وهذه الشبهات لا ترد إلا بجند من جنود الله وهو اليقين, فإذا انطلق الإنسان من اليقين واعتمد على الدليل, ولم يبالِ بالوساوس والشبهات، ولم يعش مع الأوهام تخلص زمامه من شبهات الشيطان.

    ويبقى الجند الثاني: وهو الشهوات, فالإنسان حيوان بطبعه, ونفسه ميالة إلى هواها, لكنه إن استطاع أن يحررها من اتباع الهوى فالجنة مضمونة له, وإن غلبته نفسه إلى الهوى فلم يلجمها بلجام التقوى، فانطلق وراءها وجعل إلهه هواه, حتى لو كان على علم فإن الله يضله على ذلك العلم بعد ِأن يتبع الهوى.

    وهذه الشهوات منها شهوات حسية: كشهوة البطن وشهوة الفرج, ومنها شهوات معنوية: كشهوة حب الرئاسة والانتقام، والشهرة والظهور، والتمكين وغير ذلك, ولا يمكن أن تجاهد الشيطان فيها إلا بالصبر, فإذا صبر الإنسان عن شهوته فإنه يتغلب على نوازع الشطان، وبذلك يجاهده جهاداً حقيقياً, والشيطان عدو لك، وقد أمرت باتخاذه عدواً, وأنت لا تراه حتى تصفعه أو تضربه, ولا تسطيع قتله فهو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم, فلم لا تسطيع أن تعلن عداوتك له؟ والذي يكون بما يلي:

    أولاً: بعدم اتباع خطواته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[النور:21].

    ثانياً: بمحاولة نقص جنده, فجنده هم الغاوون, فإذا اهتدى على يدك واحد من الغاوين فقد نقصت جند إبليس واحداً, وإذا اهتدى على يدك اثنان زدت في إعلان العداوة, وهكذا حتى تصل إلى ما وفقك الله له.

    1.   

    النوع الثالث: جهاد الكفار

    مراتب جهاد الكفار

    النوع الثالث: جهاد الكفار, وهو أربع مراتب: جهادهم باللسان بالرد على شبهاتهم والتحذير مما هم فيه, وجهادهم بالمال ببذله في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه, وجهادهم بالقلب ببغضهم وبغض ما هم عليه, وجهادهم باليد بالغزو، وهو ينقسم إلى قسمين: جهاد دفع, وجهاد غزو وهجوم، أما الجهاد الهجومي فهو السعي لتمكين الدين إذا حال بعض الطواغيت بين هذه الدعوة والوصول إلى الشعوب التي من حقها أن تنال حظها مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله من العدل, فلا عدل إلا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وحده العدل الحقيقي.

    وهو الذي يكفل للعباد كل المصالح, ومن حرمه حرم حقوقه, فالشعوب المظلومة المضطهدة التي حيل بينها وبين شرع الله قد منعت حقها من العدل, وحال الطواغيت بينها وبين نصيبها من العدالة, وأنت من مهمتك تحرير تلك الشعوب من هؤلاء الطواغيت، فلذلك تقوم بالجهاد الهجومي لرد هؤلاء الطواغيت عن احتلالهم الشعوب وصرفهم لها عن سبيل الله.

    هذا الجهاد هو الذي تقوم حوله الشبهات، أعني الجهاد الهجومي لرد الطواغيت عن الحيلولة بين الناس وبين سبيل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ[البقرة:193].

    والشبه القائمة حوله أنواع منوعة، منها ما يلي:

    شبهة أن الجهاد ظلم وردّها

    من هذه الشبه: دعوى أنه ظلم، وأن هؤلاء إذا لم يتسببوا في إزعاجك ولم يغزوك أو يظلموك كيف تظلمهم؟

    والجواب: أن الظلم معناه: معاقبة البريء، والمشرك الكافر هل هو بريء؟ هل هناك ذنب على وجه الأرض أكبر من الشرك والكفر بالله, فإذاً لا يمكن أن يوصف بأنه بريء أبداً, فهو قد ظلم نفسه قبل ظلمه لغيره, حتى لو كان منفرداً في صومعة يتعبد وحده فإنه ظالم لنفسه, وقد جاء بأكبر جريمة وأبشعها على وجه الأرض، وهي الشرك بالله, فما من جريمة أكبر ولا أبشع من الشرك والكفر.

    ثم بعد ذلك تتفاوت الجرائم دون هذا, فتذليل الشعوب وقتل النفس بغير حق, وسلب الأموال, والاعتداء على الأبضاع, وإخافة الطرق, ونحو ذلك هي جرائم كذلك, بل جرائم كبيرة لا يمكن السكوت عليها, ولا بد من معاقبة صاحبها، ومعاقبته لا تعد ظلماً أبداً بأي معيار من المعايير.

    شبهة أن الجهاد إكراه على الدين

    كذلك يثار حول هذا الجهاد شبهات أخرى، منها: أنه إكراه على الدين, وهذا غير صحيح, لأن المكره على الدين لا يقبل من صاحبه صرف ولا عدل، هذا المكره الذي لم يؤمن, وإنما كان مكرهاً فقط على الصلاة، فلو صلى مع الناس خوفاً من السيف لا يقبل الله منه ذلك حتى يكون عن قناعة, وهذا معنى قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ[البقرة:256].

    فالإنسان الذي يفعل شيئاً على وجه الإكراه يرائي به أو يسمع لم يفعله لله, والله هو أغنى الشركاء عن الشرك, فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك, فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه), فلذلك إذا فعل الإنسان أمراً من غير طواعية ومن غير استسلام لحكم الله حتى لو كان عملاً صالحاً لا يتقبل الله منه, وقد قال الله تعالى في عمل المشركين الصالح: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:23], وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[النور:39].

    وفي حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ، فذكرت: ( أنه كان يطعم الفقير والمسكين وابن السبيل، أفيغني عنه ذلك من الله شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا, إنه لم يقل يوماً واحداً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ), فهو لم يفعل ذلك إيماناً وقناعة.

    ولهذا فالجهاد لا يقصد به: أن يكره الناس على الأعمال الظاهرة, كأن يضرب الإنسان حتى يصلي أو يصوم، إن هذا ليس مقصداً شرعياً, وليس هذا هو مقصود الجهاد أبداً, فالجهاد الهجومي يقصد به: كف أهل الطغيان عن احتلالهم للشعوب والحيلولة بينها وبين الإيمان, ونحن نعرف ما جاء في دعوة موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون, فقد سأله أن يخلي بينه وبين بني إسرائيل, وكان قد استعبدهم ومنعهم من اتباع الحق واستذلهم.

    فلذلك حكمة هذا الجهاد: هي رد طغيان الطاغين الذين يحولون بين الناس وبين أن يقتنعوا بقناعة الحق, وأن يأخذوا نصيبهم من العدل، وقسطهم منه.

    شبهة أن الجهاد لسلب أموال الناس

    كذلك من الشبهات التي تثار حول الجهاد في سبيل الله ما يتعلق بالغنائم، فهي تحل للمجاهدين، لكن ليس جميعها، وإنما أربعة أخماسها وخمسها الآخر لله سبحانه وتعالى استثناه الله, وكان الاستثناء في البداية شاملاً لكل الغنائم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1], فقد كانت الغنائم جميعاً من قبل مستثناة، ثم بعد ذلك نزل الله قسمتها, فجعل أربعة أخماسها للغازين, قال سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ[الأنفال:41], معناه: أربعة أخماسه للمجاهدين.

    وهذا الخمس الذي لله قسمه إلى خمسة أقسام أيضاً فقال: وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنفال:41].

    فهذه الغنائم بما أنها مال أصبح ضعاف النفوس يظنون أن الجهاد إنما جاهد أصحابه ليأخذوا مالاً, وهذا تصور في غاية الخطأ؛ لأن الإنسان معرض للموت أولاً, والغنيمة لا تكون إلا بعد السلامة, فالإنسان إذا قتل ما فائدة غنيمته؟

    وليس يحمد من جلت غنيمته إلا إذا مع ما قد ناله سلما

    فلذلك لم يشرع الجهاد من أجل الغنائم أبداً, وإنما كانت الغنائم فضلاً من الله سبحانه وتعالى وتفضلاً، وبدل أن كانت تأكلها النار أحلها للمجاهدين للاستفادة منها والانتفاع بها, وشجعوا أيضاً بسلب القتيل: (من قتل قتيلاً فله سلبه، ولا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً), وليس ناقصاً للإخلاص في الجهاد.

    وإذا كان في المجاهدين من يريد الدنيا ففي الغالب لا ينتصرون, وإذا كان منهم من يريد الغنائم لا بد أن تقع نكبة, كما قال الله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ[آل عمران:152], وحتى ولو كان الذين يريدون الدنيا قليلين، فإن النكبة ستعم الجميع ليكون ذلك تأديباً وتصفية.

    شبهة انتشار الإسلام بالسيف

    ومن الشبهات التي تقام على هذا الجهاد كذلك: دعوى أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه وصل أقاصي الأرض بالسيوف, وهذه دعوى باطلة لا أساس لها, فمن المعلوم أن جزيرة العرب لم يقع فيها القتال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في سبع غزوات, فكل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها هي: بدر, وأحد, والخندق, وبني المصطلق, وخيبر, وحنين, وفتح مكة فقط, هذه هي السبع الغزوات التي حصل فيها القتال, ومع ذلك لم يتوف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدانت الجزيرة العربية كلها لدين الله.

    فكيف كان -إذاً- انتشاره بالسيف إذا كانت الغزوات محصورة، وكلها كانت رداً لطغيان الطاغين؟ وأيضاً عدد الذين قتلوا فيها كانوا عدداً يسيراً جداً, حتى من المشركين كان أكبر عدد قتل منهم ما كان في يوم خيبر مثلاً وبلغوا تسعين قتيلاً, وهذا لا يساوي شيئاً من سكان مدينة بكاملها, وانظروا إلى الحروب اليوم كم يقتل في العراق يومياً؟ وكم يقتل في فلسطين؟ وكم يقتل في الحروب حتى بين الكفار؟ فالحرب في فيتنام وبروندي قتل فيها الملايين, فلذلك هذه الدعوى غير صحيحة, وأدل دليل على ذلك أن الذين يزول عنهم طغيان الطاغين هم أول من يجاهدون ويقاتلون, فأهل مكة دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثالث والعشرين من رمضان في مكة وهم مشركون، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, ومكث معهم سبعة عشر يوماً, سبعة أيام من رمضان, وعشرة من شوال، فخرجوا مجاهدين في سبيل الله وقاتلوا، وثبت كثير منهم في معركة حنين وفي قتال الطائف.

    فهذا أبو سفيان بن حرب كان يوم الفتح يقول للعباس : لقد عظم ملك ابن أخيك, قال: إنها النبوة، قال: فإنها النبوة إذاً, وهذا أول ما دخل الإسلام في قلبه, وفقد عينه بالجهاد في سبيل الله في معركة الطائف وكانت في ذي القعدة, وانظروا إلى هذا الفرق بين اليوم الثالث والعشرين من رمضان, واليوم الحادي عشر من ذي القعدة, فهي شهر وعشرين يوماً وإذا به أصبح من المجاهدين في سبيل الله الذين يبذلون حتى أبصارهم في سبيل الله.

    والذين آمنوا في الغزوات ندموا ندماً كثيراً على ما فاتهم من التضحية من قبل, وانظر إلى خالد بن الوليد كان قائد جيش المشركين, ولكنه ندم ندماً شديداً حين أدخل الله عليه الإسلام، فجاء طواعيةً بعد صلح الحديبية فأسلم هو و عمرو بن العاص و عثمان بن أبي طلحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رمتكم مكة بأفلاذ كبدها).

    فجرد خالد نفسه سيفاً على العدو في سبيل الله, حتى خرج من ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله), وفي رواية: (وخيله في سبيل الله), حتى المال لم يحافظ على شيء منه, كل ما ناله في غزواته من الغنائم يجعله وقفاً للجهاد في سبيل الله. إذاً هذه الشبهة باطلة.

    والأراضي الشاسعة التي وصل إليها الإسلام أكثره وصل عن طريق الدعوة من غير قتال, مثل إندونيسيا وماليزيا, والمناطق الشاسعة في الصين, فهذه ما وصل إليها الإسلام عن طريق غزو قطعاً, وما دخلها المسلمون بسلاح قط, وكذلك كثير من المناطق في إفريقيا وفي أوروبا, ومناطق كثيرة جداً ما دخلت الإسلام إلا بالدعوة وعمل التجار الذين أقنعوا الناس بهذا المنهج بسلوكهم أولاً وإحسانهم ثم بمجادلتهم بالتي هي أحسن.

    1.   

    النوع الرابع: جهاد المنافقين

    ثم بعد هذا جهاد المنافقين داخل الأمة الإسلامية وهو أربع درجات كذلك:

    جهادهم بالقلب ببغضهم حتى لو كانوا أقرب الناس إليك.

    ثم جهادهم باللسان برد باطلهم والتحذير منه ومناقشتهم.

    ثم جهادهم بالمال ببذله لتأليفهم ولرد باطلهم أيضاً.

    ثم جهادهم باليد بتغيير منكرهم.

    1.   

    حالات تعين الجهاد

    وهذه المراتب الأربع بعضها واجب عيني، كجهاد النفس وجهاد الشيطان، وبعضها فرض كفاية كجهاد المنافقين والمشركين, لكنه قد يتعين في بعض الأحوال, فجهاد المنافقين يتعين على من حضر وهو قادر ولم يكن بمحضر من سواه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه), وهذا يقتضي وجوب التغيير على الحاضر القادر على التغيير.

    فإذا كان واحد قادراً على التغيير وقد حضر المنكر وجب عليه تغييره, وإن تعددوا لم يجب على واحد منهم بعينه، لكن إن تركوه جميعاً أثموا, وكذلك جهاد الكفار فهو فرض كفاية في كل عام مرتين, في الشتاء وفي الصيف, وذلك بأن تخرج الشاتية وتخرج الصائفة, ليحول ذلك بين الملوك والطغاة وبين تعبيد البشر والحيلولة بينهم وبين الدين, وهو في أهم جهة, فيبدأ بالجهة التي يُخشى منها الغزو قبل الجهة المأمونة، فإن الجهاد بها يتعين.

    والجهاد الدفاعي إذا غزا العدو بلداً من بلاد المسلمين تعين على القادرين من أهل ذلك البلد الدفع ورد عدوانهم, ويجب حينئذٍ على النساء وعلى كل قادر عليه, وقد كان في بداية الإسلام واجباً أيضاً على الصبيان, فلما كانت غزوة أحد ميز بين البالغين وغيرهم, فرد النبي صلى الله عليه وسلم من كان دون الخامسة عشرة من العمر, وأجاز أبناء الخمسة عشرة, وقد قبل بعض الصبيان حينئذٍ؛ لأنهم أصبحوا رجالاً بقوتهم وشجاعتهم، منهم: سمرة بن جندب فإنه صرع رافع بن خديج , وكان رافع أسن منه فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم للمعركة, وكانت أول معركة شهدها.

    وقبل ذلك قتل عدد من الصبيان في الغزوات الأخرى, في غزوة بدر قتل عمير بن الحمام وكان صغيراً، وقتل حارثة أيضاً وأمه الربيع ، وقد كان صغيراً, و عمير بن أبي وقاص وكان بالغاً أو دون البلوغ بقليل, هؤلاء قتلوا يوم بدر وهم صبيان, فاستشهدوا في سبيل الله.

    كذلك من عينه الإمام باسمه, فإذا عين الإمام أحداً بالشاتية أو في الصائفة فإنه فرض عين عليه أن يخرج ويجاهد, والمقصود بالإمام من ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة دينه وسياسة الدنيا به, فالذي يتولى حماية الدين ورعاية بيضة المسلمين هو إمامهم, فإذا عين إنساناً لزمه الجهاد عيناً عليه.

    وكذلك يتعين الجهاد في حق من شهد الصف, فمن شهد الصف لا يحل له الانهزام أمام الكفار إلا إذا كانوا ضعفي عدد المسلمين, فإذا كانوا أقل من الضعفين لم يجز الانهزام عنهم.

    وقد كان في صدر الإسلام لا يحل الانهزام إلا عن عشرة أضعاف, وكانت المائة تغلب الألف, لكن الله أنزل التخفيف بعد ذلك: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا[الأنفال:66], فأصبح التكليف بما دون الضعف فقط, وما زاد على الضعف يجوز للمسلم الانهزام عنه.

    ومثل هذا ما يتعلق بالعدة فإذا كانت العدة متباينةً إلى حد الضعف, فإن العدة تلحق بالعدد, فمثلاً: إذا كان المسلمون ليس لهم إلا السكاكين أو العصي, وكان العدو لهم الطائرات والدبابات، حتى لو كان عدد المسلمين كبيراً فيجوز لهم الانهزام في مقابل ذلك، حتى لو لم يكن العدو ضعفهم؛ لأن العدة تكمل ذلك فتلحق بالعدد.

    1.   

    من أحكام الجهاد التفصيلية

    عدم التشفي

    للجهاد آداب شرعية منها: ألا يقصد الإنسان إزهاق الأرواح ولا قتل الأنفس ولا التشفي, فمن قصد التشفي، كمن إذا ضربه رجل من العدو فقطع يده مثلاً، وقال: لا إله إلا الله، فاقتص منه بعد ذلك, فإن هذا لم يجاهد في سبيل الله، وإنما أراد التشفي والانتصار لنفسه, فلا بد أن يكون الجهاد لإدخاله في الدين، ومن واقع الحرص عليه.

    الدعوة قبل القتال

    اختلف: هل يلزم قبله دعوتهم, فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا بد من الإعذار إليهم أولاً قبل الدعوة بدلالة حديث بريدة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك: (إذا نزلت بساحة قوم), وهذا يقتضي دعوتهم أولاً قبل القتال.

    وذهب أحمد بن حنبل وعدد من أهل الحديث إلى أنه لا تجب دعوتهم قبل القتال مستدلين بقول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهمْ كُلَّ مَرْصَدٍ[التوبة:5], قال أحمد : كيف تكون في المرصد وأنت تدعوه فتقول: يا فلان! أسلم وأنت مختف عنهم, فالاختفاء تقتضي أن تكتم أنفاسك وصوتك.

    ولعل الجمع بين القولين أنه إذا علم أن الدعوة وصلت إليهم, وحال الطغيان بينهم وبين قبولها ومنعوا الناس من الدخول فيها فحينئذٍ يقاتلون من غير دعوة, وإذا لم تكن بلغت فلا بد من إبلاغهم الدعوة أولاً, ومن قتل من الكفار أو مات على كفره بعد إقامة الحجة عليه وبعد وصول الدعوة إليه فهو قطعاً في النار، يجب الإيمان بذلك, لكن من مات منهم قبل وصول الدعوة إليه أو بعد وصولها مشوهةً, فإن مات قبل وصول الدعوة إليه فهو غير معذب حتى تقام عليه الحجة يوم القيامة لقول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا[الإسراء:15], وهو ملحق بأهل الفترة.

    وإذا بلغته الدعوة مشوهةً كحال كثير من الكفار المعاصرين، فأنت الآن إذا سألت كثيراً من الأمريكان وغيرهم عن الإسلام لم تجد لديهم من المعلومات عنه إلا مثل ما لديهم عن البوذية, فبلغهم خبر الإسلام مشوهاً ولم تبلغهم دعوته صحيحة, فهل قامت عليهم الحجة بذلك؟

    هذا محل اختلاف بين أهل العلم, فمن أهل العلم من رأى أن مجرد السماع كافٍ، فيجب عليه هو التقصي عن الخبر, واستدل هؤلاء بحديث مسلم في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار), وفي رواية: (إلا كبه الله على وجهه في النار), فهذا الحديث يقتضي أن مجرد السماع كاف في إقامة الحجة.

    وذهب آخرون وهم جمهور المتأخرين: إلى أنه لا بد من إقامة الحجة, واستدلوا بحديث بريدة وغيره، فإن العرب في جزيرة العرب جميعاً سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في العهد المكي، ومع ذلك لم تقم عليهم الحجة بمجرد السماع, بل أمره الله بمناورتهم, أي: بمناورة أهل الكتاب والمشركين ومجادلتهم، وأتاه نصارى نجران، فأنزل الله بذلك ما أنزل من سورة آل عمران وجادلهم صلى الله عليه وسلم, بل أمر بمباهلتهم فامتنعوا من مباهلته.

    فعموماً هذه المسألة محل خلاف وهي من مسائل الجهاد التي لم تحسم, ولا يمكن حسمها؛ لأن الدليل لم يحسمها.

    حرمة استعمال أسلحة الدمار الشامل

    كذلك يحرم استعمال الأسلحة المبيدة للبشر، وأسلحة الدمار الشامل في الجهاد في سبيل الله كاستعمال السم المهلك الذي يهلك أمةً بكاملها، كالغازات السامة, أو الإحراق بالنار، ففي الحديث: (لا يعذب بالنار إلا رب النار), ومحل حرمة ذلك إذا لم يستعمله العدو، فإن استعملوه جاز استعماله في رد عملهم, وهذا يدل على أن عمله مشترك؛ لأن القاعدة الشرعية: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى[النجم:36-41], والذي ضربنا بالغازات أو القنابل العنقودية أو غيرها ليس بالضرورة أن يكون هو الذي يصاب عند الضرب, لكن بما أنهم جيش واحد فيؤخذ بعضهم بجريرة بعض, وذلك عند عدم التمكن من إقامة العدل بينهم فراداً, فإذا أخذناهم أسرى لم نؤاخذ أحداً منهم بجريمة آخر؛ لأنهم قد دخلوا تحت اليد فتمكنا منهم, فحينئذٍ يقام عليهم العدل والإنصاف.

    وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز استعمال هذه الأسلحة الفتاكة مطلقاً حتى لو استعملها العدو, وفي المسألة خلاف على ثلاثة أقوال مشهورة في الفقه, قد نظمها صاحب الكفاف في قوله:

    وهل لنا بالنبل سم رميهم ثالثها يجوز إن رموا بسم

    هذه ثلاثة أقوال: أنه يجوز مطلقاً سواء رموا به أم لم يرموا به, أو أنه لا يجوز مطلقاً رموا به أو لم يرموا به, القول الثالث: أنه يجوز إن رموا به, يعني: إن استعملوه رداً عليهم.

    من لا يحل قتله

    كذلك من هذه المسائل: قضية من يحل قتاله وقتله من الكفار, فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء في الجهاد, فلا تقتل المرأة إلا إذا قاتلت فإذا قاتلت قتلت, درءاً لشرها ورداً لعملها, وكذلك الأطفال الصغار وغير المكلفين فإنهم لا يقاتلون كالمجانين وفاقدي العقل من الكفار.

    وكذلك الرهبان المنفردون للعبادة فإنهم لا يقتلون إلا إذا قاتلوا أو ساعدوا برأي, وكذلك العجزة من كبار السن فإنهم لا يقتلون إلا إذا كان لهم رأي يعينون العدو به, وهذا يدل على أن القتال ليس للنكاية ولا للتشفي؛ لأنه استثني منه كل الضعفة حتى الرهبان والنساء والأطفال لا يقتلون.

    الرمي بالمنجنيق

    كذلك إذا كان الحصن مغلقاً ولا ندري من بداخله, واستعصى علينا فتحه، وكان يخشى من أهله فهل يجوز رميهم بالمنجنيق وسيموت فيه من الأولاد والنساء ومن لا يحل قتلهم من العجزة والشيوخ والرهبان؟

    الراجح من أقوال أهل العلم: أنه يجوز الرمي بنية المقاتلين فقط, ومن مات ممن سواهم فإنه غير مقصود قتله.

    حكم قتل المتترس بهم

    ومسألة أخرى: وهي إذا تترسوا بعدد من المسلمين, فأخذوا أسرى المسلمين فجعلوهم بينهم وبين المسلمين في القتال, فهل يجوز ضربهم؟ وهذا يقتضي إزهاق أرواح المسلمين مع الكفار؟

    هذا أيضاً محل خلاف على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: يقاتلون ولو أدى ذلك إلى قتل المسلمين, فالمسلمون غير مقصودين ويبعثون على نياتهم وهم شهداء في سبيل الله, والشهادة حكمة مقصودة؛ لأن الله تعالى يقول: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ[آل عمران:140].

    والقول الثاني: يكف عنهم مطلقاً لئلا يقتل المسلمون.

    والقول الثالث: إذا كان يخاف منهم أذىً على المسلمين قتلوا ولو أدى ذلك إلى إبادة من معهم من المسلمين وإلا تركوا.

    وهذا يدلنا على احترام الشرع لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وعلى عصمة هذه الشريعة المحمدية للدماء بالإسلام, فكل من شهد أن لا إله إلا الله ولو لم يصلِ ولم يزكِ ولم يصم فهو معصوم الدم, حتى لو قال: لا إله إلا الله تحت ظلال السيوف يكف عنه مطلقاً, فكيف بالمسلم الذي هو في دار الإسلام، ونحن نرى الآن كثيراً من الذين يستبيحون دماء بعض المسلمين في دار الإسلام, ويظنون أن لهم الحق في إقامة الحد عليهم أو محاكمتهم, وليس هذا لهم، بل هو افتيات وهو من شأن السلطان وليس من شأن الرعية, فليس لهم الحق فيه أصلاً, بل إذا كان السلطان قد قتل أو جرح فحصل قتل أو ظلم في هذه الفترة قبل بيعة الخليفة الثاني، فإن الخليفة الثاني لا يستطيع معاقبة أولئك؛ لأنهم كانوا خارج سلطانه, وهذا الذي أجمع عليه الصحابة في قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان , فإنه قتله في وقت لا خليفة فيه، فقد طعن عمر وفي تلك الأيام الثلاثة لم يبايع أحد بعده, فلم يبايع عثمان , وكان الهرمزان مسلماً, ولكن عبيد الله اتهمه بأنه كان يناجي أبا لؤلؤة وقد سقط منه خنجر تشبه التي قتل بها أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه, فقتله عبيد الله , فلم يقتله عثمان رضي الله عنه بإجماع الصحابة.

    فعندما أراد محاكمته وقتله قال له علي : لا سلطان لك عليه، فما بويعت إلا بعد أن حصل هذا.

    كيفية معاملة المنهزم والأسير من العدو

    كذلك من أحكام الجهاد في سبيل الله: أن المنهزم من العدو إذا لم يخف منه فيئة أو رجوع يترك على انهزامه ولا يتبع, فإذا خيفت منه الرجعة اتبع, والسنة واضحة في هذا، فالمنهزمون يوم بدر لم تخف منهم رجعة فلم يتبعهم النبي صلى الله عليه وسلم, والمنهزمون يوم أحد خيفت منهم الرجعة فاتبعهم في حمراء الأسد.

    وكذلك جريحهم إذا كان يخاف منه قوة فيما بعد وبرئ فإنه يذفف ويقتل, وإذا لم يخف منه بالمستقبل لم يذفف عليه, وأسراهم إذا أخذوا فمن كان منهم شديد النكاية بالمسلمين وشديد الضرر عليهم لو أطلق سراحه للمستقبل فإنه يقتل صبراً, فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر أنه قال لـعلي : ( انزل فاضرب عنق عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث ), وذلك حين وصل الأثيلة بفج الروحاء، فنزل علي فقدمهما فضرب أعناقهما, فقال عقبة : أأقتل بين ظهراني قريش صبراً، فقال: لست من قريش.

    ثم أرسلت قتيلة بنت النضر أو أخته أبياتاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول فيها:

    يا راكباً إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق

    أبلغ به ميتاً بأن تحيةً ما إن تزال بها النجائب تخفق

    مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق

    هل يَسمَعَنّي النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق

    ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق

    صبراً يقاد إلى المنية متعباً رسف المقيد وهو عان موثق

    أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق

    ما كان ضرك لو مننت فربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

    أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق

    فـالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق

    فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمةً بهذه المرأة، وقال: ( لا يقتل بعد اليوم قرشي صبراً ), ومع ذلك أمر يوم الفتح أن يقتل عدد من الفجار المفسدين في الأرض ومنهم: ابن خطل قال: اقتلوه، فقيل له: إنه متعلق بأستار الكعبة فقال: (اضربوا عنقه), فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة.

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخذ أبا عزة الشاعر يوم حمراء الأسد، وكان قد منَّ عليه يوم بدر, فعاهده ألا يكثر عليه عدواً، وأن لا يغزوه بعد ذلك اليوم، فجاء يوم أحد وكان يغني للمشركين ويشجعهم على المسلمين، فحبسه ملك بحمراء الأسد حتى لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه، فقال: يا محمد! امنن عليّ فإني ذو بنات وإني رجل فقير، فقال: (والله لا تمسح عارضيك بمكة فتقول: خدعت محمداً مرتين), وقال: (لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين), أو (لا ينزغ المؤمن من جحر مرتين), فأمر بضرب عنقه فقتل.

    فإذاً من خيف ضرره من أسرى المشركين قتل, والاجتهاد في ذلك لولي أمر المسلمين, فقد قال الله تعالى في سورة محمد: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا[محمد:4], فهذا المن والفداء فيما بعد, لكن ضرب العنق أيضاً من اجتهاد الحاكم إذا كان في وقت أخذه إذا خيف منه الضرر.

    الدخول في صفوف العدو

    من أحكام الجهاد كذلك: أن الإنسان إذا عرف أن النكاية في العدو مستحيلة إلا بالجراءة عليهم والجسارة, وهو يجد في نفسه قوةً لذلك وإيماناً, ولا يخاف من طعن الشيطان في دينه عن الفعل, فإنه يجوز له الإقدام والتضحية ولو أدى ذلك إلى استشهاده, ولهذا فإن الصحابة لما حاصروا مسيلمة باليمامة وطال الحصار، قال لهم البراء بن مالك : ارموني عليهم بالمنجنيق. فرموه في جلد ثور بالرماح حتى سقط في داخل الحديقة، وفيها أربعون ألف مقاتل، فقاتلهم حتى فتح الباب، فاجتثوه، فوجدوا فيه مائتين وثمانين ضربةً بالسيف, وقد بقر بطنه وخرجت أمعاؤه, وكان من أطباء المسلمين إذ ذاك رجل من ثقيف من أهل الطائف، فغسل أمعاءه فردها وخاط بطنه، فقام البراء وقاتل, وعاش بعد ذلك حتى استشهد يوم جسر أبي عبيد بالعراق.

    وقد أخرج أبو داود كذلك في السنن: أن المسلمين في حصارهم القسطنطينية خرج صف عظيم من الروم، فحمل عليهم رجل من المسلمين حتى توسطهم فقال الناس: ألقى هذا بيده إلى التهلكة, فقام فينا أبو أيوب خطيباً فقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية على غير ما أنزلت, إنما أنزلت فينا معاشر الأنصار، وذلك أن الله لما أظهر دينه وكثر ناصروه قلنا: إن زروعنا قد خربت فلو جلسنا بها حتى نصلحها، فكانت التهلكة الجلوس الذي أردنا وترك الجهاد.

    الاستئثار بالغنيمة

    كذلك من هذه الأحكام: أن المسلمين إذا غنموا فلا يجوز لأحد أن يستأثر بشيء ما لم يفرده السلطان به, وللسلطان أن يفرد من شاء تشجيعاً له, كأن يقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، أو أن يعطي إنساناً شيئاً من الغنيمة والسلطة، ثم بعد ذلك يقسم الغنيمة فيخمسها, ويجوز له أن ينفل من الخمس الذي هو لله بأن يزيد منه من كان له أثر، كمن خرج في سرية أو نحو ذلك.

    وفي التقسيم قديماً انتهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وجهاً تشجيعاً للناس؛ لأن الجيش إذ ذاك لم يكن نظامياً، فكانت الأسلحة والعتاد والخيل مملوكةً للأفراد, فلذلك يعطون في مقابلها، وكأنما هي مستأجرة, أي: كأن الدولة تستأجر الخيل والسلاح وتعطيه للمجاهد يقاتل به، فإذا غنمت كان للفارس سهمان وللراجل سهم واحد, فسهم للفرس؛ لأنها بمثابة مستأجرة.

    واليوم في الجيوش النظامية لم يعد هذا موجوداً؛ لأن الجيوش النظامية عدتها هي ملك للدولة, فلذلك تكون المساواة بين أفرادها في الغنيمة, ويجوز للسلطان عند الحاجة -إذا لم تضع الحرب أوزارها- أن يجعل الغنيمة جميعاً لعدة الجهاد, وبالأخص ما لم يتكلف فيه المسلمون عناءه.

    مال الكفار

    نعرج على حكم مال الكفار بالعموم، فما كان منه في دار الكفر لدى الكفار إذا أخذه المسلم في الجهاد في سبيل الله فإنه يجب تخميسه على نحو ما قلنا, وإذا أخذه خلسةً من غير جهاد، فإن كان ذلك يؤدي إلى وصفه بالسرقة أو يؤدي إلى تشويه الإسلام وأهله، أو إلى سد منفعة المسلمين لم يجز وكان عاصياً بفعله.

    أما إذا لم يكن فيه شيء من ذلك، كما إذا استطاع أخذ بعض أموالهم بوجه قانوني في مخاصمة قانونية مثلاً, استطاع بها أخذ مال من مالهم, فحينئذٍ لا يجب تخميسه؛ لأنه ليس فيه بذل للجهد على الراجح.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أن كل مأخوذ من ماله يخمس, ولكن الذي يبدو هو أنه أخذ من غير قتال، وهو كمن اعتدى عليه من المسلمين فخاصمهم فحكمت له المحكمة بمبالغ كبيرة بدل خصومتهم واعتدائهم عليه, ولهذا فهو مال لا يجب تخميسه على الراجح، بل هو ملك لمن حكم به له بخصوصه.

    وكذلك ما يتعلق بالسبايا، فمن المعلوم أن الجهاد هو من أجل حرية الإنسان, وانعتاقه من العبودية لغير الله, ولكن مع ذلك إذا كان الإنسان لا ينال حريته إلا بالخضوع لغيره, كالإنسان القاصر الذي يحتاج إلى كافل ومنفق, والإنسان العاجز المتعود على التبعية ولا يستطيع القيام بمصالحه, فالشرع جعل له باباً للعتاق، وإن كان فيه خضوع ومذلة، لكن تلك المذلة سببها الكفر, فلذلك يجوز استرقاق أسراهم إذا رأى السلطان في ذلك مصلحة وكان ذلك سبباً لإسلامهم.

    فمثلاً لو أسر من الكفار مائة ألف لا يمكن قتلهم جميعاً ولا فائدة في إطلاقهم مرةً أخرى؛ لأنهم سيقاتلون المسلمين وقد عرفوا دارهم وعرفوا أسرارهم, فما الحل؟

    الحل هو استرقاقهم حتى يسلموا, وقد فتحت الشريعة أبواب الحرية بعد ذلك, فإذا حلف الإنسان في يمين عليه عتق رقبة, وإذا ظاهر من امرأته عليه عتق رقبة, وإذا قتل خطأً عليه عتق رقبة, وإذا أفطر في نهار رمضان عامداً عليه عتق رقبة وهكذا, ويندب العتق في غير ذلك.

    إذاً: فتحت الشريعة أبواب العتق ليعتقوا، فكان هذا الاسترقاق ليس إذلالاً بل هو مصلحة لهم؛ لأنه بديل عن عرضهم على السيف وتقتيلهم جميعاً, وتقتيلهم فيه إبادة وهو ليس مصلحة, والشريعة لا تريد الإبادة, فلذلك كان الاسترقاق بديلاً عن الإبادة وعرضهم على السيف, وهذا الاسترقاق يشمل ذكورهم وإناثهم, وإناثهم إذا قرر استرقاقهن فإنهن يستبرأن، ويجوز لمالكهن حينئذٍ اتخاذهن للفراش، ويجوز له مكاتبتهن، ويجوز له -وهو الأفضل- عتقهن وتزوجهن، إذا كن أهلاً لذلك، بأن أسلمن وحسن إسلامهن.

    وكل ذلك ثابت في السنة المطهرة, فقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي وجعل عتقها صداقها, وكانت امرأةً صالحةً بعد ذلك, وكانت من خيرة نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك فإن السبي هادم للنكاح، فإذا كانت متزوجة في دار الكفر فأنكحتهم باطلة أصلاً عند المالكية, فكل أنكحة الكفار باطلة, ولكن تقر بها الأنساب ويقرون عليها بعد إسلامهم على بطلانها, هذا مذهب المالكية, ومذهب الجمهور: أن أنكحة الكفار تقر بعد الإسلام، فلا توصف بصحة ولا بطلان قبل الإسلام, وبعد الإسلام أنكحتهم صحيحة؛ لأنه يثبت بها النسب، وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم المشركين إلى آبائهم, وذهب بعض أهل العلم إلى أن كل نكاح صحيح حصل فيه عقد, فالعبرة بالصيغة، فإذا حصلت الصيغة كان العقد صحيحاً مطلقاً، وهذا مذهب الحنفية.

    وعموماً فقد ذكر الله سبحانه وتعالى هدم السبي للنكاح، فإنه ذكر المحرمات من النساء في سورة النساء، فذكر خمس عشرة امرأة, وقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:22-24], معناه: المتزوجات من النساء، فهن حرام مطلقاً، فلا يحوز لرجلين أن يجتمعا على نكاح امرأة واحدة: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:24], معناه: بالسبي, فإذا سبيتها وملكتها يمينك فإن السبي يهدم النكاح.

    ولا يجوز للإنسان أن يسترق وهو فرد, بل الاسترقاق من خصائص الإمام، فلا بد أن تكون للمسلمين دولة، فيها خليفة مبايع حتى يسترق, أما ما كان دون ذلك من الجهاد, كالجهاد التحريري والجماعات الجهادية التي تغزو ونحو ذلك فلا يحل هم الاسترقاق أصلاً، وليس من شأنهم, لا سبياً للنساء ولا للذراري ولا استرقاقاً للكبار من الأسرى.

    معاملة الأسرى

    تجب معاملة الأسرى بالإحسان وهم أهل للصدقة، فقد قال الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا[الإنسان:8-9], ولا يجوز إذلالهم وإهانتهم فهم بشر, وفي حال القتال كذلك لا يجوز ضرب الوجه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه, فإن الله خلق آدم على صورته), فلذلك يضرب على الأعناق وفوق الأعناق أي: الرأس, وعلى الأصابع: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12], فهذه محال القتال, فالأعناق فيها القوة، والأصابع فيها الاستعمال بالضرب والرمي.

    حرمة المثلة

    كذلك لا يجوز تعمد تشويه الصورة، فقطع الرأس والمثلة محرم حتى بالكفار, وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته), فكل ما فيه تشويه وأذى فهو محرم شرعاً.

    وقد سبق تحريم الإحراق بالنار, ومثلها كل ما فيه تشويه للخلقة, فالخلقة البشرية محترمة، فالإنسان خلقه الله كائناً عظيماً ولذلك قال: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ[عبس:21], فمن شأنه أن يقبر مطلقاً سواءً كان مسلماً أو كافراً, ولذلك رمى النبي صلى الله عليه وسلم جثث المشركين يوم بدر في القليب وواراهم جميعاً ستراً لهذه الأعضاء البشرية المشرفة عن أن تلقى على وجه الأرض فيأكلها السباع والطيور, حتى لو كانت لجثث الكفار.

    تقسيم المعمورة

    الأرض إذا فتحها المسلمون تنقسم إلى قسمين: مفتوحة صلحاً, ومفتوحة عنوة.

    فالمفتوحة عنوةً هي الأرض التي لم يصالح أهلها المسلمين, وإنما صمدوا في القتال حتى انتزعت منهم, وهذه الأرض المنزوعة عنوةً لها أحكام خاصة، فلا يحل فيها إقامة الكنائس وبناؤها من جديد, ويجوز للإمام أن يجعلها وقفاً للمسلمين كما فعل عمر في سواد العراق وفي أرض مصر والشام, فتكون وقفاً للمسلمين من اختص منهم بمنفعة منهم أخرج ريعها وخراجها, وقد كان أحمد بن حنبل رحمه الله في بغداد في كل عام يذرع داره التي يسكنها فيخرج خراجها؛ لأنها من أرض عامة المسلمين وليست مملوكةً لفرد.

    أما إذا كانت الأرض فتحت صلحاً فيقر ما فيها من الكنائس؛ لأنهم صالحوا عليها، فيترك لهم كنائسهم وبيعهم ودور دينهم, وإذا خربت يجوز لهم إعادتها وإصلاحها, لكن لا يجوز إنشاء جديدة في غير موضع القديمة, أي أن الموضع الذي كان للعبادة لهم يترك لهم تجديده وبناؤه مطلقاً على مر السنين, أما الموضع الذي لم يكن كذلك فلا يؤذن لهم في بنائه؛ لأننا نعلم أن ما هم عليه باطل, ونحن نقرهم فقط عليه من باب عدم تعريضهم للقتل, ولذلك يترك لهم بيعهم وكنائسهم, وإذا سقط منها شيء جددوه، ويجوز لهم ترميمه وبناؤه من جديد على نفس مواقعه.

    حكم الجهاد الهجومي

    أما ما يتعلق بمن يقوم بالجهاد فهذا الجهاد ذكرنا أنه قد يتعين على بعض الأشخاص وعددناهم, والأصل فيه أن يكون كفائياً، وهو واجب على خليفة المسلمين أن يقيمه في كل عام مرتين في الشتاء وفي الصيف, وكذلك يجب عليه الدفع، ويجب على المسلمين مساعدة من اعتدي عليهم, فإذا اعتدي على أهل قرية من قرى المسلمين أو بلد من بلدانهم فيجب على المسلمين مساعدتهم, ويتعين ذلك على من يليهم ثم الذين يلونهم, ولكن ليس الخطاب في ذلك للأفراد وإنما الخطاب فيه لأهل العلم وللقائمين بأمر المسلمين.

    فمثلاً: إذا اعتدي على العراق أو أفغانستان أو الشيشان فهل يجب على المسلمين في أقاصي الأرض كالسودان مثلاً أن يهبوا لنصرتهم؟ هذا الأمر عائد إلى علماء المسلمين إن أفتوهم بذلك واتفقت عليه كلمتهم وإلى ولاة أمور المسلمين، فإن اتفقت كلمتهم على ذلك وجب عليهم, أما مساعدتهم بالمال ومساعدتهم على من يليهم كجيرانهم فهذا واجب قطعاً.

    وكذلك فإن الجهاد الهجومي إنما يشرع حيث يوجد خليفة لدولة الإسلام, أما إذا لم تكن دولة فلا يجب, فالآن ليس للمسلمين خليفة عام يقوم بالعمل الجهادي فلا يكون الجهاد الآن مشروعاً، فالجهاد الهجومي ليس مشروعاً في هذا الوقت؛ لأنه من شأن الخليفة, وقد قال الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ[الأنفال:67], وكثير من الناس يظن إن الإثخان معناه: القتل, وهذا غير صحيح, بل الإثخان معناه: الغلبة, وهذا معناه في اللغة, يقال: فلان أثخنته الجراح أي: غلبته حتى لا يستطيع الحركة.

    فإذا أثخن في الأرض أي: وجدت الغلبة والسلطان حينئذٍ كان له الجهاد وكان له الأسر, أما إذا كان الإنسان ليس له قوة كالجماعات الجهادية اليوم، فهذه يجب عليها الجهاد الدفاعي فقط، وهو جهاد المحتل والغازي، ولكن لا يجب عليها جهاد الهجوم ولا يحل لها ذلك، إلا إذا أثخنت في الأرض فأصبح لها قوة وسلطان، وأصبح لها إمام مطاع ودولة، فحينئذٍ عليها ما على السلطان بذلك.

    انتهاء الجهاد

    وهذا الجهاد له نهاية لا بد منها, فنهايته إما بوصول الدعوة إلى كل المسلمين, فإذا كان ملك الكفار لا يمنع أحداً منهم من الدخول في الإسلام، ولا يضايق الدعوة، ولا يرد أحداً عن دينه ولا يفتنه، فالجهاد الهجومي غير موجهٍ إليه أصلاً, وإذا كان يردهم عن دينهم فلا بد من مجاهدته: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ[البقرة:193].

    وإذا قتل الكفار فانهزموا فحينئذٍ توقفت المعركة معهم بغلبة المسلمين عليهم, وإذا لم ينهزموا وضعف المسلمون أمامهم فحينئذٍ يتوقف الجهاد بما يسمى بالصلح والهدنة, والهدنة هي أن يكون ذلك لأجل مسمىً بأن لا يدخلوا تحت دولة الإسلام، بل لهم استقلالهم في بلدهم وبينهم وبين المسلمين معاهدة, وهذه المعاهدة مختلف في مدتها:

    فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنها يمكن أن تستمر لعشر سنوات، بدليل صلح الحديبية فإنه كان مؤقتاً بعشر سنين.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تتجاوز ستة أشهر, وإذا تجاوزتها لم تصل إلى السنة، ولا تتعدى سنةً.

    وذهب بعض المتأخرين إلى أن الهدنة يمكن أن تكون إلى غير أمد مطلقاً, وهذا القول ليس موجوداً عند الأقدمين، ولكن يراه بعض المتأخرين.

    وعموماً ليس في المسألة دليل حاسم؛ لأن الفعل لا يقتضي الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في توقيته في الهدنة يوم الحديبية لا يقتضي الاستمرار مطلقاً.

    وأما الصلح فهو أن يقبلوا الدخول تحت سلطان المسلمين فيكونوا من دولة المسلمين, ودولة المسلمين تتسع لكل الديانات ورعاياها يمكن أن يكونوا من أديان شتى, فيمكن أن يكون من رعايا دولة المسلمين اليهودي والنصراني وغيرهم, حتى الديانات غير السماوية كالبوذيين وغيرهم، فهؤلاء يمكن أن يخضعوا لسلطان دولة الإسلام, ويكونوا من رعايا دولة المسلمين.

    وقد نص القرآن على أخذ الجزية من اليهود والنصارى وهم أهل الكتاب, واختلف في أخذها ممن سواهم، فالله تعالى يقول: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29], فمذهب المالكية والحنفية: أن مفهوم المخالفة غير معتبر وهو قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ[التوبة:29], وهو مفهوم الصفة, فمفهوم الصفة هنا غير معتبر؛ لأنه مفهوم مخالفة, وعلى هذا فكل الكفار يجوز أخذ الجزية منهم وأن يكونوا من رعايا المسلمين إذا أمن منهم الدعوة إلى دينهم، فيقدمون الجزية كما يقدم المسلمون الزكاة والخدمة للدولة, لكن مع ذلك إذا كانوا من رعايا المسلمين فإن بعض الأعمال مقصورة على المسلمين في دولة الإسلام, ليس للمسلمين أن يعينوا كافراً من رعايا الدولة الإسلامية والياً على مصر أو قاضياً فيه، أو قائداً لجيش المسلمين, ولا أن يستعينوا به في جهاد العدو، إلا إذا كان ذليلاً كالخدم والمهندسين وغيرهم فقط, فيجوز حينئذٍ استغلالهم إذا كانوا من رعايا الدولة الإسلامية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (ارجع فلا نستعين بمشرك), إنما هو لشخص صاحب قوة وسلاح، ولم يكن خاضعاً لسلطان المسلمين.

    ولذلك غزا المنافقون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أنهم منافقون، فقد غزا معه عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة بني المصطلق وفي غيرها من الغزوات، وغزا معه عدد في غزوة تبوك, عدد كبير من المنافقين, ونزلت فيهم المقشقشة وهي سورة التوبة, قال ابن عباس : لم يزل الله يقول في سورة التوبة: (ومنهم) حتى فضح كل أسرارهم.

    فلذلك إذا كان الإنسان من رعايا الدولة الإسلامية وهو مشرك ويقدم الجزية لدولة الإسلام فيجوز للسلطان تخفيف الجزية عنه، ويجوز له إسقاط الجزية عنه لمصلحة, ويجوز جعلها زكاةً كما فعل عمر مع بني تغلب, فإنهم كانوا نصارى، وكانت تؤخذ منهم الجزية وكانوا أهل أنفة, فقالوا: اجعلنا كإخواننا من بني بكر تؤخذ منهم الزكاة ولا تؤخذ منهم الجزية ففعل عمر ذلك, وفرض عليهم الزكاة, والجزية أخف من الزكاة؛ لأن الجزية دينار على كل محتلم, وهذا شيء يسير جداً, والزكاة بالنسبة للغني اثنان ونصف بالمائة من ماله.

    إقامة الحد في الغزو

    كذلك إذا لم يكن للمسلمين دولة ولا سلطان فإن الجهاد الهجومي الذي يجب عليهم هو للكفار فقط, ولا يجوز لهم مجاهدة المسلمين ولا القتال من أجل تغيير المنكرات أو إقامة الحدود, فإقامة الحدود إلى السلاطين, وقد جاء في ذلك حديث وهو: ( أربع إلى السلطان: وذكر منها: إقامة الحدود وجهاد العدو ), ولكن الحديث ضعيف ومع ذلك عمل به الفقهاء جميعاً, ويدل عليه عدد من النصوص الأخرى كما ذكرنا في آية الأنفال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ[الأنفال:67], فلا بد أن يكون ثم سلطان آمر ناهٍ أولاً، قبل إقامة هذه الأحكام؛ لأنها هي تابعة له, ولذلك تعطل الحدود في بلاد العدو في وقت الغزو.

    وقد اتفق الصحابة على ذلك، فعطل سعد بن أبي وقاص حد شرب الخمر في قتاله للفرس, فلم يجلد أبا محجن الثقفي ، فقد كان يشرب الخمر وكان مولعاً بها, حتى إنه يقول:

    إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها

    ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

    ولما كثر شربه للخمر حبسه سعد ، فجعله في قيد من حديد, فلما اشتدت المعركة يوم القادسية، وكان سعد إذ ذاك جريحاً لا يستطيع ركوب فرسه، وفرسه مشهورة وهي البلقاء, وكانت مربوطةً عند امرأته, و سعد في الجيش، فرأى أبو محجن القتال فبكى؛ لأنه يكفيه حزناً أن يرى الخيل تضرب الخيل ويرى المعارك وهو لا يشارك فيها، وهو البطل الشجاع, فسألته امرأة سعد ماذا يريد، فعاهدها بالله إذا أطلقت القيد وأعطته فرس سعد أن يقاتل فإذا قتل تخلصوا منه، ويكفيه ذلك من التطهير من إقامة الحد, وإذا لم يقتل رجع حتى يرد نفسه في القيد, ففعلت امرأة سعد وفكت عنه القيد وأعطته الفرس, وسعد يشق الصفوف، فهجم عليهم العدو فرأى سعد رجلاً يطعن فيهم طعناً عجيباً، فقال: الطعن طعن أبي محجن والضبر ضبر البلقاء, ولكن البلقاء في الاصطبل وأبا محجن في القيد, فعاد أبو محجن فرد نفسه في القيد، فلما جاء سعد وعرف القصة قال: لا أجلدك في الخمر بعدها، فقال: وأنا والله لا أشربها بعد؛ لأنه كان يشربها حين كان يقام عليه الحد ويطهر, وكان الشيطان يستهويه لذلك ويستزله.

    فلما عرف أنه لن يجلد فيها بعد ترك شربها وتاب.

    قتل الجاسوس

    ومثل إقامة الحد أيضاً قتل الجواسيس ونحوهم, فكل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الأصل عصمة دمه, ولا يقتل إلا تحت ظلال الدولة, فالدولة هي التي تحاكمه وتعرف أنه مرتد أو جاسوس أو باغٍ, فيقام عليه الحد تحت سلطان الدولة, أما من غير سلطان فلا تحل المحاكمة ولا نصب القضاة، ولا إراقة الدماء في المسلمين, فهذا ليس من شأن العصابات المجاهدة, والتي شأنها النكاية في العدو فقط.

    حكم العمليات الاستشهادية

    هنا مسألة أخرى وهي: إذا لم يستطع المسلمون مواجهة العدو لكثرتهم وقوة شكيمتهم فهل يجوز إقامة العمليات الاستشهادية؟

    الراجح جوازها؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عن قتل النفس وعلل ذلك النهي فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا[النساء:29-30], فهنا قال: ((عُدْوَانًا وَظُلْمًا)), وهذا مصدر منصوب على التعليل وهو المفعول لأجله, وهو صريح في التعليل، أي: أن علة التحريم هي: إذا كان ذلك عدواناً وظلماً, أما إذا كان ذلك من غير عدوان ولا ظلم فالحكم لا يشمله؛ لأن الحكم يدور مع علته حيث دارت, بل يقتضي خلاف ذلك وهو قياس العكس كما في الحديث: ( أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ), فمن فعل ذلك إيماناً واحتساباً فمعناه: أن له عكس ذلك، أي: له الجنة, وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا[النساء:30], في مقابل هذا بقياس العكس: ومن يفعل ذلك إيماناً واحتساباً فهو مستحق به الجنة.

    عقد الذمة

    وكذلك من هذه الأحكام التفصيلية أن الأمان إذا عقد مع الكفار فهو مانع الاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم, والكفار في الشرع ثلاثة أقسام: ذمي, ومعاهد, وحربي.

    فالذمي: هو الذي يكون من رعايا الدولة الإسلامية ويدفع الجزية أو يسقطها السلطان عنه، فهذا ذمي له حقوق على المسلمين، ولا يحل الاعتداء على نفسه, ولا على ماله, ولا على عرضه, وهو معصوم من هذه الجهة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل ذمياً أو معاهداً لم يرح رائحة الجنة).

    وقد قال علي رضي الله عنه: إنما بذلوا مالهم ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا, وهذا إذا اعتدى عليه كافر آخر وجب على المسلمين نصرته ورد العدوان عنه.

    والمعاهد: هو الذي بينه وبين المسلمين عهد كالصلح والهدنة, وكذلك العهد الخاص كعهد الأمان بأن يدخل دار المسلمين آمناً, ومثل ذلك البعثات الدبلوماسية والشركات التجارية, فإنها تدخل بأمان إلى بلاد المسلمين ما لم تنقض العهد ولم تخالف، فالمعاهدون في أمان، لا يحل الاعتداء عليهم: لا على أنفسهم، ولا على أموالهم، ولا على أعراضهم. فإذا أخلوا بالأمان واعتدوا على أي مسلم فذمة المسلمين واحدة, وكذلك إذا نقضوا العهد الذي بيننا وبينهم، ولكن الذي يحدد أنهم نقضوا العهد وأخلوا بالذمة هو السلطان, فهذا من خصائص الدولة كذلك.

    أما القسم الثالث: فهو الحربي, وكثير من الناس يظن أن معناه المحارب وهذا غير صحيح, فالكافر الحربي معناه: الكافر الذي ليس بينه وبين المسلمين ذمة ولا عهد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).

    وختاماً: لا نستطيع عموماً الإتيان على أحكام الجهاد كلها، فهي كثيرة، ولكن أنبه إلى أن كثيراً من أهل العلم ألفوا كتباً مختصةً بأحكام الجهاد, ولا بد من تعلم هذه الأحكام ومعرفتها, والرجوع إليها، وهذا من إحياء السنن المماتة, وتدارس أحكام الجهاد أيضاً يؤدي إلى عزة النفوس، وإلى الحفاظ على بيضة الإسلام.

    وهو أيضاً يذكر الإنسان بالعهد الذي بينه وبين ربه, فالإنسان إذا كان لا يسمع حكم الجهاد ويعيش عمره وهو لم يسمع شيئاً من أحكام الجهاد لن يفكر فيه، وبالتالي يموت وهو لم يحدث نفسه بالغزو قط, فيموت على شعبة من نفاق، ويموت ميتةً الجاهلين.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755829290