الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الأعلى هي السورة التي نقرأ بها في صلاة الوتر في كل ليلة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى).
وثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة ، و أبي بن كعب ، و عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهم أجمعين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)، زادت أمنا عائشة رضي الله عنها: (وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) .
وثبت في مسند أحمد من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية في صلاة العيد، وفي صلاة الجمعة).
وقد اشتملت هذه السورة المباركة على تسع عشرة آية، وثمان وسبعين كلمة، وإحدى وسبعين ومائتي حرف، بمعنى: أن من قرأ هذه السورة فإن له من الحسنات ألفان وسبعمائة وعشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة لأنها اشتملت على بشارتين:
البشارة الأولى: قول الله عز وجل: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى[الأعلى:8] أي: نيسرك لكل سبيل خير في الأقوال والأعمال.
والبشارة الثانية: قول الله عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى[الأعلى:6]، فبشره الله عز وجل بأن القرآن محفوظ لا يحتاج منه إلى جهد صلوات الله وسلامه عليه، كما قال في الآية الأخرى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[القيامة:17-18].
وهذه السورة افتتحت بالأمر: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، أي: نزه اسم ربك إذا كان مختصاً به جل جلاله، وقد أجمع أهل العلم على أن هناك اسمين عظيمين لا يطلقان إلا على رب العزة جل جلاله: الله والرحمن، قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ[الإسراء:110]، ولذلك لا يوصف أحد من خلق الله بواحد من هذين، فلا يقال عن أحد: إنه الله، أو الرحمن، ويمكن أن يقال: الرحيم، كما قال الله عز وجل: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[الأحزاب:43]، أو: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128] في حق نبينا صلى الله عليه وسلم.
فنزه اسم الله عز وجل عن أن تطلقه على غيره إذا كان مختصاً به، نزه اسم الله عز وجل أن تؤله غيره، نزه اسم الله عز وجل من أن تعتقد أن غيره يتصف به على سبيل الكمال، بأن تقول: فلان رازقي، أو أنا توكلت على فلان. فهذا كله ممنوع يخالف التنزيه الوارد، ونزه اسم الله عز وجل من أن يطرح على الأرض، أو يلقى في المزابل.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، أي: الأعلى مكاناً جل جلاله، فهو سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، تعرج الملائكة إليه، ويتنزل الأمر من عنده سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الأعلى مكاناً، والأعلى مكانة: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[الشورى:4]، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[الحج:62]، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى[الليل:19-20] فهو سبحانه أعلى ذاتاً ومكانة.
قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، يا ربنا! لم نسبحك؟ ذكر سبحانه الحيثيات والأسباب لذلك: أول سبب: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[الأعلى:2]، فقد استدل سبحانه بخلقه على جلاله وقدرته سبحانه وتعالى. وهذا سبيل الأنبياء كما قال الرازي رحمه الله، فطريقة أكابر الأنبياء: الاستدلال بالخلق على الله، كما قال إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:77-80]، وكما قال موسى عليه السلام لما سأله فرعون عن رب العالمين جل جلاله، فقال له موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50]، وهذه هي صفته سبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، سوى بين الخلائق في الإحكام والإتقان، فكما أن خلقة السماء محكمة متقنة متينة كذلك فإن أدنى حشرة من الحشرات محكمة.
والسبب الثاني: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى[الأعلى:3].
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا[الأحزاب:38]، فقد هدى بني آدم لما ينفعهم.. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10]، وهدى البهائم لمراتعها، فحتى البهائم والطيور تعرف ما ينفعها مما يضرها أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50].
والسبب الثالث: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى[الأعلى:4].
وهو الحشائش الرطبة التي ترعى فيها البهائم فتسمن وتبدن ويدر ضرعها بإذن ربها، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى[الأعلى:5]، فبعد أن كان هذا المرعى رطباً طيباً يؤكل صار غثاء يابساً هشيماً يحمله السيل بزبده، وأحوى: أي أسود بعدما كان أخضر يانعاً خضرته تسر الناظرين.
ثم وجه ربنا جل جلاله الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى[الأعلى:6]، وهذا القرآن محفوظ بحفظ الله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعاء حافظ، فجبريل ينزل بالوحي والنبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج إلى أن يردد ولا أن يعيد، وإنما يحصل الحفظ تلقائياً ومن ثم البلاغ.
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى[الأعلى:7] إلا ما شاء الله أن ينسيك إياه لكونه منسوخاً، يعني: -ولله المثل الأعلى- كما أن الطبيب يكتب للمريض دواء، ثم بعد حين تقتضي حالة المريض تغيير الدواء، كذلك ربنا جل جلاله يغير في الأحكام، فعلى زمن التشريع كانت تتغير الأحكام، فبعدما كان الواجب هو صيام عاشوراء فقط، نسخ صيام هذا اليوم بصيام شهر كامل هو شهر رمضان، وبعدما كان صيام رمضان على التخيير من شاء صام ومن شاء أطعم صار واجباً فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185]، ولو كان غنياً، ولو أطعم ألف مسكين، بل ألف ألف مسكين لا يسقط عنه الصيام.
قال تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى[الأعلى:7]، فالله جل جلاله يعلم ما نجهر به وما نعلن، وما نخفيه ونضمره، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
لذلك كان بعض الناس يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده سؤال فيقول: يا رسول الله! إني سائلك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (سل، وإن شئت أخبرتك قبل أن تسأل) فمن أين عرف عليه الصلاة والسلام؟ من الله سبحانه وتعالى.
كذلك الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنه سيد بني المصطلق: فقد جاء يوماً في فداء ابنته جويرية بإبل كثيرة، ولما وصل على مشارف المدينة أعجبه بعيرين، فغيبهما في شعب من الشعاب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جئتك في فداء ابنتي، وهذه الإبل كلها في فدائها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دع عنك هذا وأخبرني عن البعيرين اللذين غيبتهما في ذلك الشعب ما خبرهما؟! فقال الرجل: والله ما أعلمك إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله).
فالله عز وجل يعلم السر وما كان أخفى من السر، والسر: هو ما يكون بينك وبين فلان، والأخفى من السر: هو ما أضمرته في نفسك ولم تحدث به أحداً قط.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى[الأعلى:8]، أي: الشريعة السمحة السهلة الميسرة في أحكامها، الميسرة في فهمها وأداء أركانها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمح الناس وأيسرهم، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما عليه الصلاة السلام، ودينه اليسر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة:185].
قال الله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى[الأعلى:9]. وهذا كقوله سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ[ق:45].
قال أهل العلم: يؤخذ من هذا أدب: أن العلم لا يوضع عند من لا يوقره ولا يحترمه، وإنما يبذل العلم لمن ينتفع به: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى[الأعلى:9].
قال الله عز وجل: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى[الأعلى:10] كما قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا[يس:70]، فمن يخشى الله عز وجل ويتقيه هو الذي ينتفع بهذا القرآن. أما الفاجر والمنافق والشقي فإن القرآن ظلمات عليه.
وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى[الأعلى:11]، نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان يسمع القرآن، ويقول: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، ثم قال بعد ذلك: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ[المدثر:24]، فهذا هو الأشقى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:12]، الذي سيعاني حرها، ويصلى سعيرها.
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:13]، نسأل الله العافية، فهو في النار لا ميتاً فينسى، ولا حياً فيرجع، قال الله عز وجل: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ[إبراهيم:17]، وليته مات، يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]، يطلبون من الله أن يميتهم وأن يهلكهم لكن لا يستجاب لهم، وهكذا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا[النساء:56]، كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا[الإسراء:97].
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14]، نال الفلاح من زكى نفسه بالطاعة والعبادة والذكر وقراءة القرآن والدعاء.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى:15] قالوا: المقصود بالزكاة زكاة الفطر، فهو يزكى ثم يصلى بعدها صلاة العيد، وذكر اسم ربه بالتكبير فصلى.
قال الله: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[الأعلى:16] وهذه هي عادة بني آدم في الأعم الأغلب، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ[القيامة:20-21] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ويجمع لها من لا عقل له).
وقال علي بن أبي طالب : (الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل يحق الحق ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها)، بل حالكم أنكم تؤثرون الحياة الدنيا، تؤثرون العاجلة، كما قال بعض الفساق: لا أبيع نقداً بنسيئة، يعني بالنقد: الدنيا، وبالنسيئة: الآخرة، أنا لا أبيع الدنيا من أجل الآخرة.
قال الحسن البصري رحمه الله: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لوجب على العاقل أن يؤثر الباقي على الفاني، فكيف والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى؟! بالله عليكم! لو أن إنساناً يبني بيتاً ويجمله فهل يبقى على جماله؟ بل إنه يصير بعد سنة وسنتان وثلاث وعشر بالياً خرباً، لكن الآخرة ذهب يبقى، وأهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، لا يبصقون، ولا يمرضون، ولا يمتخطون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، في نعيم الأبد هذا حالهم.
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[الأعلى:17] وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه، كقول الله عز وجل: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا[الفرقان:24] إذ لا مقارنة بين مقيل أهل الجنة وأهل النار لأجل أن يقال: أحسن، فأفعل التفضيل ليس على بابه.
قال الله: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى[الأعلى:18]، الإشارة هنا لقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14] وهذا مذكور في قوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ[الشعراء:196] .. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:19]، سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كانت أمثالاً)، ومن بين أمثاله التي وردت وحكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينبغي للعاقل أن تكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو بحاجته من المطعم والمشرب، وينبغي للعاقل ألا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم) .
فالإنسان إما أن يسعى للآخرة، أو للدنيا، أو يتلذذ بغير محرم.
وينبغي للعاقل أن يكون مقبلاً على شانه، ممسكاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا في ما يعني، قال أبو ذر : يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: (كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن؟! وعجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟! وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف لا يعمل؟! وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟!) إنسان رأى الدنيا، ورأى تقلبها بأهلها، الصحيح يسقم، والغني يفتقر، والقوي يضعف، كيف يطمئن إلى هذه الدنيا ويخلد إليها؟!
ومن السنة: قراءة سورة الأعلى مع سورة الكافرون في صلاة الوتر، ومن السنة: قراءة سورة الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة، ومن السنة: قراءتهما في صلاة العيد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المرتفعين المعتدلين المتعظين.
وقد اشتملت هذه السورة المباركة على ست وعشرين آية، وضمنت اثنتين وتسعين كلمة، في ثلاثمائة وواحد وثمانين حرفاً، معنى ذلك: أن من قرأها فله من الحسنات ثلاثة آلاف وثمانمائة وعشر.
وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقرأها مع سورة الأعلى في صلاة الجمعة، وفي صلاة العيد.
بدأت هذه السورة بالسؤال والخطاب لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1] قال أهل التفسير: هل بمعنى: قد، أي: قد أتاك، كما في قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ[الإنسان:1] أي: قد أتى، وروي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في طريق من طرقات المدينة، فسمع امرأة ترتل القرآن، فوقف يصغي، فقرأت: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1] قال: نعم، قد أتاني قد أتاني) والغاشية هي القيامة، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأهوالها ومصائبها، كما قال الله عز وجل: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[العنكبوت:55].. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ[الأعراف:41].
ثم بدأ ربنا جل جلاله يصف أحوال الناس في ذلك اليوم العظيم، وأنهم ينقسمون إلى فريقين، ولكل فريق سمات وصفات وأحوال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ[الغاشية:2]، هذا حال الكفار والفجار نسأل الله السلامة، خَاشِعَةٌ )) أي: خاضعة ذليلة من الخزي، كما قال الله عز وجل: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ[المعارج:43-44] فالخشوع بمعنى: الذلة والسكون والتنكيس والخضوع، وهو حال الكفار.
قال الله: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ[الغاشية:3]، وهي صفتان: في الدنيا والآخرة. روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: هم النصارى. وقال سعيد بن جبير و زيد بن أسلم : هم الرهبان في الصوامع.
فربنا يصف حال هؤلاء الناس في الدنيا وأنهم كانوا في عمل متعب لكن ما النتيجة؟ يقول الحسن البصري رحمه الله: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلاد الشام جاءه راهب شيخ رث الهيئة، وسخ الثياب، يابس الجلد، فلما رآه عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فأخطأه، ورجى رجاءاً فلم يصبه، ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ[الغاشية:2-3]، ففي الدنيا كانت تعمل وتجتهد لكن في ضلال وكفر وبدعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجاء بأناس من أمتي يوم القيامة فيذادون عن الحوض -يمنعون من ورود حوضه عليه الصلاة والسلام- فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم بدلوا وغيروا) .
فقد كانوا في الدنيا في تعب في غير ما شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وقد كان علي بن أبي طالب ينزل هذه الآية على الخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم) ومع ذلك فهم كلاب النار، مع أنهم يكثرون من الصلاة وقراءة القرآن، لكنهم يكفرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ليس لهم في الآخرة إلا النار.
ثم إن هذه الوجوه التي كانت في الدنيا عاملة ناصبة تعبت كذلك يوم القيامة -والعياذ بالله- يقفون حفاة عراة في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، ثم يسحبون في النار على وجوههم، ويعانون صعود الجبال والوهاد والوديان في حر النار، كما قال الله عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر:17]؛ فيكلف صعود جبل في النار، كلما بلغ قمته هوى إلى قاعه وأسفله، وهذا حاله.
قال الله: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً[الغاشية:4]، وقد مر معنا قول الله عز وجل: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:12] فيصلى أي: يقاسي حرها وسعيرها. تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً قد اشتد حرها غيظاً وغضباً: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا[الفرقان:12]؛ لأن النار غاضبة على هؤلاء الكفار والفجار: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ[الغاشية:5]؛ أي: بلغت غايتها في الحرارة، كما قال الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ[الأحزاب:53] أي: نضجه وتمامه. وهذه العين قد بلغت الكمال في الحر والسعير، ولو أن قطرة منها سقطت على الأرض لأذابتها، قال الله عز وجل: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ[إبراهيم:16]، وقال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ[الكهف:29].
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ[الغاشية:6]، قال قتادة رحمه الله: أبشع الطعام وأخبثه وأنتنه؛ شوك ينبت في النار، وقيل: سمي ضريعاً؛ لأنهم يتضرعون إلى الله منه، ويدعون الله بألا يطعموه، وفي تفسير ابن عطية : سمي ضريعاً؛ لأنه مضرع يسبب هزالاً في الجسد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حال ابني جعفر: (مالي أراهما ضارعين) يعني: نحيفين هزيلين.
يقول الإمام القرطبي في قول الله عز وجل: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ[الحاقة:35-36]، ما عندهم طعام إلا الغسلين، وهنا يقول: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ[الغاشية:6] قال: ووجه الجمع بين الآيتين: أن النار دركات -والعياذ بالله- فمن أهل النار من طعامه الغسلين، ومن أهل النار من طعامه الضريع، ومن أهل النار من طعامه الزقوم، كما أن من أهل النار من شرابه الحميم، ومن أهل النار من شرابه الصديد، قال الله عز وجل: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ[الرحمن:44]، وهذا حالهم.
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ[الغاشية:7] لا يتحقق به مقصود، ولا يندفع به محذور، فليس فيه فائدة.
ثم انتقل ربنا إلى حال أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ[الغاشية:8] ناعمة: عليها البهاء والحسن، كما قال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ[القيامة:22]. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ[عبس:38-39]، فهذه الوجوه يظهر عليها أثر النعيم.
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ[الغاشية:9] راضية عن عملها الذي كان في الدنيا، فإنه يجلس بعضهم مع بعض يستأنسون، ويقول قائلهم: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ[الطور:26-27] فقد كنا في الدنيا أهل صيام، وقيام، وصلاة، وقرآن، ودعاء، وكنا في الدنيا أهل صدقات وبر وإحسان وصلة للأرحام، وقيام بالحقوق، وهم الآن يشعرون بالرضا، كحال الطالب الذي إذا ظهرت نتيجته وبانت، وتفوق على الأقران، شعر بالرضا عن عمله وسعيه.
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ[الحاقة:22] بهية رفيعة القدر، عالية المكان والمكانة.
لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً[الغاشية:11] ولاغية: مصدر كالعاقبة، فلا تسمع فيها قولاً شائناً، ولا إفكاً مبيناً، ولا إثماً ولا كذباً، كما قال الله عز وجل: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا[النبأ:35]، لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ[الطور:23]، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا[الواقعة:25-26]، ليس في الجنة كلام باطل، ولا ساقط.
ثم قال الله: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ[الغاشية:12] تجري من تحت أرجلهم في غير أخدود. والماء الآن إذا جرى لا بد أن يجري في مكان محفوظ، إما أن يكون بحراً، أو أخدوداً، لكن الجنة تجري من تحتها الأنهار من غير أخاديد.
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ[الغاشية:13] مرفوعة سمكها، مرفوعة قدرها، عليها الفرش الناعمة، والحور العين.
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ[الغاشية:14] أكواب، وأباريق، وأوانٍ من فضة وذهب يشربون فيها من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا[الإنسان:15-18]، هذا حالهم.
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ[الغاشية:14] أي: قريبة في متناول أيديهم، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ[الغاشية:15] النمارق: جمع نمرقة، وهي: الوسائد والمرافق التي يتكئون عليها مرصوصة بنظام تسعه وتسع زواره، وإخوانه ومن يأتونه.
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ[الغاشية:16] الزرابي: جمع زربية، وهي البسط الفاخرة، ولم يقل: وزرابي مصفوفة، وإنما قال: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، كما قال هنالك في حال خدم أهل الجنة: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا[الإنسان:19] فقالوا: إن اللؤلؤ المنثور أجمل من اللؤلؤ المنضود، وكذلك هذه الزرابي فإن جمالها في أنها مبثوثة، قد ألقيت هنا وهناك بسط فاخرة ثمينة، ففي سنن ابن ماجة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا من مشمر إلى الجنة، هي والذي نفسي بيده نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، وفاكهة كثيرة، وثمرة نضيدة، وزوجة حسناء جميلة في مقام أبداً، قال الصحابة: نحن المشمرون يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، فقال الصحابة: إن شاء الله) ، فهذا وصف الجنة.
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ[الغاشية:10-16].
ولما سمع الكفار هذا الكلام استهزءوا وسخروا وقالوا: يعدنا محمد بجنان كجنان الأردن، ويتوعدنا محمد بشجر ينبت في النار: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ[الدخان:43-46]. وفي الآية الأخرى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ[الصافات:62-64]، قالوا: يعدنا بشجرة تخرج في النار، والنار تأكل الشجر! إن هذا كلام لا أصل له.
قال الله عز وجل: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ[الغاشية:17]، فيا من تكذبون بالجنة والنار! قد جعلت لكم آيات باهرات بين أيديكم: هذه الإبل ضرب الله بها المثل؛ لأنها قوية شديدة غليظة عظيمة الخلق سخرها الله عز وجل للإنسان الضعيف الراعي الذي لا يزن خمسين كيلو يقود هذا الجمل حيث شاء، ويحمله من الأثقال ما شاء، فقد سخر الله عظيماً لصغير، قال أهل التفسير: وقد ذكر الله الإبل أولاً؛ لأن الحيوانات على أربعة أنواع: أكولة، وحلوبة، وركوبة، وحمولة، فإما أن يأكل لحمها، وإما أن يشرب لبنها، وإما أن يركب ظهرها، وإما أن يحمل عليها، والإبل فيها الأربع: يؤكل لحمها، ويركب ظهرها، ويحلب درها، ويحمل عليها، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ[غافر:79-81].. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ[النحل:8-9].
والله عز وجل يضرب المثل بهذه الأمثل: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ[الغاشية:17-18] فكيف رفعت هذه السماء التي فوقهم؟ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا[الرعد:2]، وليس هناك بناء في الدنيا على صغر حجمه إلا وله أعمدة، أما هذه السماء التي لا تدركها الأبصار فليس لها عمد، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ[الغاشية:19-20]، أي: سخرت للسالكين، وإلى الجبال كيف جعلها الله عز وجل منصوبة أوتاداً تمنع الأرض من أن تميد وتضطرب.
قال الله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[الغاشية:21] هذه مهمتك، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ[الغاشية:22].
يقول ابن عطية رحمه الله: هذه آية منسوخة بآيات القتال، ففي البداية كان الرسول صلى الله عليه وسلم مذكراً لا مسيطراً، ثم بعد ذلك أمره الله عز وجل بأن يقاتل من كفر، كما قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) .
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ[الغاشية:23] قال ابن كثير : تولى عن العمل بأركانه، وكفر بالحق بجنانه ولسانه. أي: تحقق فيه الكفر كله، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ[الغاشية:24]، وهو العذاب الذي مضى ذكره، ثم سلى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ[الغاشية:25]، فسيرجعون إلينا، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ[الغاشية:26]، كما قال الله: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ[الرعد:40]، فأنت تبلغ وتأمر وتذكر، والحساب على الله رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام! إننا إذا قرأنا في هذه السورة ومثيلاتها في صفة الجنة والنار، فسنجد أن ذلك يحفز المؤمن للعمل على أن يكون من أهل الجنة، وعلى أن يجتنب النار.
نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى.
سورة الفجر سورة مكية كالأعلى والغاشية، لكنها أطول منهما، مشتملة على ثلاثين آية، في سبع وعشرين ومائة كلمة، وخمسمائة وتسعة وتسعين حرفاً، يعني: ستمائة حرف إلا واحداً.
وهذه السورة المباركة عنيت بالحديث عن اليوم الآخر، وعن فساد مقاييس المشركين اللاتي يقيسون بها الأمور، وقد افتتحها ربنا جل جلاله بالقسم، والقسم في القرآن ورد في تسع عشرة سورة افتتحت به.
قال تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر:1-2]، الفجر: هو الوقت المعروف، وسمي بالفجر؛ لأن الضياء ينفجر من الظلمة.
وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر:2] هذه الليالي العشر قيل: هي العشر الأول من ذي الحجة، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من أيام العشر) يعني: عشر ذي الحجة.
وقيل: هي العشر الأواخر من رمضان، وقيل: هي العشر الأول من المحرم، وقيل: هي العشر التي ذكرها ربنا في قصة موسى : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ[الأعراف:142].
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ[الفجر:3]، قيل: الوترُ هو: الله جل جلاله، والشفع: خلقه، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ[الذاريات:49]. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا[النبأ:8].
وقال عكرمة رحمه الله: الشفع: هو يوم النحر، والوتر: يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة هو يوم التاسع، ويوم النحر هو اليوم العاشر، وقيل: الشفع والوتر هي الأيام منها شفع، ومنها وتر، وقيل: العدد منه شفع ومنه وتر، وقيل: الصلوات، فمنها شفع كالعشاء، ووتر كالمغرب، وقيل: الشفع والوتر آدم وحواء، فقد كان آدم عليه السلام وتراً فلما خلقت حواء صارا شفعاً، وقيل: الشفع والوتر إشارة إلى صفات المخلوقين وصفات الخالق جل جلاله، فصفات المخلوقين شفع: قدرة وعجز، قوة وضعف، علم وجهل، بصر وعمى، كلام وخرف، هذا حال المخلوق. أما الله عز وجل فصفاته علم بلا جهل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وكلام بلا خرف، وبصر بلا عمى جل جلاله.
وقد أقسم ربنا جل جلاله بالفجر، وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ[الفجر:2-4] أي: إذا ذهب ومضى، كما قال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ[التكوير:17]. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ[المدثر:33-34].
وهذه الخمسة أقسم بها ربنا جل جلاله ثم قال: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ[الفجر:5]، الحجر: هو العقل، وسمي حجراً؛ لأنه يحجر الإنسان ويمنعه عن تعاطي ما لا يليق من الأقوال والأفعال، ومنه سميت الحجرة حجرة؛ لأنها تحجر وتحجز ما بداخلها.
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ يعني: أيها المشركون! إذا كانت لكم عقول فتأملوا في هذه الخمسة التي ذكرها ربنا جل جلاله، ثم إن المشركين كانوا معجبين بقوتهم، وكانوا يدلون على الله عز وجل بغناهم وأموالهم، فالله عز وجل ذكر لهم خبر ثلاثة من الأمم قبلهم كانوا أهل قوة وغناء، وأهل يسار وسعة فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ[الفجر:6-7] وعاد: هي القبيلة العربية التي أرسل الله إليها هوداً عليه السلام، وكانوا عتاة جبارين متمردين على أمر الله، مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه، وكانوا أهل كبر وعتي، يقولون: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]، ونبيهم عليه السلام قال لهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ[الشعراء:128-130] أتبنون بكل مكان مرتفع بناية كبيرة لمجرد العبث لا للسكنى، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويأملون ما لا يدركون، هذه قبيلة العماد: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ[الفجر:7] وإرم : هو جدهم الأكبر، ذات العماد: كانت لهم أعمدة وأبنية كما حكى ربنا عنهم في القرآن: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ[الشعراء:149] وهذا حالهم.
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ[الفجر:8]، وتأملوا هذه الأوصاف فإنكم تجدونها تنطبق على الدولة المتكبرة على الناس اليوم.
ثم الأمة الثانية: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ[الفجر:9] وقبيلة ثمود: قبيلة عربية، أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام، وجابوا: أي: قطعوا، ومنه قولهم: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها جيئة وذهاباً، ومنه سميت الجيب جيباً، أي: وقطع الذين جابوا الصخر بالواد هؤلاء أيضاً، كما قال لهم نبيهم صالح عليه السلام: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا[الأعراف:73-74]، فقد كانوا يصنعون من الجبال بيوتاً قوية محكمة.
وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ[الفجر:10] و فرعون : هو اللئيم الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24]، مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى[غافر:29]، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي[القصص:38].
وقد قيل: ذو الأوتاد: أي: الجيوش الكثيرة التي تشيد ملكه وتدفع عنه، وقيل: كان يدق أوتاداً في الأرض ويشد إليها من خالفوه حتى يموتوا، مثلما هدد موسى عليه السلام: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[الشعراء:29].
قال الله: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ[الفجر:11-12] هؤلاء الثلاثة: عاد وثمود وفرعون، طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ[الفجر:11-12] وفسادهم: عقدي، وسياسي، واجتماعي، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ[الفجر:12-13] وصب: أي أفرغ عليهم عذاباً مؤلماً خالط اللحم والدم، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ[الفجر:13] قيل: السوط: هو العذاب الذي يخالط اللحم والدم، من قولهم: ساطه يسوطه، فالرجل يسوط السكر في الشاي من أجل أن يختلط، ولذلك سمي السوط سوطاً.
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ[الفجر:14] فالله عز وجل يرصد خلقه، ويراقب أفعالهم، ويسمع كلامهم، ويرى أحوالهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم.
ثم بين ربنا جل جلاله أن أكثر الخلق خاطئون؛ إذ أن كثيراً من الناس إذا كان غنياً موسراً يظن أن هذا المال جاءه لأنه كريم على الله، وكثير من الناس يظن إذا كان فقيراً معدماً بأن هذه الفاقة قد أصابته لأنه هين على الله، كما حكى القرآن قول ذلك الكافر الذي قال لأخيه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا[الكهف:34]، ثم قال له: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا[الكهف:36]، ويقول الله عز وجل في وصف هذا الإنسان: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى[فصلت:50] هذا حال كثير من الناس.
يقول الله سبحانه: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[الفجر:15-16]، فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ )) اختبره، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ )) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ )) اختبره فقدر عليه، أي: ضيق رزقه: فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ )).
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهؤلاء الذين يظنون أنهم قد حرموا الرزق لكونهم هينين على الله ليسوا بأحق عند الله ممن ظنوا أنهم نالوا المال لكرامتهم عند الله، وقد قال الله سبحانه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ[المؤمنون:55-56]، فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن أحب ومن لا يحب، وقد كان الوليد بن المغيرة ، و أمية بن خلف ، و أبو جهل ، وأمثالهم من أغنى أغنياء البشر، ومع ذلك فهم في أسفل سافلين.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: وهذا الذي خفيت حكمته على كثير من أهل الشرك والزندقة حتى قال قائلهم:
كم من عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تراه مرزوقاً
كم من عاقل عاقل أعيت مذاهبه: يعني: ما استطاع أن يتحصل على المال، وجاهل جاهل تراه مرزوقاً.
هذا الذي ترك الأفهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقاً
فهو يعترض على الله عز وجل ويقول: كيف يكون العالم فقيراً، والجاهل غنياً ميسوراً؟ لكن الله عز وجل بين أن ذلك لا يرجع لمسألة كرامة أو إهانة، وإنما هو ابتلاء واختبار.
قال تعالى: كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ[الفجر:17]؛ لأن اليتيم عندكم مهان،وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الفجر:18]، أي: لا يحض بعضكم بعضاً على إطعام المسكين، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا[الفجر:19] أي: جمعاً، يقال: لَمَّ الشيء إذا جمعه، ومنه الدعاء: اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تجمع بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا.
تأكلون التراث، أي: ميراث النساء والصغار، وهو فعل من لا يتقي الله إلى يومنا هذا، فالنساء عندهم ليس لهن في الميراث نصيب، والصغار ليس لهم نصيب.
ثم بدأ ربنا جل جلاله يحدثهم عن القيامة: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا[الفجر:21] زلزلت وغيرت وبدلت، كما قال ربنا سبحانه: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ[الحاقة:14-16].
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا[الفجر:22] مجيئاً يليق بجلاله سبحانه وتعالى لا نسأل كيف؟ (والملك)، أي: الملائكة صفاً صفاً.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى[الفجر:23] نعوذ بالله من حرها، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يومئذٍ بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ))، يتذكر عمله، تفريطه في جنب الله، تقصيره في الطاعات، إقدامه على المعاصي، جرأته على حدود الله، تكذيبه للشرع وللقدر: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى[الفجر:23]، ما الفائدة؟
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[الفجر:24] يندم ويتحسر، يا ليتني قد فعلت الطاعات واجتنبت المحرمات، يا ليتني تزودت من القربات، يا ليتني قدمت عملاً صالحاً، ويسألون الله: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ[المؤمنون:107]، رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100]، يبدءون فيستغيثون، لكن لا سبيل إلى النجاة: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى[الفجر:23].
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ[الفجر:25-26]؛ ففي ذلك اليوم ليس عذاب كعذاب الله -نعوذ بالله منه- ولا وثاق ورباط كوثاق الله عز وجل، يأمر الله هؤلاء الملائكة فيجعلون ذلك الكافر في سلسلة طويلة ذرعها سبعون ذراعاً، إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ[غافر:71-72]، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[القمر:48]، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا[الإسراء:97].
ثم قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30].
وقد قيل: نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو سيد الشهداء، ولما سمعها أبو بكر قال: ما أحسن هذا الكلام يا رسول الله! قال: (سيقوله لك الملك عند الموت يا أبا بكر)، سيقول لك: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً[الفجر:27-28].
وفي سنن ابن ماجة من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن إذا توفي يناديه الملك: يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرة ورضوان، ورب راض غير غضبان، فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء) هذا حال المؤمن.
ويروي ابن أبي حاتم رحمه الله عن سعيد بن جبير قال: لما مات ابن عباس وحمل إلى قبره في الطائف، جاء طائر لم يرَ على خلقته قط، فدخل في نعشه ما بين كفنه وجسده، ثم لم يرَ خارجاً منه، فلما وضعناه في قبره سمعنا تالياً يتلو لا نرى صورته: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي[الفجر:27-29] أي: في عبادي الصالحين، وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:30]. نسأل الله سبحانه أن يجعلنا منهم.
سورة البلد سورة مكية، تضمنت عشرين آية في اثنتين وثمانين كلمة، في ثلاثمائة وواحد وخمسين حرفاً.
وقد افتتح الله هذه السورة المباركة بقوله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:1] والبلد: هو مكة بإجماع المفسرين، وقد أقسم ربنا جل جلاله بمكة في قوله سبحانه: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ[التين:1-3]، وهنا يقول: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:1]، قال أهل التفسير: (لا) هاهنا مزيدة صلة على عادة العرب في كلامهم، وقد تكرر هذا في القرآن كثيراً، كقول الله عز وجل مخاطباً إبليس: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ[الأعراف:12] والمعنى: ما منعك أن تسجد، وقول موسى لهارون: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ[طه:92-93] أي: أن تتبعني، وقول الله عز وجل: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[الحديد:29] أي: ليعلم أهل الكتاب، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً حيث يؤتى بلا زائدة، ومنه أيضاً قول القائل:
ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر و لا عمر
أي: أبو بكر و عمر ، وقول الله عز وجل: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ[فصلت:34] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة.
وبعض أهل التفسير قال: أصل الكلام: (لأقسم بيوم القيامة) وأشبعت الفتحة حتى صارت ألفاً، كما قال بعض العرب:
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانياً
والمعنى: كأن لم ترَ قبلي أسيراً يمانياً، لكن قال: كأن لم ترا.
والآخر يقول:
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زيادِ
فيجعل ألم يأتك ألم يأتيك وأشبع الكسرة، فالله عز وجل قال: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:1] البلد: مكة، والمعنى أقسم بهذا البلد.
قال تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:2]، وأنت يا محمد -صلى الله وعليه وسلم- حلال لك ما تفعله في مكة يومئذ من غير ضيق ولا حرج، بل إنك مصيب فيه، وأنا عنك راض، يعني: تدخل مكة تقتل من تقتل، وتأسر من تأسر، وتفعل ما تفعل وأنا عنك راض.
وهذا المعنى قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا إن الله عز وجل قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض؛ فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط لقطتها، وإنها قد حلت لي ساعة من نهار، ولا تحل لأحد بعدي، ألا فليبلغ الشاهد الغائب) .
ومعنى الكلام: أن الله عز وجل قد أحل لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة إذا فتحها أن يفعل فيها ما يشاء، ولذلك عفا الرسول صلى الله وعليه وسلم عن أهل مكة كما في الخبر: (ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل ناساً منهم: مقيس بن صبابة ، و عبد الله بن خطل وجاريتيه اللتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدر دماء أقوام؛ لأن الله عز وجل قال له: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:2].
ثم قال الله: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ[البلد:3] فبعد أن أقسم ربنا بالبلد أقسم بالوالد وهو آدم عليه السلام وأولاده، أو بالصالحين من ذريته. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ[البلد:3] ما جواب القسم؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[البلد:4]، فالله عز وجل يحلف بالبلد، وبآدم وذريته على أن هذا الإنسان مخلوق في مكابدة وشدة وضيق وحرج، وهاهنا كلمات للإمام أبي عبد الله القرطبي أقرأها بنصها؛ لأن فيها حكمة بالغة، قال:
قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته. وهذا أول ما يعانيه الإنسان، ويمكن أن نقول: إن أول ما يعانيه هو الخروج من بطن أمه، هل يخرج بسهولة أم أنهم يجرونه جراً، ويسحبونه سحباً، وأحياناً رأسه؟! فهذا كله يحصل، لكن الشيخ قال: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً وشد رباطه، يعني: عندما يلف الطفل لفاً محكماً، وربما يكون ذلك في شدة الحر، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، فيعاني الطفل ما يعاني إلى أن يعتاد ثدي أمه، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، والأسنان غير سهلة إذا طلعت، وتصحبها حمى وإسهالات، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، فأول يوم نذهب فيه إلى المدارس نبكي، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يكون إيرادها من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغمّ اليدين، ووجع السن، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا ويقاسي فيه شدة، ويكابد فيه مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة، وإما في النار، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[البلد:4] فلو كان الأمر إليك -أيها الإنسان- لما اخترت هذه الشدائد، فدل ذلك على أن لك خالقاً دبرك، وقضى عليك بتلك الأحوال فامتثل أمره لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[البلد:4].
وهذه الآية -أيها الإخوان- فيها عزاء لأي شدة يقابلها الإنسان.
قال الله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ[البلد:5] يا مسكين! يا ضعيف! أتحسب أن الله عز وجل ليس بقادر على أن يعيدك كما بدأك؟ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا[البلد:6].
قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في الحارث بن نوفل أذنب ذنباً، فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة، فماذا قال؟ قال: لقد أهلكت مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد، لقد أهلكت مالاً لبداً أي: كثيراً.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ[البلد:7]، وهذه دعوى يطلقها كثير من الناس يقول: أنا أنفقت وأنا فعلت، والله عز وجل هو العالم جل جلاله، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ[البلد:5].
ثم بدأ ربنا جل جلاله يعدد النعم التي ما طلب فيها ثمناً: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ[البلد:8] هاتان العينيان هل طلب منك عنهما مالاً؟وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ[البلد:9]، تصوروا لو أن الله عز وجل ما خلق لنا هاتين الشفتين كيف يكون منظر أحدنا؟ بل جعل الله هاتين الشفتين في خدمة الإنسان؛ فمتى شئت أطبقتهما، ومتى شئت فتحتهما.
ثم النعمة الأكبر: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10].. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[الإنسان:3]، فبين لك طريق الخير وطريق الشر.
قال الله: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ[البلد:11] هلا اقتحمت العقبة يا ابن آدم؟! قال ابن عمر : العقبة: جبل في جهنم. وقال غيره: بل هو الصراط المضروب على جهنم، وقال آخرون: هي جهنم نفسها.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ[البلد:12]، كيف نقتحم العقبة؟ دلنا ربنا جل جلاله على ثلاث سبل:
السبيل الأول: فَكُّ رَقَبَةٍ[البلد:13] تعتق من كان رقيقاً، كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق نفساً مسلمة أعتق الله بكل عضوٍ عضواً حتى ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج) .
وفي الحديث الآخر: (من بنى لله مسجداً يذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن أعتق نفساً مؤمنة أعتقه الله من النار، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) .
السبيل الثاني: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ[البلد:14]، إطعام الطعام في يوم ذي مسغبة، في يوم فيه مجاعة، فيه أزمة ومخمصة، في يوم ذي مسغبة نطعم من يا ربنا؟ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ[البلد:15] فهو يتيم ومن الأرحام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله يوم القيامة، ومن كسا مسلماً على عري كساه الله من حلل الجنة) ، أطعم يتيماً من الأرحام، (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه).
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[البلد:16]، إنسان مسكين من شدة مسكنته وعظيم فاقته التصقت يده بالتراب فما عاد يستطيع القيام، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[البلد:16].
السبيل الثالث: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ[البلد:17]، فلو أنك أعتقت رقبة، وأطعمت مسكيناً، وكفلت يتيماً من غير إيمان فلن ينفعك كل هذا، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:23].. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ[النور:39] كرماد لا ينفعهم عند الله.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويكسو العاري، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه ذلك شيئاً؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) .
ما سينفعه، لماذا؟ لأن الله قال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ[النحل:97]. وقال: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء:19].
ولذلك فإن رهبان النصارى يتعبدون، وأحبار اليهود وعباد الوثن وغيرهم يتعبدون؛ لكنهم حصب النار؛ لأنه لا يوجد لديهم إيمان صحيح، فمن أراد الفوز فلابد أن يكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، وأوصى بعضهم بعضاً بأن يرحموا خلق الله: (الراحمون يرحمهم الرحمن). (من لا يرحم لا يرحم). (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ[البلد:18] أي: أصحاب الجنة.
قال الله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ[البلد:19] نسأل الله العافية، أي: أصحاب الشمال.
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ[البلد:20]، وفي قراءة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوْصَدَةٌ[البلد:20]، أي: مغلقة، قال أبو عمران الجوني رحمه الله وهو من سادة المفسرين: إذا كان يوم القيامة أمر الله عز وجل بكل جبار وكل شيطان، وكل من كان في الدنيا يخاف الناس شره فأوثقوا في الحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدت عليهم، أي: أطبقت، قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً، ولا والله لا ينظرون إلى أديم سماء فوقهم أبداً، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبداً، ولا والله لا يذوقون بارد شراب أبداً، هذا حالهم في النار: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ[البلد:20].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله عز وجل أن ينسى أهل النار جعل لأحدهم صندوقاً من نار على قدره، ثم أقفل عليه بأقفال من نار، فلا يضرب منه عرق إلا وفيه مسمار، ثم جعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار ...)وتلا قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )).
نسأل الله أن يجيرنا من النار برحمته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر