إسلام ويب

التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [4]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قسم الشاطبي طرق العلم إلى طريقين: طريق البرهان والعرفان، وهو نهج الفلاسفة والمتكلمين، وطريق السنة والقرآن، وهذا التقسيم إنما نقله عن الفلاسفة، والطريقة القرآنية النبوية هي المناسبة للعامة وأهل العلم، كما أنها غاية التحقيق في العلم.

    1.   

    طرق تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فهذا هو المجلس الرابع من مجالس التعليق على مقدمات كتاب الموافقات للشاطبي رحمه الله، وينعقد في الشهر السابع من سنة 1428هـ.

    قسم الشاطبي رحمه الله طرق العلم بحسب ما وصف إلى طريقين: الطريق الأول وقد سماه: مناسباً أو لائقاً بالجمهور، والطريق الثاني: لا يكون لائقاً بالجمهور، وأشار إلى أن الشرع لم يعتبره؛ لصعوبة مرامه والوصول إليه في مسالكه.

    تقسيم الفلاسفة لطرق تحصيل العلم ومعرفة المطلوب وموقف الشاطبي منه

    هذا التقسيم من حيث الأصل ليس من التقاسيم التي تستحسن في الذكر، وإن كان الشاطبي هنا لم ينزع ذلك النزع الذي نزعه الذين رسموا هذا التقسيم ابتداءً وقصدوا به نتيجةً مرادةً عندهم، وهم الفلاسفة الذين قالوا: إن الخطاب في القرآن والسنة هو خطاب للجمهور، كما يقول بعض الفلاسفة الإسلاميين: يليق بالعقول العامية، وأما الطرق التي تبين الحكمة، فإنها مذكورة على النظم الذي ذكره الحكماء، ويعنون بهم: الفلاسفة.

    وهذا ما يذكره ابن سينا في كتبه بوجه عام، ومن أقرب ما ذكره في الرسالة الأضحوية التي أشار فيها إلى أن خطاب الشارع في المعرفة والتصديقات، أو في التطبيقات والعمل، هو خطاب للجمهور، ويذكر هذا غيره من الفلاسفة حتى المقتصدة من الفلاسفة الإسلاميين كـأبي الوليد بن رشد فإنه يذكر أن ثمة طريقين: طريق الجمهور، وهو المذكور في نصوص الشارع، والطريق الثاني: وهو الذي عليه الحكماء وهو فاضل في نفسه، ولكنه مستعص على الجمهور، ومن هنا لم يذكر في خطاب الشارع؛ لكونه مستعصياً على الجمهور، ليس لإشكال فيه، وليس في تأخر رتبته أيضاً؛ وإنما لهذا السبب المحض الذي هو: ضعف أو نقص العقول العامية، كما يعبر عنه ابن سينا نقص العقول العامية عن إدراكه.

    ولهذا يرى المتفلسفة على هذه الطريقة، أن كل من لم يسلك الطريق الفلسفي فإنه يكون على طريقة الجمهور، حتى إنهم يصفون علماء الكلام الذين خاضوا في علوم النظر والجدل وغيرها بالجمهور، فيجعلون طريقتهم من ضمن طريقة الجمهور، ويخصون الطريقة التي عليها البرهان بالطريقة التي عليها الفلاسفة، وإن كان بين المتفلسفة خلاف في ترتيب الطرق المناسبة الصحيحة، فإن لـأبي الوليد بن رشد طريقاً مختاراً، ولـأبي علي بن سينا بعض المخالفة وإن كان سابقاً له، ولكن طريقة ابن سينا تختلف عن طريقة ابن رشد ، وتعقب أبو الوليد بن رشد ابن سينا في كثير من طرقه، وخاصةً فيما ينزع إليه من الطريقة التي تقوم على الإشراق، وعلى النفس وأحوالها ومقاماتها ورياضتها، وهي: الطريقة العرفانية التي اعتمدها ابن سينا في كثير من كلامه وفي كثير من كتبه وإشاراته، بخلاف طريقة أبي الوليد فإنها تميل إلى التجريد العقلي.

    والصحيح أن ابن سينا استعمل كلا الطريقتين، وهذا فرع عن تعدد النظر والمذهب عنده كما هو حال أبي حامد الغزالي في هذا التعدد، وإن كان الغزالي ليس من عداد هؤلاء باعتباره من علماء النظر والتصوف، وليس من علماء الفلسفة المحضة، وإن كان تأثر بها كما هو مشهور وشائع بحسب ما طالع من كتب الفلاسفة، وقد رد عليهم في كتابه تهافت الفلاسفة، فإنه أصابه موافقة لبعض مقامات الفلسفة، ذكره عنه بعض أصحابه كـابن العربي ، فإنه ذكر عن أبي حامد ما كان عليه من الحال في أثر الفلسفة عليه، وعلى كل حال فإن كتب أبي حامد أصدق من هذا كله، فهي تبين أنه قد أصابه أثر من كتب الفلاسفة، وهذا قد يكون له سبب ليس هذا محلاً لذكره، والمقصود: أن أصل التقسيم بين طريقة الجمهور، وبين الطريقة الثانية: هي في الأصل نزعة فلسفية في التقسيم.

    وأبو إسحاق ليس على طريقة الفلاسفة ولا يصحح هذه الطريقة كنهج علمي مطرد، ولا يفضلها أيضاً، ولا يصف طريقة الجمهور بالصفة التي تصفها بها الفلاسفة، إنما يذكر هذا التقسيم عن الفلاسفة.

    الطريقة القرآنية النبوية في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    لا يوجد في الحكمة الشرعية إلا طريق واحد، وهي الطريقة التي ذكرت في القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، وأخبر الله عنه بأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهذه هي: الطريقة العلمية لمعرفة الإسلام تصديقاً ومعرفةً، أو في العمل والتطبيق والتشريع، وليس هناك طريقة أخرى مستقلة عن هذه الطريقة.

    ويكون تفريع العلماء رحمهم الله والفقهاء والمحدثين والأصوليين وأهل التفسير وغيرهم من أصحاب النظر والبحث في الشريعة يكون فرعاً عن هذه الطريقة، والتي جاءت على أتم بيان وأصدق نظام في كلام الله سبحانه وتعالى في كتابه القرآن، أو في كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي أوتي جوامع الكلم .

    وليس صحيحاً أن هذه الطريقة غايتها: أنها مناسبة للأمة الأمية -أي: للجمهور- بل هي مناسبة للعقل مهما كانت درجة هذا العقل من العلم أو غير ذلك، وأنت ترى في كتاب الله غاية البراهين العقلية المصححة لحكمة الأنبياء ونبوتهم، أو المصححة والمعرفة لمقامات التوحيد ومقامات الإيمان أو غير ذلك؛ ولهذا سمي ما مع الأنبياء: آيات، كما هي التسمية الشرعية في القرآن، وإن كان درج الاصطلاح على تسميتها: بمعجزات الأنبياء، لكنها في القرآن تسمى: آيات الأنبياء، وسميت براهين: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32] .

    فالطريقة القرآنية النبوية هي في نفسها: غاية التحقيق في العلم، فهذه صفتها الأولى سواء باعتبار العقل، أو باعتبار الحقائق الشرعية الخبرية المحضة؛ ولهذا سبق أن ذكرنا أن القرآن ليس مبنياً على الخبر المحض فحسب، بل فيه أخبار محضة، وفيه خطاب للعقلاء أجمعين، وهذا هو الذي خوطب به من ليس مسلماً في كتاب الله سبحانه وتعالى في مقامات من أحوال الآخرة أو أحوال الإيمان أو غير ذلك، بل حتى في مقام التشريع فإن الخطاب العقلي يكون وارداً في القرآن بحسب ما يقتضيه السياق.

    فإذاً: الطريقة القرآنية النبوية: هي طريقة للجمهور وغيرهم، بل هي المناسبة حتى للعلماء، بل التحقيق: أن العلماء أياً كانوا وفي أي زمانٍ كانوا لا يصلون إلى تمام الإدراك لكل ما تضمنه القرآن من الخصائص والأحكام والحكم، وتمام الخطاب والإشارات والتنبيهات التي فيه، فإن هذا الكتاب فيه من العلم والحكمة والبيان، كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: لو جمعت حكمة سائر النبيين إلى حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي أوتيها فيما نزل عليه من القرآن والسنة، قال: لاستحيا من يطلب المقابلة.

    تجد في كتاب الله أن الله يقول: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران:81] ، فقد أوتوا حكمةً وأتوا كتاباً، وهذه الحكمة وهذا الكتاب لا يمكن أن يصل بشر مهما بلغ في الفلسفة والنظر والبحث والاطلاع والاختصاص، مهما حاول الوصول فإنه لا يستطيع الوصول إلى الوحي الذي أوتيه الأنبياء؛ لأنه من رب العالمين سبحانه وتعالى.

    فتجد في كتاب الله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] ، جاء عن ابن عباس وغيره من المفسرين: أن هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله أخذ الميثاق على الأنبياء في حق محمد صلى الله عليه وسلم، أن يصدقوه ويشهدوا بنبوته ويتبعوه إن أدركوه، فأخذ الله عليهم هذا الميثاق؛ ولهذا عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل فإنه يكون تبعاً لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.

    فالقصد: أن حكمة الأنبياء بوجه عام وحكمة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، لا يمكن لبشر أن يصلوا إلى قدرها في العلم والحكمة؛ لأنها من عند الله سبحانه وتعالى، وصحيح أن الفلاسفة تكلموا في كثير من المقامات كالإلهية، والطبيعية والرياضية وغيرها، وكلامهم في باب الطبيعيات وفي باب الرياضيات ونحوها من المقامات البشرية لا شك أنه خير من كلامهم في الأمور الإلهية، فإن النظر في الأمور الإلهية التي تكلم بها السالفون من الفلاسفة لم يصلوا فيها إلى تحقيق مناسب صحيح؛ ولهذا فإن من قلدهم من الفلاسفة المتأخرين لا ينتهي إلى تحقيق بين في هذا المقام.

    فالمقصود: أن طريقة الأنبياء أجمعين، والطريقة التي نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في الحكمة النبوية العالية التي أوحاها الله إليه، وقبل ذلك في كتاب الله المنزل على نبيه، فهذه طريقة علمية برهانية تامة التحقيق، كما قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، وهذا الكمال ليس في التشريع فحسب، فإن التشريع الذي هو العمل فرع عن العلم، كما قال البخاري : باب العلم قبل القول والعمل، فالكمال الذي ذكره الله عن هذا الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، هو كمال في العلم كما هو كمال في العمل، فليس فقط الكمال في العمل والتطبيقات الفعلية، بل هو كمال في العلم وكمال في العمل.

    فالمقصود هنا: أن طريقة القرآن، أو ما جاء في كتاب الله من العلم والحكمة، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام هي الطريقة البرهانية العلمية التامة التي هي غاية التحقيق، وليس قدرها وفضلها من جهة أنها تناسب العقول العامية، أو الأمة الأمية كما يعبر بعض النظار في هذا الباب أو ما إلى ذلك من التعبيرات، ولا شك أن من خصائص الشريعة الإسلامية ومن صفاتها أنها تناسب جميع المستويات حتى العوام، وهذا صحيح؛ لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام يخاطبون الخلق أجمعين، وأكثر الناس -كما هو معروف- هم من السواد العامي، وليس من أهل العلم والنظر والحكمة والاختصاص الخاص، فهذا موجود فيها كاختصاص لكنه ليس هو الاختصاص الأول فيها، أو بعبارة أخرى: ليس هي ناقصةً عن الطريقة التي تذكر مقابلةً لها.

    مقارنة تبين طريقة الفلاسفة والطريقة القرآنية النبوية في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    ولهذا فإن البراهين العلمية التي يذكرها النظار من أصحاب المدارس الكلامية أو حتى أصحاب المدارس الفلسفية، فما يذكرونه من البراهين الصحيحة في بعض مقامات المعرفة أو مقامات إثبات الربوبية ونحو ذلك، مما يصح عندهم من البراهين فإن المحكم والمحقق منه تجد أنه يذكر في القرآن، وإن كانت اللغة من حيث التصنيف اللفظي تكون مختلفةً، فيذكرون مثلاً دليل التركيب وإن كان ليس المقصود التمثيل به كدليل مناسب، لكن أقصد العبارات التي تستخدم في هذه الأدلة كلفظ التركيب أو التخصيص، ثم يأتون إلى مقدمة الأعراض والجواهر وما إلى ذلك.

    فالاختلاف في الأدلة الصحيحة؛ لأن هناك بعض الأدلة ليست صحيحة، حتى في مقام النظر وعلم الكلام أو الفلسفة، حتى النظار أنفسهم يتكلمون عن نقصها أو عن تأخر رتبتها أو ما إلى ذلك، ولكن لا يوجد عندهم أدلة محكمة، ويوجد في القرآن على أتم نظام، فالقرآن خطاب للعلماء كما أنه خطاب للعامة، بل هو خطاب لأئمة العلماء، ونزل على أئمة العلماء وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار هذه الأمة، فإنهم هم أئمة العلماء فيها، وهم ورثة الأنبياء، ورثة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن أصحاب الأنبياء من قبلهم هم ورثة الأنبياء، وقبل ذلك أن القرآن خوطب به الرسول عليه الصلاة والسلام وهو إمام للأنبياء وإمام المرسلين عليه الصلاة والسلام.

    فهذا الوهم ينبغي لطالب العلم أن يكون مدركاً له، وإن كنت أذكره على هذا الوجه من العموم، وليس لأن أبا إسحاق التزم به، ولكن هذا التقسيم من حيث هو ليس بفاضلٍ ابتداءً، فهو موجود في كتب المتفلسفة بالدرجة الأولى، وتَأثَّر به بعض علماء الكلام والنظر، وأدخلوه في كلامهم، وقالوا: إن ثمة طريقاً للجمهور، وهو: خطاب القرآن، وثمة الطريق البرهاني أو الفلسفي أو الذي عليه الحكماء، أو ما إلى ذلك من التعبيرات التي ليس تحتها حقيقة منتظمة عند البحث والتحقيق.

    صحيح أنها توجد بعض الموافقات المناسبة في الأدلة، فتكون هذه من الأدلة الصحيحة التي يدركها العقل بحكم الفطرة وبحكم نظام العقل الصحيح، فيكون عارفاً ببعض الأدلة التي يذكرونها، ولكن الطريقة النظرية أو الفلسفية مختصة عن الطريقة القرآنية بامتياز علمي في نفسها، لكنها لم تذكر في القرآن وفي السنة، لكونها صعبة الوصول أو صعبة المرام باعتبار الجمهور والعامة، وهذا ليس صحيحاً، فالقرآن خطاب للجمهور وخطاب للعامة.

    مناسبة الطريقة القرآنية النبوية لخطاب المكلفين

    ليس في الشريعة من حيث الأصل تقسيم للمكلفين بهذا التقسيم الذي يقصد كطريقة في المخطابة، بل الله سبحانه وتعالى يخاطب العلماء ويخاطب العوام بخطاب واحد، وتغيير القرآن -كما قال ابن عباس في الأثر المروي، عنه وهو من حيث المعنى متحقق الصحة- على أربعة أوجه:

    تفسير تعرفه العرب من كلامها، فهذا حتى العوام يعرفونه؛ لأن العوام إذا قرئ عليهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، يدركون أن الصوم مكتوب على المؤمنين كما كتب على المؤمنين السالفين من أتباع الأنبياء.

    وتفسير لا يعرفه إلا العلماء، أو يعرفه الراسخون في العلم، كما في الأثر عن ابن عباس ، وهذا بعض المعاني العلمية التفصيلية التي قد نعبر عنها بالفقه التفصيلي لهذه النصوص، فهذا يعرفه الراسخون في العلم.

    وتفسير استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه.

    وتفسير لا يعذر أحد بجهله، لأنه دون المقام الأول في الإدراك.

    وهذا كان من الأمور المنتهية، لكن لما جاء كلام الفلاسفة واشتغل النظار بدفعه، صارت مثل هذه المصطلحات تطرأ، وإن كان الفلاسفة التزموا النتائج؛ لأنهم لم يقصروا الأمر على الخطاب، بل في كلام ابن سينا مثلاً: أن الحقائق المذكورة في اليوم الآخر والمعاد يرى أنها من التخييل للجمهور. أي أنهم خوطبوا بطريقة التخييل وليس بطريقة الحقائق في نفس الأمر، فهذا لا شك أنه من الانحراف العلمي الكبير الذي أصاب هؤلاء.

    لكن الطريقة التي يذكرها أبو إسحاق قطعاً ليس فيها هذا الكلام، ولم يرد هذا رحمه الله، بل تعقب كثيراً هذا الكلام، لكنه لم يحرر المقصود، وإن كان هذا فاته من حيث الذكر، وليس معناه أنه فاته من حيث القناعة به أو الاتصال به أو الإدراك له، لكن كان الأولى به أن يذكر أن طريقة القرآن والسنة هي الطريقة التامة في العلم والمناسبة للخطاب، فهي تجمع الامتيازين: أنها هي: التامة في العلم، فمن حيث النظام العلمي فهي أتم الطرق، ولا توجد طريقة أفضل منها حتى في حق العلماء، وأنها هي: المناسبة للخطاب.

    وأظن هذا إذا رجعت إلى العقل يجب أن تقوله؛ لأن القرآن وكلام النبي عليه الصلاة والسلام قد خوطب به العلماء وغيرهم، ثم إن الواقع أيضاً يثبت ذلك، فإن الذين راموا الطرق الفلسفية والحكمية والنظرية لم ينتهوا إلى نتيجة موجودة أصلاً، بل إن ما يذكره هؤلاء من دليل، تجد أن آخرين من أصحاب الصنعة والاشتغال بالفلسفة أو العلم النظري يغلطونهم فيه، وتجد أن الفلاسفة بينهم، حتى الإسلاميين منهم كـابن سينا مع ابن رشد ونحو ذلك، فتجد أن أبا الوليد يتعقب ابن سينا كثيراً في كلامه بل وفي أصل طريقته أحياناً، وتجد في المدارس الكلامية الأمر كذلك.

    فالعقل في الأصل ليس معارضاً للشرع حتى تفرض مثل هذه التقسيمات، فالخطاب العقلي موجود في خطاب الشارع وأنت إذا قرأت القرآن وجدته في كثير من آي القرآن، وأنها تضمنت خطاباً عقلياً كما تضمنت خطاباً خبرياً محضاً.

    فالطريقة المذكورة في القرآن هي الأتم في العلم، وهي الأتم في المناسبة.

    الطريقة غير المناسبة في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما الثاني: وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له؛ لأن مسالكه صعبة المرام: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] ، كما إذا طلب معنى: الملك، فأحيل به على معنى أغمض منه، وهو: ماهية مجردة عن المادة أصلاً، أو يقال: جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي، أو طلب معنى الإنسان فقيل: هو الحيوان: الناطق المائت، أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه: جسم بسيط كري ].

    هذه الطريقة لا تناسب الجمهور من العوام على الصحيح، لكن ليس الإشكال فيها أنها لا تناسب العوام، يعني: أنها طريقة علمية صحيحة، وهذا في الحقيقة يفهم من كلامه لكنه لم يلتزمه، بل في كلامه الآتي بعد ذلك ما يدل على أنه يمنع هذه النتيجة العلمية؛ لأنها طريقة مصححة في العلم؛ ولهذا قال: (فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية .. إلخ) فهل سبب المنع هو: التعذر؟ أم أن سبب المنع هو: الإشكال العلمي في نفس الطريقة؟

    والمقصود: أن الطريقة الثانية لم يعتبرها الشارع؛ لعدم مناسبتها للجمهور من جهة؛ ولكونها خاصةً فيما يذكره النظار والفلاسفة، وليست محققة حتى من حيث النظم العلمي.

    1.   

    ضوابط التعريفات والحدود وأنواعها

    قال المصنف رحمه الله: [ فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها، وهذا المعنى تقرر، وهو: أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمي في عماية، هذا كله في التصور ].

    الفرق بين التعريف بالحد والتعريف بالرسم

    أما الحدود فظهر في المنطق تحديد ماهيات الأشياء، وظهر مصطلح الحد، وذكروا فيه الشرط الشائع المشهور عند المناطقة وهو: أن يكون جامعاً مانعاً، فالحدود من المطالبات التي يكثر فيها التعذر أو التعسر أحياناً.

    وعند المشتغلين بهذا العلم هناك ما يسمى: بالحد، وما يسمى: بالرسم، ويقصدون بالرسم: تمييز الماهيات عن غيرها، ويرون أن هذا هو محل الإمكان، بخلاف الحد للماهية من حيث هي وكنهها وحقيقتها، فإنه متعذر، فهذا طريق في تقديم الرسم وتفضيله وأنه هو الممكن، ومنهم من يتمسك بمبدأ الحد ولزومه، وأنه هو المعرف في الحقائق؛ لأنه هو أول التصور... إلخ.

    فهذا موجود في علم المنطق وترتيب النظار له، كترتيب أبي حامد الغزالي وغيره في هذه العلوم التي تكلم عليها النظار من المتفلسفة أو من علماء الكلام في الحد والرسم، وأن الرسم أمكن من حيث التحقق من الحد، بخلاف الحد فإنه يدخل عليه كثير من التعذر.. إلخ.

    مدى إمكانية تعريف العلوم الشرعية بالحدود في باب المقدمات والنتائج

    قال الشاطبي رحمه الله: (فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها): هذه العلوم التي تكلم عليها النظار، وخاصةً في باب التراتيب العلمية، يعني: المقدمات، وليس في باب النتائج؛ لأن النتائج ليست بحاجة إلى هذا العلم ابتداءً؛ لأنها معروفة من دلائل الشارع في كتاب الله أو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن قد يحتاج للحدود وضوابطها من حيث التراتيب أو ترتيب بعض المقدمات العلمية، أو الوصول إلى بعض مقامات النظر والاجتهاد ونحو ذلك، فيقع في هذا الباب شيء من الإفراط في قبولها وتعظيمها، أو شيء من التفريط في إسقاط مقام كل ما تكلم عنه أصحاب النظر والقياس، حتى من علماء الأصول وما إلى ذلك، فهذا الباب لا بد فيه من ضبط واعتدال؛ لأنه تكلم فيه في مقام أصول الدين، وهذا له حكمه من حيث النتيجة، وتكلم فيه في مقام ترتيب مسائل أصول الفقه، وهذا له حكم يختلف على الحكم السابق .

    فعندنا حقائق منتهية من حيث إن دلائل أصول الدين وأحكام أصول الدين، أو نتائج هذه الدلائل موجودة في الكتاب والسنة، وهذا أمر من الأمور المفروغ منها أو المقررة عند العلماء رحمهم الله. ولكن فيما يتعلق بمادة هذا العلم من كل جهة وأثرها في ترتيب بعض الأدلة، أو في تحصيل بعض الأوجه من القياس أو الاجتهاد أو ما إلى ذلك، هذه ليست مناسبة على كل تقدير، حتى في أبواب أصول الفقه أو غيرها، وهذا يحتاج إلى نوع من التفصيل والترتيب؛ لأن قدراً من هذا في باب المقدمات والتراتيب من باب الاصطلاح والتنظيم، وليس من باب النتائج التي تكون مستقلةً عن حكم الشارع، وحتى في باب العمل.

    1.   

    التصديق الذي ثبت طلبه في الشريعة

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما التصديق: فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبةً من الضرورية، حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته ].

    أما قوله: (وأما في التصديق: فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبةً من الضرورية) بل هذا هو اللائق بالجمهور وبغيرهم، فإن المقدمات إذا كانت ضروريةً كانت النتيجة ضرورية الثبوت، فهذا هو المناسب حتى لغيرهم، وأصحاب التقسيم من المتفلسفة يقصدون: أن طريقة الحكماء -كما يسمونها- هي التي تضمنت المقدمات الضرورية البرهانية .

    فكلامه يعني: أن التصديق الذي يليق بالجمهور مقدمات الدليل فيه ضرورية، وهذا هو المذكور في القرآن، وهو الصحيح: فكل المقدمات المذكورة في القرآن في باب الأدلة مقدمات ضرورية في هذه الأحكام الخبرية، لكن هذا هو اللائق بالجمهور وبغيرهم؛ ولهذا لا بد أن تكون المقدمات ضرورية في نفسها، فما من حكم في كتاب الله -حتى في باب التشريع- إلا والمقدمة في نفس الأمر ضرورية، وإن كانت باعتبار إدراك المجتهد والناظر في الدليل قد لا تكون عنده ضرورية لا لكونها في نفس الأمر ليست كذلك، بل لكون نظر المجتهد ليس مكتملاً، فلم يصل علمه إلى إدراك ضرورية هذه المقدمة فظنها ظنية، وهي في نفس الأمر ضرورية وليست كذلك، يعني: ليست ظنية بل هي ضرورية قطعية.

    ولهذا قال: [ فإذا كان كذلك، فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة، وهو الذي نبه القرآن على أمثاله، كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17] ، وقوله تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] ، إلى آخرها، وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الروم:40] ].

    ولا شك أن هذه المقدمات الضرورية في الدليل، وهي من حيث النتيجة تكون قطعية النتيجة، كما هو الحكم العام في القرآن، ولكن كما أشرنا سابقاً إلى أن بعض الناظرين أو المجتهدين قد يتأخر نظره عن الإدراك.

    1.   

    طريقة السلف الصالح في عرض الشريعة وبثها

    قال المصنف رحمه الله: [ وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين ] .

    وهذا صحيح: وهو أن السلف الصالح من أهل العلم والفقه والاجتهاد قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين.

    ثم قال: [ لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف ].

    قوله: (لكن من غير ترتيب متكلف) هذا صحيح، أما قوله: (ولا نظم مؤلف): فالنظم المؤلف موجود، حتى خطاب الشارع فيه نظم، بمعنى: فيه ترتيب وائتلاف، والله سبحانه وتعالى يصف القرآن في مواضع: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]، فالتأليف ليس في ذاته مذموماً، ليس كحكم التكلف، فإن التكلف ينفى عن القرآن وعن طريقة القرآن.

    ولكنه أراد بقوله: (ولا نظم مؤلف)، أن السلف الصالح لم ينظموا أحكام التكليف على الطريقة التي تكلم عليها المتأخرون، وهذا صحيح؛ لأنك إذا رجعت مثلاً إلى الصحابة أو إلى التابعين، أو إلى متقدمي الأئمة لن تجد عندهم التراتيب حتى في أحكام التشريع من حيث الوصول إلى الحكم، كما هو عليه الآن، ولا يقولون: إن هذا من دلالة المنطوق، وهذا من دلالة المفهوم، وهذا من مفهوم اللقب، وهذا من مفهوم الصفة، والمفهوم ينقسم إلى كذا من الأقسام، وهذا خاص وهذا عام، والعام يقدم، فهذا كتنظيم لفظي ومصطلحات ليس مستعملاً عندهم، لكنه كحقيقة علمية موجود.

    لأن هذا في الأصل جزء من مكتسب اللسان؛ ولهذا تجد أن الناظرين في علم أصول الفقه يقولون: علم أصول الفقه مركب من ركنين: علم بلسان العرب، وعلم بمقاصد الشريعة، فيجعلون دلالات الألفاظ وصيغ العام والخاص والمطلق والمقيد من مقام اللسان في الأصل، فالحقيقة العلمية والمعنى موجودان عند الصحابة والسلف الصالح، والمصطلح استعمله المتأخرون.

    عدم تكلف السلف في كلامهم

    قال المصنف رحمه الله: [ بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه ] ليس كذلك، وأنهم لا يبالون كيف وقع في ترتيبه، أصلاً طبيعة اللسان، وطبيعة اللغات، كل اللغات البشرية فيها ترتيب؛ لأن اللغة يتحكم في تقديرها العقل البشري، لماذا؟ لأن الإنسان يتكلم بما أراده عقله؛ ولهذا إذا كان الإنسان فاقداً لعقله، فإنه يتكلم بما لا يريد، كالنائم مثلاً الذي ربما هذى بكلام ليس مريداً له، فالكلام من حيث هو لسان أو لغة للبشر، لا بد أن يكون فيه قدر من الترتيب والتنظيم، مقصود في الكلام، والإشارة فيه مقصودة.

    ولهذا تجد أن المصطلحات النحوية فيها إشارة إلى هذه الإرادات العقلية، فهناك تناسب بين التمييز من حيث هو مصطلح نحوي، وبين معناه الذي يقع في سياق الجمل؛ ولهذا لم يسموا الفاعل مفعولاً والمفعول فاعلاً، في جملة: ضرب زيدٌ عمراً، قالوا: زيد فاعل وعمراً مفعول به، وهذا ليس مجرد اصطلاح عابث أو لا معنى له؛ لأن زيداً بالفعل هو الذي فعل القيام، وعمراً يقع مفعولاً به، لأنه بالفعل هو الذي وقع عليه الضرب.

    فالمقصود من أنهم (لا يبالون) بمعنى: لا يتكلفون، فهذا هو الصحيح، لكن ذات اللغة، وذات اللسان بطبيعتها تنظم الكلام.

    فالسالفون من السلف الصالح ما كانوا محتاجين لهذا أصلاً؛ لأن اللسان عندهم قويم في التعبير والنطق، فإذا تكلموا بالكلام فإن المراد من هذا الكلام بين وفصيح، فما كانوا بحاجة إلى أن يعرفوا ما هو العام؟ وما هو الخاص؟ لكن لما دخلت العجمة، وبأسباب تاريخية معروفة، ليس كل هذه الأسباب سيئاً، فبعضها أسباب عادية، كانتشار الفتوحات الإسلامية، وكثرة الداخلين في الإسلام، واختلاف الأمم الداخلة في الإسلام باعتبار لسانها، فحصلت الحاجة إلى التعريف بصيغ العام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم إلخ، كترتيب علمي.

    وجود معاني العلوم وحقائقها عند السلف

    فترك السالفين لمصطلحات العلوم ليس من باب الترك الذي يتبادر للذهن وهو أنهم رأوا هذا الشيء وأعرضوا عنه، لكنه لم توجد هذه المصطلحات أصلاً في زمنهم، وإلا لو كان الترك للمصطلحات مقصوداً لذاته، لتضمن ترك معانيها، والمعنى موجود عندهم، فهم يعرفون العام والخاص، ويقدمون المنطوق على المفهوم في فقههم، أعني: فقه الصحابة وما إلى ذلك، لكن ما كانوا محتاجين له؛ لأن اللسان قويم، وليس أكثر من هذا، وهم فقهاء في مقاصد الشريعة، فانتهى علم أصول الفقه.

    فعلم أصول الفقه علم باللسان، وعلم بمقاصد الشريعة، فهم من حيث اللسان: عرب مدركون للسان، ومن حيث مقاصد الشريعة: هم فقهاء في القرآن والسنة، فهم عارفون بمقاصد الشريعة، فما احتاجوا لنظم علم يسمونه: علم أصول الفقه، ولما تأخر العلم بلسان العرب بدخول العجمة، ولما تأخر معرفة المقاصد بضعف الفقه، قام السبب هنا لنظم علم أصول الفقه، ليضبط ما يحتاج إلى ضبطه من علم اللسان والمقاصد.

    لهذا تجد أن بداية الإمام الشافعي بالكتابة في هذا العلم تناسب هذا المعنى الذي أشير إليه.

    أفضلية طريقة السلف في بث علوم الشريعة على طريقة المتأخرين

    ثم قال المصنف رحمه الله: [ إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس ].

    ولهذا إذا قيل: أي الطريقتين أفضل: الطريق التي كان عليها السلف الصالح من الصحابة والمتقدمين، بعدم الدخول في هذه التراتيب، التي بعضها فيه تكلف، وقد يكون هذا التكلف مما ينهى عنه، كما ذكر أبو إسحاق في بعض المقدمات أنها تكون عاريةً عن الفائدة، وقد يكون هذا التكلف جزءاً من الضعف البشري الذي لا يستطيع أن يصل إلى مثل هذا الجمع إلا بمثل هذه التكلفات، فإذا قيل: أي الطريقتين أتم، وهذا السؤال لا أظنه من الأسئلة الواردة أصلاً؛ لأنه لا أحد يجادل بأن الطريقة الأولى أتم.

    وليست قضية فينبغي أن يقال: طريقة المتقدمين أفضل، ويلام المتأخرون على طريقتهم: لماذا لم يكونوا كالمتقدمين؟ وليس من باب أنهم اختاروا طريقة وتركوا الطريقة الأولى، فالصحيح: أن بعض المتأخرين غلا في الطريقة الثانية، وفوت بعض الممكن من الطريقة الأولى؛ لأن الطريقة الأولى أيضاً بالمقابل ليس صحيحاً أنها في كل مواردها انغلقت على المتأخرين.

    سبب احتياج الخلف إلى التأليف في علم أصول الفقه

    حينما نقول: إن سبب تأليف علم أصول الفقه فساد لغة العرب.

    لا ينبغي أن يعبر عن اللسان العربي بأنه فسد في مرحلة من مراحل التاريخ، بل اللسان لا يزال موجوداً كلسان نتكلم به، لكن دخلته العجمة واللحن، ولا يصح التعبير بالفساد، إلا إذا كان المعبر لا يحكم الكلمات كما هي في اللغة والحكم العلمي، فاللغة لم تصل إلى حد الفساد؛ لأن اللغات لا تفسد، اللغات تستمر من حيث البقاء، لكن يدخلها الضعف، يدخلها اللحن، ويدخلها العجمة المخالفة لها .. إلخ.

    وهذا هو الذي دخل على هذه اللغة وأصبحوا لا يحتجون بكلام الشعراء وغيرهم من بعد كذا من التاريخ الهجري كما هو معروف، وهذا أمر لا إشكال فيه، وذهبت الفصاحة، لكن فرق بين أن تقول: ذهبت الفصاحة، أو تقول: دخلت العجمة، أو تقول: ضعف اللسان، أو كثر اللحن، أو فشى اللحن، فهذه كلها تعبيرات ممكنة، لكن لا يصح أن نقول: فسد اللسان العربي؛ لأنه هو لغة القرآن، والله سبحانه وتعالى كما تكفل بحفظ القرآن تكفل بحفظ لغة القرآن، فإن هذا اللسان لا بد أن يكون باقياً، حتى يفهم هذا الحق وهذا القرآن.

    والآن والناس في القرن الرابع عشر من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، والعجمة اليوم تجتاح المسلمين أكثر من أي وقت مضى لأسباب كثيرة لا تخفى، ومع ذلك فالقرآن إذا قرئ على العوام يفهمونه فضلاً عن طلبة العلم وأهل العلم، فجمهور ما في كتاب الله سبحانه من المعنى العام يدركه العوام من المسلمين، والعارفون أو المتكلمون باللسان العربي إذا سمعوا قول الله سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، يدركون معنى: الحمد، ومعنى: الرحمن، ومعنى: الرحيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، يدركون معنى: الإيمان حسب ما تعلموه وعرفوه في الشريعة، فالكلمات نفسها فيها ظهور، ولكن التفاصيل لا شك أنها -في هذه المرحلة من تاريخ الأمة- الضعف فيها أكثر من أي وقت مضى.

    لكن ليس من الحكمة وفاضل التعبير أن يقال: إن اللسان فسد، فالتعبير بالفساد كلمة متينة في الذم، أو في الحكم أيضاً، إنما يقال: كثر اللحن، وفشى اللحن، ودخلت العجمة، وذهبت الفصاحة، وهذا كله صحيح فالتعبير لا بد أن يكون معتدلاً.

    وفي الفقه يوجد فقهاء في هذا العصر وقبله ليسوا عارفين وحافظين لكثير من قواعد أصول الفقه، صحيح أنهم قرءوا هذا العلم واطلعوا عليه، لكن استحضار النظم الأصولي في كل مسائله صعب أو مستحيل، وإن كان هذا ليس حكماً على سائرهم، لكن المقصود: أن قدر من اللسان، وقدر من العلم بالمقاصد موجود عند العلماء، والعامة، فالعامة يدركون أن المقصود في الإسلام: هو توحيد الله، بالإيمان بنبوة النبي .. إلخ، من المقامات الكلية العامة، فهذه مقاصد في الإسلام، وهل الطريقة الأولى طريقة السلف أفضل أو الطريقة الثانية؟ لا شك أن الطريقة الأولى أتم، وهذا ليس محل بحث أصلاً، لكن السؤال الصحيح: هل الطريقة الأولى ممكنة للمتأخرين، يعني: هل يمكن أن يستغنى عن طريقة التأليف والنظم التي استعملها من استعملها؟

    الحقيقة أن المجتهدين من أهل النظر والعلم من المتأخرين احتاجوا إلى هذا التنظيم والتأليف، سواء في علم أصول الفقه أو في علم مصطلح وعلوم الحديث بوجه عام، فكان لا بد من هذا النظم، والذي ينبغي القول فيه: هو أنه لا يدخل التكلف في هذا الباب، وإن كنت ترى في علوم الحديث وعلوم أصول الفقه، أن التكلف في باب أصول الفقه أكثر منه في باب علوم الحديث، هذا موجود، يعني: في علوم الحديث من النادر أن تجد بعض المباحث التي تقول: إن هذا تكلف في هذا العلم وما إلى ذلك، ولكن في باب أصول الفقه تجد بعض المباحث وبعض المسائل مثل ما يشير الشاطبي هنا، وأشار غيره إلى ذلك.

    لكن ليس معنى هذا أن كل علم أصول الفقه هو نوع من التكلف والمخالفة لطريقة السالفين، فمثلاً لم يكن عندهم علم النحو كعلم منظم، لكنهم كانوا فصحاء، فما احتاجوا إلى علم النحو، فكذلك ما احتاجوا إلى نظم علم يسمى: بعلم أصول الفقه لهذا السبب.

    الجمع بين طريقة السلف وطريقة الخلف في استخدام أصول الفقه عند الاستدلال

    إن المحقق من المتأخرين هو الذي يكون عنده تأليف واتصال بين الطريقة الأولى وبين الطريقة الثانية، كـابن تيمية ، وابن حزم ، وابن عبد البر ، وابن رجب وغيرهم من أصحاب المذاهب الأربعة من المحققين المتأخرين، فبعض استدلالاتهم على المسائل من جنس استدلالات المتقدمين، لا يتكلفون في ترتيب القواعد المتأخرة، ويستعملون فيها اللغة التي اعتادها المتأخرون في التأليف، وربما كان الأمر لا يتجاوز أحياناً الترتيب واللغة واللفظ فقط.

    فلا ينبغي الاستهانة بعلم أصول الفقه بحجة أنه طارئ، والسلف لم يشتغلوا به؛ ولأن فيه تكلفاً فقد يوجد في بعض كتب هذا العلم بعض التكلف في بعض المسائل، بل دخلت فيه مسائل من أصول الدين، ولكن بالمقابل لا ينبغي الغلو في الطريقة التي عليها المتأخرون؛ لأن الأصل في أوائل المقدمات العلمية لطالب العلم: أن يكون معنياً بتحقيق الاتباع لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يعني: العناية بفقه الدليل، وليست هذه مرحلة قد انتهت مع الطبقة الأولى من صدر هذه الأمة، بل لا تزال في الأمة إلى آخر أمرها، وخاصةً أهل العلم فيها، فهم مخاطبون باتباع الدليل من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتكون الحكمة والتحقيق أن هذه التراتيب العلمية، سواءً في كتب أصول الفقه أو في كتب الفقهاء أو المذاهب الأربعة، تستعمل كمنهج يوصل إلى تحقيق العلم بالدليل، فهذا هو المنهج الصحيح، وليس أنها تقوده إلى التعصب لقول عالم سابق عن الحق الذي في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو ظاهر من كتاب الله سبحانه وتعالى.

    فالاعتدال في اعتبار تقديم الدليل واجب، ويخاطب به المسلم من حيث هو مسلم قبل أن يكون عالماً، فيجب عليه أن يتبع الكتاب والسنة، وأن ينبذ التقليد بمعناه الذي نهى عنه الأئمة رحمهم الله، الذي هو التعصب لغير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مخالف للشرع كما هو مخالف لكمال الإنسان البشري، ولفطرته ولعقله وتمامه.

    1.   

    ضرورة عدم التردد في العقل لاعتبار الطريق الشرعي في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما إذا كان الطريق مرتباً على قياسات مركبة أو غير مركبة، إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل، فليس هذا الطريق بشرعي ] .

    كأنه أراد بعض التوقف في العقل، أي: التردد في العقل (فليس هذا الطريق بشرعي) وهذا يكون مناسباً، أما إذا كان التوقف يعود إلى ذات الناظر، فهذا أمر يعرض للناظر في الدليل الصحيح أو في غيره .

    وقال: [ ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح، فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم ].

    1.   

    صلة العلم الشرعي بالتعبد لله تعالى

    قال المصنف رحمه الله: [ كل علم شرعي، فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى, فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع، والقصد الثاني لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور: ].

    فمن حيثُ القاعدة الشرعية هو بذاته عبادة من طلب يوجب عملاً، ولكن التعبير بأن العلم الذي طلبه الشارع أو العلم الشرعي وسيلة إلى العمل ليس ضرورياً؛ لأن العلم الشرعي من حيث هو مقصود لذاته، فعلم الأنبياء من حيث هو مقصود لذاته، والآخذ لعلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المستجيبين لهم لا بد أن يصيبه قدر كبير من الانتفاع به؛ لأنه يقول: (حيث هو وسيلة إلى التعبد لله): فالعلم بذاته مقام من التعبد، أي: العلم الذي يقع على قدر من الاستجابة والتصديق للأنبياء؛ ولهذا المسلم إذا قرأ علماً من الحكمة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، سواءً آية في كتاب الله، أو حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما تفرع عنهما من كلام الفقهاء والعلماء في هذا الباب، فإنه يكون في تعبد لله سبحانه وتعالى، ما لم يقع هذا العلم على قصد آخر لغير وجه الله، فهنا يكون العمل خرج عن أصله الشرعي.

    فالعلم وجهان: علم القبول، وعلم الإدراك.

    علم الإدراك: وهو المعرفة في القرآن، يذكر باسم المعرفة، وهذا لم يكن مفضلاً على علم القبول أبداً، فالعلم الفاضل هو علم القبول الذي فضل الله سبحانه وتعالى به العلماء على غيرهم، قال سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] .

    فقول المصنف رحمه الله: (حيث هو وسيلة إلى التعبد): المقصود بالتعبد: التعبد بمعناه الواسع؛ لأن التعبد هنا هو الإيمان، والإيمان عند السلف: قول وعمل، والقول: قول القلب كما هو قول اللسان، والعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، فإذا كان كذلك، فقول القلب الذي هو التصديق، هذا يتحصل بالعلم، فالكلام هنا يحتاج إلى شيء من الفقه، المقصود: بالتعبد، والمقصود بكلمة: الوسيلة.

    فالعلم الشرعي إذا وقع من المسلم فهو فاضل بذاته، وإن لم يوجب تعبداً، فهو بذاته عبادة، فمن طلب العلم فهو يتعبد لله بهذا العلم؛ لأن قصد الإخلاص ليس فيه تكلف عند السلف رحمهم الله، حتى الإمام أحمد لما قال: العلم لا يعدله شيء لمن صلحت نيته، قيل: وكيف تصلح النية يا أبا عبد الله ؟ قال: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه، وهذا مستصحب في كل قارئ لشيء يريد أن يرفع الجهل عن نفسه بهذا العلم الذي يقرأ فيه، فهو يريد أن يزيل الجهل.

    وهذا نوع من الضرورة البشرية العادية في نفوس البشر، حتى الذي يقرأ في علم من العلوم ليس من باب العلوم الشرعية، فمثلاً: علم الرياضيات، الذي يتعلمه وهو يريد أن يذهب الجهل عنده في الرياضيات ليكون عارفاً بقواعد هذا العلم، وكذلك في علم الشريعة: إذا قرأ المسلم في علم الشريعة فهو على مقام من الإخلاص، إلا إذا جاء الطارئ المنازع، وهذا عارض ليس هو الأصل، بأن يتعلم ليقال: عالم، هذا طارئ على الأصل، وليس هو الأصل.

    فالأصل أن المسلم إذا قرأ في العلم فهو في عبادة، ولهذا حينما يقول المؤلف: هو وسيلة إلى التعبد، يقال: الذي يقرأ العلم ليكون وسيلةً إلى التعبد، إذا كان مسلماً فالخطاب هنا في حق المسلمين فهو تعبد بذاته، كما أن التوحيد نوعان: التوحيد العلمي والتوحيد العملي، فالعلم أصل في التعبد وليس فرعاً أو تبعاً أو وسيلةً إلى التعبد، لأن الوسيلة إلى الشيء غير داخلة في ماهيته، فالوسيلة إلى الشيء في مقتضى أصول الكلام غير داخلة في ماهية الشيء، والصحيح: أن الوسيلة جزء من الماهية بل إن أحد ركني ماهية التعبد: العلم، وقد بوب الإمام البخاري باب: العلم قبل القول والعمل، فالتوحيد علمي خبري، وطلبي إرادي، أو تقول: عملي، وعلمي.

    نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755787035