ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه، وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه].
تقدم لنا شيء من مباحث الوتر، وذكرنا من هذه المباحث تعريف الوتر، وكذلك أيضاً حكمه، وأن جمهور أهل العلم يرون أنه سنة مؤكدة خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ثم تكلم المؤلف رحمه الله عن كيفيات الوتر، وأنه إذا أراد أن يوتر بخمس فالسنة أن يسردها سرداً، وإذا أراد أن يوتر بسبع أيضاً فالسنة أن يسردها سرداً بتشهد واحد وسلام واحد، وذكرنا أنه جاء في مسند أحمد بتشهدين وسلام واحد، وإذا أراد أن يوتر بتسع فإنه يسردها سرداً بتشهدين وسلام واحد، وإذا أراد أن يوتر بإحدى عشرة فقد ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أربع صفات.
وذكرنا أن أصوب هذه الصفات ما دل عليه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر بإحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين )، وتكلمنا أيضاً عن وقت الوتر، وأن وقته ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأن المالكية يجعلون له وقتين وقت اختيار ووقت ضرورة.
وبقي من مباحث الوتر استحباب قضائه، فيستحب أن يقضى الوتر؛ ويدل لذلك حديث عائشة في مسلم قالت: ( وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )، فيستحب أن يقضي الوتر، وكيفية قضائه: أن تقضيه شفعاً، فإذا أردت أن توتر بواحدة ثم غلبك نوم أو وجع أو نحو ذلك فإنك تصلي من النهار ثنتين، وإذا أردت أن توتر بثلاث فإنك تصلي من النهار أربعاً وهكذا، وإذا أردت أن توتر بخمس ولم توتر فإنك تصلي من النهار ستاً، ووقت قضاء الوتر يكون ضحى يعني: بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، وأما بالنسبة لآخره فلا حد لآخره؛ لأنه لم يرد في الشرع تحديده، وعلى هذا فلو قضاه بعد الظهر أو بعد المغرب فلا بأس به.
ومن المباحث ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى أنه يستحب أن يقول في آخر الوتر: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك, أنت كما أثنيت على نفسك )، وهذا ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وحسنه الترمذي .
أما بالنسبة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية القنوت فذكرنا أنه لم يثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه جاء موقوفاً على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وعلى هذا نقول: يفعله في بعض الأحيان، وأما ما يتعلق بمسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثابتة.
وكذلك يستحب إذا انتهى من وتره أن يقول: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، ثلاث مرات؛ لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يكره الدعاء بعد الركوع في غير الوتر، أما في الركوع فتقدم الكلام عليه، وهل يشرع كل ليلة أو لا يشرع كل ليلة؟ تكلمنا على هذه المسألة، وأن من العلماء من قال -كما هو قول أبي حنيفة وأحمد - يشرع كل ليلة.
الرأي الثاني: أن القنوت في الوتر لا يشرع إلا في النصف الثاني من رمضان، كما هو قول مالك والشافعي .
الرأي الثالث: أنه يفعله في بعض الأحيان ويتركه في بعض الأحيان، هذا فيما يتعلق بقنوت الوتر، فالقنوت الذي تكلم عليه العلماء رحمهم الله له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: القنوت في الوتر، وهذا تكلمنا عليه.
الحالة الثانية: القنوت في غير الوتر، أي: القنوت في الفرائض، على كلام المؤلف رحمه الله تعالى القنوت في غير الوتر غير مشروع، بل مكروه.
الرأي الثاني: أن القنوت بعد صلاة الفجر مشروع، وهذا قول مالك والشافعي رحمهما الله، ولكل منهم دليل، أما الذين قالوا بأنه غير مشروع كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، فاستدلوا بحديث أبي مالك الأشجعي أنه قال لأبيه: ( يا أبتي! صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، و
وقوله: محدث يدل على أنه غير مشروع، بل يدل على أنه بدعة، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي ، والذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروه.
والذين قالوا بشرعية القنوت في صلاة الفجر استدلوا بحديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه، وأجاب عنه العلماء بأن قوله: (لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) أن المراد بالقنوت هنا طول القراءة، وسبق أن ذكرنا أن القنوت يطلق على معاني: منها الدعاء, ومنها الخشوع، ومنها طول القيام إلى آخره، فالمراد بحديث أنس على فرض ثبوته طول القراءة.
ولا شك أن صلاة الفجر يشرع فيها إطالة القراءة، فهذه الحالة الثانية، وهي القنوت في الفرائض، ولم يكن هناك نازلة نزلت بالمسلمين.
هذه الحالة الثالثة: القنوت إذا كان هناك نازلة نزلت بالمؤمنين، والنازلة هي المصيبة من شدائد الدهر، فإذا نزلت نازلة فإنه يشرع القنوت؛ ويدل لهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة أن أبا هريرة قال: ( لأقربن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان
فالقنوت في الفرائض إذا نزلت بالمسلمين نازلة مشروع، لكن ما هي النازلة التي يقنت لها؟ وما هي النازلة التي لا يقنت لها؟ وإلى أي وقت يقنت؟ ومن هو الذي يقنت؟ فهذه عدة مباحث.
القسم الأول: نوازل من قبل الخالق فهذه لا يشرع القنوت لها، وإنما النوازل التي من قبل الله عز وجل رتبت لها عبادات في الشرع، فمثلاً إذا حصل الكسوف أو الخسوف فهناك صلاة الكسوف والخسوف، وإذا حصل الجدب في الأرض وغارت المياه شرعت صلاة الاستسقاء، وإذا حصل هبوب الرياح ونحو ذلك فهناك الأذكار المشروعة: (اللهم إنا نسألك من خيرها، وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أمرت به)، وإذا كثرت الأمطار وخيف على البلاد والعباد منها شرع أن يقول: (اللهم حوالينا ولا علينا).. إلى آخره.
المهم أن نفهم أن النوازل التي من قبل الله عز وجل لا يشرع القنوت لها، ولهذا يخطئ من يقنت إذا حصل للمسلمين ضرر وليس من قبل المخلوق، فإذا كانت النازلة من قبل الخالق فإنها لا يشرع القنوت لها، وإنما لها عبادات مشروعة، فيؤتى بالسنن التي شرعت عند حصول هذه النوازل.
القسم الثاني: أن تكون النازلة من قبل المخلوق، فهذه هي التي يشرع القنوت لها، فإذا حصل لطوائف من المسلمين ظلم وأذى واضطهاد ونحو ذلك من قبل المخلوقين، كأن تسلط عليهم المخلوقون فيشرع القنوت هنا، كما قنت النبي صلى الله عليه وسلم للقراء، وقنت للمستضعفين من المؤمنين في مكة.. إلى آخره.
على كلام المؤلف رحمه الله تعالى أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم، وعلى هذا فإمام المسجد لا يقنت وإنما يقنت الإمام الأعظم.
الرأي الثاني: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه يقنت كل إمام جماعة.
الرأي الثالث: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : أنه يقنت كل مصل سواء كان الإمام الأعظم، أو كان الإمام الراتب أو كان منفرداً، أو حتى المرأة في بيتها تقنت وتدعو للمسلمين.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الصواب في هذه المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، والدعاء هنا سنة، وما دام أنه سنة فنحن مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، اللهم إلا إذا جاء الإمام منع من القنوت فإنه يمتثل هذا المنع، وبإمكانه أن يدعو لإخوانه المسلمين في السجود، وإذا صلى منفرداً أن يقنت سواء صلى في الليل أو النهار فالأمر واسع ولله الحمد.
وقول المؤلف رحمه الله: (غير الطاعون).
يعني: لو وقع الطاعون في البلد فلا يقنت لرفعه؛ لأن الطاعون شهادة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والشهداء ينقسمون إلى قسمين: شهيد في الدنيا وفي الآخرة، وشهيد في الآخرة دون الدنيا.
فالشهيد في الدنيا والآخرة هو الذي قتل في سبيل الله، قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ثم قتل، فهذا شهيد في الآخرة لما رتب الله عز وجل له من الأجر، وشهيد في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه.
القسم الثاني: شهيد في الآخرة فقط، وهو المطعون, والمبطون, والحرق, والغرق، والمرأة تموت في نفاسها، كما جاء ذلك في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء شهداء لكنهم شهداء في الآخرة، وكذلك من قتل دون نفسه، ومن قتل دون أهله, ومن قتل دون ماله، فهؤلاء كلهم شهداء، لكنهم شهداء في الآخرة وفي الأجر عند الله عز وجل، أما في الدنيا فليسوا شهداء, فيغسلون ويصلى عليهم كغيرهم من الناس؛ ولهذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسلوا عمر وصلوا عليه، وعثمان وعلي إلى آخره.
وهل يقنت في صلاة الجمعة أو لا يقنت؟ الفقهاء يقولون: لا يقنت في صلاة الجمعة؛ لأنه يكتفى بالدعاء الذي سيكون في الخطبة، فالإمام يشرع له أن يدعو للمؤمنين، ومن الدعاء ما سيكون برفع هذه النازلة، وتقدم لنا أن ذكرنا أنه يستحب أن يقول إذا أوتر: (سبحان الملك القدوس ثلاث مرات), وورد في الدارقطني أنه يزيد: (رب الملائكة والروح).
وأما في الاصطلاح فهي: قيام رمضان جماعة، والتراويح سنة مؤكدة, والذي سنها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين: ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وصلى بصلاته رجال، ثم بعد ذلك لما كان في الرابعة تأخر النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن تفرض على الناس ) ولما كان في عهد عمر رضي الله تعالى عنه خرج وإذا الناس يصلون أوزاعاً متفرقين، يصلي الرجل لوحده، ويصلي الرجل بصلاة الرجل، فقال: لو جمعتهم على قارئ واحد كان أمثل، أي: أحسن، فعزم عمر رضي الله تعالى عنه فجمعهم على أبي بن كعب وتميم الداري رضي الله تعالى عنهم.
وسميت تراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بين كل أربع، ومن أين جاءت هذه الاستراحة؟ وما هو الأصل فيها؟
نقول: الأصل فيها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنها رضي الله تعالى عنها قالت: ( كان يصلي أربع ركعات فلا تسل عن حسنهن وطولهن, ثم يصلي أربعاً )، وثم تدل على التراخي، فيفهم من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربع ركعات، ثم يفصل بين الأربع الأولى والأربع الثانية بشيء من الاستراحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام، ويطيل الركوع؛ ولهذا قالت عائشة : ( لا تسل عن حسنهن وطولهن ) وبهذا أخذ السلف رحمهم الله فكانوا يستريحون بين كل أربع ركعات.
ذهب المؤلف رحمه الله تعالى إلى أن عدد ركعات التراويح عشرون ركعة، وهذا مذهب أحمد رحمه الله، ومذهب أبي حنيفة والشافعي ، وعند الإمام مالك أنها ست وثلاثون ركعة، وقيل بأنها إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كله حسن، وعلى هذا يكون تكثير الركعات وتخفيفها على حسب إطالة القراءة والركوع والسجود، فإذا أطال الركوع والسجود والقراءة قلل الركعات، وإذا خفف الركوع والسجود والقراءة كثر الركعات، فهذه كلها جائزة، فلو أنه صلى التراويح عشرين ركعة كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى فإن هذا جائز ولا بأس به؛ ويدل لذلك حديث السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون على عهد عمر رضي الله تعالى عنه بعشرين ركعة، وهذا رواه عبد الرزاق والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح.
والذين قالوا بأنه يصلي إحدى عشرة استدلوا بحديث عائشة قالت: ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة )، وبما ثبت في موطأ الإمام مالك والبيهقي أن عمر أمر تميماً الداري وأبي بن كعب أن يقوما بالناس بإحدى عشرة، وهذا كله جائز إن شاء الله؛ ويدل لذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).
قول المؤلف رحمه الله: تفعل جماعة، هذا هو السنة، ولو صلى لوحده في البيت فعلى كلام المؤلف لم يصل سنة التراويح وإنما قام لنفسه، يعني: أنت إذا أردت أن تدرك سنة التراويح فإنك تصليها جماعة مع الناس، أما إذا صليت لوحدك فقد أوترت لوحدك، وقمت الليل لوحدك.
والتراويح لها وقتان: وقت اختيار وجواز، ووقت استحباب، أما وقت الاختيار والجواز فإنه من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، كما قلنا في الوتر، وسواء صلى العشاء في وقتها، أو صلاها مع المغرب تقديماً، فلو كان مسافراً -مثلاً- وصلى المغرب ثم صلى العشاء جمع تقديم، فنقول بأن صلاة التراويح دخل وقتها، أو مثلاً كان مريضاً، أو حصل مطر في البلد في رمضان وصلوا المغرب ثم جمعوا العشاء، فنقول بأن وقت التراويح قد دخل.
ويستمر وقتها إلى طلوع الفجر الثاني؛ لأنه إذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت صلاة الليل، وهذا الذي ذكرناه هو المذهب ومذهب الشافعي خلافاً لـمالك وأبي حنيفة فإنهما يقولان: لا بد أن يدخل وقت العشاء، فلو جمع فإنه لا يصلي التراويح، بل ينتظر حتى يدخل وقت العشاء، والصواب في ذلك ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
والوقت الثاني وهو وقت الاستحباب، وظاهر كلام المؤلف أن الأفضل أن تفعل في أول الليل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ودليلهم على ذلك أن الناس كانوا يقومون في عهد عمر في أول الليل، وعند المالكية أن الأفضل هو أن تصلى في آخر الليل؛ ودليلهم على ذلك ما تقدم من الأدلة على فضيلة آخر الليل, ومن ذلك حديث جابر ، وحديث أبي هريرة، التي سبق أن بيناها.
والصواب في ذلك: أن نقول كما قلنا في الوتر: الأفضل أن يصليها في أول الليل؛ لأن كون الناس يصلونها في آخر الليل هذا قد يشق عليهم، وقد لا يصليها كثير من الناس، فالأفضل أن يبادر بها في أول الليل؛ لأنه إذا صليت في أول الليل فهذا أحرى إلى أن يصلي الجميع.
المتهجد: الذي يصلي بعد أن ينام، يقول المؤلف رحمه الله: المتهجد الذي يصلي بعد النوم لا يوتر مع الإمام، وإنما يوتر إذا قام من نومه وصلى؛ ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ).
وعلى هذا إذا كان الإنسان يتهجد، يعني: له صلاة بعد النوم فنقول له: لا توتر وأخر وترك حتى تنتهي من تهجدك، فإذا انتهيت من تهجدك في آخر الليل فإنك توتر, هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
الرأي الثاني: رواية أخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يوتر مع الإمام، وهذا القول هو الأقرب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب كأنما قام الليل كله )، وعلى هذا فيوتر مع الإمام ثم إن من الله عز وجل عليه وقام آخر الليل فإنه يصلي مثنى مثنى، ويكون قد جعل آخر صلاته وتراً؛ لأنه ختم صلاته بالوتر، وصلاته في آخر الليل ليست متيقنة، فربما أنه يقوم وربما أنه لا يقوم، فيكون قد ختم صلاته بالليل وتراً على أن صلاته قد انتهت.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن تبع إمامه شفعه بركعة).
على القول الأول نقول له: لا توتر وانصرف، واجعل وترك آخر الليل بعد التهجد، أما إذا تبع الإمام، وقام معه في الوتر، فالمؤلف يقول: فإن تبع إمامه شفعه بركعة، لكي تكون آخر صلاته وتراً، الأصل أنه يقال له لا توتر، لكن لو أنه تبع الإمام وأوتر معه فنقول: اشفعه بركعة لكي تجعل وترك بعد التهجد.
وقد ذكرنا أن الصواب والخلاصة في هذه المسألة أنه يوتر مع الإمام، فإن منّ الله عز وجل عليه وقام آخر الليل فإنه يصلي مثنى مثنى، وهل ينقض وتره أو لا ينقض وتره؟ جمهور العلماء على أنه لا ينقض الوتر، وبعض السلف كـابن سيرين وعمرو بن ميمون يقولون: لو أوتر مع الإمام ثم قام في آخر الليل ينقض وتره، فيأتي بركعة لكي تضم مع ركعة الوتر فتكون شفعاً، ثم يتهجد ثم يوتر، فيكون قد أوتر ثلاث مرات، وهذا لا شك أنه ضعيف، والصحيح ما عليه جماهير العلماء أنه لو قام المتهجد يصلي وقد أوتر، فإنه لا حاجة إلى أنه ينقض وتره وإنما يصلي مثنى مثنى.
الناس يصلون التراويح فيصلون أربعاً ثم يستريحون، ثم يصلون أربعاً ويستريحون فلو قام في الاستراحة يتنفل فالمؤلف رحمه الله يقول بأن هذا مكروه؛ ويستدلون على ذلك بأنه وارد عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، ولأن هذا أدعى إلى الرياء، يعني: كون الناس يستريحون وهو يقوم ويصلي مثنى مثنى أو ركعتين ركعتين أو نحو ذلك هذا يكون أدعى إلى الرياء، فعليه أن يكون مع الناس، ولأنه يخالف الناس أيضاً.
التعقيب هو: الاشتغال بعدها في جماعة، فبعد أن ينتهي الناس من التراويح تأتي طائفة من الناس لم يصلوا فيصلون مثنى مثنى جماعة ويصلي معهم، فيقول المؤلف رحمه الله بأن هذا ليس مكروهاً.
والذي يظهر والله أعلم أن هذا فيه تفصيل، فإن كان لعموم الناس فإن هذا لا بأس به كما يفعله الناس في العشر الأواخر من رمضان، فالناس في العشر الأواخر من رمضان يسعون إلى هذا التعقيب، فيصلون التراويح وإن كانوا أخروا الوتر، ثم بعد ذلك يرجعون مرة أخرى، فإذا كان للعموم فإن هذا جائز ولا بأس به، وإن كان للخصوص يعني: طائفة من الناس يأتون ويصلون فيظهر أن هذا غير مشروع خلافاً لما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى.
بعد التراويح في الرتبة السنن الراتبة، ومعنى الراتبة: الدائمة التي ينبغي للمسلم أن يداوم عليها، فهذه السنن ينبغي لك أن تداوم عليها، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن ترك السنن يدل على قلة الدين، وأنه لا تقبل شهادة الذي يصر على ترك السنن.
السنن الرواتب تحتها مباحث كثيرة، فمن هذه المباحث عدد هذه السنن، وقد بينها المؤلف رحمه الله، وذكر أنها عشر: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعده إلى آخره؛ ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثم عددها- عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر, وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر ) هذا ما ذهب إليه المؤلف ودليله حديث ابن عمر في الصحيحين.
الرأي الثاني: أنها اثنتا عشرة ركعة؛ واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع قبل الظهر أربع ركعات )، ويدل لذلك أيضاً حديث أم حبيبة في صحيح مسلم : ( من صلى لله في يوم وليلة ثنتا عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بني له بهن بيت في الجنة )، ففي حديث ابن عمر ركعتان قبل الظهر، وفي حديث عائشة أربع ركعات قبل الظهر، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الجمع بين هذين الحديثين، فقال بعض العلماء: إذا صلى في البيت صلى أربعاً، وإذا صلى في المسجد صلى ثنتين، وقال بعض العلماء: بل يأخذ بالأكثر، وهو الذي دل عليه حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها.
وقال بعض العلماء: بأن هذا على سبيل التنويع، فتارة يصلي قبل الظهر ركعتين، وتارة يصلي أربع ركعات، وابن القيم رحمه الله له مسلك آخر يقول: بأن هذه الأربع التي ذكرتها عائشة رضي الله تعالى عنها ليست من السنن الرواتب، إنما هي سنة مستقلة تكون عند زوال الشمس، فهو يجعلها سنة مستقلة تكون عند زوال الشمس وليست من السنن الرواتب.
والأقرب في هذه المسألة أن يصلي قبل الظهر أربع ركعات، وهذا يعضده حديث أم حبيبة ؛ لأن حديث أم حبيبة فيه فضل عظيم.
أي: ركعتا الفجر آكد السنن؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل ) وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين قالت: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعهداً منه على ركعتي الفجر )، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم حافظ عليهما في السفر وفي الحضر.
وبعد ركعتي الفجر تأتي سنة المغرب في الآكدية، وبقية السنن على السواء، فالترتيب أولاً ركعة الفجر، ثم ركعة المغرب، ثم تأتي بقية السنن على السواء في الأفضلية، كسنة العشاء وسنة الظهر القبلية وسنة الظهر البعدية.
ولتأكد سنة الفجر ذهب بعض العلماء كـالحسن البصري إلى أنها واجبة، وسنة الفجر لها سنن من سننها: التخفيف: فيشرع تخفيفها؛ ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين قبل الفجر حتى إني أقول: أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟ )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما، خلافاً لـأبي حنيفة , فإنه يرى استحباب إطالة القراءة.
ومن سنن هاتين الركعتين: أن تفعلا في البيت، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصليهما في بيته كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين، ومن السنن: أن يقرأ في الركعة الأولى بـ(قل يا أيها الكافرون) وفي الركعة الثانية بسورة الإخلاص، أو يقرأ في الركعة الأولى بقوله تعالى في سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:136]، وفي الركعة الثانية يقرأ الآية التي في سورة آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، والسنة أن ينوع فيقرأ تارة بهذا وتارة بهذا، وهذا خلاف ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله من أنه يقتصر على قراءة الفاتحة، والصواب في ذلك أنه لا يقتصر عليها.
ومن سنن هاتين الركعتين: أن يضطجع بعدهما، والاضطجاع هذا اختلف فيه العلماء رحمهم الله تعالى، فجمهور العلماء على أنه مشروع، وذهب بعض العلماء إلى أنه بدعة، كما قال به الإمام مالك رحمه الله، وقال به النخعي والأسود بن يزيد ، وقد ورد ذلك عن ابن عمر وابن مسعود ، وابن حزم رحمه الله يرى أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر واجب، وإذا لم يضطجع بعد ركعتي الفجر فصلاته لا تبطل، ويستدل بحديث أبي هريرة وفيه الأمر بالاضطجاع.
ولكن الأمر بالاضطجاع كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من فعله وليس من قوله.
وذهب بعض العلماء إلى أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فيه تفصيل، فإن كان الإنسان محتاجاً إليه لطول القيام يعني: أطال القيام والركوع إلى آخره فيحتاج إلى أن يستريح بعد ركعتي الفجر فيشرع له ذلك، وإن كان ما فعل شيئاً من ذلك فإنه لا يشرع، وهذا القول لعله هو الأقرب؛ ويدل لذلك ما ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( إذا كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع ).
وعلى هذا نقول: الاضطجاع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر إن احتيج إليه بسبب كثرة طول القيام وطول القراءة فعله، وإن لم يحتج إلى ذلك لكونه لم يطل قيامه وقراءته فليس مشروعاً، والعلماء يرخصون في الاضطجاع حتى ولو كان في المسجد، فلو أنه صلى ركعتي الفجر في المسجد فإنه له أن يضطجع.
السنن الرواتب تسقط في السفر إلا سنة الفجر، فالمسافر يفعل جميع التطوعات إلا السنن الرواتب غير سنة الفجر، فيسقط على المسافر سنة الظهر القبلية والبعدية والمغرب والعشاء، وما عدا ذلك من التطوعات كصلاة الضحى وقيام الليل والوتر، وركعتي الفجر، وتحية المسجد، والكسوف والخسوف -إذا قلنا بأنهما سنة كما سيأتينا إن شاء الله- كلها مشروعة.
وإذا فاته شيء من هذه الرواتب فيسن له أن يقضيها، فإذا فاتته سنة الظهر قضاها، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمران وحديث أبي هريرة قضى سنة الفجر، وقضى سنة الظهر لما شغله وفد عبد القيس.
وهل يقضي هذه السنن في أوقات النهي أو لا يقضي؟ سيأتينا إن شاء الله في أوقات النهي.
وما هو وقت السنن الرواتب؟ الشافعية يتوسعون في هذه المسألة، ويقولون وقت السنة سواء كان قبلية أو بعدية من دخول الوقت إلى خروجه، وعلى هذا فالسنة القبلية للظهر يصليها قبل الصلاة، ويصليها بعد الصلاة.
الرأي الثاني: مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: التفصيل في هذا، فإن كانت قبلية فوقتها من دخول الوقت إلى إقامة الصلاة، وإن كانت بعدية فوقتها من بعد الصلاة إلى خروج الوقت، وهذا القول هو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فصل فجعل بعضها قبل الصلاة، وبعضها بعد الصلاة، وهذا يدل على أن هذا الفعل مقصود، وهذا هو السنة.
هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: بأن صلاة الليل وصلاة النهار تنقسمان إلى قسمين:
القسم الأول: التطوع المطلق، فالتطوع المطلق تطوع الليل أفضل من تطوع النهار، لو أن الإنسان صلى بعد المغرب ركعتين تطوعاً مطلقاً أفضل من كونه يصلي بعد الظهر ركعتين؛ لأن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.
القسم الثاني: التطوع المقيد المعين، وهذا على حسب ما قيد به، فلا نقول بأن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار، فمثلاً عندنا في النهار تطوع مقيد معين كصلاة الضحى، فلا نقول بأن ركعتين من التطوع المطلق أفضل من ركعتي الضحى؛ لأن ركعتي الضحى صلاة معينة، فقول المؤلف رحمه الله: صلاة الليل أفضل من صلاة النهار هذا فيما يتعلق بالتطوع المطلق، أما التطوع المعين المقيد فهذا كل بحسبه وفضله.
وتبدأ صلاة الليل من بعد غروب الشمس، وعلى هذا فصلاة المغرب من صلاة الليل، وصلاة العشاء من صلاة الليل، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
وعلى هذا يجزئ الليل إلى ستة أجزاء: الجزء الذي يشرع أن يقام الجزء الخامس والرابع، فالنصف الأول: الجزء الأول والثاني والثالث، السنة فيه أن تنام، وتقوم في الرابع والخامس، وهذا هو الثلث بعد النصف، ثم بعد ذلك تنام في السدس السادس, وسبق أن ذكرنا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما ألفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر عندي إلا نائماً ) وهذه صلاة داود عليه الصلاة والسلام التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو إليها، ( لأن
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر