إسلام ويب

تفسير سورة النساء (76)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإيمان بالله وبرسالاته يستلزم الإيمان بكل رسل الله، دون التفريق بينهم، فمن جحد حق رسول من رسل الله فكأنما جحدهم جميعاً، فعند ذلك لا يكون قد آمن الإيمان الصحيح، وإنما هو كافر بالله وبرسالاته، ويوم القيامة يذيقه الله عز وجل أشد العذاب، بسبب كفره وعدم قبوله للحق الذي جاءه من ربه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله تعالى؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا نتلوها ونتغنى بها؛ رجاء أن نحفظها وأن نفهم مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلا تنحلُّ حتى نلقى ربنا، وإن كانت تحمل آداباً وأخلاقاً عزمنا على التأدب بها والتخلق بمثلها، وإن كان فيها أمر عددنا أنفسنا للنهوض به، وإن كان فيها نهي عزمنا عن التخلي عنه إن كنا فاعليه، أو عزمنا على ألا نأتيه ولا نقربه طول حياتنا، إذ هذا سر كتاب الله عز وجل، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:150-152]، وفي قراءة سبعية: (نوتيهم أجورهم).

    مراتب الكفر بالله تعالى

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! القرآن الكريم كتاب نور وهداية، وكتاب روح ولا حياة بدون روح، فلتستقر هذه المعاني في نفوسنا، أي: أن القرآن كتاب نور وهداية، فلا هداية بدون نور، ولا هداية بدون القرآن، والكتاب روح فلا حياة بدون روح، فمن لم يؤمن بهذا الكتاب، ويقرأه ويعمل بما فيه فهو ميت كسائر الموتى والعياذ بالله تعالى.

    اسمعوا إلى هذا الخبر الإلهي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:150]، من هؤلاء الذين يكفرون بالله ورسله؟ الإيمان بالله أصلٌ، والإيمان برسل الله أصلٌ، فهذان أصلان عظيمان في عقيدة الإيمان، عقيدة النجاة من الخسران، وهؤلاء اليهود والنصارى وسائر الكافرين والمشركين كفروا بالله ورسله.

    إذاً فما الكفر بالله؟ والجواب: معشر الأبناء والإخوان! الكفر بالله مراتب، وأول مرتبة هي: عدم الاعتراف والإقرار بربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى، وثانياً: عدم عبادته وطاعته في ما يأمر به وينهى عنه، وثالثاً: تكذيبه في بعض أخباره فضلاً عن كل ما يخبر به، كأن ينكر صفة من صفاته أو يكذب بها، أو الافتراء عليه ونسبة الباطل والشر إليه جل جلاله وعظم سلطانه.

    فاليهود كفروا بالله، لكن كيف كفروا به وهم يؤمنون به؟ كفروا به لأنهم نسبوا إليه الابن والولد، فقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، فنسبة الولد إلى الله تجعل الله كسائر مخلوقاته ضعيفاً مفتقراً إلى الزوجة والولد، وبالتالي فوصف الله بهذا أعظم كفر، بل أعظم جحود لتلك القدرة التي لا يعجزها شيء، ولذلك الكمال الذي لا يوازيه كمال، ولذلك العلم الذي تغلغل في كل شيء.

    وكذلك النصارى كاليهود، فقد قالوا: إن عيسى بن مريم ابن الله، قال تعالى: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، تعالى الله عن هذه الافتراءات والأكاذيب علواً عظيماً كبيراً.

    إذاً: الذي ينسب إلى الله العجز والافتقار إلى مخلوقاته فقد كفر بالله أبشع كفر وأعظمه، وجحد قدرة الله ورحمته وعلمه، إذ كيف يبقى مؤمناً؟! وكذلك الذي يكذب خبراً واحداً من أخبار الله تعالى -وهو العليم الخبير- بنفيها وإبطالها وردها فقد كفر بالله عز وجل، وأيضاً الذي يعبد مع الله غيره من سائر المخلوقات فقد كفر الله عز وجل وجحده وما آمن به.

    التكذيب برسول واحد كالتكذيب بجميع الرسل

    ثم إن الإيمان برسله لا يصح حتى يؤمن العبد بكل ما أرسل الله من رسول، وبكل ما أنزل الله من كتاب، وبكل ما شرع الله من شرائع وقوانين وأحكام، فإن آمن ببعض ولم يؤمن بالبعض فقد كفر برسل الله جميعاً.

    فاليهود على سبيل المثال التقريبي قد آمنوا بموسى عليه السلام، وسموا أبناءهم باسمه، كموشي أي: موسى، لكن كفروا بعيسى روح الله وكلمته، فقالوا: ساحر ودجال، واتهموا والدته بالعهر والزنا والبغاء، فأي كفر أعظم من هذا الكفر؟ بل وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون أنه رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وكذبوه ورموه بعظائم المفتريات صرفاً للناس عن الإيمان به، فهل ينفعهم إيمانهم بإبراهيم وأبنائه من بني إسرائيل من إسحاق إلى آخر واحد، وهم يكفرون بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم؟ والله ما ينفعهم ذلك الإيمان؛ لأن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:150]، أي: يقولون: هذا نؤمن به وهذا لا نؤمن به، فكيف يرضى الله عز وجل بهذا؟ لقد أرسل الله رسلاً فيقول العبد المأمور بالإيمان: أنا أؤمن بهذا الرسول ولكن لا أؤمن بذاك الرسول! لمَ؟ والجواب: لا شك أنه خوفاً على المصالح الدنيوية، وللحفاظ على المناصب، وللحفاظ على الدولة، وللحفاظ على موارد المال، وللحفاظ على الرفعة والعز والشأن بين إخوانه ومواطنيه، ولو كانوا معنا لهزمناهم بكلمة واحدة وهي أن نقول لهم: هل تؤمنون بقانون الدولة أم لا؟ قالوا: نعم، إذاً فالدولة إذا غيرت مسألة من قوانينها وأعلنت عن إيقاف العمل بها، فهل يستطيع مواطن أن يقول: أنا أعمل بهذا لأنه كان قانوناً؟ لا يستطيع، بل والله سيُسخر منه ويستهزأ به، إذ إن هذا كان صالحاً ثم نسخناه لأنا وجدنا غيره أنفع منه، فنمنع العمل به ونأمر بالعمل بما جاء بعده، فكذلك الله عز وجل يرسل الرسول فيحمل الهداية إلى تلك الأمة، ثم بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر يغير تلك الرسالة بأشياء لم تكن في الأولى، فهل يقول المؤمن: أنا لا أؤمن بهذا لأنني أؤمن بما سبق؟! لا والله.

    فكفر اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم كفر سخرية واستهزاء لا معنى له أبداً، فأنت تؤمن بأن الله يرسل الرسل، وقد ختم تلك الرسالات وأولئك الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، بأي عقل أو بأي ذوق أو فهم تقول: يا رب! أنا لا أؤمن برسولك هذا؟ فهل يبق هذا مؤمناً أو فيه ذرة إيمان؟ وهل يرد على الله عز وجل أم ماذا؟! فهذه الآية الكريمة ترسم لنا طريق النجاة لمن كتب الله له النجاة.

    بيان عدد الأنبياء والمرسلين

    إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:150]، قال العلماء: عدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً على عدة قوم طالوت عندما قاتل جالوت ورجاله وانتصر عليهم، وظهرت رسالة ونبوة داود عليه السلام، كذلك على عدة أهل بدر، تلك الغزوة الكبرى التي تعتبر أول الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأنبياء فكان عددهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وقد جاء هذا في حديث ضعيف، ولكن لم يجد علماء الملة بداً أن يقولوا به، إذ الضعيف ليس هو المكذوب الموضوع، فحاشا أصحاب رسول الله وأحفادهم من التابعين أن يؤمنوا بحديث مكذوب، ونصه هذا الحديث: أن أبا ذر الغفاري -أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كم كان عدد الأنبياء؟ وكم كان عدد المرسلين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كانت الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألفاً، وكانت المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً )، فهذا الحديث من حيث السند والاصطلاح في علم الحديث ضعيف، لكن لم يجد علماء الملة أمة الإسلام غيره، وهم في حاجة إلى أن يعرفوا عدد الأنبياء وعدد المرسلين، فوجدوا هذا الحديث فقال به أهل الكتاب والسنة.

    إذاً: لو تؤمن بثلاثمائة واثني عشر رسولاً إلا واحداً تقول: أنا لا أؤمن به، والله لكنت من الكافرين.

    وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:150]، وهذا موقف اليهود عليهم لعائن الله، فكيف يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟!

    وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ [النساء:150]، أي: هذا الإيمان بالبعض والكفر بالبعض، سَبِيلًا [النساء:150]، أي: مذهباً جديداً أو ديناً خاصاً يبيح لأتباعه الإيمان ببعض الأنبياء والكفر بالبعض، فهؤلاء ما جزاؤهم؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ...)

    أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]. ‏

    تكفير الله لليهود والنصارى

    أُوْلَئِكَ [النساء:151]، أي: البعداء، هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:151]، أحق الله هذا الكفر وأحقه فهو حق.

    أُوْلَئِكَ هُمُ [النساء:151]، لا سواهم، الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:151]؛ لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، آمنوا ببعض الرسل والأنبياء وكفروا بالبعض، وأرادوا أن يتخذوا طريقاً يسلكونه في هذا الشأن دون غيرهم، وهو أنهم يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، فإن شاءوا آمنوا بالرسول الفلاني وإن شاءوا كفروا، وحسبهم ما سمعنا: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:151]، فيا مؤمن! أحقق هذا الإيمان فإنه حق.

    وَأَعْتَدْنَا [النساء:151]، أي: وهيأنا وأحضرنا وأوجدنا، لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]، والعذاب المهين هو الذي فيه إهانة وإذلال للمعذَّب، إذ قد يكون العذاب خالياً من الإهانة، كأن يصب من فوق رأسه الحميم، ويصهر ما في بطنه والجلود، لكن لا يعذب بكلمة: ذق إنك أنت العزيز الكريم، أو هذا جزاء ما كنت تكفر يا فلان.

    وهذه الآية الكريمة قد حكمت بكفر اليهود والنصارى؛ لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، فقال تعالى: وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:150]، فقد سجل عليهم الكفر في أربعة مواطن: أولاً: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:150]، وثانياً: قولهم: وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:150]، وثالثاً: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:151]، ورابعاً: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151].

    إذاً: سجل عليهم الكفر أولاً بقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وثانياً: باتخاذهم مذهباً وسطاً يجيزون فيه الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض، وثالثاً: إعلان الله تعالى عن كفرهم وتقريره بقوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [النساء:151]، ورابعاً: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]، ولم يقل: وأعتدنا لهم، وإنما السياق يقول: وأعتدنا لهم عذاباً مهيناً، ولكن لما كان الحكم بحسب الجريمة فتُذكر الجريمة لتكون موعظة لمن يتعظون.

    الإيمان وسيلة للوصول إلى دار السلام

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما سر الكفر والإيمان؟ هل فقط لمجرد الكفر استوجبوا لعنة الله وخزيه وعذابه أم أن وراء ذلك شيء آخر؟ والجواب وتفهموا يرحمكم الله: أن الإيمان وسيلة لا بد منها لتحقيق الهدف والوصول إلى الغرض، فإذا آمن العبد بالله ورسوله فقد أصبح منقاداً وطائعاً ومتهيئاً لأن يعبد الله عز وجل بما شرع لعباده من أنواع العبادات القولية والفعلية والقلبية والعقائدية، وهذه العبادات هي التي تزكي النفس البشرية وتطيبها وتطهرها، فإذا زكت النفس وطابت وطهرت أسعدها الله عز وجل أولاً في هذه الحياة، حيث لا خبث ولا عبث ولا ظلم ولا شر ولا فساد ولا أمراض عامة وخاصة، وكل ذلك بسبب ذلك الطهر الروحي وذاك الزكاء النفسي، ثم لما تنتهي الحياة يرفعهم تعالى إلى جواره في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام ودار الأبرار ودار المتقين. وأما الذي ما آمن بالله ولا برسله، أسألكم بالله! هل يعرف كيف يعبد الله تعالى؟ وبم يعبده؟ لا بد من الإيمان بالله رباً وإلهاً، وبالرسل مبلغين ومبشرين ومنذرين ومعلمين، فإذا امتلأ قلبه بالإيمان فقد أصبح قادراً على أن يصوم ويفطر، على أن يقول ويسكت، على أن يمنع ويعطي، أما بدون إيمان فليس متهيئاً أبداً لأن يعبد الله عز وجل، فإذا لم يعبد الله عز وجل فتبقى نفسه خبيثة منتنة عفنة، وهذه النفس الخبيثة العفنة المنتنة كتب الله أن صاحبها لن يدخل دار السلام، وساعة الموت ما إن تأخذ الملائكة روحه وهو على سرير موته أو على فراشه فعلى الفور يعرجون بها إلى السماء، ويستأذنون أهل السماء في الدخول فيأذنون لهم، ومن سماء إلى سماء إلى سدرة المنتهى إلى عرش الرحمن، ثم بعد ذلك يسجل اسمها ويدون في الديوان العظيم المسمى بـ(عليين)، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، وقبل أن تُحمل وتدخل في نفسها أو في ذاتها دخولاً خاصاً تنادي: عجلوا بي، قربوني إلى القبر، فينزلونها القبر ويأتيها الملكان الكريمان منكر ونكير عليهما السلام للامتحان الأخير والفتنة الخاصة بالقبر، فيطرحان ثلاثة أسئلة فقط، السؤال الأول: من ربك يا عبد الله؟ فيقول: ربي الله، والسؤال الثاني: ما دينك يا عبد الله؟ فيقول: الإسلام، والسؤال الثالث: ما تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيفتحان له فتحة فيشاهد وينظر إلى مقامه في الجنة وإلى مقامه في النار، إذ لو كفر لكان هذا هو مقامه، لكن آمن فهذا هو مقامه، وتنتهي فتنة القبر ويعرج بالروح إلى الملكوت الأعلى، فتسرح هناك في تلك الأشجار وذلك النعيم إلى يوم القيامة.

    وأما إذا كانت الروح خبيثة منتنة عفنة فإن الملائكة يقبضونها ويرفعونها وهم نوع آخر، أي: موكب غير الموكب الأول، فيعرجون بها إلى السماء الأولى فيستأذنون لها فلا يؤذن لها، فتعود إلى فتنة القبر، ثم يكتب اسمه في سجين في الدركات السفلى من الكون، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين:8-10]، ولنقرأ لهذا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:40-41]، أي: فراش، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، أي: أغطية، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].

    فالمكذبون كيف يعبدون الله وقد كذبوا الله ورسوله؟ والمستكبرون وإن آمنوا فالكبر منعهم أن يعبدوا الله عز وجل، فبم تزكوا أنفسهم؟! والمجرمون الذين صبوا أطنان الذنوب والآثام على أرواحهم فخبثت وأنتنت وتعفنت كيف تُقبل في الملكوت الأعلى؟ والظالمون كذلك ظلموا أنفسهم، فبدل أن يزكوها ويطيبوها ويطهروها خبثوها ولوثوها وعفنوها.

    أهل الفوز والفلاح في الآخرة وأهل الخيبة والخسران

    معشر المستمعين! أبشروا فإننا مقبلون على ما تسمعون، فإما بشرى وإما عذاب، وقد صدر حكم الله في هذه القضية، وقرأه النساء والرجال من أيام الصبا، فقد قال تعالى من سورة الشمس وضحاها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن منكم لا يعرف ما هو الفلاح؟ ومن منا لا يعرف ما هي الخيبة؟ قد أفلح عبد زكى نفسه وخاب عبد دسَّ نفسه، والفلاح هو الفوز، والفوز قد بينه تعالى لنا في كتابه إذ قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهذا هو الفوز.

    فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، أي: عالم الشقاء، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ [آل عمران:185]، أي: دار الأبرار، فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فأعلنوا عن فوزه.

    وأما الخيبة والخسران فالله ذكر هذا في كتابه في آيتين، وهو بيان كلف الله رسوله أن يبلغه، فقال تعالى: قُلْ [الزمر:15]، أي: يا رسولنا! ماذا يقول؟ قل: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، لا خسارة بضاعة أو تجارة أو فقد زوجة أو ولد أو منصب أو جاه، لا، وإنما الخسران الحقيقي هو أن يخسر العبد أولاً نفسه وأهله، ووالله ليُلقى في عالم الشقاء الذي عالمنا بالنسبة له كالبلة التي في اصبعك إذا غمسته في المحيط الأطلسي، فيعيش مليارات السنين لا يعرف أباً ولا أماً ولا أخاً ولا أختاً ولا قريباً ولا بعيداً أبداً، فهذا هو الخسران الحقيقي.

    قُلْ [الزمر:15]، أي: يا رسولنا وبلغ عنا: إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15]، بحق، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر:15] أولاً، وَأَهْلِيهِمْ [الزمر:15]، متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15]، فهل عرف المستمعون والمستمعات هذا الحكم الصادر عن الرب تبارك وتعالى؟ أنا أقول: ويحك يا عبد الله! ويحكِ يا أمة الله! تسمعي كلمة كهذه وتعودين إلى بيتكِ ولا تعرفينها، وكذلك الرجل الفحل يسمع هذا البيان ويُسأل غداً: هل صدر حكم علينا؟ فيقول: هاه، لا أدري! سبحان الله! لا تدري؟ أما سمعت يوم زرت المسجد النبوي أن المعلم يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؟ سمعتها ولكن ما أعطيتها بالاً ولا التفت إليها.

    إن هذه الكلمة أو هذا الحكم يجب أن يطير به الإنسان طيراناً، ولا تفارق قلبه أبداً، فهي دائماً بين عينيه، إذ فيها تقرير لمصيره، فإما أن تعمل من الآن على تزكية نفسك وتطهيرها فتنجو من العذاب وتسعد بدار النعيم، وإما أن تهملها ولا تلتفت إليها وتفرغ عليها كل يوم براميل الأوساخ من الذنوب والآثام والمصير معروف، حتى لو كنت ابن النبي صلى الله عليه وسلم أو كنت أبا النبي صلى الله عليه وسلم، فإياكم أن تعولوا على الانتساب، فالبشرية كلها نسبتها إلى الله واحدة، فكلهم عبيده وتحت تصرفه، فمن أطاعه أكرمه وأعزه، ومن عصاه أهانه وأذله.

    كما أنه يجب على المسلم أن ينزع من ذهنه تلك الضلالات التي ملئوا بها قلوب الجهال، مثل قولهم: هل يعقل أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟ هيا نبدأ بنوح عليه السلام، أليس نوح أول الرسل؟ بلى، وقد عاش داعياً إلى الله تسعمائة وخمسين سنة وهو يتلقى الضرب والصفع والاستهزاء والسخرية، ولما تمت المهمة ودقت الساعة نادى ابنه قائلاً: يا بُني ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:42-43]، ثم قال الله تعالى: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]، أي: سفينة نوح، وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، فماذا قال نوح؟ قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45]، أي: كيف يغرق ابني وأنت قد قلت: لننجينك وأهلك؟ فرد الله تعالى فقال: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، تريد أن يدخل ابنك الجنة وينجو من العذاب وهو كافر؟ إن هذا لا يقوله إلا جاهل بحكم الله وقضائه.

    وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في عرصات القيامة يقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي يا رب أن يكون أبي في النار؟! فيقول له الرب تبارك وتعالى: انظر تحت قدميك، فيطأطئ رأسه وينظر فإذا والده آزر المشرك الكافر داعية الشرك والكفر في صورة ضبع ذكر -الضباع من أخس وأبشع الصور والألوان- وهو ملطخ بالدماء والقيح، وما إن يراه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع، أي: يديه ورجليه، ويلقى في الجحيم، فتطيب نفس إبراهيم عليه السلام.

    وهذه المرأة التي تعتبر شقيقة الرجل وسكينته، امرأة نوح وامرأة لوط، إذ قال تعالى في حالهما: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ [التحريم:10].

    وهنا لطيفة جميلة وهي قوله: (تحت)، فأين الذين يطالبون بالمساواة بين الرجال والنساء؟ وأين الذين يطالبون بتفوق المرأة وارتفاع علوها ودرجتها؟ لقد كفروا ومسخوا، والله يقول: كَانَتَا تَحْتَ [التحريم:10]، ولم يقل: فوق أو مساوية، وإنما كَانَتَا تَحْتَ [التحريم:10]، وأنت تقول: لا، يجب أن نسوي بين المرأة والرجل، بين الذكر والأنثى، يا ممسوخ! آنت الخالق؟ آنت المالك؟ آنت المدبر؟ من أنت حتى تسوي بين الذكر والأنثى؟ إن الذي يسوي أو يفضل البعض على البعض هو الخالق المالك المدبر الذي بيده الحياة والموت، لكن يصاب الإنسان بالكفر وظلمته حتى ينسى وجوده كيف هو.

    كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10]، أي: كانتا تسرا الكفر وتظهرا الإيمان، فما هي النتيجة؟ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10].

    أيضاً امرأة فرعون الطاغية الجبار الكافر القائل: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، والقائل: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فامرأته تدخل الجنة وهو يدخل النار، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، آسية بنت مزاحم، وقد حكم عليها الطاغية بالإعدام، وقبل أن يصل السيف إلى جسمها نظرت إلى دار السلام ففاضت روحها، فلم تألم لتلك الضربة بالسيف.

    وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11]، قالت العلماء: الجار قبل الدار، فقد طلبت الجار قبل الدار فقالت: ابن لي عندك بيتاً في الجنة، فاطلب الجار قبل الدار، أي: لا تسأل عن الدار هل هي واسعة أو ضيقة أو منتنة، وإنما اسأل أولاً عن جيرانها كيف هم؟ فإذا كان الجيران جيران سوء فإنك لا تنتفع بالقصر ولو كان أعظم القصور وأفضلها.

    نعود إلى التقرير: يا معشر المستمعين والمستمعين! هل بلغكم حكم الله فينا؟ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن يعقب على الله تعالى؟ أين تقرر مصيرك يا عبد الله؟ الآن أنت في هذه الدنيا تستطيع أن تقرر مصيرك، فإما أن تطهر نفسك بالإيمان والصالحات من العبادات، وتبعدها عن الشرك والمخزيات والمؤثرات من الذنوب والسيئات فتسعد وتنجو، وإما أن تتكبر أو تهمل وتعرض فالمصير معلوم، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    يا معشر المستمعين! أنصح لي ولكم أن نزكي أنفسنا ولا ندسيها، وذلك بأن نزكيها بالإيمان وهذه العبادات، وإبعادها عن المخبثات من الذنوب والآثام، فإن قال قائل: نحن لا تعرف العبادات، قلنا: تعلم، وإن قال قائل: نحن لا نعرف الآثام؟ قلنا: اسأل عنها وتعلم، ولن تنام هذه الليلة حتى تعرف كيف تزكي نفسك وكيف تطهرها، وهي ساعات قليلة وتنتهي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ...)

    وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:152].

    وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:152]، أي: آمنوا بالله وبكل الرسل، ولم يفرقوا بين أحد من رسله، فآمنا بعيسى وموسى وأنبياء بني إسرائيل ورسل الله أجمعين، ولا نقول: لا نؤمن بذاك أو فلان؛ لأنه كذا وكذا.

    وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ [النساء:152]، أي: الشرفاء أهل المنازل العالية، سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء:152]، من الذي يؤتيهم أجورهم؟ الله الذي آمنوا به وبرسله، كم هذه الأجور؟ لم يقل كما قال في أولئك: وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً، وإنما قال: يعطيهم أجورهم بحسب أعمالهم كثرة وقلة؛ لأن هنا فقط إيمان بالله ورسله، ووراء ذلك أعمال صالحة، فتعظم وتقل، فمنا من قد حج سبعين سنة، ومنا من حج حجة واحدة، فهل يتساويان؟ لا أبداً، ومنا من يتصدق بدرهم، ومن يتصدق بألف درهم، فالأجور يعطيهم إياها ولكن بحسبها قلة وكثرة.

    أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:152]، وهنا لطيفة وهي قوله: (غفوراً رحيماً)، فاسمعوا يل عباد الله! العبد إذا آمن بالله ورسله حق الإيمان، وابتعد عن الشرك ومظاهر الكفر في كل مجال، فهذا إن زلت قدمه وسقط يوماً في معصية فالله عز وجل بوصفه الغفور الرحيم قد يغفر له زلته ويرحمه، لأن الأصل هو الإيمان بالله ورسوله، وهو بذلك قائم بما أوجب الله عليه، بعيداً عما نهى الله عنه، فإن حصل وزلت القدم وسقط عبد الله أو أمة الله فلا يأس ولا قنوط أبداً، فالمؤمنون بحق وإن دخلوا النار وعذبوا فيها حقباً أو أحقاباً فإن مصيرهم الأخير إلى دار السلام، وذلك لأن الله غفور رحيم.

    إذ لو كان كل من أذنب ذنباً لا يُغفر له ويدخل النار ما يظهر وصف الله بأنه غفور، إذ كيف نعرف أن الله غفور إذا لم يغفر؟ وكيف نعرف أن الله رحيم إذا ما رحم هذا المعذَّب؟ إذ الذين يُرحمون هم أهل العذاب.

    إذاً: فالآيات في بيان كفر اليهود والنصارى وضلالهم، وأن مصيرهم العذاب المهين، وبيان إيمان المؤمنين بالله ورسله، وأن الله سوف يؤتيهم أجورهم ولا ينقص من أعمالهم عملاً، بل يثيبهم على الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ومن زلت قدمه وارتكب جريمة -وقد عاش مثلاً ستين سنة يعبد الله- فالله لا يؤاخذه بالعذاب الأبدي؛ لأن الله غفور رحيم.

    وأخيراً فإن الإيمان الصحيح والعمل الصالح هما سبيل النجاة من الخلود والبقاء في النار، أو دخول النار أولاً ثم الاستقرار الدائم الأبدي في الجنة دار السلام، والكفر والشرك والعياذ بالله لا نجاة لصاحبهما بحال من الأحوال، وهذا قضاء الله وحكمه، واقرءوا دائماً: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فبم نزكي أنفسنا؟ بالإيمان والعمل الصالح، وقد جاء الإسلام بهذا في كتابه وعلى لسان رسوله، وبمَ تدسى النفس وتلوث؟ بالشرك بالله في عبادته وبالذنوب والآثام، وباب الله مفتوح، ومن تاب تاب الله عليه، فاللهم تب علينا يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755986290