إسلام ويب

تفسير سورة النساء (68)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بين الله عز وجل جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان، وأنهم مجموعون في نار جهنم لا يجدون عنها محيصاً، ثم بعد ذلك بين سبحانه جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن، وأنه سبحانه سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، وأن خلودهم مقدر فيها بإذن ربهم سبحانه، فلا يخرجون منها أبداً.

    1.   

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآية أيضاً المباركة الميمونة، وتلاوة هذه الآية بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نريد أن نمر مرة أخرى بالآيات التي تدارسناها البارحة؛ لأن لها ارتباطاً كبيراً بهذه الآية، فهيا نسمعكم تلاوتها مرة واحدة ونقرؤها في التفسير ونتذكر بها ما نسيناه ونتعلم ما لم كنا تعلمناه بإذن الله، وتلاوة هذه الآيات -التي تدارسناها البارحة- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:116-121]، هذه قد درسناها بالأمس، فإليكموها في التفسير.

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر.

    وقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أي: ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعداً كبيراً، وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته ].

    قصة طعمة بن أبيرق قد تقدم الحديث عنها في الآيات السابقة، وطعمة هذا كان منافقاً في المدينة وله إخوة، وقد سرق درعاً ثمينة، فلما خاف أن يُعرف ألقاها في بيت يهودي جار له وقال: إن اليهودي هو الذي سرق الدرع، وجاء إخوته وشهدوا معه، فالرسول بشر وإن كان سيد البشر، مال إلى قولهم وأراد أن يقطع يد اليهودي السارق، وإذا بالقرآن ينزل فقال: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:105-106]، الآيات.

    ففضح الله تعالى طعمة بن أبيرق وإخوته، وهرب طعمة -والعياذ بالله تعالى- إلى مكة عاصمة الشرك يومئذ، ثم جاء يسرق بيتاً من بيوت أهل مكة ففتح نقبة في الجدار فسقط الجدار عليه، فمات مشركاً كافراً سارقاً والعياد بالله، وفيه نزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، كـطعمة، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] كإخوة طعمة، إذ ما أشركوا بالله لكن أمرهم إلى الله؛ لأنهم ارتكبوا كبيرة وهي شهادة الزور والعياذ بالله تعالى.

    ثم قال المؤلف: [ وقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله، فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون، إذ أوثانهم ميتة، وكل ميت فهو مؤنث، زيادة على أن أسماءها -أيضاً- مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة ]، فلماذا يسمى هذا المعبود أو هذا القبر أنثى؟ لأن العرب يطلقون على كل من يجدوه لا يقوى على الدفاع والعطاء: أنثى، والأصنام والقبور والأحجار التي يدعونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي، إذاً فهي ميتة، وبالتالي فهي أنثى، إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:117-118].

    قال: [ كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها، فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان ]، فالنصارى الآن المسيحيون لا يعبدون عيسى، وإنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادة عيسى، ولذلك فكل من عبد غير الله هو في الحقيقة ما عبد ميتاً ولا عبد شمساً ولا عبد قمراً، إنما في الحقيقة هم يعبدون من أمرهم بذلك، والذي زين لهم عبادة غير الله ودعاهم إليها هو الشيطان، فهم والله عابدون للشيطان، فهل نحلف والله هو الذي يقرر ذلك؟! لا حاجة إلى الحلف.

    قال: [ فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا للأوثان، ولذا قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] ] وقد فسرنا (مريداً) بأنه متمرد عن الحق فلم يعبد الله عز وجل.

    قال: [ لعنه الله وأبلسه عند إبائه السجود لآدم ]، أي: لعن الله إبليس وأبلسه لما رفض أن يسجد لآدم في الوقت الذي سجد فيه كل ملائكة الله، فأبلسه الله وأيأسه من الخير، وهذا معنى (لعنه).

    قال: [ ولذا قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، لعنه الله وأبلسه عند إبائه ورفضه السجود لآدم، وَقَالَ [النساء:118] -أي: إبليس- لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك وطاعتهم لي.

    وواصل العدو تبجحه قائلاً ] وقد ذكرنا بالأمس أن الله يأمر آدم بأن يخرج بعث النار من كل ألف واحداً، أي: تسعمائة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة، فالتسعة والتسعون عبدوا الشيطان بالشرك والجرائم والموبقات، والجنة والله لا يدخلها إلا ذو النفس الزكية الطاهرة، أما ملوثة مخبثة فهيهات هيهات، وقد سمعتم حكم الله الصادر علينا فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فإما أن تعمل أيها الآدمي على تزكية نفسك وتطهيرها حتى تصبح كأرواح الملائكة فتنزل الملكوت الأعلى معهم، وإما أن تخبثها وتلوثها بأدران الشرك والمعاصي فأنت تهبط فلا تعلو أبداً، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] ما لهم؟ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].

    قال: [ وقال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك وطاعتهم لي.

    وواصل العدو تبجحه قائلاً: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، يريد عن طريق الهدى ]، أي: ولأضلنهم عن طريق الهدى، عن الصراط المستقيم.

    قال: [ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذاباً أو أنه سيغفر لهم ] وهذه أمانيه.

    قال: [ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] فيطيعوني، فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، أي: ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقناهم، ويعلِّمونها بقطع آذانها لتُعرف أنها للآلهة، كالبحائر والسوائب -والحامات- التي يجعلونها للآلهة، وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] أيضاً فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع والشرك والمعاصي كالوشم والخصي ] وما إلى ذلك.

    قال: [ هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد ] وله المنة.

    قال:[ ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، لأنه من والى الشيطان عادى الرحمن، ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران، يدل على ذلك قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [النساء:120]، فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120]، إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً، فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟

    وهذا حكم الله تعالى يُعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه: أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121]، أي: معدلاً أو مهرباً ].

    1.   

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ...) من كتاب أيسر التفاسير

    وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

    قول ربنا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النساء:122]، خلاف الذين أشركوا بالله وعبدوا الشيطان.

    معنى الآية

    قال المؤلف: [ معنى الآية الكريمة: لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل ] والموحدون هم الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله تعالى، فقلوبهم لا تتقلب أبداً إلا في طلب رضا الله عز وجل، ووجوههم لا تلتفت إلى غير الله، فلا يركعون ولا يسجدون ولا يذبحون ولا ينذرون ولا يحلفون أبداً لمخلوق كائناً من كان، بل حياتهم كلها موقوفة على ربهم، وأعلنوا ذلك لما قالوا: لا إله إلا الله، فعبدوا الله بما شرع لهم من أنواع العبادات وأخلصوها له فلم يلتفتوا في شيء منها إلى غير الله، فأولئك هم الموحدون الذين عبدوا الله ووحدوه بالعبادة، فلم يلتفتوا إلى غيره ولم يشركوا غيره أبداً في عبادة من عباداته، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً، فضلاً عن الكواكب والأصنام والأحجار.

    قال: [ لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم ]، وذلك ما إن يلفظ أحدنا أنفاسه إلا ويرقى بها الملائكة إلى الله عز وجل، بينما الآخرون يرقون بها إلى السماء، فيستأذنون السماء الأولى والله ما يؤذن لهم؛ لأنها منتنة وعفنة، فيؤمر بها أن اهبطوا بها إلى أسفل سافلين، وأما الزكية الطاهرة النقية فيفرحون بها وتفتح لها أبواب السماء وينتهون بها والله إلى العرش، ثم يكتب اسمها في عليين، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]، ثم ينزلون بها للمحنة وللاختبار في القبر أو في البحر حيث وجد منها جزء، ثم بعد ذلك الامتحان يعودون بها إلى دار السلام، فاللهم اجعلنا منهم.

    فهؤلاء هم الذين آمنوا بالله حق الإيمان، وعبدوه وحده ولم يلتفتوا إلى غيره، وما عبدوه بالبدع والخرافات فإنها والله لا تزكي النفس ولا تطهرها، وإليكم مثالاً لذلك: تعبدنا الله بالطواف ببيته سبعة أشواط، فمن طاف شوطاً واحداً لا يقبل منه، ومن طاف خمسة أشواط أو ستة أو تسعة لا ينفع، حتى لو قلت: أنا زدت لربي شوطاً أو شوطين، وهذا خير، والله ما ينفع، ومعنى لا ينفع أنها لا تزكي النفس، لا تتولد لك المادة النورانية من هذه العبادة التي أثبتها بالزيادة أو بالنقصان، وإذا ما اتضح لك الموقف فإليك مثالاً آخر: صلاة المغرب كم هي ركعة؟ ثلاث ركعات، وقد صلى جبريل برسول الله في الأرض ثلاث ركعات، فإن أتى آت فقال: ما هذا؟ أن أزيد ركعة فأصلي المغرب أربعاً، فهل تجد فقيهاً يقول له: صلاتك صحيحة؟ والله ما تجد، كذلك الظهر أربع ركعات، فيأتي آت فيقول: أنا مريض، فيكفي أن أصلي الظهر ثلاثاً، فهل تجد فقيهاً في الدنيا يقول له: صلاتك صحيحة؟ لا والله، لماذا؟ ما السر يا فقهاء؟ لأن هذه العملية شرعها الله لتوليد النور، وذلك بمادة الحسنات المنيرة للقلب، فإذا أنت أخللت بأدائها فزدت أو نقصت بطل مفعولها ولا تنتج النور المطلوب، إذاً: فكيف تبتدع بدعة وتريد أن تزكي نفسك؟! والله ما كان ولن يكون، واسمعوا إلى قول المفسر صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا )، أي: ما أذنا فيه، ( فهو رد )، أي: مردود على صاحبه، لا ينتفع به.

    ونعود إلى الطواف، فلو قال قائل: هيا بنا نطوف بالحجرة النبوية سبعة أشواط؛ لأن الرسول فيها وهو أفضل من الكعبة بأكثر من مليون مرة! فهل هذا الطواف تزكو به نفسه؟ والله ما تزكو، بل تدنس؛ لأن الله ما شرعه، وعلى هذا فقيسوا كل البدع، فإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فمن ثَمَّ لا نعبد الله إلا بما بين لنا رسوله من أنواع العبادات، أما أن نخترع ونبتكر ونوجد لنا عبادة والله لا ينفع، فلا تزكي النفس ولا تطهرها، بل تخبثها وتلوثها.

    قال: [ لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ]، أي: جنات تجري من تحتها الأنهار، ومعنى من تحتها الأنهار، أي: من تحت القصور والأشجار.

    قال: [ وأن خلودهم مقدر فيها -بقضاء الله وقدره- بإذن الله ربهم، فلا يخرجون منها أبداً ]، والله ما يخرج من الجنة من دخلها قط، أما النار فقد يخرج منها، وذلك أن العبد قد يدخل النار بذنوبه التي ليست شركاً ولا كفراً وإنما هي من كبائر الذنوب، وذلك إذا لم يغفر له ومات عليها والعياذ بالله، ولكن من أهل لا إله إلا الله الموحدين الذين لا يعرفون عبادة لغير الله، فهؤلاء قد يمكثون فيها أحقاباً ثم يخرجون منها؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.

    قال: [ وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم، فلا يخرجون منها أبداً، وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق، وليس هناك من هو أصدق وعداً ولا قولاً من الله تعالى ]، وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

    هداية الآية

    قال المؤلف: [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها ]، والسر في ذلك هو النفس البشرية لا تطيب ولا تطهر إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وليس هناك نسب أبداً، بل لو كنت ابن نبياً من الأنبياء ونفسك خبيثة منتنة فلن تدخل دار السلام، أو كنت أبا نبي من الأنبياء لا ابنه، وقد علمنا الله هذا في القرآن، فكيف حال آزر والد إبراهيم؟ في النار، وإبراهيم قد وعده ربه بأن لا يخزيه يوم يبعثون، فقال إبراهيم: يا رب! لقد وعدتني في أبي وأبي في النار، فيقال له: انظر تحت قدميك، فينظر فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ذكر ملطخ بالدماء والقيح -والضباع أسوأ منظر- فما ينظر إليه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون جهنم. فهذا أبو إبراهيم عليه السلام.

    وهذا كنعان بن نوح عليه السلام، إذ قال نوح عليه السلام: يا رب إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46]، فهل نفع نوح ولده؟ لا والله.

    وهذه الزوجة الحنونة زوجة نوح ولوط عليهما السلام، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10]، فهذا قضاء الله تعالى، فمن لم يرض به يضرب رأسه على الحائط، إذ ليس هناك حيلة أبداً.

    وهذه امرأة فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية والألوهية، آسية بنت مزاحم عليها السلام، هل ضرها أن كانت تحت فرعون؟ قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، فهي في الجنة؛ لأن القضية أنه قد صدر على البشرية حكم علمناه وجهله غيره، وهذا الحكم هو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فيا أيها المستمعون! هل حفظتم هذا الحكم أم لا؟ والله حرام عليكم أن تقوموا ولم تحفظوها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كيف لا ننطق بهذا؟ كيف تنسى حكماً صدر عليك وعلى أمك وعلى زوجتك وأولادك بل والبشرية كلها ولا تستطيع أن تنطق به ولا أن تبينه؟ إن هذا الحكم الإلهي قد حلف الله بأيمان ما حلفها على غيره فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، فهذه أيمان كلها من أجل ماذا؟ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ما هي مواد التزكية؟ أين توجد مواد التزكية؟ علمونا، دلونا، يا شيخ! إنها الإيمان والعمل الصالح، فأين يوجدان؟ في أي صيدلية؟ في الكتاب والسنة النبوية، فاقرأ كتاب الله تجد حقيقة الإيمان ما هو؟ وتجد العمل الصالح ما هو؟ وكيف تفعله؟ وما هي أوقاته؟ وما هي موازينه ومقدراته إن كنت تريد الفلاح، وإن كنت لا هم لك في الفلاح ولا في الخيبة والخسران فأنت كبلايين البشر من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم والعياذ بالله؟ واسمعوا إلى يمين آخر لله تعالى، إذ يقول سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3].

    وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، من خلقها وسواها؟ الله، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، أي: علمها أنواع الإيمان والعمل الصالح وصنوف الفجور والكفر والشرك، ولولا أن الله علمنا لم نعرف، فهو الذي علمنا وفهمنا التقوى ما هي والفجور ما هي، وليس معنى هذا أن النفس البشرية وحدها تستطيع أن تعرف كيف تزكي نفسها وكيف تطهرها، لا، بل لا بد من وحي وكتاب ورسول، وذلك لتعلمنا الفجور ما هو، والشرك والذنوب والمعاصي، وتعرفنا التقوى وهو عبادة الله بما شرع، ولولا أنه عرفنا ما هو الكفر وما هو الشرك وما هو التوحيد فكيف نعرف ذلك؟ فالحمد لله! لتقوم الحجة علينا فقد علمنا.

    قال: [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: الإيمان الصادق ]، وهو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به من شأن الغيب والشهادة، من شأن العالم الثاني وما فيه من نعيم مقيم أو عذاب أليم، من شأن عرصات القيامة وما فيها من حساب، وما إلى ذلك من الغيوب التي أخبر الله بها وأخبر بها رسوله، فصدقنا وآمنا، ولا نشك ولا نتردد في أي خبر من أخبار الله ورسوله، وأركان الإيمان ستة محفوظة معروفة عند الناس، ولكن مع ذلك نحن نصدق الله ورسوله في كل خبر، أطاقت عقولنا أو ما أطاقته، فإذا صح الخبر عن الله أو عن الرسول فقل: آمنت به، وقد علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يوماً في الروضة يحدث أصحابه، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فألقي إليه خبر عاجل وهو: أن فلاحاً من بني إسرائيل -ممكن في الشام أو في أي بلاد أخرى- ركب على بقرته! والبقرة ما يركب عليها إلى الآن، فهي للحرث، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! فأخذ الرسول والله بلحيته وقال: آمنت به، آمنت به، آمنت به وآمن به أبو بكر

    وعمر

    )، وهما غائبان عن المجلس، فهل عرفتم ما هو التصديق؟ بقرة تنطق وتفصح؟ عجيب هذا! لكن أُخبر به عليه السلام فقال: ( آمنت به )، ونحن: آمنا به، آمنا به، والشاهد عندنا: أن حقيقة الإيمان بالله هو تصديق الله تعالى ورسوله في كل ما أخبر به، أطاقت عقولنا أم عجزنا عن إدراكه وفهمه، وإلا فلا إيمان.

    قال: [ أولاً: الإيمان الصادق -لا الكاذب- والعمل الصحيح الصالح ] لا الفاسد، فالحج مثلاً عمل صالح يفسد إذا اختل أحد أركانه، وكذلك الصلاة عمل صالح تفسد إذا اختل أداؤها ونقصت شروطها، وهكذا كل عمل صالح.

    قال: [ هما مفتاح الجنة وسبب دخولهما ]؛ لأنهما يزكيان النفس ويطهرانها، فهذا هو السبب.

    قال: [ ثانياً: صدق وعد الله وصدق قوله عز وجل ]، فإذا وعد الله فلن يتخلف وعده أبداً، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].

    قال: [ ثالثاً: وجوب صدق الوعد من العبد؛ لأن خلف الوعد من النفاق ] فيا عبد الله! ربك يصدق، ومن أصدق منه قيلاً؟ وأنت عبده ووليه أمرك بالصدق أيضاً، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكذب كذبة، والحبيب يقول: ( آية المنافق ثلاث )، أي: علامة المنافق من الرجال والنساء ثلاث، منها: ( إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان )، أي: وإذا ائتمن النافق خان، وإذا واعد أخلف، فيتلذذ بخلف الوعد، فيترك من واعده يتعذب، فإذا واعده مثلاً في الساعة الثانية ليلاً في طريقهم إلى مكة، فيعرف أنه وصل للمركز أو للمحطة وهو في بيته نائم! فهو يود ويريد أن يؤذي المؤمنين والعياذ بالله.

    قال: [ ثالثاً: وجوب صدق الوعد من العبد؛ لأن خلف الوعد من النفاق، لحديث: ( وإذا واعد أخلف ).

    رابعاً: وجوب صدق القول والحديث؛ لأن الكذب من النفاق، لحديث: ( وإذا حدث كذب ) ].

    هذا والله تعالى أسأل أن يرزقنا الإيمان وصالح الأعمال، وأن يقينا الشرك والكفر والنفاق.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956083