إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [1]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لمعة الاعتقاد للإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد بدأها المصنف بمقدمة قرر فيها مسألة الربوبية، ثم ذكر عقيدة أهل السنة في صفات الله تعالى، مستدلاًعلى ذلك بجملة من الآيات والأحاديث الدالة على إثبات الصفات، وقد ذكر هذه المسألة لكثرة المخالفين لأهل السنة فيها، من جهمية، ومعتزلة، وأشعرية، وماتريدية، ونحوهم من الفرق الضالة. ثم ذكر رحمه الله عقيدة أهل السنة في مسائل الاعتقاد الأخرى؛ كالقضاء والقدر، والإيمان، واليوم الآخر، وأشراط الساعة، وغيرها من المسائل.

    1.   

    مقدمة شرح لمعة الاعتقاد

    الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.

    ثم أما بعد:

    فهذا البحث في تقرير مسائل على كتاب الموفق في مسائل أصول الدين، وبين يدي هذه الرسالة ذكرٌ شيء من شأن مصنفها، ونبذة عن أتباع المذاهب الأربعة في تقرير مسائل أصول الدين.

    التعـريف بالمؤلـف

    هو الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ، المعروف بـ( الموفق )، وبـابن قدامة ، وهذا نسب اشتهر به جملة من أهل العلم من هذا البيت وجلهم من الحنابلة، وهذا الإمام يعد من كبار أصحاب الأئمة الأربعة، وهو حنبلي المذهب، وإذا ذُكر من جاء بعد عصر الأئمة، فإن من كبار أعيان علماء المسلمين هو هذا الإمام، فهو إمام واسع من جهة: مسائل أصول الدين، وأصول الشريعة، ومسائل الفروع.

    وإذا نظرت في كتابه الذي وضعه في الفقه المقارن -وهو الكتاب المعروف بـ(المغني)، والذي شرح فيه الموفق "مختصر الخرقي" في الفقه الحنبلي- إذا نظرت في هذا الكتاب، عرفت ما لهذا الإمام من عظيم الشأن، وكذلك ما كتبه في مسائل أصول الفقه في الروضة، مما اختصره من كتاب المستصفى لـأبي حامد الغزالي .

    فهذا الإمام على سعة من العلم بالفقه والسنن والآثار، فضلاً عما له من التحقيق في مسائل أصول الدين.

    تفاوت أتباع الأئمة الأربعة في تقرير مسائل الأصول

    إن المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، الذين استقرت مذاهبهم في جمهور أمصار المسلمين -وهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - المتمذهبين بمذاهبهم في فقه الشريعة؛ هم في مسائل أصول الدين على طبقات:

    فهم المحققون لطريقة المتقدمين من الأئمة، وهم الذين وافقوا الأئمة في مسائل أصول الدين، وحققوا طريقتهم، كـأبي عمر ابن عبد البر في المالكية، أو كـابن كثير في الشافعية، ومن هؤلاء في الحنابلة الموفق بن قدامة رحمه الله ، فإنه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر أصحاب الأئمة-: من المنتحلين لطريقة الأئمة على التحقيق في مسائل الأصول.

    وطبقة أخرى من أتباع الأئمة الأربعة -ممن ينتسب إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد - مائلة إلى علم الكلام أو منتحلة لشيء من طرقه؛ فهناك طائفة من فقهاء الحنفية معتزلة، وأكثر فقهاء الحنفية على مذهب أبي منصور الماتريدي ، وإنما كان ذلك؛ لأن أبا منصور الماتريدي نفسه كان حنفي المذهب، وطائفة من الحنفية أشاعرة محضة على طريقة المتكلمين من الأشاعرة، وكذلك الشافعية، فإن كثيراً من متأخريهم أشاعرة؛ لأن أبا الحسن رحمه الله إمام الأشعرية كان شافعي المذهب، وكذلك المالكية أكثرهم أشاعرة.

    أما الحنابلة فهم من أبعد الطوائف الفقهية الأربع عن علم الكلام، ومع ذلك فإن طائفة من علمائهم المتأخرين تأثروا بعلم الكلام؛ كـأبي الوفاء ابن عقيل ؛ فإنه درس في مطلع أمره على بعض شيوخ المعتزلة؛ كـأبي علي بن الوليد ، وأبي القاسم بن التبان المعتزليين، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري الحنفي، وإن كان ابن عقيل رحمه الله رجع عن طريقته هذه، وكتب: الانتصار لأهل الحديث.

    فالمقصود: أن أصحاب الأئمة الأربعة ليسوا شأناً واحداً، فمنهم المتمسك بآثار السابقين الموافق لطريقة الأئمة والسلف، ومنهم من تأثر بشيء من علم الكلام، أو انتحل شيئاً من طرقه المذمومة، ومنهم من هو بين ذلك، كما هي طريقة جماعة من شراح الحديث، الذين شرحوا الصحيحين والسنن وغيرها، فترى أن طائفة من هؤلاء عندهم مادة من التحقيق على طريقة السلف، وعندهم مادة من التأثر ببعض أصحابهم، فلا يلزم أن الواحد من الفقهاء لابد أن يضاف إلى مذهب معين.

    وإذا أردت الإجمال فإنه يصح أن يقال: إن الجمهور من أتباع الأئمة الأربعة منتسبون للسنة والجماعة، معظمون لطريقة السلف، وإن كانوا في تحقيقها على درجات، وأما من انفك عن طريقة السلف انفكاكاً مطلقاً، فإنهم قلة ممن انتسب لمذهب المعتزلة من فقهاء الأحناف، وإنما يقال ذلك؛ لأن سائر الأشاعرة ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وكذلك سائر الماتريدية ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وإن كان الانتساب وحده لا يكون كافياً، فإن الاعتبار في ذلك إنما هو بتحقيق المسائل؛ لا بمجرد الانتساب إلى مذهب من هذه المذاهب.

    فالمتحصل من هذا: أن أتباع الأئمة الأربعة من الفقهاء ليسوا على طريقة واحدة في مسائل أصول الدين، فمنهم المحقق، ومنهم دون ذلك، ومنهم المنتحل لمذهب تظهر في كثير من مسائله وأصوله المخالفة لطريقة السلف.

    التعريف بالرسالة

    وأما هذه الرسالة -وهي اللمعة في الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد- فهي رسالة فاضلة، جامعة لجملة من مسائل أصول الدين التي تنازع فيها أهل القبلة، وإذا ذكر أهل القبلة فالمراد بهم: سواد المسلمين من أهل السنة وغيرهم.

    وقد ذكر فيها المؤلف رحمه الله في رسالته هذه جملة من مسائل أصول الدين على طريقة مقاربة لطريقة الأئمة السالفين، حيث ذكر جملاً من أقوال السلف والأئمة، فضلاً عما يذكره من الدلائل الشرعية من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    والرسالة الواسطية المعروفة لـشيخ الإسلام ابن تيمية قد وضعها الإمام ابن تيمية ، على محاكاة هذه الرسالة للموفق ، وإن كان شيخ الإسلام قد استظهر فيها أكثر في باب الاستدلال بالنصوص، وزاد عليها جملاً وأصولاً، كمسألة العلو والقدر فإنه أطال فيهما وفصل أكثر من الموفق رحمه الله.

    وقد وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معظماً لـأبي محمد الموفق ، حتى أنه قال: (لم يدخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من أبي محمد ).

    فالمحصل: أن الفرق بين الرسالتين: (الواسطية واللمعة) ربما يتحقق في أن كلام الإمام ابن تيمية أكثر تفصيلاً، بخلاف الموفق فإن في كلامه إجمالاً، وإن كان إجمالاً لا ينقطع عن التفصيل والبيان في موضع آخر.

    مكانة هذه الرسالة

    تعد هذه الرسالة من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، وإن كان بعض المعاصرين ممن تكلم على هذه الرسالة، قد بالغوا في التثريب على صاحبها في بعض المسائل، وذكروا أنه ليس محققاً لمذهب السلف أو طريقتهم، ونظروا في شيء من كلامه في مسألة التفويض وبعض الأحرف الأخرى.

    والتحقيق أن هذه الرسالة ليس فيها غلط صريح، وإنما يوجد في بعض المواضع قدر من الإجمال والتردد، وإذا قارنا بين هذه الرسالة وبين رسالة أبي جعفر الطحاوي -المعروفة بالعقيدة الطحاوية- فإن رسالة الموفق أشرف منها، وأبعد عن الغلط في بعض المسائل، أما الطحاوي رحمه الله فقد غلط في بعض مسائل الإيمان غلطاً صريحاً؛ لأنه حاكى مذهب أبي حنيفة في مسألة الإيمان محاكاة تامة، ونقل عن بعض أصحابه من الأشاعرة بعض الجمل المجملة في مسألة العلو، وإن كان لم يلتزم بنتائجها، إلى غير ذلك.

    مع أن رسالة أبي جعفر الطحاوي من الرسائل الفاضلة في مذهب أهل السنة والجماعة، لكن رسالة الموفق أقرب إلى طريقة أهل الحديث منها.

    والمقصود من هذا: أن اللمعة للموفق ليس فيها غلط محض، وإنما فيها بعض المواضع المجملة المحتملة.

    أهمية الرسالة من خلال منهج مؤلفها

    إذا ابتدأت بقراءة هذه الرسالة فإنك تجد أن مؤلفها ذكر في مطلعها جملاً عامة في تقرير مقام الربوبية، ولهذا يصح أن نقول: إن من فضائل هذه الرسالة أن فيها تقريراً للمعتقد على التحقيق، فإنها ليست مادة من الأحرف التي تقرر جملة من النظر أو التصورات فحسب، بل فيها ذكر لشيء من الحقائق الإيمانية، التي يترتب على قراءتها -فضلاً عن التأمل فيها- التحقيق للإيمان ظاهراً وباطناً، ولهذا ذكر فيها جملاً من التعظيم لمقام الربوبية، ومقام الألوهية، ومقام النبوة والرسالة، مما يتحقق به قدر من التأصيل للتلازم بين الظاهر والباطن في مسألة الإيمان.

    والذي درج عليه أكثر المتأخرين أنهم إذا صنفوا في مسائل الاعتقاد يذكرون الجمل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة فقط، دون ربط هذه الجمل بشيء من الحقائق الإيمانية.

    وبعد هذه المقدمة الوجيزة نشرع في تقرير مسائل هذه الرسالة تقريراً موضوعياً.

    1.   

    شرح مقدمة لمعة الاعتقاد

    قال الموفق رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:5-8] ، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]] .

    هذه عبارات مجملة في تقرير مقام الربوبية، وهي وأمثالها مما يذكر في كتب أصول الدين، وليس فيها شيء من النزاع بين المسلمين، بل جميع المسلمين يقرون بهذه الجمل من حيث معناها الكلي، وإن كانوا على درجات متفاوتة في تحقيقها، بحسب قربهم من السنة وهدي صاحبها، وإنما مبتدأ التقرير المقصود سيأتي في كلام الموفق رحمه الله عند قوله: (موصوف بما وصف به نفسه).

    مواضع الاتفاق والافتراق بين طوائف المسلمين في مسائل الاعتقاد

    لقد بدأ المصنف بذكر مسألة الصفات، وهي فرع عن مسألة الربوبية؛ لأهميتها وحصول النزاع فيها، ولهذا فإن العلماء يقولون: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، رغم أن توحيد الأسماء والصفات هو من جملة توحيد الربوبية، والذي درج عليه كثير من أهل العلم قبل ذكر هذا التقسيم، أنهم يقسمون التوحيد إلى: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ويجعلون توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وباب الأسماء والصفات متضمن له.

    وسواء قسموا التوحيد إلى قسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فهذا كله اصطلاح لا مشاحة فيه، إذا صحت المعاني واتفقت، فمثل هذه المصطلحات ليست من السنة اللازمة التي يجب على جميع المسلمين الالتزام بها، وإنما الذي يجب على المسلمين أن يلتزموا به هو: تحقيق التوحيد.

    وعلى كل حال، فجملة توحيد الربوبية ليس فيه نزاع بين المسلمين، وإن كانوا يختلفون في تحقيقها بحسب قربهم من السنة.

    وكذلك جملة توحيد الألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ليس فيه خلاف بين فرق المسلمين، -أعني: الخلاف النظري- فلا يوجد هناك طائفة من طوائف المسلمين تقرر حقائق الشرك.

    بل مناط هذا التوحيد الذي مقصوده إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن من صرف عبادة لغير الله فقد كفر وأشرك - هو قدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين: من أهل السنة، والمتكلمين؛ معتزلتهم وأشعريتهم... إلى غير ذلك.

    وإن كان هذا الكلام لا يلزم منه أن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة تكون محققة لهذا المناط، بل ثمة صور من الشرك تقع عند جملة من الطوائف: كغالية الشيعة، وغالية الصوفية، فإن بعضهم يقع في الشرك الأكبر، ولكن من حيث المناط النظري ليس بين المسلمين نزاع في توحيد الألوهية.

    وقد قال كثير من أهل العلم أن المتكلمين -ولا سيما المعتزلة والأشاعرة الغالية في علم الكلام- لا يهتمون بذكر مسألة توحيد الألوهية، وهناك من يقول: إنهم لا يعرفونها، وهذا فيه تجاوز، بل توحيد الألوهية معروف عند المعتزلة والأشاعرة، لكن عندهم تقصير في تقريره وتحقيقه، وفي بيان أنه أول الواجبات.. هذا كله متحقق، ولكنهم موافقون في أصله، فإن عدم ذكر هذا التوحيد في كتبهم فليس معناه أنهم لا يقولون به ولا يعرفونه؛ لأن إفراد الله بالعبادة مستقر عند عامة طوائف المسلمين، وإن كان هذا الاستقرار تدخل عليه هفوات إلى حد الشرك الأكبر عند قوم من غالية الشيعة والمتصوفة، أما جماهيرهم وعامتهم فإنهم يثبتون أصل التوحيد ويحققونه من جهة كونه أصلاً.

    وخلاصة القول: أن توحيد الألوهية من حيث الأصل مُسلم به عند سائر المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن صرف العبادة لغير الله صحيح، أو مما يؤذن فيه، أو مما يسوغ. وإن كان أهل البدع قد فتحوا المجال للأقوال والأفعال الشركية بتوسعهم في باب التأويل، ولا سيما عند الطائفتين اللتين سبق ذكرهما.

    وأما ما يتعلق بباب الأسماء والصفات، فإن المسلمين اختلفوا في مناطه اختلافاً معروفاً، وإن كان أصل بابه مجمعاً عليه بين المسلمين.

    فإن قيل: فما الفرق بين أصل بابه وبين مناطه؟

    قيل: المراد بأصل باب الأسماء والصفات هو: أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال، منزه عن النقص، وهذا القدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن الله موصوف بشيء من النقص؛ لا معتزلة، ولا أشاعرة، ولا ماتريدية؛ فهو قدر مجمع عليه، ولا يقول بمعارض هذا الأصل إلا زنديق كافر؛ فلو قال قائل: إن الله يوصف بما هو نقص، أو قال: إن الله ليس مستحقاً للكمال والتمام، فإنه لا يمكن أن يكون مسلماً ينتسب لطائفة من طوائف المسلمين، حتى ولو كانت طائفة بدعية.

    ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق المسلمون على أن الله سبحانه مستحق للكمال منزه عن النقص، وإنما اختلفوا في تحقيق المناط، ومعنى اختلافهم في تحقيق المناط أن المسلمين اختلفت طوائفهم: ما هو الكمال؟ وما هو النقص؟

    فالذي عليه الصحابة رضي الله عنه والأئمة من بعدهم أن تحقيق الكمال هو بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن ينفى عنه سبحانه وتعالى كل نقص، مما صرح الله بذكره في كتابه أو لم يصرح بذكره، فهذا هو الكمال عند أهل السنة والجماعة.

    وذهبت المعتزلة إلى أن الكمال: هو في نفي الصفات.

    وذهبت الأشاعرة إلى أن الكمال في نفي صفات الأفعال التي يسمونها: حلول الحوادث... إلى غير ذلك من الطرق التي ابتدعت، وحصل بها شر، وفتنة، وبلاء، وغلط في مسائل أصول الدين عند المسلمين.

    ولكن مع ما يقرر من غلط هذه الطوائف، وخروجها عن السنة والجماعة إلى أقوال محدثة منكرة -كثير منها يصل إلى حد الكفر من حيث هو قول، وإن كان القائل به لا يلزم أن يكون كافراً- فإن أصل هذا الباب كان متفقاً عليه بين المسلمين، وإنما حصل الخلاف بدخول مادة التأويل.

    التسلسل التاريخي لحصول النزاع في مسائل أصول الدين بين المسلمين

    جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير مسائل أصول الدين، وذكر مسائل الفروع، وأحكم الشريعة عليه الصلاة والسلام وأكملها، وذهب وتوفي على هذا التمام والكمال الذي قال الله فيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، ومضى الناس على هذا في خلافة الصديق رضي الله عنه ، ثم جاءت خلافة عمر على مثل ذلك، ثم في آخرها ظهرت مقدمات الفتنة، وهي مقتله رضي الله عنه ، فإن حذيفة رضي الله عنه لما ذكر الفتنة الكبرى لـعمر رضي الله عنه -كما في الصحيح- قال: (إن بينك وبينها باباً مغلقاً) ولما سأله عمر : (أيفتح الباب أم يكسر؟ قال حذيفة : بل يكسر)، وكان كسره هو مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.

    ثم لما كانت خلافة عثمان رضي الله عنه فكثر الشر والفتنة من مسلمة الفتوح، من أهل العراق وغيرهم.

    ثم جاءت خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فزادت الفتنة، وحصل ما حصل مما هو معروف، وكان أول نزاع بين المسلمين في مسائل أصول الدين هو في مسألة الإيمان: ما هو الإيمان؟ ومتى يكون الرجل مؤمناً؟ ومتى يكون مسلماً؟ ومتى يكون كافراً؟

    وأول من أظهر المخالفة والخروج عن السنة والجماعة هم الخوارج، وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشأنهم، قال الإمام أحمد رحمه الله: «صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه». وحديثهم متواتر، فقد روى مسلم في صحيحه عشرة أوجه من حديث الخوارج، وأخرج البخاري طرفاً منها، وهو حديث متفق عليه بين أهل العلم بالحديث من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وجماعة من الصحابة، وذلك في قصة قسم النبي صلى الله عليه وسلم لذهب من اليمن، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل! فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح: عمر بن الخطاب - وقال: دعني أضرب عنقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصلِّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، ثم نظر إليه وهو مقفٍ، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (قتل ثمود)، وفي رواية: (قاتلوهم فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله)، وفي رواية: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له من الأجر، لنكل عن العمل).

    وخرج هؤلاء في خلافة علي بن أبي طالب ، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر مخلد في النار.

    ثم قارب الخوارج المعتزلة بعد ذلك، ثم ظهر ما يقابلهم، وهم طوائف المرجئة، الذين صاروا على النقيض من مذهب الخوارج والمعتزلة.

    والمرجئة طوائف، وقد ذكر الأشعري في مقالاته أنهم ثنتا عشرة طائفة، أشدهم إرجاءً جهم بن صفوان ، وأبو الحسين الصالحي ، وأخفهم إرجاءً مرجئة الفقهاء؛ أتباع حماد بن أبي سليمان الإمام السلفي الفقيه المعروف، لكنه زلَّ رحمه الله وغلط في مسألة الإيمان، وإلا فهو من أئمة السنة والجماعة، وغلطه -كما قال شيخ الإسلام - من بدع الأقوال وليس من بدع العقائد، وتابعه على غلطه أبو حنيفة ، وعلى هذا اشتهر قول مرجئة الفقهاء بتقلد أبي حنيفة له، فشاع في أتباعه من الحنفية.

    ولما مضت خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين، وجاءت إمارة بني أمية، ظهرت بعض الفرق؛ ففي الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية -أثناء خلافة يزيد بن معاوية وبعدها- خرجت القدرية في العراق، وهم قوم يقولون: لا قدر، والأمر أنف، وجملة مذهب هؤلاء: أنهم ينكرون خلق أفعال العباد، وغلاتهم ينكرون علم الرب بها قبل وقوعها من العباد.

    وهؤلاء القدرية الغلاة المنكرون لعلم الرب هم قوم من الزنادقة من أهل فارس، وإنما أظهروا الإسلام نفاقاً، وليسوا من المسلمين في شيء، وقد أجمعت المعتزلة القدرية -لا نقول أهل السنة- على تكفير هؤلاء الغلاة، فضلاً عن إجماع جملة طوائف المسلمين.

    وأما غير الغلاة من القدرية فإنهم أهل بدعة، وقولهم كفر، وإن كانوا ليسوا كفاراً، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا النوع من القدرية ما علمت أحداً من السلف نطق بتكفيرهم).

    فالمقصود: أن الأصل الثاني الذي حصل فيه نزاع هو القدر، فظهرت القدرية، وقابلتهم الجبرية الذين يقولون بجبر العباد، وكان هذا في آخر عصر الصحابة، وبعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين.

    وأما المسائل الإلهية فإن عصر الصحابة انقرض ولم يحصل فيها نزاع بين أهل القبلة. وفي المائة الثانية بعد عصر الصحابة؛ ظهر قوم ينتحلون علم الكلام، وهو علم مولَّد من فلسفة اليونان وغيرها من الفلسفات، وأظهروا تعطيل الصفات؛ كـالجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثالهمها.

    فهؤلاء القوم ضلوا في هذا الباب ضلالاً مبيناً، ولهذا كان السلف رحمهم الله يرون أن قول الجهمية كفر، وقد أجمع السلف على جملة من أقوال الجهمية أنها كفر، وإن كانوا لا يلتزمون تكفير أعيانهم.

    فلكون هذه المسألة هي أشرف المسائل التي حصل فيها النزاع؛ قصد المؤلف رحمه الله إلى تعظيم شأنها، وذِكرها على التفصيل في مبدأ رسالته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755989368