إسلام ويب

شرح الحموية [18]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في عرصات القيامة، ويرونه في الجنة، كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، أما الكفار فهناك خلاف هل يرون الله تعالى أم لا؟ ولم يخالف في رؤية المؤمنين لربهم إلا المعتزلة والجهمية، أما الأشاعرة فقد قالوا: يرى لا في جهة؛ وهذا من تناقضهم.

    1.   

    أقوال أهل العلم في مسائل الرؤية

    قال المصنف رحمه الله: [وهو كلام عربي حقيقةً لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني القرآن، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه... الحديث)حق على ظاهره، فهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضاً قبل وجهه، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك، ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخلياً به)].

    في هذه الرؤية من جهة حكمها عند أهل السنة ثلاث مسائل:

    الاختلاف في رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة

    الأولى: رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة: وهذه مجمع عليها، وفيها نصوص متواترة في الكتاب والسنة، وهي محل النزاع مع الجهمية والمعتزلة، والأشعرية في الجملة -ولا سيما المتأخرين منهم- يقولون: يرى لا في جهة.. وهذا يقوله من ينفي العلو من الأشعرية ويثبتون الرؤية، مع أن التحقيق أن ثبوت العلو في العقل والشرع أظهر من ثبوت الرؤية؛ ولهذا بنت المعتزلة نفي الرؤية على نفي العلو، وأخذه المتأخرون من الأشاعرة عنهم -أعني: نفي العلو- ولكنهم رأوا أن الأشعري وأئمة أصحابه يصرحون بمسألة الرؤية فتابعوهم، فصار قولهم مركباً من قول أئمتهم وقول المعتزلة.

    فالقصد: أن المتأخرين من الأشاعرة يقولون: يرى لا في جهة. وهذا يقوله بعض شراح الحديث وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة، وهو قول قاله طائفة من متكلمة الأشاعرة، وحقيقته يرجع إلى قول المعتزلة عند التحقيق كما ذكره أبو حامد الغزالي وغيره.

    وهذه المسألة -مسألة رؤية المؤمنين ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة- هي مسألة النزاع الكبرى بين السلف والمخالفين، فقد تواترت النصوص وأجمع السلف على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم لا يضامون في رؤيته في عرصات القيامة وفي الجنة.

    الاختلاف في رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة

    الثانية: رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة، وهذه المسألة مسألة نزاع بين أهل السنة أنفسهم، وشيخ الإسلام يقول: إنه لم يحفظ عن الصحابة فيها تصريح . وظواهر النصوص فيها بعض التردد، ولهذا ذهب طائفة من أهل السنة إلى أن الكفار من أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم لا يرونه، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]

    وطائفة من أهل السنة قالوا: إنه يراه المنافقون وغبرات من أهل الكتاب، كما جاء في ظاهر بعض النصوص في السنة في الصحيح وغيره.

    وطائفة قالوا: إنه يراه سائر الكفار، وهذه الرؤية ليست رؤية النعيم التي تقع للمؤمنين.

    وطائفة توقفوا.

    وعلى كل هذه المسألة النزاع فيها قوي، وإن كان ظاهر مذهب السلف كما قال شيخ الإسلام: ظاهر كلام كثير من أئمة السلف، وهو الذي عليه الجمهور من أصحاب أحمد : أن الكفار لا يرون ربهم بحال . وكأن شيخ الإسلام يميل إلى هذا القول في الجملة، وإن لم يصرح بنصرته.

    الاختلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج

    الثالثة: رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه ليلة المعراج.. هل رأى ربه أو لم يره؟

    آثار الصحابة في هذا جاءت على نوعين:

    الأول: عن طائفة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده كما جاء ذلك صحيحاً عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما رضي الله عنهم.

    وجاء عن بعض الصحابة ذكر الرؤية مطلقة، وهذا جاء حتى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رآه .

    الثاني: عن طائفة من الصحابة كـعائشة ، فقد صرحت كما في الصحيحين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية .

    ولكن بالقطع: أن الذي كانت عائشة رضي الله عنها تصرح بنفيه هو الرؤية البصرية، والذي صرح ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة بإثباته هو الرؤية القلبية، ولم -كما نص شيخ الإسلام- يصح عن واحد من الصحابة أنه صرح بإثبات الرؤية البصرية؛ ومن هنا نزع شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الصحابة في نفس الأمر ليس بينهم اختلاف، فإن الذي نفته عائشة رضي الله عنها ليس هو الذي أثبته ابن عباس رضي الله عنهما ومن معه، فإن عائشة رضي الله عنها نفت الرؤية البصرية؛ ولهذا استدلت بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] وابن عباس صرح برؤية الفؤاد فقال: رآه بفؤاده . والرواية الأخرى المطلقة عن ابن عباس تحمل على المقيدة، وعلى هذه الطريقة يكون مذهب الصحابة منضبطاً أنه لم تقع الرؤية البصرية. لكن هل يقال: أنه رآه بفؤاده أو لا يقال ذلك؟ هذه مسألة اجتهاد.

    لكن طائفة من أهل العلم يرون أن الخلاف بين الصحابة على حقيقته، وأنه ليس من باب الخلاف اللفظي، بل هو خلاف حقيقي، ومعتبر هؤلاء ما جاء من تصريح بعض الصحابة بإطلاق الرؤية.

    وقد وردت عن الإمام أحمد رحمه الله نصوص في هذا:

    فجاء عنه إثبات رؤية الفؤاد، وجاء عنه ذكر الرؤية مطلقاً، وجاء عنه التوقف.

    وشيخ الإسلام رحمه الله لا ينتصر للمشهور عند متأخري الحنابلة من أن الرواية عن أحمد مختلفة، بل يقول: إن أحمد كـابن عباس، أي: أن الرواية عنه ترجع إلى معنىً واحد، فإن التوقف ليس حكماً يصار إليه، وأن الإطلاق يضاف إلى التقييد، فيكون الثابت عن أحمد إثبات رؤية الفؤاد.

    والمشهور في كلام المتأخرين من أهل العلم -كما يذكره القاضي عياض وغيره- إثبات رؤية البصر، بل القاضي عياض يقول: إن جمهور أهل السنة على إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره .

    وشيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن أكثر أهل السنة على إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج لكنه لا يعني بها الرؤية البصرية، فإنه شاع في كلام أئمة السلف إثبات رؤية الفؤاد التي أثبتها ابن عباس ومن معه من الصحابة.

    فإذا قيل: إن جمهور أهل السنة على إثبات رؤية الفؤاد.. قيل: هذا صحيح، أما إذا قيل -كما هي طريقة بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ومالك -: إن جمهور أهل السنة على إثبات الرؤية البصرية.. فهذا غلط، فإنه لم يصح عن صحابي هذا التصريح، وكذا جمهور أئمة السلف على هذا المعنى.

    أما من حيث الراجح في المسألة: فإن الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج ببصره؛ لأن هذه مسألة سمعية الدليل فيها يكون مقصوراً على الدلالة القرآنية والدلالة النبوية كسائر مسائل الشريعة وأصول الدين، وليس في القرآن ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، وكذلك ليس في السنة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، وعند عدم الدلالة لا يجوز إثبات شيء لا يعلم، فضلاً عن كون ظاهر القرآن والسنة يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه.

    إذاً لم يدل دليل من القرآن أو السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وعند عدم الدليل يلزم عدم إطلاق القول، أي: لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، فضلاً عن كون ظاهر الدلالة القرآنية والنبوية تدلان على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ربه ببصره، بمعنى أن ظاهر النصوص يدل على النفي.

    ومن الآيات القرآنية الدالة على هذا النفي، قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في معراجه لكان الامتنان والإشادة والثناء بذكر رؤية الباري أولى من ذكر رؤية الآيات.. ولهذا كانت رؤية الباري في الجنة هي أعظم نعيم أهل الجنة: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] قال: (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه الكريم)كما في حديث صهيب في الصحيح .

    فإن قال قائل: إن الله تفضل عليه بالزيادة فيما بعد. قيل: هذا خبر عما سيصير له، وأيضاً هذا تكلف في توجيه الآية، ثم إن مما يدل على عدمه ما جاء في قوله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] وهذا بعد انتهاء الأمر، فإنه لم يذكر سبحانه أنه رأى ربه، بل قال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] فدل على أنه لم يقع له صلى الله عليه وسلم أن رأى ربه ببصره في معراجه.

    إذاً قوله: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] دليل على أن الذي وقع له هو رؤية الآيات، وهذا هو الذي ورد في السنة كما في حديث أبي ذر وغيره في الصحيحين لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ظهرت لمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام) فهذا هو غاية ما وصل إليه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ير ربه ببصره. أما أن يقال: رآه بفؤاده.. فهذا لا إشكال فيه.

    وكذلك في السنة ما جاء في الصحيح من حديث أبي ذر ، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لـأبي ذر : (لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: عم كنت تسأل؟ قال: هل رأى ربه؟ فقال: أما إني سألته فقال: رأيت نوراً) وجاء في وجه آخر عند مسلم من رواية عبد الله بن شقيق نفسه أن أبا ذر قال: (سألته فقال: نور.. أنى أراه؟) إذاً مرةً نقل مسلم من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي ذر : (نور.. أنى أراه؟) ومرةً نقل: (رأيت نوراً)

    فقوله: (رأيت نوراً) دليل على أنه لم ير ربه حقيقةً ببصره، وهذا النور -والله أعلم- هو المذكور في حديث أبي موسى الثابت في الصحيح: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلعل هذا النور -والله أعلم- نور الحجاب.

    وأما قوله: (نور.. أنى أراه؟) فمعناه: أن النور حال دون رؤيته.

    ومن أهل العلم من يرى أن الروايتين في صحيح مسلم كلاهما محفوظ، ومن أهل العلم من يرى أن أحدهما ليس محفوظاً، وهذا هو الذي مال إليه الإمام أحمد في بعض أجوبته.

    وأما من يستدل بثبوتها بما جاء عن معاذ بن جبل وغيره في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة...) فهذه كانت رؤيةً مناميةً، وليس المقصود بها رؤية المعراج.

    1.   

    إثبات الرؤية ليس معارضاً للعقل

    [فقال له أبو رزين العقيلي : (كيف يا رسول الله! وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلياً به وهو آية من آيات الله، فالله أكبر)أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم].

    وهذا استدلال عقلي، على أن إثبات الرؤية ليس معارضاً للعقل، فهذا القمر كل الناس يروه، ولا يتزاحمون ولا يتضامون في رؤيته، فالله أعظم.

    1.   

    تناقض المعتزلة في مسألة الرؤية

    [وقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يكن المرئي مشابهاً للمرئي].

    فمن زعم أن أحاديث الرؤية من أحاديث التشبيه فقد كذب، فهي أحاديث محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم أنه رواها نحو ثلاثين من الصحابة، والتشبيه الذي فيها: (كما ترون القمر) إنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي.

    ومن العجب تناقض المعتزلة في هذا: كيف يقولون إن هذا تشبيه وهم يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، وأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه؟!

    أليس إضافة الخلق الحقيقي إلى العبد هو من باب التشبيه؟ ولهذا قال أهل السنة: إن المعتزلة مشبهة في باب أفعال العباد، فإنهم جعلوها من خلقهم فشبهوا الله بخلقه، حيث جعلوا العبد يخلق أفعاله كما أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل لأفعاله، وكما أنه سبحانه هو الخالق للعباد الذين خلقوا أفعالهم عند المعتزلة.

    إذاً قول المعتزلة: إن العبد يخلق فعل نفسه.. هو نوع من التشبيه لله سبحانه وتعالى الخالق للعباد أنفسهم، والخالق لمفعولاته سبحانه وتعالى كالسموات والأرض وغيرها.

    1.   

    الكلام عن لفظ الظاهر

    [وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلاً.

    ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله؛ يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد. واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقراره على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل فإن قوله: ظاهرها غير مراد. يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين؛ مثل أن يراد بكون الله قِبَل وجه المصلي أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، وإن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد.].

    لفظ الظاهر من جهة اللغة قد لا يكون مجملاً، فإن له دلالة متعينة من جهة اللغة في الجملة، وهو وإن لم يرد ذكره في الكتاب والسنة في مقام الأسماء والصفات، إلا أنه قد ورد ذكره في القرآن في سياق آخر، كقوله تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]لكنه باستعمال المستعملين له صار فيه إجمال، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن كل لفظ مجمل حادث فإنه لا يطلق إثباتاً ولا نفياً من جهة لفظه، وأما من جهة معناه فإنه يستفصل فيه.

    وبهذا يظهر أن الإجمال قد يكون أصلياً في اللفظ، وقد يكون دخله الإجمال من جهة الاستعمال، وإن كان من جهة الأصل ليس مجملاً، والاعتبار بحال اللفظ عند دخوله في هذا العلم أو في هذا الباب أو في هذا المقام، وليس باعتبار أصله اللغوي الذي قد يطلق على معنىً متعين.

    ومن هنا: احتاج هذا القول إلى التفصيل؛ ولهذا أطلق من أطلق من المتأخرين أن مذهب السلف هو إجراء النصوص على ظاهرها، وأطلق بعضهم أن نصوص الصفات لا تجرى على ظاهرها، فهذا يقال بحسب المقصود من هذا اللفظ.

    أما إذا قيل: إن مذهب السلف إجراء النصوص على ظاهرها، وهذا الاستعمال فسر بأن الظاهر هو الصفات اللائقة بالله.. فهذا المقصد صحيح -أي: هذا المعنى صحيح- واللفظ من حيث هو في الجملة مناسب لا إشكال فيه.

    لكن إذا قيل: إن مذهب السلف أن ظاهر النصوص ليس مراداً، فقيل: لم؟ فقيل: لأن ظاهر النصوص إثبات الصفات، ومذهب السلف أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها النصوص.. قيل: هذا غلط لفظاً ومعنىً، فإن السلف يثبتون الصفات في نفس الأمر.

    وأما من قال: إن ظاهر النصوص ليس مراداً عند السلف؛ لأن ظاهرها التشبيه، والسلف ليسوا مشبهة. قيل له: أما أن السلف ليسو لمشبهة فهذا صحيح، وأما قوله: إن ظاهر النصوص التشبيه.. فهذا غلط على النصوص، ولا يجوز أن يقال: إن ظاهر النصوص هو التشبيه؛ وتبعاً لذلك لا يجوز أن يقال: إن ظاهر النصوص ليس مراداً. فهذا الإطلاق -وهو إطلاق السلب والنفي- لا يصح بحال، سواء فسر الظاهر بالتشبيه، فيكون المعنى صحيحاً واللفظ ليس صحيحاً، أو فسر الظاهر بإثبات الصفات فيكون الغلط من جهة اللفظ وجهة المعنى.

    1.   

    التفويض ليس هو مذهب السلف

    [ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى].

    قوله: فقد أصاب في المعنى لأن هذه المعاني تشبيه، فأصاب في المعنى من هذا الوجه.

    [لكن أخطأ القول بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار، معذوراً في هذا الإطلاق.

    فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا: أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظاً ومعنى.

    وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم. أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياً، أو جوازاً خارجياً غير مراد.. فهذا قد أخطأ في ما نقله عن السلف أو تعمد الكذب؛ فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً- أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة.

    وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف. بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى ، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره].

    هذا القول في التحصيل لمذهب السلف، والفرق بينهم وبين المخالفين لهم: لا شك أنه تحصيل باطل، وإن كان قد شاع عند طائفة من متكلمة الصفاتية.

    أما أئمة الجهمية والمعتزلة: فإنهم كانوا يعلمون أن الفرق بينهم وبين السلف ليس من جهة تعيين التأويل، بل من جهة إثبات الصفات أو عدم إثباتها؛ ولهذا قد يقال: إن المعتزلة من هذا الوجه أعلم بحال مذهب السلف من كثير من متأخري المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم، من جهة أن المعتزلة يدرون أن الخلاف بينهم وبين السلف متحقق في إثبات الصفات أو عدم إثباتها، لا في مسألة تعيين التأويل؛ ولهذا كان المعتزلة الذين أدركوا زمن السلف يصفون مذهب السلف بالتشبيه والتجسيم وأمثال ذلك؛ مما يدل على أنهم يعلمون أن السلف كانوا مثبتةً في نفس الأمر للصفات.

    وكلام السلف في إثبات الصفات متواتر في كتب السنة وغيرها، بل نص عليه حتى أرباب الكلام من المعتزلة وغيرهم: أن مذهب أهل السنة والحديث إذ ذاك كان على الإثبات. ومن هنا كان هذا التحصيل تحصيلاً باطلاً، وإن كان صاحبه قصد فيه التقريب بين طريقته التي أضافها إلى السنة والجماعة -كما هو حال جمهور الأشاعرة الذين ينتسبون إلى السنة والجماعة- وبين طريقة السلف الأوائل، فإنه من المعلوم أن السلف الأول رحمهم الله من أئمة السنة والحديث عند سائر أجناس الطوائف أنهم ليسوا من أهل التأويل. وإن كان بعض المتكلمين قد أضاف بعض أعيان السلف إلى التأويل، لكن من حيث جملة السلف فإنه متفق عليه بين جميع الطوائف أن السلف لم يشتغلوا به كمذهب يطرد لهم.

    فلما كان متحققاً أن السلف ليسوا من أهل التأويل صار القول على طريقتين:

    الأولى: طريقة قدماء المتكلمين، وهي أن السلف مثبتة للصفات، وأن النزاع بينهم وبين مخالفيهم في إثبات الصفات أو عدمه.

    الثانية: طريقة كثير من متكلمة الصفاتية، بل عليها جمهورهم، وهي أن السلف لا يثبتون الصفات في نفس الأمر، وإذا قلنا: لا يثبتون الصفات.. فالمقصود: الصفات التي ينفيها من ينفيها من متكلمة الصفاتية، أما الصفات التي يثبتها متكلمة الصفاتية فإنهم يقولون: إن السلف كانوا يثبتونها.

    فهذا التحصيل وإن قصد به أصحابه التقريب بين طريقة السلف وطريقتهم، وفيه ميل إلى مذهب أهل السنة في الجملة إلا أنه يتضمن غلطاً على السلف في مذهبهم، وهو غلط متحقق من جهة أن السلف كانوا مثبتةً للصفات وليسوا مفوضة.

    [وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف. أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- عَلِم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك].

    وهذا متحقق مطرد في مذهب السلف، وهو موجود في كتب السنة المسندة موصولاً بالأسانيد إلى أعيان أئمة السنة والحديث مع اختلاف أمصارهم وأعصارهم، كلهم يصرحون بإثبات صفات الله، ويردون على المعتزلة والجهمية نفاة الصفات، وهذا التواتر لا تختص به كتب السنة والحديث كما أشار إليها المصنف، بل ذكره حتى أئمة ومتكلمة الصفاتية في بعض الصفات كصفة العلو وأمثالها، فإن ابن كلاب -مثلاً- في كتاب الصفات استدل على ثبوت هذه الصفة بدلائل مفصلة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة.

    1.   

    إثبات متقدمي الأشاعرة للصفات الخبرية

    [والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصاً ولا ظاهراً، ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر].

    يشير المصنف هنا إلى الصفات الخبرية؛ لأن المتأخرين من متكلمة الصفاتية ينفون الصفات الخبرية كالوجه واليدين وأمثالها، وهذا هو الذي قرره أبو المعالي الجويني في كتبه والأشاعرة من بعده، وكذلك أبو منصور الماتريدي الحنفي مع تقدمه على هؤلاء ومقارنته للأشعري في الزمان، فهؤلاء نفاة للصفات الخبرية مع أن أبا الحسن الأشعري وأبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وأبا بكر بن الطيب الباقلاني ، وكذا ابن فورك -في المجرد - يقع في كتبهم إثبات ما هو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين.

    والمتأخرون من الأشاعرة ومن يوافقهم في هذا الباب -باب الصفات الخبرية- يقولون: إن مقصود الأشعري وأمثاله بهذا الإثبات هو إجراء اللفظ على ظاهره، مع اعتقاد أن الصفة في نفس الأمر منتفية. ولهذا قال المصنف رحمه الله: والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر . لأنه ليس النزاع مع المتأخرين -من متكلمة الصفاتية ومن هو على طريقتهم- في إطلاق ألفاظها أو سياقاتها القرآنية، إنما النزاع في إثبات الصفة في نفس الأمر؛ ولهذا قرر بعض متأخري الأشعرية أن الأشعري في كتبه التي ذكر فيها الوجه واليدين وأمثال ذلك أنه يطلق ألفاظها ويتوقف في تعيين المراد بها، ولكنه لا يجعل المعنى المتبادر مقصوداً فيها..

    وهذا من جنس طريقة التفويض التي أضافوها إلى السلف، مع أن هذا التقرير ليس صحيحاً؛ لأن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا ينصون على إبطال قول المعتزلة الذي ينفي هذه الصفات، ويصرحون بإثباتها تصريحاً بيناً، ولو كان الخلاف بينهم وبين المعتزلة في تعيين التأويل لما اشتغلوا بهذا التقرير، وظاهر في كتب الأشعري أنه لم يشتغل كثيراً بمسألة الفرق بينه وبين المعتزلة من حيث تعيين التأويل، لأن هذه ليست هي المسألة الأصل، بل المسألة الأصل: ثبوت الصفة أو عدم ثبوتها.

    إذاً: باب الصفات الخبرية هو باب مختص؛ لأن متأخري المتكلمين نفوه تبعاً لقدماء المتكلمين من المعتزلة وأمثالهم، وخالفوا طريقة سلفهم من أئمة متكلمة الصفاتية، فضلاً عن مخالفتهم لطريقة السلف.

    ثم لو فرض جدلاً: أن الأشعري لم يقصد تحقيق الإثبات فيها؛ فإن النتيجة: أن الأشعري قد غلط في باب الصفات الخبرية، وغلطه في هذا ليس مما يصار إليه، بمعنى: أن المعتبر في لزوم الاتباع ليس هو اختصاص الأشعري أو غيره، وإنما هو ما كان عليه جماعة السلف رحمهم الله الذين نص الأشعري في كتبه على أنه تبع لهم، وأنه قاصد لمذهبهم.

    وقد تواتر في كتب السنة عن أئمة السلف رحمهم الله إثبات الصفات الخبرية على ظاهرها، والقول في هذه الصفات -كالوجه واليدين وأمثالها- كالقول في بقية الصفات؛ فأي لازم يدعيه المتأخرون من متكلمة الصفاتية على مثبتة الصفات الخبرية هو نفسه اللازم الذي قرره وادعاه أئمة الجهمية في سائر الصفات -الصفات الخبرية وغيرها معها-.

    1.   

    لا يلزم لإثبات إجماع السلف على إثبات الصفات النقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة من الصفات

    [بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل -إما نصاً وإما ظاهراً- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة].

    فهو لا يلتزم أن ينقل عن كل واحد من الأئمة النصوص الصريحة في إثبات كل صفة من الصفات القرآنية والنبوية؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يلتزم هذا في مسألة من المسائل، فإن الإجماع لا يعلم ويستقر -كما هو معلوم- بهذه الطريقة، ولو كان الإجماع لا ينعقد إلا إذا صرح كل إمام بعينه بذكر كل مسألة بعينها من مسائل الصفات بالاطراد لكان ممتنعاً؛ ولهذا انعقد الإجماع على مسائل مع أنها لم تنقل منصوصة عن كل إمام بعينه، فباب الصفات مثله.

    وهذا إنما قاله المصنف لأن بعض المعترضين من المتكلمة يقولون: أكثر هذا الباب إنما صرح به أحمد وأمثاله من أئمة الحديث، وأما فلان وفلان فليس لهم تصريح بهذا الباب. فالمصنف يقول: إنه ليس هناك إمام من أئمة السلف نقل عنه حرف واحد يدل على نفي شيء من الصفات سواء الصفات الخبرية أو الفعلية أو غيرها، بل المنقول عن جميعهم التصريح بإثبات الصفات، والطعن والرد على المعتزلة، وموافقة الجماعة؛ ولهذا لا يوجد في كتب أهل العلم المعتبرة أحد من أهل العلم حكى الخلاف بين أئمة السلف، بل حتى جماهير المتكلمين من المعتزلة والجهمية والأشعرية يقرون: أن السلف كانوا على قول واحد في هذا الباب.

    وإنما زعم الخلاف بعض المتأخرين ممن لا يعتبر قوله في هذا الباب كـأبي الفتح الشهرستاني وأبي محمد بن حزم ؛ فإن أبا محمد بن حزم مع سعة علمه وفقهه إلا أن قوله في باب الصفات ليس معتبراً؛ لأنه اختلط عليه هذا الباب اختلاطاً شديداً، بل كما قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية: إنه قارب قول المتفلسفة، وقول كثير من المعتزلة في هذا الباب خير من قوله .

    فالمقصود: أنه متحقق عند جمهور الطوائف فضلاً عن أهل السنة أن السلف كان لهم قول واحد مطرد في هذا الباب. فهذا القول الواحد المطرد من المتحقق بالدلائل، وصريح كلام السلف أنه هو إثبات الصفات، وأن هذا المذهب لا يختص بـأحمد رحمه الله أو غيره من أعيان أئمة الحديث، وإن كان بعض أئمة الحديث كـأحمد له من الاختصاص بالرد والتقرير ما يقع مثله في سائر مسائل أصول الدين أو حتى مسائل الشريعة.

    [بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة; وما رأيت أحدا منهم نفاها. وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه؛ مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً.].

    وهذا التصريح المتحقق في كلام السلف -أنهم ينكرون على المعطلة من الجهمية والمعتزلة، وينكرون على المشبهة- دليل على أن مذهبهم ليس هو التشبيه، ودليل على أن مذهبهم ليس هو نفي الصفات في نفس الأمر أو نفي شيء منها؛ وبهذه القاعدة -وهي: أن السلف وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه- يعلم أن ما قرره كثير من متأخري المتكلمين هو من الغلط على السلف.

    [كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.

    وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل. وهذا كثير جداً في كلامهم].

    وهذا متواتر؛ ولهذا لم يكن كلامهم في تأويلات القوم، بل كان جمهوره يقع في نفيهم للصفات؛ فإن ذم السلف للمعتزلة والجهمية في نفيهم الصفات أظهر من ذمهم لاشتغالهم بمسألة التأويل التي هي تبع لمسألة نفي الصفات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756021452