إسلام ويب

كتاب الطهارة [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحتل النية مكانة عظيمة في صحة العمل وقبوله، ولهذا تشترط النية لرفع الحدث سواء في الغسل أو الوضوء، وبهذه المنزلة نجد الطهارة بالنسبة للصلاة، فيجب على المسلم أن يغسل ويمسح أعضاء معينة ليقف خاشعاً عابداً لربه في صلواته المفروضة والنافلة.

    1.   

    النية في الطهارة

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى في كتاب الطهارة: [ والنية شرط لطهارة الحدث كلها، وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها ].

    اشتراط النية للطهارة وأقوال العلماء في ذلك

    قوله: (والنية شرط لطهارة الحدث كلها)، أي: لطهارة الأحداث كلها، وعلى هذا يدخل في ذلك ما كان من الحدث الأصغر، أو كان من الحدث الأكبر.

    والنية يراد بها: القصد، وهو ما يكون في القلب من العزم والقصد، وهذا أصله في الشريعة مستقر، فإن الشريعة مبنية على الإخلاص لله سبحانه وتعالى والقصد إلى اتباع ما شرع، فلا بد من النية في طهارة الأحداث كلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر الذي رواه البخاري وغيره: ( إنما الأعمال بالنيات )، والشريعة قاعدتها: أن الأمور بمقاصدها، فكل عبادة من العبادات فإنها تحتاج إلى النية، وهذا مُطرد في الشريعة، فجميع العبادات المحضة لا بد فيها من النية، والوضوء عبادة محضة، فإن صفته هي من وضع الشارع بخلاف إزالة النجاسة، فإن إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية؛ ولهذا ترتفع النجاسة في أظهر قولي الفقهاء ولو بغير فعل الآدمي؛ فإن اشتراط النية هو ما يميز العبادات المحضة، كالصلاة والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة والوضوء ونحو ذلك، عن غيرها من العبادات الغير محضة.

    فالنية شرط لطهارة الأحداث كلها، وهذا الذي عليه جماهير الفقهاء، وهو مذهب الإمام أحمد و مالك و الشافعي ، خلافاً لأهل الرأي، فإن أبا حنيفة وأصحابه يذهبون إلى أن النية لا تشترط في طهارة الماء، وإنما يجعلون ذلك خاصاً بالتيمم، واستدل بعض فقهاء الحنفية لقولهم هذا بعدم ورود الأمر بها، ولكن لما كانت العبادات المحضة لا تقع في الشريعة إلا ويقصد بها التقرب من جهة الإخلاص، ويقصد بها الاتباع من جهة ما جعله الشارع في الشريعة لها، لم يحتج ذلك إلى أن ينص في كل عبادة معينة؛ ولأن العبادة إذا تجردت عن هذا القصد من أصله صارت عملاً عادياً، فلو أن شخصاً دار حول البيت يبحث عن مفقود أو يبحث عن صاحب له، فلا يسمى فعله هذا طوافاً يسقط به الركن.

    وكذلك إذا دخل عرفة وهو لا ينوي بذلك الوقوف بعرفة، وإنما دخل لتجارة أو نحو ذلك، فلا يعد واقفاً بعرفة، فإنه لو دخلها لتجارة، ثم بعد ذلك في أثناء اليوم أو في آخره قبل الفجر أنشأ الإحرام، ولم يقف بعرفة بعد ذلك، فلم يقل أحد: إن مروره الأول لتجارته بعرفة كان مجزئاً له.

    وهكذا في بقية ما كان من باب العبادات المحضة، فإنه لا بد فيها من النية، والأصل في هذه النية أن العمل في الشريعة جاء هكذا، فهي لا تحتاج إلى تنصيص؛ لأن العمل إنما شرع لهذه الصفة، فطلب دليل مختص يقتضي وجوب النية مقدر على أن العمل يقع مجرداً مشروعاً بدونها.

    دليل وجوب النية

    فإذا قيل: ما الدليل الدال على وجوب النية؟

    قيل: هذا مبني على تقدير وجود العمل مجرداً مشروعاً بدون النية، فتكون قدراً زائداً، مثلما قيل: ما الدليل على وجوب التسمية؟ فإنه يقدر وقوع الوضوء دون التسمية، وكذا يقدر وقوع الطواف دون أن يكبر عند ابتداء طوافه، أو أن يستلم الحجر.

    فالعبادات المحضة لا يقدر وقوعها مجردة أصلاً، فلا بد فيها من هذا الاستصحاب، بحيث إذا وقع التصرف على القصد العادي المحض لم يكن هو العبادة التي أوجبها الله، فلو غسل أعضاءه يريد بذلك التبرد: غسل كفيه، وغسل وجهه، وغسل يديه، فلما كان في أثناء غسل يديه يريد بذلك إزالة الغبار، أو يريد بذلك التبرد، طرأ له نية الوضوء أو نية رفع الحدث، فلا يعتد بما غسل ابتداءً؛ لأنه لم يوقع ذلك على سبيل قصد القربة، كما لو أنه دار بالبيت على صفة وجه الطواف، يبحث عن صاحب له، فلما أمضى شوطين قال: أجعله طوافاً، فلا يعتد بهذا البحث عن صاحبه أو مفقود له عن الطواف الشرعي.

    إذاً قوله: (والنية شرط لطهارة الحدث كلها) أي: الأحداث كلها، سواء كان الغسل أو الوضوء أو التيمم، خلافاً لـأبي حنيفة فإنه يجعل ذلك مختصاً بالتيمم دون الطهارة المائية.

    قال: (وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)، كمس المصحف مثلاً، وكالطواف بالبيت على مذهب جمهور العلماء، فهذا لا يباح إلا بالطهارة.

    ارتفاع الحدث بنية الطهارة للمسنون أو التجديد

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن نوى ما تسن له الطهارة أو التجديد، فهل يرتفع حدثه على روايتين ].

    (فإن نوى ما تسن له الطهارة أو التجديد)، ويمثل له الفقهاء ببعض الأمثلة التي يعرض فيها خلاف، كقراءة القرآن من غير مس المصحف، فهذا فيه خلاف، ولكن إذا نوى ما تسن له الطهارة، أو نوى التجديد لطهارته، ناسياً لحدثه ثم ذكر حدثه، فهل يرتفع حدثه أو لا يرتفع حدثه؟ على روايتين عن الإمام أحمد ، وهما قولان للفقهاء، والأظهر أن ذلك يجزئ؛ لأنه نوى بذلك العبادة المحضة، وحيث نوى العبادة بطهارته، فهذه هي النية الواجبة، وهذه هي النية المشترطة.

    أما رتبة هذه العبادة فهذا تفصيل ليس بلازم ولا يلزم استصحابه، وإنما الذي يجب استصحابه ويجب اعتباره أن ينوي العبادة المحضة بذلك، فإذا نوى العبادة المحضة سواء كانت مستحبة أو واجبة كفى ذلك، وإذا كان ناسياً حدثه ارتفع في أصح الروايتين عن الإمام أحمد ، وهي المشهور من المذهب، وهو الذي رجحه الموفق .

    إجزاء الغسل المسنون عن الواجب

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن نوى غسلاً مسنوناً، فهل يجزئ عن الواجب؟ على وجهين ].

    قوله: (وإن نوى غسلاً مسنوناً)، كغسل الجمعة، فعلى مذهب جمهور الفقهاء أن غسل الجمعة مستحب، فهل يجزئ عن الواجب، فلو أنه كان جنباً ونسي أن عليه غسلاً واجب، فنوى غسله المسنون كغسل الجمعة، ثم ذكر بعد ذلك، فهل يجزئه أو لا يجزئه؟ قال المصنف: على وجهين، وبعض الأصحاب يجعلون ذلك على روايتين عن الإمام أحمد ، وسبق أن الوجهين هما للأصحاب، وأن الروايتين عن الإمام نفسه، ففيها قولان في مذهب الإمام أحمد ، وبعض الأصحاب يجعلها وجهين، وبعضهم يجعلها روايتين عن الإمام.

    والراجح في هذا أن كل من نوى عملاً مشروعاً أجزأه ذلك، ولا تؤثر الرتبة بين واجبٍ ومستحب، إنما الذي يؤثر ألا ينوي القربة، وإنما ينوي عملاً عادياً، فإذا نوى عملاً عادياً لم يجزئه.

    النية في تعدد الأحداث الموجبة للطهارة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل، فنوى بطهارته أحدها، فهل يرتفع سائرها على وجهين ].

    وهذا فيه خلاف في مذهب الإمام أحمد ، والمحقق أنها ترتفع، وظهور كونها ترتفع بنية واحد منها بين؛ لأنك إذا قلت: إنها ترتفع بنية واحد ما بطل في حق هذا الذي جزم بارتفاعه إلا بسبب ناقضٍ للطهارة مستجد، وهذا لم يقع، فما دام أنه يعلم عدم وقوع السبب المستجد الناقض للطهارة، فمعناه: أنه لا يزال في طهارته، فلا يلزم أن يستصحب عدد ما يوجب رفع الحدث، بل ينوي بذلك ما يشرع له أو يجب له الطهارة، فإن نوى ما يشرع له أو يجب له الطهارة أو نوى واحداً من الأحداث وعنده أكثر من حدث، أو أكثر من سبب في الحدث، فإن هذا كله لا يؤثر؛ لأن المقصود من شرط النية القربة إلى الله في عمله، وحيث وقع ذلك لا يلتفت إلى ما هو فوق ذلك.

    تقديم النية على غيرها من واجبات الطهارة

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة ].

    ويجب تقديمها على أول الواجبات، وهذا إذا قيل: إن أول واجب هو التسمية، وهذه رواية عن الإمام أحمد وجب تقديمها على التسمية، وإذا قيل على مذهب الجمهور بأن التسمية ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وهذا هو الذي سبق ترجيحه أن التسمية في الوضوء مستحبة وليست واجبة، فيجب تقديمها على أول الواجبات، وأول الواجبات على الصحيح من المذهب المضمضة، وسواء بدأ بالمضمضة أو بدأ بغسل الوجه، فإن هذا كله يتجه إلى معنى واحد، والمقصود أنه لا بد أن تتقدم النية على أول الواجبات، فلو ابتدأ بغسل وجهه يزيل بذلك ما كان عليه من الغبار أو العرق، ثم عرض له إرادة الطهارة ورفع الحدث، لم يعتد بما ابتدأ، بل لا بد أن يرجع.

    استصحاب ذكر النية في الطهارة

    قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب تقديمها على مسنوناتها، واستصحاب ذكرها في جميعها، وإن استصحب حكمها أجزأه ].

    قوله: (ويستحب تقديمها على مسنوناتها) كالتسمية على مذهب الجمهور، (واستصحاب ذكرها في جميعها)، واستصحاب الذكر: أن تكون النية حاضرة في جميع فعله لفروض الوضوء، وإن كان هذا ليس بلازم، وإنما اللازم ما ذكره المصنف وهو استصحاب الحكم، والفرق بين استصحاب الذكر واستصحاب الحكم، أن المقصود باستصحاب الحكم، هو: ألا ينوي قطعها بعد إرادتها، أو بعد وقوعها، فإذا وقعت النية في نفسه وفي قلبه ولم ينوِ قطعها فإنه يعد مستصحباً لحكمها، وإن لم يكن مستصحباً لذكرها، فلو أنه غيب ذهنه ومدركه عن استصحاب النية، فإن هذا لا يؤثر، فمعنى أن يستصحب حكمها: ألا ينوي قطعها.

    1.   

    صفة الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ فصل: وصفة الوضوء: أن ينوي ثم يسمي، ويغسل يديه ثلاثاً ].

    قوله: (وصفة الوضوء)، هذا على ما يذكره المصنف يجعل فيه ما يشرع مما وجب ومما استحب، وسبق أنه ميز ما كان من الفروض والواجب، وما كان من المستحب والمسنون، وقوله: (أن ينوي)، والنية شرط (ثم يسمي)، والتسمية مستحبة على الصحيح.

    غسل الكفين

    قال المصنف رحمه الله: (ويغسل يديه ثلاثاً)، وغسل اليدين ثلاثاً هذا أيضاً مستحب، ولا يجب باتفاق العلماء غسل الكفين ثلاثاً، إلا ما اختلفوا فيه من غسل القائم يده من نوم الليل، فإن هذا فيه خلاف، والجمهور على عدم وجوبه، وأنه مستحب، والمشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه واجب لمن قام من نوم الليل خاصة، ومما ينبغي تنبيه العامة إليه: أن بعض العامة يغسل يديه في أول الوضوء، والمقصود عنده أن يغسل الكفين، ثم يغسل الوجه ويتمضمض ويستنشق، ثم إذا جاء إلى غسل اليدين ما الذي يفعل؟ يعتد بما غسل من كفه، فتجد أنه يبدأ الغسل من نصف الكف، أو يبدأ من نهاية الكف، فيبدأ بالساعد مباشرةً، وهذا لا شك أنه خطأ، ولا سيما إذا اعتبرنا على أصل الإمام أحمد رحمه الله من أن ترتيب الوضوء من الفروض، وحتى على القول الثاني: بأن الترتيب ليس بلازم، فهذا قد يشكل من حيث التحرير على هذا المذهب، هل يسلم هذا عندهم في ما كان من جزء العضو أو أنه في العضو التام، هذا فيه خلاف في مذهبهم، فمن لا يجعل الترتيب واجباً هل يجوزون ذلك أن يكون بعض العضو دون بعض؟ أو إنما يجوزونه في العضو الكامل؟

    فالمقصود أن هذا على كل تقدير خطأ، ينبغي تنبيه العامة إليه، وأنه إذا غسل وجهه ثم جاء إلى اليدين فإنه يغسل اليدين من بداية الكف، من الأصابع إلى المرفقين، هذا هو الواجب.

    حكم المضمضة والاستنشاق

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً من غرفة، وإن شاء من ثلاث، وإن شاء من ست ].

    والمضمضة والاستنشاق قد سبق معنا أنها واجبة في مذهب الإمام أحمد ، والقول الثاني في المضمضة والاستنشاق: أنها مستحبة في الوضوء، واجبة في الغسل، وهذا مذهب أبي حنيفة .

    والقول الثالث: أنها مستحبة في الوضوء والغسل، وهذا مذهب مالك و الشافعي ، وما ذهب إليه الإمام أحمد أن المضمضة والاستنشاق واجبة في الوضوء وفي الغسل، هو الأرجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فقال: ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر )، وهو في الصحيح، فهذا أمر، والأمر للوجوب، ومما يدل على كون هذا الأمر للوجوب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه كل من نقل صفة وضوئه أنه ترك ذلك، فكون النبي صلى الله عليه وسلم لزمه في فعله، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه مطلقاً في واحد من أفعاله، بحسب ما نقل أصحابه رضي الله عنهم، يدل على أن هذا واجب، والسنة تبين مجمل القرآن، وإن لم ينص على ذكر المضمضة فإنها داخلة في الوجه.

    وفي مذهب الإمام أحمد الاستنشاق آكد، وكأنه والله أعلم، لمجيء الأمر به في السنة، وهو ما جاء في الصحيح: ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر ).

    قوله: (ثلاثاً من غرفة) أي: واحدة، وقوله: (من ست) بمعنى: يستنشق ثلاثاً ويتمضمض ثلاثاً فتكون ستاً، فكل هذا سائغ، وإن كان الأظهر من السنة ثلاث غرفات، وهذا ظاهر حديث عبد الله بن زيد وحديث عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.

    [ وهما واجبان في الطهارتين، وعنه أن الاستنشاق وحده واجبٌ فيهما، وعنه أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى ].

    وهذا الأخير هو مذهب أبي حنيفة .

    غسل الوجه وتخليل اللحية

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يغسل وجهه ثلاثاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، مع ما استرسل من اللحية ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ].

    أما ما كان من الوجه وهو البشرة والجلد، فإن هذا هو الوجه باتفاق العلماء، وأما ما استرسل من اللحية فهذا فيه خلاف، والخلاف فيه قوي، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، فيكون البياض الذي بين اللحي والأذن داخلٌ في الوجه، وهذا الذي عليه العامة من أهل العلم خلافاً لـمالك ، فإنه جعل هذا البياض الذي بين الأذن وبين اللحي ليس داخلاً في الوجه، وهذا مما استغرب في رأي مالك رحمه الله، والذي عليه الجماهير خلاف ذلك.

    وأما ما استرسل من اللحية فإن الأمر فيه أشهر، والخلاف فيه قوي.

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن كان فيه شعرٌ خفيف يصف البشرة وجب غسلها معه، وإن كان يسترها أجزأهُ غسل ظاهره ويستحب تخليله ].

    قوله: (ويستحب تخليله)، أي: تخليل اللحية، وسبق أن ما كان من مسترسل الشعر فهذا في وجوب غسله خلاف مشهور، والمشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه يغسل ظاهره، ولكن الخلاف فيه قوي.

    غسل اليدين

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ويدخل المرفقين في الغسل ].

    وهذا صريح في كتاب الله وهو غسل اليدين، ودخول المرفقين هو الذي عليه الجماهير من العلماء، وفيه قول بعدم وجوب ذلك، لكنه قول بعيد، وهو خلاف ظاهر القرآن وخلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

    مسح الرأس

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يمسح رأسه، فيبدأ بيديه من مقدم رأسه ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدمه ].

    وهذه هي السنة التي جاءت في حديث عبد الله بن زيد في صفة مسح الرأس، ولكنه لو مسح رأسه وجهاً واحداً، فابتدأ به من مقدمه إلى قفاه مرة، أو على خلاف هذه الصفة أجزأه ذلك، ما دام أنه استوعب مسح الرأس، هذا في مذهب الإمام أحمد ، فإنهم لا يشترطون هذه الصفة، وإنما هي مستحبة، وإنما الواجب عندهم أن يستوعب الرأس، ولا يكون مسحاً لبعضه على الصحيح من المذهب.

    أقوال العلماء في استيعاب الرأس بالمسح

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجب مسح جميعه مع الأُذنين، وعنه: يجزئ مسح أكثره ].

    قوله: (ويجب مسح جميعه) هذا هو الواجب، وأما ما سبق من الصفة فإنها مستحبة، (وعنه: يجزئ مسح أكثره) وهذا محل خلافٍ مشهور بين الفقهاء، وهو هل يلزم مسح جميع الرأس، أم يجزئ البعض؟ وفيه خلاف مشهور، ومذهب الإمام الشافعي أنه يجزئ مسح بعض الرأس، وهذا أيضاً مذهب أهل الرأي كأمثال الإمام أبي حنيفة وأصحابه، وكذلك الشافعي يذهب إلى أنه يجزئ مسح بعض الرأس.

    وهذا فيه خلاف في فهم الآية، في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، فما هي هذه الباء، وما الذي يجب من ذلك؟ هذا محل خلاف في تفسير الآية، لكن مما يبين ذلك أن من نقل وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحفظ في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح البعض، إلا في حديثٍ في إسناده ما فيه، والأحاديث الصحاح كحديث عبد الله بن زيد وحديث عثمان وحديث علي بن أبي طالب ، كل الأحاديث الصحاح فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح جميع الرأس، أي: عامة الرأس، وليس بالضرورة كل طرف منه، وإنما استوعب الرأس بمسحه، أقبل بيديه وأدبر، ولم يثبت في حديث صحيح مسح بعضه، ولكن الخلاف في ذلك ليس خلافاً شاذاً، بل هو خلاف محفوظ، وجاء عن بعض الصحابة أنهم كانوا يكتفون بمسح بعضه، فالخلاف فيه من جنس الخلاف في النسك، وهل يجزئ إذا قصر بعض الشعر أو لا يجزئ، فهذا أيضاً فيه خلاف مشهور، وهو خلاف محفوظ جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وقال به طائفة من الأئمة.

    والأظهر أنه لا بد من مسح جميع الرأس، ولكن لو أن أحداً بنى على مذهب، أو صار مقلداً لإمام معتبر في هذا فلا حرج؛ لأنه من الخلاف المحفوظ.

    تكرار مسح الرأس

    قال المصنف رحمه الله: [ ولا يستحب تكراره، وعنه: يستحب ].

    قوله: (ولا يستحب تكراره)، أي: تكرار المسح؛ لأن من نقل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا إلا أنه مسح مرة واحدة، مع أنهم حفظوا ونقلوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، واستحب بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي التكرار فيه، وهذا لم يثبت بإسناد صحيح، فليس في الأحاديث الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بعض الرأس، وليس في الأحاديث الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر مسح الرأس، وإنما الأحاديث الصحاح في الصحيحين وغيرهما أنه مسح جميع الرأس مرةً واحدة، وهذا هو ظاهر السنة، وبعض الفقهاء يحتجون بوجه من القياس في هذا، وهذا فيما يظهر لا يتأتى؛ لأن استعمال القياس في هذا المورد فيه نظر.

    والذين قالوا: يجزئ مسح البعض، أيضاً اختلفوا: ما الذي يجزئ من ذلك؟ فـأبو حنيفة يقول: لا بد من الربع فصاعداً، و الشافعي دون ذلك، فيجعل ما يقع عليه اسم المسح مجزئاً، وتوسع بعض أصحابه فقالوا: الشعرة والشعرتان تكون مجزئة، وهذا غريب على الشريعة، فإن من يمسح شعرة واحدة لا يسمى أنه أتى على هذا الشيء، فإن الشيء النادر واليسير المحض مسقط في العرف والعادة، فضلاً عن الشريعة، فمن أصاب شعرة واحدة من شعره ومن رأسه لا يقال: إنه قصر من رأسه، ولا يقال: إنه مسح رأسه.

    فمثل هذا النادر متعافى عنه؛ لأنه لا يصدق عليه اسم المسح، ولهذا جرى العفو عن يسير النجاسة عند جماهير الفقهاء، وفي البيوع العفو عن يسير الغرر؛ لأن هذا لا يحمل الاسم، فهذا مما توسع فيه بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله، وهو بعيد وغريب، فالقول: إن مسح شعرة يكون مجزئاً أو قص شعرة يكون مجزئاً، هذا كأنه لم يقع.

    غسل الرجلين إلى الكعبين

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يغسل رجليه ثلاثاً إلى الكعبين، ويدخلهما في الغسل ].

    قوله: (ثم يغسل رجليه ثلاثاً إلى الكعبين) هذا فرض من فروض الوضوء بالإجماع، ولا يجزئ دون ذلك باتفاق أهل السنة.

    قوله: (ويدخلهما)، أي: يدخل الكعبين في الغسل.

    قال: [ ويخلل أصابعه، فإن كان أقطع غسل ما بقي من محل الفرض، وإن لم يبقَ شيء سقط ].

    قوله: (وإن لم يبقَ شيء سقط) فإذا كان بقي شيء من محل الفرض كنصف القدم وجب غسله، فإن لم يبقَ شيء، كما لو قطعت يده إلى العضد، أو إلى نصف العضد، فلم يبق شيء من محل الفرض، قال المصنف: (سقط)، وبعضهم قال: يغسل طرفه وهذا بعيد، والأظهر أنه لو ذهب جميع محل الفرض بالقطع فإنه يسقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً )، ولقول الله جل ذكره: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

    الذكر بعد الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يرفع نظره إلى السماء، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ].

    وهذا مشروع بالسنة، كما جاء في حديث عمر : ( ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء )، رواه مسلم وغيره، ولذلك يشرع هذا الدعاء.

    الاستعانة في الوضوء وتنشيف الأعضاء

    قال المصنف رحمه الله: [ وتباح معونته في الوضوء، وتنشيف أعضائه ولا يستحب ].

    لأن الصحابة أعانوا النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه، كما جاء في فعل أنس و عبد الله بن مسعود و المغيرة بن شعبة وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأفرغ المغيرة على رسول الله في وضوئه، وكذلك في فعل أنس بن مالك ، وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فعل عبد الله بن مسعود ، فتباح المعونة في الوضوء، ولا ينبغي الترفع عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقر ذلك من أصحابه، وهذا بحسب الحاجة، وعند قيام السبب.

    وكذلك تنشيف الأعضاء مباح ولا يستحب، وكرهه بعض الفقهاء، لما جاء من أن خطايا المؤمن تسقط مع قطرات وضوئه، ولكن هذا التنشيف لا يرفعه؛ لأن هذا أمر عند الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يزول، فإن المؤمن إذا توضأ حصل هذا المقصود، ثم تنشيفها بعد ذلك لا يرفع هذا، وقد نفض النبي صلى الله عليه وسلم يديه بعد وضوئه، وترك المنديل، كما في حديث ميمونة ، وتركه للمنديل فيما يظهر ليس من باب التشريع.

    التفصيل في مسألة تجديد الوضوء

    تجديد الوضوء من المسائل التي فيها تفصيل، فإنه يشرع إذا كان الوضوء الأول في وقت سابق، ثم دخل وقت صلاة ثانية، كما لو توضأ لصلاة الظهر ثم حضرت العصر ودخل وقتها، فحينئذ يشرع له تجديد الوضوء.

    ويجوز أن يصلي أكثر من صلاة بوضوء واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر كما في الصحيح: ( يا رسول الله! رأيتك تصنع شيئاً لم أرك تصنعه من قبل، فقال: عمداً صنعته يا عمر )، فيباح أن يصلي بالوضوء الواحد أكثر من صلاة، حتى لو صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.

    ولكن إذا كان هذا في الوقت، بمعنى: أنه توضأ لصلاة الظهر، فصلى صلاة الظهر بهذا الوضوء، ثم في أثناء وقت الظهر أراد أن يتنفل، فهل يشرع له أن يجدد الوضوء؟ أو أراد أن يجمع الصلاة كما لو كان مسافراً، أو مريضاً يسوغ له الجمع، هل يشرع له تجديد الوضوء؟

    فيقال: إن تجديد الوضوء بهذه الصفة لا أصل له في الشريعة، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه بدعة إذا كان في نفس الوقت، كما لو توضأ لصلاة الظهر، ثم أراد النافلة بعدها، أو كان في سفر أو مرض وأراد الجمع، فلا يشرع له إنشاء الوضوء في محل الوقت الواحد، وإنما التجديد الوارد في الشريعة والمستحب عند الفقهاء أن يكون ذلك في الوقت الثاني، أما في الوقت الواحد فإن هذا لا يشرع.

    1.   

    المسح على الخفين

    قال المصنف رحمه الله: [ باب مسح الخفين ].

    الخف هو: ما يلبس على القدم من الجلد ونحوه، والإجماع منعقد على أنه سائغ، وأنه محفوظ في السنة، حكى الإجماع الإمام أحمد وابن المبارك وطائفة، حتى صاروا يعدون ذلك في مسائل أهل السنة، كما تراه في بعض مصنفاتهم في الاعتقاد، وإنما أدخلوه على مسائل الاعتقاد، لا لكونه فرعاً مجمعاً عليه، فإن ثمة جملة من الفروع المجمع عليها لم تدخل في مسائل الاعتقاد؛ وإنما لأن بعض أهل البدع كالخوارج مثلاً، صاروا يمنعون المسح على الخفين، فلما صار شعاراً لهم ذكر بعض أئمة السنة ذلك من بعض ما ذكروه في الاعتقاد، كما ذكر ذلك الإمام أحمد في بعض كلامه في أصول الدين، وذكر ذلك كثير من المتأخرين كـالطحاوي في رسالته.

    والإمام أحمد يقول: ليس في نفسي من المسح شيء -يعني: المسح على الخفين- فيه أربعون حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحديث المسح على الخفين حديث متواتر، وليس فيه اختلاف، وقد جاء في حديث المغيرة بن شعبة ، وجاء في حديث جرير بن عبد الله ، وجاء من حديث علي بن أبي طالب و عائشة بنت أبي بكر ، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال: [ يجوز المسح على الخفين والجرموقين والجوربين ].

    الجرمق: هو ما يلبس فوق الخف، ويذكر الفقهاء أنه يلبس عادة في البلاد الباردة، فكأنه تكرار للخف، فهو على حكمه، وأما الجورب فهو ما كان من الصوف أو الكتان، أو من القطن أو نحو ذلك، وهو المسمى الآن عند الناس بالشراب.

    أما الخفان فإن الإجماع منعقد والأحاديث متواترة في المسح عليهما، ولم يختلف على ذلك أئمة الفقهاء.‏

    أقوال أهل العلم في المسح على الجورب

    وأما الجورب وهو ما كان من القطن ونحوه، ففيه خلاف مشهور، وأكثر الفقهاء على عدم المسح عليه، وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي وهو المشهور من مذهبهم، فمذهب الثلاثة على المشهور عدم المسح على الجوارب، أي: الشراب، والقول بالمسح عليه هو مذهب الإمام أحمد من الأربعة، فهو من مفردات الإمام أحمد عن الأئمة الثلاثة، وإن كان قال به جملة من فقهاء المحدثين، حتى من الكوفيين كـالثوري .

    وهذا هو الراجح: من أن الجوارب يجوز المسح عليها؛ وذلك عملاً بفعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنه حفظ عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في بعض جوابات الإمام أحمد عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الجوارب، وفيه حديث مرفوع من حديث المغيرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين )، ولكنه ليس محفوظاً من جهة سنده، والمحفوظ من حديث المغيرة في الصحيحين وغيرهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين )، وأما ما جاء في السنن من أنه مسح على الجوربين فإن هذه رواية ليست محفوظة، فلا يثبت في المسح على الجوربين حديث مرفوع بنصه، وإنما فيه فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    وبعض الأصحاب يحتجون بوجه من القياس في ذلك، ويقولون: إنه في معنى الخف فيلحق به، وهذه إحدى الطريقتين لأصحاب الإمام أحمد في الاحتجاج على جواز المسح على الجوارب، فلهم طريقتان في الاحتجاج، فمنهم من يجعل الطريقة أن هذا جاء عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: لأنه في معنى الخف، فيكون وجهاً من القياس.

    والطريقة الأولى أقوى في المذهب، وهي الأشبه بطريقة الإمام أحمد رحمه الله؛ ولهذا لم يذكر أمر الخف فيه، وإنما قاله عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من عمله بمذهب الصحابي، وقد علم أنه من أكثر الأئمة عناية بآثار الصحابة.

    وأما على الطريقة الثانية فيكون قياساً، وهذا يتفرع من أن مسائل الرخص يدخلها القياس، والأرجح في مذهب الإمام أحمد أن الرخص لا يدخلها القياس، وهذا الأرجح من قولي أهل الأصول والفقه، أن الرخص لا يستعمل فيها القياس؛ لأنها على خلاف الأصل، وإنما هي استثناء من الشارع، والأصل هنا غسل القدمين، ولكن فيه فقه الصحابة رضي الله عنهم، فيكون فقهاً في السنة أبلغ من أنه وجه من القياس، وإن قيل: أليس فعل الصحابة من باب القياس؟

    قيل: هذا ليس بلازم، قد يكون من باب القياس وهذا محتمل، ويحتمل أنه من باب العمل بعموم الحكم بحسب فهمهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن مالكاً جعل في أصوله ما استقر عليه عمل أهل المدينة، لا لأنه يجعل ذلك من باب القياس أو من باب الاستنباط، بل يجعل ذلك؛ لأن فيهم السنة محفوظة.

    المسح على العمامة

    قال المصنف رحمه الله: [ والعمامة والجبائر ].

    قوله: (والعمامة والجبائر) أي: يسوغ المسح على العمامة، وهذا مروي عن أئمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على عمامته، كما جاء في حديث عمرو بن أمية الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على عمامته وعلى خفيه )، وجاء أيضاً في حديث المغيرة بن شعبة فيما روى أهل السنن: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته )، وحديث المغيرة أصله في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه )، فيكون حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الرأس وحده، وحفظ عنه مسح العمامة إذا كانت مغطية لجميع الرأس، وهذه صفة ثانية.

    وحفظ عنه كما هو في الظاهر في رواية الصحيح من حديث المغيرة ( أنه مسح بناصيته وعلى العمامة )، فجمع بينهما، والإمام أحمد يذهب إلى هذه الصفات كلها.

    المسح على القلانس

    قال المصنف رحمه الله: [ وفي المسح على القلانس وخمر النساء المدارة تحت حلوقهن روايتان ].

    والقلانس ليست عمائم، وإنما هي مثل ما يوضع على الرأس، وتسمى في كل بلد وفي كل عرف باسم آخر، إنما المقصود منها عند الفقهاء: ما يوضع على الرأس وليست عمامة، وتكون مغطيةً لجميع الرأس، كالطربوش مثلاً فإنه يغطي جميع الرأس في العادة، فهل يمسح عليه أو لا يمسح عليه؟ هذا فيه روايتان عن الإمام أحمد.

    أما إن كان لا يغطي جميع الرأس، كما يضعه الناس الآن في الغالب على رءوسهم، فهذا لا يسوغ المسح عليه، ولا يلحق بمسح النبي صلى الله عليه وسلم بناصيته وعلى العمامة؛ لأن تلك العمامة هي التي وردت فيها الرخصة، والرخص لا قياس فيها؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يمسحون على مثل ذلك، وكما أن العادة عند العرب أن رءوسهم ليست مكشوفة، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده يمسحون الرأس في الغالب، فكان غالب حالهم مسح الرأس، مع أن الغالب عند الوضوء أنهم على حال العرب من عدم كشف رءوسهم, وكشف الرءوس من عادات العجم، ولم يكن العرب في جاهليتهم يكشفون رءوسهم، فهذا يدل على أن ما يوضع على الرأس ليس بالضرورة أنه يكون مسوغاً للمسح عليه، إلا إذا كان على صفة العمامة التي وردت فيها الرخصة.

    واستثنى بعض أصحاب الإمام أحمد فقال: إن الراجح في مذهبه أن العمامة التي يمسح عليها هي العمامة التي لا تشبه عمائم الكفار، وهي العمامة التي لها ذؤابة، أو كانت محنكة، وأما العمائم المصمتة فيقولون: إن هذه عمائم الأعاجم، أو بعضهم يقولون: عمائم أهل الذمة لا يرخص في المسح عليها، وإنما يرخص فيما ورد من لبس النبي صلى الله عليه وسلم من العمائم وهي العمامة ذات الذؤابة أو المحنكة، فهذه التي كانت العرب تعرفها، أما العمائم المصمتة فهذه من عادات العجم.

    اشتراط الطهارة في المسح على الخفين والجورب

    قال المصنف رحمه الله: [ ومن شرطه أن يلبس الجميع بعد كمال الطهارة ].

    قوله: (ومن شرطه أن يلبس الجميع بعد كمال الطهارة) أي: يلبس الخف والجورب والجرموق بعد كمال الطهارة؛ لما جاء في الصحيحين في حديث المغيرة قال: ( فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإني أدخلتهما طاهرتين ) دليل بين على أن ذلك لا يكون إلا بعد كمال الطهارة، ولا يجزئ غسل قدم واحدة ثم يلبس، فلو غسل قدماً واحدة كاليمنى على الأصل، ثم لبس الجورب ثم غسل اليسرى لم يصح.

    اشتراط الطهارة في المسح على الجبيرة

    قال المصنف رحمه الله: [ إلا الجبيرة على إحدى الروايتين ].

    إلا الجبيرة ففيها روايتان، والمشهور عند متأخري الأصحاب أن الجبيرة لا بد أن تلبس على طهارة، والرواية الثانية وهي الأرجح في مذهب الإمام وهي الراجح عند كثير من محققي أصحاب الإمام أحمد وإن لم تكن هي المشهورة في المذهب أن ذلك ليس بلازم، وهذا هو الأصل؛ لأن الجبيرة حكم عارض، ولو كلف الناس أن تكون على طهارة ما تيسر أمرهم على ذلك ألبتة.

    فقوله: (إلا الجبيرة على إحدى الروايتين) أي: فإنه لا يلزم أن تكون على طهارة وهذه الرواية وإن لم تكن هي المشهورة في المذهب، إلا أنها اختيار كثير من محققي مذهب الإمام أحمد ، ومن كبار المحققين من أصحاب أحمد الذين اختاروا هذه الرواية الخلَّال ، وهذا هو أظهر قولي الفقهاء؛ لأنه لو اشترط ذلك لما استطاعه الناس؛ لأن الإنسان قد يصاب بحادث في سيارة مثلاً، وينقل إلى المستشفى وهو على غير طهارة، أو تنتقض طهارته بدم أو نحو ذلك على اختلاف الفقهاء في مثل هذه المسائل، ثم يجرى له التجبير في المستشفى، ولا يتأتى عادة ومنطقاً معتبراً أن يقال: لا بد أن يتطهر ثم تجرى له الجبيرة, وهذا تكلف لا يتصور.

    طبعاً من يقول: بأن ذلك لازم عند الفقهاء يجعلون لمثل هذه العوارض أحكاماً، هل هذا مما يسقط بالعذر أو لا يسقط بالعذر؟ فمنهم من يقول: إن هذا يسقط بالعذر, ومنهم من يقول: لا يسقط بالعذر، ومما يرجح هذه الرواية التي اختارها الخلال أن هذا هو المتفق مع مقصود الشريعة في المسح على الجبائر، فإن الجبائر تعرض وتفجأ الإنسان، فهذا الأقرب لمقاصد الشريعة، ولكن حتى لا يتوهم على القول الثاني بأنه مناقض للعقل من يقول بوجوب ذلك، وهي الرواية الثانية عن أحمد ، فإنهم يجعلون لهذه الأحوال العارضة حكماً، فمنهم من يقول: إن هذا مما يسقط بالعذر, ومن يقول: إنه لا يسقط بالعذر، يقولون: فحيث طويت جبيرته وهو ليس على طهارة؛ لعدم قدرته أو تمكنه من ذلك، صح ذلك ولا يلزمه أن يعيدها إذا كان ذلك مظنة الضرر، ولكنه يتيمم، يقولون: لا يتأتى له هنا المسح، بل يتيمم، فيجعلون له مخرجاً على هذا التقدير.

    المسح على الخمار للنساء

    وأما ما مر معنا من المسح على خمر النساء، ففيه روايتان، وثبت عن بعض نساء الصحابة المسح على الخمار، وهو الخمار المحنك الذي لا يبدو منه إلا وجه المرأة فقط، إذا لفت المرأة الخمار على رأسها وعلى حلقها فما بدا إلا دورة الوجه، فهذا هو الخمار، فهل تمسح عليه أو لا تمسح عليه؟ رخص فيه بعض الفقهاء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، والجمهور على عدم المسح عليه وهو الأظهر.

    وأما ما جاء في حديث بلال في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار )، فالمقصود بالخمار في حديث بلال العمامة؛ لأنه يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في العمامة.

    وإن قيل: ألا يقاس على عمامة الرجل؟

    قيل: الأظهر أن باب الرخص لا قياس فيه، ثم إنه لو ابتغى الفرق لوجد، فإن العمامة شدها على هذه الطريقة في حال الرجل ليس مطابقاً لحال المرأة من جهة خمارها، فلا يتأتى أن بينهما تماثلاً بحيث تكون العلة فيهما واحدة.

    مدة المسح على الخفين والجبائر

    قال المصنف رحمه الله: [ ويمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، إلا الجبيرة فإنه يمسح عليها إلى حلها ].

    وهذا الذي عليه جمهور العلماء وهو أن المقيم يمسح يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، كما جاء في حديث علي بن أبي طالب قال: ( جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر ).

    وأما ما جاء في حديث: ( أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنمسح على الخفين؟ قال: نعم يوماً ويومين وما شئت )، فهذا حديث ضعيف، وعلى تقدير توجيه قبوله كما حسنه طائفة من أهل الحديث، فإنه يحمل على حديث علي ، فحديث علي نص في العدد: ( جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر )، وكذلك ما جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه، ولا يرخص في الزيادة على ذلك على الصحيح، لا لعذر ولا لغير عذر.

    وأما ما جاء من إقرار عمر رضي الله تعالى عنه لرجل حمل له فتح المسلمين لبعض الأمصار، ومسح أسبوعاً، فإن هذا اجتهادٌ من عمر رضي الله تعالى عنه، ولكن الصحيح أن هذا الأثر لا يصح، وأن الذي عليه جماهير العلماء وجماهير الصحابة رضي الله عنهم أن المسح مقدر بذلك، كما هو صريح في حديث علي وحديث عوف بن مالك .

    قوله: (إلا الجبيرة فإنه يمسح عليها إلى حلها)، وهذا بلا نزاع بين أصحاب الإمام أحمد ، وعلى هذا عامة أهل العلم.

    نقف على هذه المسألة وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    القول بأن التسمية في الوضوء بدعة

    السؤال: إذا كان حديث: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) لم يثبت، فكيف نقول باستحباب التسمية؟ وهل قول من يقول: ببدعية التسمية عند الأذان يلزمه القول ببدعية التسمية عند الوضوء؟

    الجواب: أما القول ببدعيتها فهذا لا أصل له ولا معنى له، وكلام الأئمة فيها بين، وحفظ عن الصحابة فيها أقوال، وفي أقوال الأئمة المتقدمين أن التسمية مستحبة، وإذا كان الحديث ليس محفوظاً، فإن هذا يعتبر بما روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبالأصل الشرعي في ذلك.

    حكم من وقف بعرفة وهو نائم

    السؤال: ذكرتم وجوب النية للوقوف بعرفة، فما صحة وقوف من دخل نائماً، فقد ذكر أهل العلم صحة وقوفه؟

    الجواب: نعم لو دخل مدركاً ثم نام صح ذلك.

    تطهير مياه المجاري

    السؤال: ما حكم تطهير مياه المجاري؟

    الجواب: هذه تحتاج إلى بحوث جماعية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756011150