إسلام ويب

الرد على منكري أحاديث البخاريللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ابتلي الإسلام بأهل الأهواء الذين يطعنون في الأحاديث التي تخالف أهواءهم، ويشككون الناس في كتب الحديث التي تلقتها الأمة بالقبول، فلا نزال نسمع بين الفينة والأخرى من يطعن في أحاديث في البخاري أو في مسلم بلا حجة ولا برهان، بل بالتحكم والادعاء، وقد تصدى أهل الحديث لهؤلاء المنتحلين الجاهلين المبطلين، وردوا عليهم، ونسفوا شبههم، وبينوا تلبيساتهم، وحذروا الناس منها.

    1.   

    أهمية العلم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فإننا نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا ممن يرفع راية هذا الدين، وممن ينصر هذا الدين، وإن كنا في الدنيا غرباء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)، الذين لا يستقيم أمر دنياهم أو دينهم في هذه الدنيا الدانية الدنية القصيرة، أو في الآخرة التي يمتد أمدها إلى مالا يعلمه إلا الله جل في علاه من الخلود الأبدي إلا بالعض بالنواجذ على هذا الدين، والتمسك بالوحيين: الكتاب والسنة، وتعلمها والعمل بما فيها.

    إن الله جل في علاه شحذ همة نبيه صلى الله عليه وسلم وحثه أن يدعوه بالاستزادة من العلم، لا من أمر الدنيا، حيث قال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114].

    وهذه المسألة إجابتها وخيمة، إنها تجعلنا نعتقد أنه لا استقامة لأمر ديننا ولا لدنيانا إلا بالعلم، فما نراه من اعوجاج في تطبيق شريعة الله جل في علاه، أو أي خسارة في أمر من أمور الدنيا أو الدين فسببها الجهل، فسفك الدماء الذي نراه في جميع المواسم قد يسمى جهاداً بسبب الجهل، والتجرؤ على من لا يتجرأ عليه ليس له سبب إلا الجهل، فهم يريدون أن يحسنوا ولا نشكك في النوايا، لكن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما قالوا له: يا أبا عبد الرحمن ! والله ما أردنا إلا الخير، فقال: وكم من مريد للخير لم يبلغه. فلا بد للإنسان من نور الوحي يستضيء به، ولو أراد أن يبيع نفسه لله جل في علاه فليرفع صوته ويبين للناس أنه مثلاً يريد أن يجاهد في سبيل الله، أو يريد أن ينفق في سبيل الله، أو يتقدم لأي عبادة في سبيل الله جل في علاه، ولكن لا بد من بينة من الكتاب أو من السنة، فلا بد أن يذكر بعضنا بعضاً بأهمية العلم، ثم بعد ذلك نجيب على سؤال: ماذا لو ترأس الجهلاء؟

    إن الدنيا الآن أصبحت أبواباً لأناس لم يتعلموا العلم، ولم يبلغوا أن يكونوا أنصافاً من أهل العلم، فلما ترأسوا الناس رأينا التشويش على السنن، والضرب في كبد الحقيقة يزينوها في طرق الناس ويحسبون بذلك أنهم يحسنون صنعاً، وييسرون على الناس ما هو شاق في نظرهم، وإذا محصت النظر وجدتهم أقل ما يقال فيهم: إنهم جهلاء سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

    إن الله جل في علاه أشهد أشرف الخلق على الإطلاق -وهم باقة الله- على أشرف مشهود، ألا وهو: توحيد الله جل في علاه، إذ التوحيد هو أشرف ما في الوجود، قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18]، فشهد الله والملائكة على توحيده، ومعلوم أن الله جل وعلا إذا استشهد لا يستشهد إلا الأفاضل.. الأماجد.. الأكارم، فاستشهد أشرف الخلق، والذين خلقوا من النور، وهم الملائكة، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ[آل عمران:18]، فثنى بأولي العلم تنبيهاً على درجتهم، وتشريفاً لمكانتهم وعظم فضلهم، وأيضاً تنبيهاً على أنهم في مكانة أو شرف الملائكة، وبين الله جل في علاه أن أهل العلم هم رءوس الناس، وأرفعهم منزلة عنده، فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، وقال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122].

    قال السعدي : هنا يبين الله جل في علاه أن أهل العلم ليسوا بكثرة، بل هم طائفة قليلة فعلى المرء أن يتق الله ربه ويحفظ للعلم مكانته، ويعلم أن لأهل العلم فضلهم وأنهم نور تضاء به الطريق، وأنه بإتباعهم يعبد الله جل في علاه حق عبادته.

    فالله جل في علاه بين أن هذه الطائفة لا بد أن تجتهد فتحمل عن الأمة فرض الكفاية، وهو علم الوحيين: الكتاب والسنة.

    وأيضاً: إن الله جل في علاه بين أن أكرم الخلق عليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما قال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[الحجر:72]، يبين بهذا فضله وعظم مكانته.

    وبين صلى الله عليه وسلم أن كل عالم لا فرق بينه وبين النبي إلا درجة النبوة، فقال: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا ممن يريد الله به خيراً فيفقه في الدين، فعن معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

    فالفقه في الدين أفضل العبادات التي يتقرب بها المرء لله جل في علاه، وقد قال ابن عباس -مبيناً فضل الفقه في الدين- ضمني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).

    وأيضاً: يقول ابن عباس : أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله. وإذا كان الأصل في العطف المغايرة فالفرق بين قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين) وبين قوله: (وعلمه التأويل) أن الفقه في الدين هو معرفة المسائل بدليلها، وعلم التأويل هو إسقاط هذا الدليل على الواقعة، وهذا هو دقة الفقه، أو فوق الفقه، ولذلك لما سئل بعض العلماء عند موته: من تخلف لنا من العلماء؟ قال: العلماء كثيرون، ولكن أين العالم الفقيه؟ بمعنى: أين العالم الذي تفقه ثم علم التأويل فأسقط الأدلة على الوقائع، وهذا معنى قول ابن رشد في بداية المجتهد: بائع الخفاف ليس كصانع الخفاف؛ لأن صانع الخفاف أعطاه الله الفقه والتأويل، وبائع الخفاف إما أن يكون مقلداً وإما أن يكون قد تعلم الفقه فقط وفي كلٍ خير.

    وقد قيل: إن نصف العلم لا أدري، وهذه التي لا يقوى عليها أحد. كان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل ومالك وغيرهم من العلماء يقولون: من أدب المعلم أن يعلم التلاميذ أن يقولوا: لا أدري، هذا أصل في التعليم، وأول باب التعليم أن يقول: لا أدري، وهذا ابن عمر عندما يسأله سائل يأخذ على يده ويقبض عليها ثم يقول: لا أدري، فإذا سأله الثانية أخذ على يده ففركها وقال: لا أدري، وفي الثالثة يقول: الحمد لله الذي وفق ابن عمر أن يقول: لا أدري فيما لا يعرف، وهذا هو الحق فطالب العلم إن كان لا يدري فليقل: لا أدري، وإن كان يدري لا بد أن يقول: أدري ويبين. وقد قسم علي وابن مسعود وغيرهم من العلماء الناس إلى أصناف.

    فضل العلم

    إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جلس بين أصحابه بين لهم الفرق بين العالم الذي تفرغ لطلب العلم وانشغل بالوحيين، والعابد الزاهد الذي طال قيامه، وكثر صومه، وكثرت صدقاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم).

    وشتان بين القمر وسائر الكواكب، وهذا مما يشحذ الهمم لطلب العلم، فلو غاب أهل العلم فلا بد أن يخرج لنا أناس جهال، فيفتون الناس بغير علم، فيضلون ويضلون، وكما نرى أن الجهاد في سبيل الله والذي هو أشرف ما يكون، ضوابطه الشرعية مغيبة فتسفك دماء بريئة وتكون المفسدة فيه أعظم من المصلحة، وكثير من الجهلة يكفرون الناس البريئة لأنه غاب عنهم أمر العلم. والذي يحج أو يصلي أو يزكي وقد غاب عن العلم فإنه يفسد أكثر مما يصلح.

    إذا غاب العلماء وانتشر الجهل فإن ذلك دليل على أن القيامة قد قربت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم ويظهر الجهل، وإن الله جل وعلا لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، أو قال: لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

    وبعد أن تذهب الدنيا يستحق النار كل من تجبر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة) وذكر منهم قاضياً قضى بغير علم فهو في النار، وإن قضى بالحق وأصاب الحق؛ لأنه أفتى بغير علم وتجرأ على الله جل في علاه، ووقع تحت قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116].

    ونتائج ذلك كثيرة، منها: أولاً: تضليل الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

    ومنها: انتشار الجهل ووضع الشيء في غير موضعه، ففي السفر مثلاً: من السنة أن يؤمر المسافرون أحدهم ليرجع إليه في بعض الأمور، ولكن بعض الذين يترأسون لا يستبصرون بنود الشرع، فيفسدون أكثر مما يصلحون، ويغلبون العاطفة على الحكمة، ويضعون الشيء في غير موضعه؛ بسبب جهلهم، وقد يصاب الناس جميعاً بما لا يحمد عقباه بعد ذلك؛ لأنهم وضع عليهم من لا أهل له في أن يسير الناس على ما يرضي الله جل في علاه.

    وهكذا فكثيراً من الناس يتأمرون وليسوا أهلاً للإمارة، وقد ورد حديث في مسند أحمد وإن كان فيه ضعف -أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من ارتقى إلى منصب أو مكانة وغيره أولى منه فقد أسخط الله.

    فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوساً جهالاً) يتحقق في الذين يتصدرون ولا يعرفون عن دين الله شيئاً، أو يعرفون عن دين الله أشياء لكنهم تركوا الأصول وهي: الكتاب والسنة.

    1.   

    تجرؤ بعض المتعالمين على الطعن في أحاديث البخاري

    وبعض من تصدر لتعليم الناس أمر الدين يتجرأ على أحاديث البخاري ويبتعد عن العلم الذي فيه النجاة من التخبطات إلى الطريق القويم، فيطعن في أحاديث البخاري تصريحاً بعد أن كان تلميحاً.

    وهو رجل ومعه بعض الناس يقولون: إن أحاديث البخاري ليست صحيحة، ففيها الأحاديث الموضوعة والضعيفة والحسنة والصحيحة، والبخاري جبل الحفظ، وهو رأس السنة، وإمام من أئمة أهل السنة والجماعة فكيف يطعن في حديثه؟!

    إن أمة لا تعرف قدر رجالاتها خابت وخسرت، وأمة قدرت حق رجالاتها فازت وارتقت وعلت، وهذا الذي حدث في مدة وجيزة من عمر الزمن، فقد امتلكوا الدنيا بأسرها مشارقها ومغاربها؛ لأنها أمة قد عرفت قدر رجالاتها، ثم جاءت أجيال بعد ذلك تطعن في ثوابتنا، وتطرح علية القوم أرضاً، فعلمنا أن الأمة حقاً لن تفيق من هذه الكبوة بحال من الأحوال.

    لقد طعن هؤلاء في البخاري ثم في مسلم ثم ارتقوا بعد ذلك إلى الطعن في أبي هريرة أروى الناس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ليس بفقيه، ثم بعد ذلك طعنوا في عائشة ولذلك فقد فكرت أن أجتمع بطلبة العلم لأبين لهم فضل العلم، ثم أبين فضل أهل العلم، ثم ماذا لو غاب العلماء وتصدر الذين لا يعلمون عن دين الله شيئاً، ولا يتمسكون بهذه الثوابت؟

    1.   

    صحة حديث إرضاع الكبير والرد على من طعن فيه

    ومن الأحاديث التي طعنوا فيها حديث رضاع الكبير، فقالوا: إن هذا الحديث موضوع ولو كان في البخاري ، فمن البخاري ؟

    قالوا: والدلالة على الوضع هو المتن، فـسالم مولى أبي حذيفة يرضع من امرأة تكبر عنه أو تكون موازية له، المهم أنه شاب وهي امرأة كبيرة قد يشتهيها فتكشف له عن ثديها وترضعه منه، فهذا فيه دلالة كبيرة على الوضع، قالوا: لأن أصول الشريعة ترد هذا الكلام لا سيما وأن الشيخ الفلاني -وهو من الشيوخ والأفاضل- قال: بأنه لا بد أن يرضع من ثديها ويلتقمه في فمه. كما استدلوا بقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا [النور:30]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي بن أبي طالب اصرف بصرك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يشج أحدكم بمخيط على رأسه خير له من أن يمس امرأة)، وهنا لن يمس فقط بل سيرضع، وهو أجنبي عنها فكيف يرى عورتها؟

    إن التكفيريين أيضاً يردون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نوفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، وهذا الحديث في مسلم فعندما تقول له: هذا رجل دخل بأمان كيف تقتله؟ كيف تتجرأ عليه؟ فيقول: أهل كفر أعملوا في الأرض الفساد، هؤلاء أيضاً من الذين وقفنا لهم وقلنا: سبحان الله لو تعلمتم ما سفكتم من الدماء التي حرمها الله جل في علاه، ولما تجرأتم على ذلك.

    أيضاً: أخذ الأموال بغير حق، والتهاون فيها، فمن الناس من يبين له أنه إن فعل كذا فعليه دم فيتساهل في ذلك؛ لأنه من السهل عليه أن يفدي، وهذا من الاستخفاف بدين الله جل في علاه، والسبب هو الجهل، فلو تعلموا ما اجترءوا على هذه المسائل، ولرجعوا إلى حضيرة الإيمان، وجعلوا الدين هو الذي يسيرهم وليس الهوى والعاطفة والحماسات والثورات. وأما الذين طعنوا في أحاديث البخاري فعلينا أن ندعو لهم بالهداية، ونحن أصلاً لسنا بصدد العداوة لهم، ونبين أخطاءهم المؤدية إلى الهلاك. فلو تأثر العامة بهذا الكلام، وطرحوا أحاديث في البخاري ، وطعنوا في قيم ثابتة من الدين، وطعنوا في رجالاتنا الذين هم قدوتنا، والذي هم أسوة لهذه الأمة بأسرها، فإن ذلك يعني الطعن في الدين.

    ونحن والله لا نرضى الدنية في ديننا، فلا بد أن ندافع عنه بالدفاع عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وعلينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وحبنا للنبي يجعلنا نقول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم فوق رءوسنا، وكلام الناس خلف ظهورنا؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي، فلا بد أن نعتز بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتز بثوابتنا وأصولنا، وندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وليسمع من يسمع، وليعزف من يعزف، فإن الله جل في علاه قال: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] فما على المسلم إلا أن يبلغ.

    والبعض ممن ينتمي إلى أهل السنة قال في مسألة رضاع الكبير: يرضع من ثديها، وهذا الذي جعل الحرب الشعواء تشن على أهل السنة حتى من كثير من النصارى، وبعض المؤلفين يقول: إن هذا طعن في الإسلام، كيف يكشف الرجل عن عورة المرأة ثم نقول هذا محرم عليها بعد ذلك؟

    لكننا سوف نبين الحقيقة، فمن أخذ بها فله ذلك، ومن لم يأخذ بها فما علينا إلا البلاغ، وهذا الذي نملكه.

    إن صحيح البخاري قد تلقته الأمة بالقبول، فمن طعن فيه فقد شذ عن الأمة، وشذ عن الإجماع، فالإجماع على أن أصح كتاب بعد كتاب الله هو صحيح البخاري، ومن زعم أنه يحتوي على أحاديث موضوعة أو ضعيفة فقد خالف الإجماع بذلك، وأراد هدم الدين، فأسانيد البخاري كلها سلاسل الذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وديننا دين إسناد ومن طعن في هذه الأسانيد فقط طعن في ديننا، أما رضاع الكبير فإنه يحرم، والرضاع من الثدي مباشرة قال به الشيخ الألباني بصراحة، وهو علامة الشام ولكنه أخطأ في ذلك، ولا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نبين للناس أننا لا نتبع ولا نعظم الأشخاص، وإنما نعظم النبي صلى الله عليه وسلم، ونعظم الوحيين، فنرد هذا الخطأ بلطف، ونقول: الحق أحب إلينا، والحق إذا جاء من رجل كائن من كان نأخذه على رءوسنا ونتبعه، ومن أخطأ منا ثم ظهر له الحق فليقل بقلب راسخ: لأن أكون ذنباً في الحق خير لي من أن أكون رأساً في الباطل، وهذا هو الإنصاف. إننا ندافع عن البخاري ولا بد أن ندافع عنه، حتى يستطيع طلبة العلم أن يردوا على هذه الشبه، وهذه الشبه ثلاث: شبهة حول رضاع الكبير، وشبهة حول زواج عائشة وهي بنت ست سنوات، وشبهة حول سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك حديث الذباب وشق الصدر وغير ذلك، فالشيخ الألباني ذكر قاعدة قوية وهي: أن الله جل وعلا إذا أباح شيئاً فقد أباح وسيلته -وهذه قاعدة صحيحة- فإذا جعل الشرع رضاع الكبير ليحرم فوسيلته مباحة، فلن يرضع إلا بكشف الثدي، وتقدر هذه القضية بقدرها، فلا يظهر منها إلا الجزء الذي سيلتقمه ويرضع منه، ولا ينظر إلى كل الثدي ولا يمسه كله، وإنما يمس المكان المقصود فلما سمع البعض هذا الكلام تغنوا به وطعنوا به في البخاري ، ولو أرادوا الحق ما فعلوا ذلك، ولتأدبوا مع البخاري ، وقالوا: هذا الحديث لا تدركه عقولنا، وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم بما قاله، ويكفوا عن ذلك، أو يرجعوا إلى العلماء أدباً؛ حتى يتبين لهم صحة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من الطعن في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة، وتنفير الناس عن البخاري ومسلم ، ولكن هذه بغية مقصودة.

    إن العلم يجعل الناس على الميزان الصحيح، ولما تبين الحق لبعض الذين يطعنون في ديننا رجعوا إلى الحق.

    خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير

    اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:

    القول الأول: ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا رضاع للكبير، وأنه لا يحرم، وهذا هو قول الشافعية والمالكية والأحناف، وعلى ما أذكر قول الحنابلة أيضاً، وهو قول جماهير الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بقول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ [البقرة:233]، فالشافعية قالوا: قد أتم الله الرضاعة إلى الحولين، فما بعد التمام من شيء إلا النقصان، فلا يحرم ما فوق الحولين.

    واستدلوا على ذلك أيضاً: بقول الله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا في الحولين)، وهذا تصريح أنه لا رضاع محرم إلا في الحولين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يبين لما سألوه عن الرضاع: (ما أنبت اللحم وأنشز العظم)، أي: تغذت به المعدة وشبع به الطفل، ولا يشبع الطفل من اللبن إلا في غضون الحولين، وبعد الحولين لا يشبعه لبن المرأة، فكل هذه دلالات باهرات تثبت أن رضاع الكبير لا يحرم.

    وقالوا: إن رضاع سالم مولى أبي حذيفة حالة خاصة بـسالم ، خصص بها العموم، ويرجع العموم على ما هو عليه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم خصصه لأن سالماً كان مولى لـأبي حذيفة، وكان الرجل يدخل دائماً على امرأته، فلما نزل الحجاب قالت: شق علينا أن يدخل ويرانا بهذه الطريقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه يحرم عليك)، فكانت هذه حالة خاصة بها وبـسالم وبـأبي حذيفة ، فقالوا: هذه دلالة على الخصوصية، وليس هذا من جهة أنفسنا، وهو من كلام أم سلمة وزينب وغيرهن من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهن أنكرن على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث صريح صحيح أن أم سلمة دخلت على عائشة رضي الله عنها وأرضاها تنكر عليها، وتقول: يا عائشة ! يدخل عليك الشاب الأيفع، ولا نرضى أن يدخل علينا، فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لـسالم مولى أبي حذيفة أن يفعل كذا وكذا -وروت لها الحديث- فأرضعيه يحرم عليك. فكانت رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الأجانب الكبار تجعل أختها أو أحد أقاربها يرضعه، فتكون له خالة، فيحرم عليها، ويدخل عليها رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك مذهباً ومنهجاً لـعائشة وحدها رضي الله عنها وأرضاها. هذا هو ما أجاب به الجمهور على من قال بأن رضاع الكبير يحرم.

    القول الثاني: هو على العموم، فرضاع الكبير مباح، وهذا على ما أذكر قول ابن حزم إذا لم أكن واهماً، وهو قول طائفة من أهل العلم، بأن رضاع الكبير يحرم في كل الأحوال، فلو أراد الإنسان أن يدخل على امرأة، ويريد أن يكون محرماً لها، فتسافر به ويدخل عليها فليرضع منها، أو من أختها، وهذا القول من أضعف الأقوال، وهو أوهن من بيت العنكبوت.

    القول الثالث: وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين أنه قول عطاء والليث بن سعد، وهو الفقيه المصري المحدث الذي قال فيه الشافعي : الليث أفقه من مالك لولا أن قومه لم يحملوه. فشيخ الإسلام ابن تيمية بعدما ذكر قول عائشة والليث بن سعد وعطاء توسط بين قول جماهير العلماء وبين قول عائشة ، وقال: أقول: هي واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها، فشيخ الإسلام ابن تيمية نظر إلى قول عائشة فوجدها أباحته مطلقاً، وكذلك عطاء والليث ونظر إلى قول الجماهير وأم سلمة وزينب والأئمة الأربعة الذين حرموا رضاع الكبير، وقالوا: إنه خاص بـسالم مولى أبي حذيفة .

    ومعنى قول ابن تيمية: إنها واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها: أنه من كان حاله كحال سالم أخذ حكم سالم ، فإذا تربى ولد يتيم بين رجل وامرأة، ثم كبر سنه فخشي الرجل أن يرى امرأته، فإنه يجوز له الرضاع حتى يكون محرماً لهؤلاء النسوة.

    وهذا هو القول الوسط، وهو الذي أميل إليه، فرضاع الكبير قضية خاصة بـسالم ، ولا تجوز مطلقاً، بل هي واقعة عين يقاس عليها مثلها، وأصول الشريعة توافقه؛ لأن المشقة تجلب التيسير، والحرج مرفوع عن الأمة، فهذا قول قوي، وهو الراجح في هذه المسألة.

    كيفية رضاع الكبير من ثدي المرأة

    سبب الطعن في حديث البخاري هو: أن الذي أباح رضاع الكبير أجاز أن يمص الثدي وأن يرضع منه مباشرة. والجواب على هذا الطعن هو أن الراجح أنها واقعة عين يقاس عليها مثلها، ولكن ليس معنى ذلك أن الرضاع يجوز من ثدي المرأة مباشرة، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، لكنهم قالوا: إن ظاهر الأدلة أنه رضع من ثديها، قالت: (يا رسول الله! إنه لكبير! قال: قد علمت أنه رجل كبير) وقد جاء في بعض الروايات: أنها عصرت ثديها في قارورة وشربها. فلما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دل على أنه يجوز أن يمص ثديها.

    وقد يؤيد البعض ذلك بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، وهذا خطأ فيحتمل أنه صافحهن بمجرد القول باللسان، وقال: قد بايعت.

    يعني: أعلم أنه كبير فتذهب نحوه ويلتقم ثديها ويشرب؛ لأن هذا مرخص لك، والذي استنبطه الشيخ الألباني رحمه الله من هذا الحديث هو: أنه يلتقم ثديها ويشرب، وقال: أباح المقصد فأباح الوسيلة له، وهذا تأويل جيد، والقاعدة التي أتى بها الشيخ صحيحة نوافقه عليها، لكن هذا الحديث مجمل، والمجمل يحال على المفسر، والأصل الشرعي: أن النظر إلى عورات النساء حرام، ومن قال بغير ذلك فليأتنا بالدليل غير المحتمل الوسيلة، فنقول: والوسائل تنقسم إلى: وسيلة محرمة، ووسيلة جائزة، ووسيلة مرسلة، فالوسيلة المحرمة: هي التي جاء النص القطعي بتحريمها، ومن ذلك التقام ثدي المرأة والنظر إليه، فهذه وسيلة محرمة، وقد جاء الشرع بتحريمها، يقول الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أصافح النساء) فهذه دلالة شرعية على أن هذه الوسيلة محرمة، والوسيلة المحرمة لا بد من اجتنابها. أما الوسيلة المرسلة فهي التي لم يأت الشرع بتحريمها أو تحليلها، وهذه تستخدم عند فقد الوسيلة.

    والحلال هو ما جاء الشرع بتجويزه، وهو أن يشرب فيطبق الحديث ولكن دون أن يلتقم ثدي المرأة، ودون أن ينظر إلى العورة، فليس المقصود أن يمص الفم الثدي حتى يصبح حراماً عليها، فالمؤثر في التحريم هو الحليب، وليس مص الثدي ولا النظر إليه، فإن كانت هذه ليست علة مؤثرة والعلة المؤثرة هي وصول الحليب إلى المعدة فيمكن أن يصل الحليب إلى المعدة بأي إناء بعد أن يعصر الثدي وينزل الحليب في مكان معين ثم يشرب، فإذا وصل اللبن إلى المعدة أصبح محرماً. فنحن وإن قلنا برضاع الكبير ولكن لم نقل بأن ينظر إلى ثديها، أو يمصه؛ لأن هذا محرم في ديننا. ونكون قد خرجنا مما قالوا كالشعرة من العجين، وقلنا بقول أهل العلم المحققين الذين قالوا بأن هذه واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها، فنحن نقول بالرضاع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة مس المرأة والنظر إليها. ولا يجوز للابن أن ينظر إلى ثدي أمه أو ذراعيها أو ساقيها أو الفخذ أو الوريد، فكيف برجل أجنبي؟ فالشريعة تأبى مثل هذا الأمر. فهذا هو الرد عليهم في هذه القضية.

    1.   

    صحة حديث أن النبي عليه السلام تزوج عائشة وهي بنت ست سنين والرد على من طعن فيه

    وتكلموا كذلك على الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وأرضاها وعمرها ست سنين، فيقول قائلهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رحيم رءوف بالأمة فكيف يتزوج هذه الصغيرة، ويدخل بها وعمرها تسع سنين؟ فإن قيل له: إن البخاري هو الذي روى هذا الحديث، قال: حتى ولو كان البخاري، فيلقي البخاري خلف ظهره ويقدم العقل ولا يقبل هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتزوج امرأة عمرها تسع سنين، بل تزوجها وعمرها ثمانية عشر سنة. ولا ندري من أين أتى بهذا الكلام؟

    إن هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بالنساء، فلا يمكن أن يتزوج بنتاً وعمرها تسع سنين، ويقولون: إن الواقع يشهد لذلك، فلو أن أحداً تقدم لخطبة ابنتك وعمرها ست سنين لأنكرت عليه ذلك، فمثل هذا الحديث -كما يقولون- ليس بالصحيح، بل هو من الموضوعات.

    والله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ [الحشر:7]، فإذا جاء عن النبي أمر من الأمور فعلينا السمع والطاعة، ورسول الله قائدنا وقدوتنا، وقد جاء عنه أنه تزوجها وعمرها ست سنين كما في صحيح البخاري ، فإن لم يصدقوا بحديث البخاري قلنا لهم: بيننا وبينكم سلسلة الإسناد، هذا إن كنتم تعلمون ونحن على يقين أنكم لا تعلمون معنى الإسناد، ولا تعرفون كيف تبحثون عن الإسناد، فإن كنتم تعلمون فتعالوا بيننا وبينكم الإسناد المتصل إلى رسول الله صلى، فقد ثبت ذلك بالسند الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما أنتم فإنكم جهال تهرفون بما لا تعرفون، وليس عندكم إلا التشويش النظري.

    1.   

    بالعلم ترد البدع والشبهات

    إن النجاة لن تكون إلا بالعلم، والاحتفاظ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بالبصيرة ولن يعبد الله حق العبادة إلا بالتعلم، فعلى المرء ألا يبخل على نفسه بطلب العلم، وألا يضيع مجالس العلم، لا سيما إذا كان أهل العلم الذين يتعلم على أيديهم قد أخذوا العلم عن العلماء وليس عن الصحفيين، فلو أخذ الإنسان العلم من صحفي فلن يرى خيراً. وقد وضع العلماء ضوابط لمن يؤخذ منه العلم فقالوا: لا بد أن يؤخذ العلم ممن لا يتبع هواه، وإذا روجع في خطأ رجع عنه، كما قال ابن المبارك : إذا رأيت الرجل يخطئ في الحديث ثم إذا روجع رجع فخذ منه الحديث، فإذا ثبت على ما هو عليه فهو متبع لهواه، وعنده من الكبر ما عنده، فلا يؤخذ منه الحديث.

    فلا بد من طلب العلم ونشره بين الناس، يقول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].

    وكما أن العلم يحيي القلوب والأبدان، فغياب العلم أو انتشار الجهل يقتل المرء، فكما يقتل القلب فإنه يقتل البدن. أما أنه يقتل القلب فهذه معلومة؛ لأن ظلمة الجهل في القلب تجعله يموت ولا يحيى بذكر الله جل في علاه، ولا يتدبر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ولا يتفكر في عظم قدرة الله جل في علاه، وأما أنه يقتل البدن فهناك دلالات كثيرة على ذلك، منها: أولاً: أن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وذهب فاستفتى الراهب، وهذا الراهب كان عابداً زاهداً لكنه لم يكن ذا علم، فأفتاه بفتوى خاطئة لما قال له: إن الله لن يتوب عليك وقد قتلت تسعة وتسعين نفساً، فقتله فأكمل به المائة، أرأيتم الجهل كيف وصل إلى قتل صاحبه بجهله؟!

    قصة برصيص العابد

    وبرصيص العابد قتله جهله، مع أنه كان يعبد الله جل وعلا ليل نهار، ولا يفتر لسانه أبداً عن الذكر، وتتفطر قدماه وهو قائم لله جل في علاه، فهو يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتصدق بما معه من المال، ومع ذلك قتله جهله، قتل بنتاً بعد أن زنى بها ثم قتل، وسبب ذلك: أنه جاءه بعض أهل المدينة وقالوا: هذه أختنا أمانة عندك حتى نسافر ونرجع، فجعلها في مكان أسفل منه، وهو فوقها، فينزل لها بالطعام والشراب، وهي تخرج لتأخذه، فجاءه الشيطان وقال له: لا تتركها هكذا، تطعمها وتسقيها ولا ترى أحداً، والشيطان ثقيل في الشر، ولا يقوى إلا على الجهلاء، قال ابن عباس : عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. فقال له: انزل فضع الطعام على باب الغرفة ولا تدخل الغرفة، ثم جاءه مرة أخرى فقال له: لم لا تسأل عنها، وتسمع أخبارها، وتسألها هل تصلي أم لا؟ وهل تتعبد أم لا تتعبد؟ انظروا كيف يستدرجه الشيطان بسبب جهله، فيدق الباب فيسمع صوتها فيسألها ثم ينصرف إلى مكانه يتعبد لله جل في علاه، فيأتيه الشيطان فيقول: لو رأيتها هل هي تأكل أم لا تأكل؟ وهل تتعبد أم لا تتعبد؟ ففتح الباب فنظر إليها، ثم رجع ثم استدرجه الشيطان أن يجلس معها ويعلمها، فلما جالسها مرة ومرتين دخل الشيطان بينهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا وثالثهما الشيطان)، فزنى بها وهو متعبد، وهو زاهد، وهو يسجد لله، وهو يقيم الليل، وهو يصوم النهار!

    ولما جامعها أصبحت حبلى بالزنا، فجاء الشيطان يقول: هي حبلى من الزنا، ولو علم الناس لقتلوك، كيف والناس يقدمونك؟ كيف والناس يعظمونك؟ أنت الزاهد! أنت العابد! أنت برصيص ، فقتلها، فلما قتلها جاءه الشيطان فقال: إخوتها سيسألون عنها، فلا بد أن تدفنها في مكان بعيد، فأخذها فبقر بطنها ودفنها هي وطفلها في مكان بعيد، فجاء إخوتها يسألون عنها، فقال: أختكم قد ماتت، فصدقوه لأنه عابد زاهد، لكنه جاهل قتله جهله.

    فجاء الشيطان الذي استدرجه بجهله وجعله يقتلها إلى إخوتها فأرى كل واحد من الإخوة الثلاثة رؤيا ما فعل الرجل بأختهم، وأنه قتلها في المكان الفلاني، فاستيقظوا جميعاً في الصباح، وكل منهم يقول: رأيت رؤيا كذا، فاتفقت الرؤيا على أن البنت مقتولة في مكان كذا، فذهبوا إليه فأخرجوا البنت مع الجنين الذي كانت حبلى به، فذهبوا إليه فصلبوه، وأرادوا قتله فأمهلوه، فلما أمهلوه جاءه الشيطان وقال: أنا الذي فعلت بك هكذا، أنا الذي أتيت بهذه المرأة، وأنا الذي استدرجتك لتزني بها فزنيت بها، وأنا الذي جعلت عندك العزيمة لقتلها ودفنها، وأنا الذي جعلتهم يفعلون بك هكذا، ولو سجدت لي لأنقذتك منهم، فسجد له فكفر بذلك وقتلوه، فمات كافراً، ولو مات على هذه المعصية لكان رجمه كفارة له، وهي كبيرة بين حسناته الكثيرة، ويوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، لكن أبى الشيطان إلا أن يكفره؛ لأنه وراءه بالمرصاد، وأبى الله جل وعلا أن يوفق مثل هذا الذي كان يتعبد لله بجهل ولا يتعلم، وكانت هذه النهاية الوخيمة والعياذ بالله.

    قصة الذي أصيب بشجة فاغتسل من الجنابة فمات

    وفي حديث الرجل الذي أصابته شجة في سفره ثم نام فأجنب، وهذه الشجة لو وصل الماء إليها يموت، فاستفتى الصحابة الذين كانوا معه، فقالوا: لا نجد لك رخصة وأنت تجد الماء، وقد قال الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، وما علموا أن الماء قد لا يوجد حكماً أو حقيقة، بأن ينعدم حقيقة، وحكماً: بأن يكون موجوداً لكن لا يستطيع أن يستعمله، فاغتسل الرجل فدخل الماء إلى الشجة فمات، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله! إنما شفاء العي السؤال)، فالجهل شفاؤه السؤال، وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء، والراجح أنه حسن لكثرة طرقه.

    آثار الجهل بمناسك الحج

    وما أكثر الجهل خاصة في الحج، فبعض الحجاج يقفون في عرفة يوم السابع! وبعضهم يترك المبيت بمزدلفة وهو ليس من الضعفة، وإن كان مذهب المالكية أنه يكفي مبيت جزء من الليل؛ لأن النبي رخص للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة ليلاً، وأطلق ولم يحدها بنصف الليل أو بغروب القمر، لكن جاء في الحديث الصحيح أن أسماء كانت تدفع من مزدلفة بعد غياب القمر، فقال بذلك الفقهاء، لكن بعض الناس ليس من الضعفة وينصرف من مزدلفة بلا عذر، وهذا من الجهل.

    وبعضهم يتجرأ على محظورات الإحرام ويقول: عليك شيء يسير، وهو دم تشتريه بثلاثمائة ريال! وهذا تجرؤ على حدود الله، والواجب على الحاج أن يسأل من يثق بعلمه، فإن أفتاه بشيء عمل به، حتى لو أفتاه بالرمي قبل الزوال، فلا نقول ببطلان رميه، وأن عليه دماً، فالقاعدة عند العلماء أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

    وكذلك أفتاه بجواز الرمي في اليوم الثاني عشر بعد المغرب ثم ينصرف إلى مكة فلا حرج عليه، والعلماء قالوا: إذا غابت عليه الشمس لزمه المبيت، وليس عليه دليل قاطع، فلا ينكر على من أخذ بأقوال العلماء المجتهدين، لكن يناصح ويبين له القول الراجح بلا إنكار.

    نسأل الله جل وعلا أن يصلح عبادتنا، وأن يعلمنا علم الكتاب والسنة على فهم أئمتنا أصحاب المذاهب الأربعة الشافعي أو المالكي أو الحنفي أو الحنبلي، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756180574