أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:56-60].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]. هذا الأمر موجه -يرحمكم الله- والله إلينا، وإلى كل مؤمن ومؤمنة. وقد أمرنا في هذا الأمر بأن نقيم الصلاة، فنؤديها على الوجه المطلوب في أوقاتها المحددة لها، وأن نؤت الزكاة لأهلها، ولا نبخل بها، ونطيع الرسول في سننه، وما يطلب منا أن نفعله ونتركه، وذلك من أجل أن نرحم في الدنيا والآخرة.
ولو أقام امرؤ الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله لم يعذب في الدنيا والله، بل والله ليرحم في الدنيا، ومن باب أولى في الآخرة دار السعادة والشقاء.
هذا معنى قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:56]، أي: محمداً صلى الله عليه وسلم. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، أي: لكي ترحموا. ومعنى قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [النور:57] أبداً. وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:57].
المرة الأولى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58]، أي: في الليل. فإذا كنت نائماً مع زوجتك فلا يجوز أن يأتي العبد ويدخل عليك بدون إذن، ولا أن يأتي الطفل فوق الرابعة والخامسة ويدخل عليك بدون إذن. فهذا ما ينبغي. فلا يدخلون مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58]، أي: في الليل.
المرة الثانية: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ [النور:58]. فقد كانوا يشتغلون من صلاة الصبح إلى الساعة الحادية عشر أو غيرها، ثم يستريحون، وإذا استراح أحدهم نزع ثيابه وأغلق غرفته، فلا يسمح لعبده وأمته أو الطفل أن يدخل عليه؛ فقد يجده مكشوف العورة، ويحصل هذا.
المرة الثالثة: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]. إذا صلينا العشاء. وسبحان الله! فنحن نصلي العشاء، ونحيي الليل بالأغاني والمزامير، والأعراس والحفلات، وغير ذلك. وهذا لا يتفق معنا، بل يكون العَشاء مع المغرب، ثم إذا صلينا العِشاء ذهبنا إلى النوم والاستراحة؛ لأنا بذلنا جهداً طول النهار، وهذا وقت طلب الراحة.
فمن بعد صلاة العشاء إذا أغلقت بابك مع زوجتك أو حدك ونزعت ثيابك لتستريح فلا تسمح أبداً لخادمتك أو خادمك أو طفلك أن يدخل عليك إلا بإذن، ولما يستأذن تستر نفسك وتفتح الباب.
وهذه الآداب علمناها الله عز وجل. فهو أرحم بنا من أنفسنا، وأعلم بنا من أنفسنا. فهو يقول في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ [النور:58]. والظهيرة قبل الظهر. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58]. والعورة تستر، ويستحيا من أن تكشف.
وهذه العورات الثلاث هي: النوم في الليل بعد العشاء، وقبل الفجر، وفي الظهيرة. فهي ثلاث عورات يجب أن لا تكشف لكم، كما قال تعالى: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ [النور:58]، أي: ما في حرج بعد هذه الأوقات الثلاثة أن تدخل عليك الخادمة، أو يدخل الخادم، أو يدخل الطفل وهو ابن عشر سنوات .. خمس .. تسع .. سبع .. ثمان.
وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ [النور:58]، أي: إثم بَعْدَهُنَّ [النور:58]. فليس عليكم أنتم إثم ولا عليهم هم حرج بعد هذه الأوقات الثلاثة.
ثم قال تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58]. فلا بد من أن يدخلوا عليكم؛ لأنهم يطوفون، ويدخلون ويخرجون عليكم، ويشتغلون يعملون. إذاً: لا بد وأن يفسح لهم المجال إلا في الأوقات الثلاثة.
وهذه الأوقات الثلاثة: قبل الفجر، وبعد العشاء، ووقت الظهيرة.
وقوله: بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58]، أي: طوافون بعضكم على بعض. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ [النور:58]، أي: هكذا كما بين لنا يبين الآيات الحاوية للشرائع، المبينة للأحكام والآداب والأخلاق في هذه الملة المحمدية. وَاللَّهُ عَلِيمٌ [النور:58] بخلقه حَكِيمٌ [النور:58] في شرعه وتدبيره. فسلموا له، ولو كان جاهلاً لم نقبل كلامه، ولو كان غير حكيم فإنه يخبط ويخلط، فكذلك نشك في أمره ونهيه، ولكنه ما دام عليماً وقد أحاط علمه بكل شيء وحكيماً فإنه لا يحدث شيئاً إلا لعلمه بعلة تقتضي ذلك الشيء.
والمرأة كالرجل، إلا أنها تزيد بالحيض، فإذا حاضت البنت فقد بلغت سن الرشد، فتكلف.
وقوله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور:59]، وأصبحوا يحتلمون إذاً فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59]. فلا يدخلون بيتاً إلا بإذن، فيقرعون الباب ويستأذنوا فإن قالوا لهم: ادخلوا دخلوا، وإن قالوا لهم: ارجعوا رجعوا، كما تقدم في الاستئذان العام.
فإذا بلغ الغلام سن الرشد أو احتلم وكذلك الفتاة فلا يدخلا إلا بإذن. وهذا هو الله عز وجل يقول: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ [النور:59]، جمع طفل. مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور:59]. ويدخل فيه الذكر والأنثى. فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور:59]، أي: يطلبوا الإذن منكم، كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59] من آبائهم وأجدادهم الذين كبروا، وأيام أن كانوا أطفالاً كانوا لا يستأذنون إلا في الأوقات الثلاثة. فهذه الأوقات الثلاثة لا بد فيها من الإذن، ودونها يدخل ويخرج ولا يستأذن ولا حرج؛ لأنه ما بلغ ولم يحتلم بعد.
ثم يقول تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [النور:59] كما بينها. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59] بخلقه، يدبر ما يشاء، ويحكم ما يريد.
فقوله: وَالْقَوَاعِدُ [النور:60] جمع قاعد مِنَ النِّسَاءِ [النور:60]، وهي التي قعدت عن شيئين: عن الحيض، فهي لا تحيض، فقد انتهى حيضها، وقعدت عن الولادة، ولم تعد تلد. وهذا لابد أن يكون على الأقل من فوق الخمسين .. الستين .. السبعين، أو أكثر من ذلك. فهؤلاء الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا [النور:60]، أي: لا يحلمن أو يفكرن بالزواج أبداً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ [النور:60]، أي: حرج أو ضيق أو إثم، أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60]. فلها أن تضع ثيابها وتخرج، وليس المعنى أن تخرج عارية، بل معنى تضع ثيابها: تضع الخمار الذي كان يغطي رأسها ووجهها، تخرج كاشفة عن وجهها. هذا هو المعنى. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ [النور:60]، أي: حرج أو إثم أو مسئولية، أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60]، ويخرجن ولا حرج إذا كانت عجوزاً بشرط لا بد منه، وهو قوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]. لا أن تخرج العجوز وتعمل الكحل في عينيها، ولا تحمر شفتيها، ولا تضع السخاب في عنقها، ولا الأسوار في يديها، وتقول: أمكم عجوز. فهذا لا يجوز أبداً ولا تخرج. وكلام الله عجب. فهو يقول: حال كونهن غير متبرجات بزينة، وأما أن تضع خمارها ثم تتزين وتخرج كاشفة عن رأسها ووجهها كذلك فهذه كأنها تغري الناس فالزنا، فلا تستعمل كحلاً ولا أحمر الشفتين، ولا ريحاً طيباً ولا سخاباً في عنقها، ولا قلادة ولا سواراً في يدها، فيجوز له الخروج بهذا الشرط. فتخرج كاشفة عن وجهها في السوق أو في الشوارع، أو في الطريق أو في المسجد؛ لكبر سنها؛ لأنها قعدت عن الحيض والنفاس، ولم تعد تحيض ولا تلد. وقد قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60] حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]. والزينة يرحمكم الله يعرفها النساء من الخاتم إلى السخاب .. إلى الحناء .. إلى غير ذلك.
وأخيراً: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]. فتبقى في حجابها حتى تموت، ولو بلغت المائة والعشرين أو المائة والثمانين. وقد رأينا هذا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت العجوز تبلغ مائة .. ستين .. تسعين ولا تخرج أبداً إلا متسترة؛ أخذاً بهذه الآية الكريمة؛ لأن الله اختار لها هذا، وأعلمها أنه خير لها، فقال: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ [النور:60] بأقوال عباده، عَلِيمٌ [النور:60] بأعمالهم وأفعالهم.
فقد قال تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58]. الآن ليس عندنا مملوك ولا مملوكة. والسبب: وقوف مسيرة الجهاد من أكثر من خمسمائة سنة أو سبعمائة سنة. وبعد أن وقف الجهاد فلن يأتي المماليك، فالمماليك لا يأتون إلا إذا غزونا دار كفر؛ لندخلهم في رحمة الله؛ ليسلموا فيكملوا ويسعدوا، فنأخذ الأسرى ليس لنذبحهم والعياذ بالله، بل نوزعهم على المجاهدين، فيأخذ كل من المجاهدين نصيبه، وعليهم أن يحسنوا إلى هؤلاء العبيد، ولا يكلفوهم ما لا يطيقون، ويطعموهم مما يطعمون كالأبناء، حتى يدخلوا في الإسلام.
والملاحدة والعلمانيون البلاشفة يستنكرون أن نملك الرقاب، ونستخدمهم، وهم الآن يملكوننا بدون سبب.
فالأسرى يرحمكم الله لا نحرقهم، ولا نقتلهم، فهذا لا يجوز، بل نوزعهم على المجاهدين، هذا واحد، وهذا اثنين بحسب عددهم. ثم أنت يا عبد الله! هذا أسير في ذمتك، فتطعمه مما تطعم، وتسقيه مما تستقي، وتفرش له ما تفرش لنفسك، ويخدمك فيما يستطيع، ولا تكلفه ما لا يطيق، حتى يتحرر، بأن تعتقه أنت في سبيل الله، أو يعمل ويجد ويشتري نفسه منك بمبلغ من المال.
هذا هو الاستملاك والتعبد في الإسلام، والآية نزلت في وقت كانوا يملكون فيه، ولهم فيه مملوكين. قال تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58]. والذين لم يبلغوا الحلم هم الأطفال من الرابعة إلى الثالثة عشر .. إلى الرابعة عشر. فهؤلاء يستأذنون ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58]. وهذه المرات الثلاث: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58]. هذه مرة. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ [النور:58]. ونحن نضع ثيابنا من الظهيرة، فالواحد ينزع الغترة، وينزع المشلح، وينزع غير ذلك؛ ليستريح. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]. والعِشاء غير العَشاء. فالعِشاء: العتمة وصلاة العِشاء.
وفي هذا بيان أن من آدابنا وسلوكنا نحن المسلمين: أننا ما نسهر بعد صلاة العشاء، لا في مقهى ولا ملهى، ولا ملعب ولا عرس ولا باطل. فهذا ليس من شأننا أبداً؛ لأننا نقوم الليل، أو لأننا نقوم مع طلوع الفجر على الأقل. واليوم ينام المسلمون حتى الساعة الثامنة والسابعة، مع أن شأننا غير شأن الكفار، ونحن والله لا نتفق معهم إلا في القليل، فحالنا غير حالهم، فهم إلى جهنم، ونحن إلى دار السلام، وهم إلى الهون والدون، والبلاء والخبث والشر، ونحن إلى السعادة والطهر والصفاء.
ثم قال تعالى: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58]. فاستروها ولا تفضحوها، ولا تكشفوها لأولادكم ولا لخدمكم. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ [النور:58]، أي: بعد العورات الثلاث لا حرج ولا تضييق ولا إثم، فيستأذن أو لا يستأذن، فله شأنه.
ثم بين العلة فقال: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ [النور:58]، أي: يدخلون ويخرجون، ويأتون بالشيء ويخرجون به، فلا نمنعهم من الدخول إلا بالإذن وهم طوافون عليكم. بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58]، أي: وأنتم أيضاً تطوفون عليهم، وتدخلون وتخرجون عليهم.
ثم قال تعالى: كَذَلِكَ [النور:58] الذي سمعتموه من البيانات في العلم والحكمة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58]، أي: يبين لكم الآيات التي تحمل الهداية، وتبين الطريق وسلوك الطريق، وفيها بيان الحلال والحرام، والجائز والممنوع.
ثم قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [النور:59]، أي: مثل هذا البيان يبين. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59]. فتقبل أحكامه وإرشاداته وتوجيهاته؛ لأنه ليس جاهلاً ولا أحمق، ولكنه حكيم يضع كل شيء في موضعه، فيجب أن نسلم له إذاً أمره الذي أمرنا به، أو النهي الذي نهانا عنه.
وهذه الآية برهان ساطع. فهو يقول تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا [النور:60] لكبر سنهن فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60]. وليس المراد من وضع الثياب أن تخرج عارية والعياذ بالله. فهذا لا يقوله أحد، بل المقصود بثيابها: الخمار الذي كانت تغطي به رأسها ووجهها، فتضعه وتخرج.
فالذين يقولون بجواز كشف وجه المرأة مع الأجانب وتستر عنقها وجسمها نقول لهم: هذا ليس بحجاب، وإلا فالله تعالى يقول: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60]. فإذا كان للنساء كشف الوجوه فليس لهذه الرخصة قيمة.
فقوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60]، أي: الكبيرات السن .. القاعدات عن الحيض والنفاس .. بنات السبعين والتسعين والثمانين ليس عليهن جناح أن يكشفن وجوههن، ويتلاقين مع الرجال؛ لكبر السن، ومع هذا فلابد من التحفظ؛ لقوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، أي: حال كونهن غير متبرجات بزينة أية زينة، لا خاتم في الأصبع، ولا سوار في اليد، ولا قلادة في العنق، ولا حناء في الأصابع، ولا كحل في العينين، ولا حمرة في الشفتين، بل غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]. والأخرى أفضل، وهي وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]. فيتركن الخروج نهائياً وكشف الوجه، فهذا خير لهن، والذي قال هذا هو الله مولاهن ومالكهن. ولو أجزنا كشف الوجوه للنساء ما بقي حجاب، وتصبح كل النساء يتحفظن ويشتغلن مع الرجال، ويبعن ويشترين، ويتحدثن معهم ويسافرن بدون حجاب، ويدخل الشخص ويخرج ولا حرج؛ إذ ليس هناك حجاب، مع أن الحجاب فرضه الله في كلامه وفي آياته وفي كتابه.
فهذه الآية عجب، وهي قوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]. وقد قلت لكم: رأينا بالمدينة بنت المائة وعشرين .. المائة وثلاثين ما يرى منها شيء أبداً، بل هي ملفوفة في خمارها وفي ثيابها.
[ أولاً: وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ للحصول على رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والتمكين، والأمن والسيادة، وفي الآخرة بدخول الجنة ] وهذه منة الله، فقد قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، أي: كي ترحمون في الدنيا والآخرة كما بينا.
[ ثانياً: تقرير عجز الكافرين، وأنهم لن يفوتوا الله تعالى مهما كانت قوتهم، وسينزل بهم نقمته، ويحل عليهم عذابه ] وهذا كما بينا. فلا نترك ديننا، ونتخلى عن عبادة ربنا من أجل الكافرين، فإنهم والله لا يعجزون الله. وأنا من البارحة أقول: ما من دولة أو إقليم في العالم الإسلامي يقيم دين الله بحق كما هو إلا نصره الله على الأبيض والأسود؛ لأن الله مع أوليائه.
[ ثالثاً: بيان مصير أهل الكفر، وأنه النار، والعياذ بالله تعالى ] فهذه نهاية حياتهم.
[ رابعاً: وجوب تعليم الآباء والسادة الأطفال والخدم الاستئذان عليهم في الأوقات الثلاثة المذكورة، والمعبر عنها بالعورات ] فيجب أن نتعلم هذا الحكم رجالاً ونساءً .. أطفالاً وكباراً أو صغاراً؛ لقوله: ليستأذنكم أيها المؤمنون! الذين كذا وكذا. فيجب أن نعلم هذا كلنا، وأن نفعله.
[ خامساً: وجوب استئذان الأولاد إذا احتلموا، الاستئذان على من يريدون الدخول عليه في بيته؛ لأنهم أصبحوا رجالاً مكلفين ] فالغلام عندنا إذا احتلم وأصبح شاباً ورجلاً لا يحل له أن يدخل بيتاً من البيوت إلا بالإذن، فيستأذن فإن أذن له وإلا يعود.
[ سادساً: بيان رخصة كشف الوجه لمن بلغت سناً لا تحيض فيها ولا تلد للرجال الأجانب، ولو أبقت على سترها واحتجابها لكان خيراً لها، كما قال تعالى: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] ] فيا عجوز! لقد اختار الله لك أن تبقي على حجابك حتى تموتي، ولو بلغتي المائتين من السنين.
قال الشيخ في النهر غفر الله لنا وله، ولوالدينا أجمعين، قال: [ ورد وعيد شديد للمتبرجات، فقد روى مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) ] نسأل الله العافية.
وليس عندنا أبداً خلاف في أنه لا يحل للمؤمنة أن تتبرج، أو تمشي في الشوارع كاشفة عن وجهها، أو لابسة كعب تتمايل به بين النساء والرجال؛ لأن هذا سبيل العهر والفجور، والعياذ بالله تعالى. والحمد لله فقد برأنا الله من هذا وطهرنا.
ومعنى سياط البقر في قوله: ( قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ): هؤلاء الشرطة في العالم الإسلامي إلا من رحم الله والبوليس، ولكن شرطنا والحمد لله طيبين طاهرين.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر