إسلام ويب

من المهم لطالب العلم أن يعرف القياس، وهو: رد فرع لأصل لعلة جامعة بينهما في الحكم، وأركانه: الأصل والفرع والعلة وثبوت الحكم، ولكل ركن منها شروط. ومن المهم كذلك أن يعرف استصحاب الأصل، وهو البقاء على ما كان، وأن يعلم أن أدلة الأحكام تتباين من جهة القوة والضعف، وكذلك أصول الأشياء، هل هي على الإباحة أم على المنع.

القياس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال الشيخ العلامة ابن بدران رحمه الله تعالى: [ باب القياس ].

بعد أن تكلم على أقوى الأدلة وهي الكتاب والسنة، والإجماع، جاء بعد ذلك إلى القياس؛ وإنما كان القياس في هذه المرتبة لوجود ضعف وقصور في كثير من صوره وأجزاءه، وكذلك لعدم التسليم به.

وعدم التسليم ببعض الأدلة: إما أن يكون في حقيقة هذا الدليل وأصله، وإما أن يكون في تحققه، والقياس هو أول دليل بعد الأدلة السابقة، التي لم يسلم بحقيقتها أصلاً، أما الأدلة السابقة فيسلم بحقيقتها، ولكن لا يسلم ببعض صورها.

و الدليل إما يكون قطعياً من جهة وروده، وظنياً من جهة الاستدلال به، وإما أن يكون قطعياً من جهة الدلالة، ومن جهة الورود، وإما أن يكون ظنياً من جهة الورود، وقطعياً من جهة الاستدلال، وإما أن يكون ظنياً من جهة الورود، ومن جهة الدلالة كذلك.

وأما بالنسبة للقياس فهناك من أهل الإسلام من نازع فيه من أصله كما هو قول الظاهرية، وكذلك في بعض صوره؛ ولهذا تأخر إيراده عن الأدلة السابقة وهي الكتاب والسنة والإجماع.

تعريف القياس

والمراد بالقياس في لغة العرب المقارنة، وذلك كقياس الثوب على الجسد، يقارن الثوب على الجسد فيسمى هذا الفعل قياساً.

قال رحمه الله تعالى:

[ ثم القياس ما يرد الفرعالأصله في الحكم قل لي سمعا

لعلة جامعة والحكمتفصيلهن يقتضيه النظم ]

قوله: (ثم القياس ما يرد الفرع) تقدمت الإشارة إلى أنه ثمة مقيس، ومقيس عليه، والمقيس عليه هو الأصل، وأما المقيس فهو الفرع، فكأنك قد قارنت بين شيئين؛ حتى تعرف مدى انسجامهما، ومدى التوافق بينهما، وإن كان ثمة زيادة أو بون فتعرف الزيادة بينهما، وهذا لا يكون إلا بالمقارنة.

وقد يقال: إن القياس هو الاعتبار والسبر، فهذا دليل على أن الإنسان سبر أو اعتبر أو نظر مجموعة أشياء؛ ليخرج بحكم واحد يشتركون فيه، والغالب في استعمال القياس هو أن يقاس الفرع على الأصل؛ لعلة جامعة بينهما، وهكذا يعرفه الأصوليون أنه: إلحاق فرع بأصل؛ لعلة جامعة بينهما، وهذا الإلحاق لم يتحقق إلا بعد مقارنة، فكأنه عرف القياس بنتيجته، وإلا فالقياس هو أوسع من ذلك.

فالقياس ما قبل إلحاق الفرع بالأصل، وهو: جمع النظيرين أو المتشابهين، والنظر بينهما، فهذا يسمى قياساً ولو لم يلحق الحكم بالفرع لوجود العلة، فإذا قارن الإنسان بين فرع وأصل، أو قارن بين شيئين، وما وجد التناسب بينهما فهو قد قاس ولو لم يصل إلى النتيجة.

ولكن الفقهاء من الأصوليين عمدوا إلى تعريف القياس بنتيجته، فالإنسان حينما يقيس ثوباً عليه يقال: قاس فلان الثوب عليه، ولكنه لا يناسبه، فحينئذ لم يلحقه به، وعلى هذا نقول: ذلك لا ينفي كون ما سبق قياساً، ولكن العلماء عرفوه باعتبار مآله.

أركان القياس

ثم قال:

(القياس ما يرد الفرعالأصله في الحكم قل لي: سمعا)

أركان القياس هي: الفرع، والأصل، والعلة، وثبوت الحكم، وهذه الأركان الأربعة لا بد من وجودها، وقد نقول: إن أركان القياس خمسة، وهي: الفرع، والأصل، والعلة، وثبوت الحكم، والقائس، وذلك أن الإنسان إذا قاس أو ألحق فرعاً بأصل، وهو ليس من أصحاب الأهلية فلا يسمى قائساً، ولا يعتد به، ولا يسمى قياساً حقيقياً، كحال الإنسان مثلاً الذي يقيس الثوب على الإنسان معترضاً، هل يسمى قائساً؟ لا يسمى، وإنما هذا عابث؛ ولهذا لابد من توفر هذا الركن حتى يتحقق القياس، ولا بد من وجود الفرع والأصل، والأصل كلما قرب من الفرع وداناه، كان القياس في ذلك أظهر، فإذا قيس لباس على لباس، كان أقرب من جهة صحة القياس، وإذا قيس لباس على غيره من غير جنسه من غير الألبسة، فهذا القياس يكون قاصراً، كذلك قياس الفرع على فرع أولى منه من جهة، مع كون الاثنين من الفروع، فإن هذا أقرب إلى الصحة، بخلاف قياس فرع على أصل عظيم، فإن هذا يكون من جهة القبول أضعف، وذلك لتباين العلل في الأصول عن الفروع، فكلما كان الحكم أعلى وأقوى وأشمل كانت العلة فيه أبعد من الفرع، وذلك أن الفروع كلما صغرت تعلقت بالأفراد، والأصول كلما بعدت تعلقت بالعامة، وعلل العامة تتباين عن علل الأفراد؛ ولهذا نقول: إن الأصل كلما قرب من الفرع، وداناه فإن ذلك أقرب إلى صحة القياس.

حجية العمل بالقياس

قال:

(لعلة جامعة والحكمتفصيلهن يقتضيه النظم)

كأن المصنف رحمه الله هنا يقطع بهذا التعريف؛ ولهذا قال: (قل لي: سمعا) يعني: أن هذا مما يجزم به، والقياس يقول به عامة العلماء، وهو الذي عليه ظواهر الأدلة من كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً الصحابة، فقد جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى قال: ثم قس الأمور.

وهذا ظاهر أيضاً في كلام الله جل وعلا، كما في قوله سبحانه وتعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ[الحشر:2] والاعتبار لا يكون إلا بمقارنة مجموعة أشياء؛ ليخرج الإنسان بنتيجة جامعة بينهما، كأن يعتبر الإنسان بمصيبة غيره ليستفيد منها في نفسه؛ ولهذا يقال: اعتبر بفلان، أو اعتبروا بالذين سبقوا؛ وذلك لوجود المشابهة من بعض الوجوه، وهذا نوع قياس، وذلك أننا ألحقنا في الفرع حكماً استنبطناه من الأصل، على اختلاف وتباين في درجة الاستنباط والقياس.

وأما من رد القياس كالظاهرية وغيرهم، فقالوا: إن الله عز وجل أمرنا بالرجوع إلى رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله عليه قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي[المائدة:3] ، فما لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم معتبراً، فليس في الأزمنة المتأخرة أيضاً اعتبار له.

ويستدلون أيضاً بقول الله جل وعلا: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:38] ، قالوا: الله جل وعلا لم يفرط في الكتاب من شيء، فقد جاءت فيه جميع الأحكام.

ولكن هذا فيه نظر، وإنما المراد بذلك أصول الدين، وكذلك فروع الإسلام الثابتة، وجاءت أيضاً بأصول الدلالات، فجاء أصل الإجماع، والاعتبار به.

وكذلك أيضاً جاء بذلك فيما يتعلق بالسمع والطاعة مثلاً لولي الأمر، وهذا مجمل، فإذا أمر بشيء مباح وجب أن يطاع، وهذا تأصيل للقاعدة، فلا يقال: إنه لا بد في كل مأمور يأمر به ثبوته في الشريعة؛ باعتبار أن الله ما فرط في الكتاب من شيء، وهذا فيه ما فيه، فالشريعة جاءت بالأصول العامة، كذلك أيضاً في أبواب الأدلة فيما يتعلق بالقياس.

ولـابن حزم رسالة في إبطال القياس، وقد رد عليه الذهبي رحمه الله في رسالة له، ونقض أدلته، وابن حزم الأندلسي رحمه الله يرد غالباً القياس الخفي بجميع أنواعه، وكذلك بعض صور الجلي، ويقبل قياس الأولى.

قياس الطرد وقياس العكس

والقياس إذا أردنا أن نقسمه من جهة النظر نجد أن القياس على نوعين: قياس طرد، وقياس عكس، فبالنسبة لقياس الطرد هو: اطراد العلة في الفرع والأصل فحينئذ يشابه العلة الأصل في الحكم؛ لاطراد العلة بينهما، وأما بالنسبة للنوع الثاني وهو قياس العكس، فهو مناقضة الفرع لحكم الأصل للاختلاف في العلة، وذلك أن الأصل إذا وجدت فيه علة من العلل، وكانت العلة مخالفة في الفرع، فينبغي أن تكون العلة الموجودة في الأصل هي سبب ورود الحكم، فلما كانت العلة في الفرع مخالفة لعلة الأصل، ينبغي أن يختلف الفرع عن الأصل في الحكم، وذلك يجري في بعض الأحكام الشرعية، وذلك كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: ( وفي بضع أحدكم صدقة ) ، يعني: في إتيان الرجل أهله، وهذا من جهة أصله.

فالأصل أن حكم الزنا التحريم، وأما بالنسبة للزواج وإتيان الرجل لأهله فهو التشريع، وإذا قلنا بذلك فإنه يلزم باختلاف الحكمين أن تعاكس النتيجة أن يعاكس الحكم في إتيان الرجل أهله، فيقال: إن الإنسان يؤجر على ذلك بدلالة العكس.

ودلالة أو قياس العكس وقياس الاطراد كثير، بل يقال: إنها متشابهة، ولكن الناس أحوج إلى قياس الطرد من جهة إثبات الدليل؛ لأن قياس الطرد في الأغلب يقتضي منه العمل وظهور الحكم، بخلاف قياس العكس؛ فإن قياس العكس في الأغلب أو في كثير من الصور يكون في أبواب التروك، والتروك في الغالب يتغافل الناس عن إيجاد علة لها؛ باعتبار اشتراكها في عزم النفس، وإن قصد الشرع على تركها، وذلك ككثير من الأمور في مسألة الربا مع البيوع، فإنا إذا قلنا إن الربا حرمه الله عز وجل ويأثم الإنسان به، كذلك أيضاً إذا احتسب الإنسان في أمر البيع فإنه يأتيه الأجر، كذلك أيضاً في تعاملات الإنسان في كف أذاه عن الغير أو نحو ذلك، أو صلة الإنسان لجاره المسلم في مقابله مثلاً صاحب عدوان ونحو ذلك، فإن هذا يسمى بقياس العكس، فإذا قلنا: إن الإنسان إذا وصل عدواً حربياً فإنه يأثم بذلك، فعلى هذا: إذا وصل صاحب طاعة من أهل الإيمان فإنه متعبد بذلك بقياس العكس، وهذا كثير، وكلامنا هنا وغالب كلام الأئمة عليهم رحمة الله يتكلمون على قياس الطرد لا يتكلمون على قياس العكس.

أنواع القياس الثلاثة

قال رحمه الله تعالى:

[ إن علة جامعة للحكمفهي القياس باعتلال الحتم

وإن تدل لا لحكم توجبفهي دلالة القياس تنسب

وإن يكن فرع له أصلينمردد في بين ما هذين

مُلحَّق بأشبه له بهفسمه قياس حكم الشبه ]

بالنسبة لقياس الطرد على ثلاثة أنواع: النوع الأول قياس العلة، وذلك أن العلة فيه موجبة للحكم، فإذا انتفت العلة أو كان فيها ضعف، كان في ثبوت الحكم ضعف أيضاً، ولا يصار إليه على سبيل القطع، وأما بالنسبة للنوع الثاني فهو: قياس الدلالة، وقياس الدلالة هو: أن تكون العلة فيه دليلاً على وجود الحكم، وليست موجبة له، وأما النوع الثالث وهو: قياس الشبه، وذلك في حال وجود أصلين يتردد الحكم بينهما، وجود أصلين وفرع واحد، فالإنسان يريد أن يلحق هذا الفرع بأحد هذين الأصلين، فيلحقه بأقربهما له شبهاً؛ ولهذا يسمى بقياس الشبه.

وكلما كان الإنسان بصيراً بمعرفة العلل ومعرفة الحكم، ومعرفة مقاصد التشريع وأدلتها، يكون من أهل الإصابة بين هذين الأمرين، وقياس الشبه كثير في إلحاق بعض الصور، وتارة ينقدح في ذهن الإنسان أصل، ولا ينقدح في ذهنه الآخر، مع كون الذي انقدح في ذهنه ضعيف؛ وذلك لغياب الآخر عنه أو لعدم العلم به، فإذا كان الإنسان جاهلاً بمجموع الشريعة، ومواضع الأحكام فيها، وكذلك القوة والضعف فإنه يكون حينئذ من أهل القصور فيها، وربما استعمل القياس استعمالاً خاطئاً.

شروط الأصل المقيس عليه

قال رحمه الله تعالى:

[ وشرط أصل أن يكون ثبتاكفي دليل عن وفاق قد أتى ]

بالنسبة للشرط فالعلماء يذكرون شروطاً للأصل، ويذكرون شروطاً للفرع، ويذكرون شروطاً للعلة، فبالنسبة لشرط الأصل لا بد أن يكون قد ثبت دليله في الأصل؛ ولهذا الذي يقيس إلى أصل لم يثبت دليله في الشرع قياسه ضعيف، وذلك أنك تريد أن تستدل بالقياس الذي هو موضع ظن من جهة الأصل بدليل لم يثبت حكمه من جهة الأصل في الشرع؛ فحينئذ يكون القياس فيه ضعف، فلا بد من ثبات الأصل حتى يثبت الفرع؛ ليثبت الحكم بالعلة الجامعة بينهما، فإذا لم يثبت الأصل لم تثبت علته تبعاً لذلك، وإذا لم تثبت هذه العلة فإنها لا تلحق حينئذٍ بالفرع؛ لورود تسلسل الظن في ذلك.

والأصل لا يسمى أصلاً إلا إذا ثبت بالدليل، وهو إنما سمي أصلاً لتأصله وتجذره وعمقه في الأرض، وإذا لم يكن كذلك لم يكن أصلاً؛ ولهذا لا بد من التماس دليل الأصل، والنظر فيه؛ حتى يتميز ثبوته في ذلك، ثم بعد ذلك هل ينظر إلى علته من جهة ظهورها أم لا؟ وهل هي علة منصوصة أو مستنبطة؟ ثم بعد ذلك ينظر إلى وجود الفرع، وانتفاء الحكم به، وهذا شرط في الفرع، فكما اشترطنا ورود الدليل في الأصل، نشترط انتفاءه عن الفرع؛ لأنه لا يليق أن نقيس فرع على أصل مع وجود الدليل فيه، فلا بد أن ينتفي الدليل في الفرع؛ حتى نلحق الفرع بالأصل؛ ولهذا نلجأ إلى دليل دون مرتبة الأقوى، والأقوى في ذلك هو الدليل من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلحاق الفرع بالأصل في مثل هذه الحال لا يليق؛ لاحتمال أن يكون هذا الدليل مخصصاً لهذا الفرع عن أن يلحق بذلك الأصل، والقياس في ذلك يجري على خلاف الدليل، وإذا كان موافقاً له وجب أن يكون الدليل متصدراً، ثم يأتي بعد ذلك إيراد القياس؛ ولهذا ليس لأحد مثلاً في المسألة السابقة المتعلقة بإتيان الرجل أهله، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي بضع أحدكم صدقة ) أن يستدل بقياس العكس؛ لورود الدليل؛ وذلك أن الدليل هو الذي لا يجري فيه التقليد، فيجب على الإنسان أن يتبع الشارع، وتابع الشارع ليس بمقلد.

والمقلد هو: الذي لم يعرف الدليل فيتبع غيره ولا يعرف الدليل، ولكن إذا اتبع الدليل بذاته فهو المجتهد الذي يستفرغ وسعه حتى يصل إلى إبرازه للعامي لكي يقتنع، وإذا برز لديه بداهة ليس بحاجة إلى أن يوصف بالتقليد؛ لهذا نقول: إن ورود الدليل في القياس لا بد أن يتوفر في الأصل ظاهراً، وينتفي من الفرع؛ خشية ورود التخصيص، وإذا ورد في الفرع وكان مؤيداً للعلة فيصدر الدليل ويؤخر القياس.

لهذا في أبواب القياس لا بد أن تؤخذ الأدلة على مراتبها، فأقواها الكتاب، والثاني السنة، والثالث الإجماع، وبعض العلماء يجعل الإجماع قبل الكتاب والسنة، ويعللون ذلك بقولهم: إن الإجماع لا يطرأ عليه النسخ، ولكن هذا فيه نظر، وذلك أننا إذا قلنا: إن القياس لا يطرأ عليه النسخ؛ فهذا نظر إلى أحد وجوه القوة في الإجماع، وذلك أن الإجماع مستنده الشرع، والشرع هو الكتاب والسنة.

إذاً: فالإجماع لا يمكن أن يتحقق إلا على مستند ظاهر أو باطن في الشرع، وإذا كان كذلك فلا بد أن يصدر الأصل عن فرع نتج عنه؛ لهذا نقول: الكتاب والسنة والإجماع، ثم القياس، والقياس بنوعيه: قياس جلي، وقياس خفي، فيقدم القياس الجلي على القياس الخفي، وقياس الطرد على قياس العكس، ثم يأتي بعد ذلك الأدلة التي يتكلم عليها العلماء مما يأتي بسطه بإذن الله تعالى.

أخطاء الأصوليين في كتب الأصول ودواوين الفقه

ومن الأخطاء التي يقع فيها الأصوليون كثيراً في كتب الأصول، وكذلك أيضاً في دواوين الفقه: الضعف في الأدلة الشرعية، والنظر في أبواب أدلة الأحكام في غير الكتاب والسنة كالإجماع والقياس واستصحاب الأصل، وكذلك عمل الصحابة، أو غير ذلك من الأدلة؛ ولهذا تجدهم كثيراً ما يستعملون القياس مع ورود الدليل الظاهر وهم أئمة كبار، والدليل من الكتاب والسنة لو التمسوه لوجدوه ظاهراً، فيعتمدون على دليل قاصر عن دليل أتم، وهو الكتاب والسنة، وهذا يظهر كثيراً عند الأصوليين، والذين يبالغون في النظر في أبواب الأصول؛ ولهذا تقدم معنا أن أدق مسلك لمعرفة الأصول هو أن يبتدئ الإنسان بالفروع ثم يربطها بأصل جامع لها، لا أن يعتمد على أصل جامع ثم يفرع عليه؛ لهذا فإن الذي يتعلم الأصول ابتداءً تقصر همته عن معرفة الدليل، فيلحق الفروع التي ترد عليه بالأصل الذي استقر في ذهنه، وإذا عرف الفرع ابتداء وألحقه بأصله بعد ذلك بعد معرفة الدليل، فإن إصابته للحق تكون أدق؛ ولهذا من نظر في كتب الفقه التي صنفها الأصوليون يرى القصور في الدليل واضحاً، ويرى القياس في كل باب، وكذلك الاستدلال بالقواعد العامة ظاهر جلي، والأدلة في ذلك ظاهرة.

شروط الفرع المقيس

قال رحمه الله تعالى:

[ والفرع إن كان لأصل ينتسبفقد نحا قصداً صحيحاً لم يعب

والعلة الاطراد فيها يعتمدكالحكم شرط أن يكون مطرد ]

يقول:

(والفرع إن كان لأصل ينتسبفقد نحا قصداً صحيحاً لم يعب)

ذكرنا أن الفرع بينه وبين الأصل مراتب، فكلما دنا من مرتبة الفرع، كان القياس أصح وأنقى، وكلما بعد الأصل عن الفرع كان البون في إدراك العلة الجامعة بينهما أقصر؛ وذلك أن الفرع كلما كان دقيقاً كانت العلة فيه أضعف؛ لأن علل الأفراد أضعف من علل الجماعة؛ لهذا فإن التشريعات التي تأتي للعامة فيما يتعلق بالحدود وما يتعلق بالتعزيرات، وما يتعلق في أبواب الخطأ وغير ذلك أحكام عامة تعم الجميع، أما ما يتعلق بأفعال الأفراد فكلما خصص الفعل كانت العلة فيه أضيق؛ لهذا لا بد من النظر إلى أقرب أصل لذلك الفرع؛ ولهذا قال:

(والفرع إن كان لأصل ينتسبفقد نحا قصداً صحيحاً لم يعب)

ولا بد من معرفة صحة الانتساب؛ وذلك بوجود المشابهة بين الفرع والأصل؛ حتى لا يختلط الأصل بأصل آخر، فيلحق بشيء قاصر، مع وجود الشيء الأبين.

شروط العلة في القياس

يقول:

(والعلة الاطراد فيها يعتمدكالحكم شرط أن يكون مطرد)

بالنسبة للعلة لا بد أن تكون مطردة، والعلماء يذكرون شروطاً في الأصل، ويذكرون شروطاً في الفروع، ويذكرون شروطاً في العلة، فمن الشروط التي يذكرها العلماء في الحكم: ثبوت الدليل في الأصل، فإذا ثبت الدليل في الأصل لا حرج على الإنسان أن يقيس عليه ما شابهه مما هو دونه، والمقيس إما أن يكون مساوياً له، وإما أن يكون دونه، وإما أن يكون أعلى منه، فإذا كان دونه فهو القياس الذي نتكلم عليه وهو قياس الطرد، وأما إذا كان مساوياً له فإنه يضعف، وإذا كان أعلى منه انقلب نوع القياس، وأصبح حينئذ بحاجة إلى أن يلحق ذلك الأصل بالأصل الذي أعلى منه، والعلماء يلتمسون ثبوت الدليل في الأصل؛ لصحة القياس عليه.

ويشترطون في الأصل أيضاً: عدم التخصيص، أي ألا يكون الدليل الذي ورد في الأصل مخصصاً، وذلك مثلاً كزواج النبي عليه الصلاة والسلام من أكثر من أربع، هذا دليل، وثبت فيه الأصل، هل نقيس الفرع عليه؟ لا نقيس الفرع عليه؛ لأن هذا الدليل جاء مخصصاً لذلك الأصل؛ ولهذا إلحاق بالفرع بذلك الأصل خاطئ، هذا يظهر في خصائص النبي عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة، كذلك إخبار النبي عليه الصلاة والسلام في إقرار شهادة خزيمة بأنها عن اثنين، جاءت هذه الشهادة بالدليل أنها عن اثنين، ولكنها خاصة به، فخصص الدليل هذا الأصل؛ ولهذا ينتفي في ذلك القياس.

كذلك أيضاً لا بد من ظهور العلة في الحكم، فإذا لم تكن العلة ظاهرة في الحكم، فإن القياس في ذلك يصبح ضعيفاً؛ وذلك أن القياس من جهة الأصل هو: إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما، فإذا عرفت الأصل والفرع، ولم تعرف العلة في الأصل والعلة في الفرع من جهة الثبوت والقوة، أصبح القياس حينئذٍ قاصراً، وربما يتوهم الإنسان علة وتكون هذه العلة ضعيفة، فيلحق بناء على هذه العلة المتوهمة فرعاً بأصل، ويظهر الحكم، ويضعف حينئذ الحكم لضعف العلة.

أنواع العلة

تقدم معنا أن العلة على نوعين: علة منصوصة، وعلة مستنبطة، فالعلة المنصوصة هي الظاهرة والقوية في ذلك، وتقوى العلة بنص الشرع عليها، كما تقوى باشتراك حكم مع ذلك الأصل في علة واحدة؛ وذلك أن الحكم في الشرع إذا ظهر في أكثر من صورة، واشترك معه صور مساوية له بعلة واحدة، أصبحت أقوى من العلة التي تختص بحكم واحد لا يشابهه شيء؛ لهذا العلة المتعددة بجملة أحكام أقوى من العلل المنفردة.

وأما بالنسبة للفرع فيذكرون أيضاً فيه جملة من الشروط، وفي كثير منها خلاف، يذكرون: عدم ورود الدليل المخصص، فليس لك أن تنظر فتلحق فرعاً بأصل مع وجود دليل فيه، لست بحاجة إلى إلحاقه بالقياس؛ فقد خصصه غيره، كورود بعض أدلة الفروع التي تكون في عامة المؤمنين مثلاً، مما استثنى النبي عليه الصلاة والسلام غيره به، فهذه الأحكام أحكام لعامة المؤمنين، وأحكام عامة للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو عكس المثال السابق، فإذا جاء دليل بتخصيص عامة المؤمنين بحكم؛ ليس لك أن تلحق العامة بالنبي عليه الصلاة والسلام، مع ورود دليل مخصص لهؤلاء العامة.

ويشترطون كذلك ثبوت العلة، فإذا ثبتت العلة في ذلك الفرع ألحق بالأصل، والعلة كما أنها في أقسامها في الفرع كذلك أيضاً تكون في الأصل، كذلك أيضاً المشابهة في العلة بين الفرع والأصل، وأن تكون العلة مطردة لا تنقض، يعني: ليس لها استثناءات في بعض صورها أو في بعض وجوهها، فتطرد سواء كانت فرعاً أو كانت أصلاً، فاشتراط الاطراد كما أنه في العلة كذلك أيضاً في الأصل والفرع، فأن تكون علة الأصل مطردة، وكذلك علة الفرع مطردة، وكذلك أيضاً الحكم أن يكون مطرداً بلا استثناء، سواءً كان في الفرع أو كان في الأصل.

قال رحمه الله تعالى:

[ وتابع للعلة ما وجدتوجوده ونفيه إن نفيت ]

بما أن العلة يدور عليها الحكم وهي كقطب الرحى، وكفلكة المغزل التي يدور عليها الحكم وجوداً وعدماً، فإذا انتفت العلة انتفى الحكم تبعاً لها؛ فلهذا لا بد من متابعة الفقيه والمجتهد للعلة؛ لأن الحكم يتبعها، ولا تتبع العلة الحكم؛ لأن الحكم إنما نتج عن علة، فينظر في العلة فينفي الحكم التابع لها، وهذا هو الفقه، وأما نفي الحكم مجرداً مع ورود العلة في ذلك من غير نص أو أصل في الشريعة، فهذا قصور وهوى؛ ولهذا الذين ينفون الأحكام مع ثبوت العلل هؤلاء هم أهل الأهواء، أو ينفون الأحكام مع ثبوت العلل لأمور باطلة نفسية، كما يفعل هذا كثير من أهل الطرق من المتصوفة وغيرهم؛ ولهذا العلماء يذكرون قاعدة فيقولون: الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً.

قال رحمه الله تعالى:

[ لأنه لعلة مجلوبوأصله من أصلها مطلوب ]

يعني: أن العلة في الفرع والأصل هي مطلوبة من الجميع، فلا بد من توفرها هنا وهناك، فيدور عليها الأصل والفرع، ولكن الأصل في ذلك أقرب، وذلك كدوران الأفلاك حول الشمس، وذلك أن الأفلاك منها ما هو دون الشمس ويدور معها، ومنها ما هو أبعد من ذلك، فتكون العلة من جهة الأصل هي كحال الشمس، وأما بالنسبة للكوكب الآخر هو الأصل، والذي وراءه هو الفرع، فهذه تدور مع بعضها، فإذا انتفى الأصل وثبتت العلة نقول: يثبت الحكم للفرع أيضاً، كأن يكون مثلاً الأصل نسخ، ولكن العلة ثابتة، وثبت الدليل بإقرارها بالشرع، فنقول حينئذٍ: يثبت ذلك.

الاستصحاب

قال رحمه الله تعالى: [ فصل.

وما انتفى فيه دليل الحكمفرده لأصله في العلم ]

هذا ما يسميه العلماء استصحاب الأصل، وهذه قاعدة وهي من أدلة الأحكام.

تقسيم الأدلة باعتبار الثبوت والدلالة

وينبغي أن نعلم أن أدلة الأحكام تتباين من جهة القوة والضعف، وهي على أربعة أنواع:

النوع الأول: أدلة قطعية، أي: ثابتة بالقطع، ظنية الدلالة، يعني ثبوتها قطعي، ودلالتها ظنية، ككثير من المعاني المجملة مثلاً، كقول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228] هذا الدليل دليل قطعي، ولكن الدلالة فيه ظنية؛ لاحتمال القرء للطهر والحيض.

النوع الثاني: أن يكون الدليل قطعياً، والدلالة قطعية أيضاً، وذلك كقول الله جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43] الأمر بذلك هو بإقامة الصلاة والمراد بذلك هي الفرائض، وكذلك أيضاً إيتاء الزكاة الزكاة المعلومة، فالدليل قطعي، والدلالة أيضاً قطعية؛ لأنها لا تنزل على أمرين وإنما على أمر واحد، فلا ينزل إلا هذه الصلاة التي نؤديها.

النوع الثالث: دليل ظني ودلالة ظنية، وهذا كبعض أخبار الآحاد التي يرد فيها حكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يدرى أينزل الحكم عليه أم لا؟ وذلك -مثلاً- كحديث القلتين من حديث عبد الله بن عمر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) ، الدليل من جهة ثبوته ظني، وذلك للخلاف فيه، ومن جهة الدلالة ظني، هل دلالة منطوق ويكتفى بها، أم دلالة منطوق ومفهوم؟ وهذا المفهوم ظاهر من جهة مقصوده ومراده، فهذه من الدلالات الظنية.

النوع الرابع: الدليل ظني والدلالة قطعية، وذلك فيما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام صريحة، وطريق الوصول فيها ظنية ليست قطعية، وذلك كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول عبد الله بن عباس : ( يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ) يعضده مجموعة من الأدلة تجعله قطعي الدلالة، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ) هذا الدليل من جهة الحكم محل إجماع، من جهة ثبوته أن الأكل باليمين ثابت، وأما من جهة دلالته فهو ظني، هل هو على الوجوب وتركه يأثم به الإنسان أم لا؟ هذا موضع ظن، هل النبي أمر بذلك ويكون هذا من جملة الأحكام، أو يكون ذلك من جملة الآداب؟ فإذا أكل الإنسان بشماله كره له ولا يأثم، أو إذا أكل بيمينه امتثل، واستحق الأجر وفعل واجباً، وهذا من الدلالات الظنية، وله أمثلة كثيرة.

وفي حال بحث الدليل ينظر ابتداءً إلى أقوى الأدلة وهي الأدلة القطعية من جهة الثبوت ومن جهة الدلالة، فهي أقوى أنواع الأدلة، ثم يليها بعد ذلك الأدلة القطعية من جهة الثبوت الظنية من جهة الدلالة، ثم يأتي بعد ذلك الأدلة الظنية من جهة الثبوت القطعية في الدلالة، ثم يأتي بعد ذلك النوع الرابع الظني من جهة الثبوت ومن جهة الدلالة وهو أضعفها، ومن العلماء من يقدم استصحاب الأصل على الدليل الظني من جهة الثبوت والدلالة، وبعضهم يأخذ بالقواعد ويضعف الاحتجاج مثلاً بأخبار الآحاد، فكل ما ثبت من جهة دليل ظني يقدم عليه استصحاب الأصل ويرد أخبار الآحاد، كما يفعل بعض الأصوليين في هذا، وهذا فيه نظر، بل يقال: إن ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان ظناً فإنه يقدم على غيره.

والظن هنا يتوسع الأصوليون في تأويله، ويحملون أخبار الآحاد ولو ثبتت وكانت بإسناد واحد على أنها ظن، ويقدمون عليها آراء الرجال، وهذا من الخطأ، أو يقدمون عليها البقاء على الأصل.

وقوله: (وما انتفى فيه دليل الحكمفرده لأصله في العلم) استصحاب الأصل هو: طلب البقاء على ما كان، وما كان ينظر فيه إما أن يكون الحل، وإما أن يكون الإباحة، وإما أن يكون الكراهة، أو غير ذلك من الأحكام التكليفية، فما كان تابعاً لأصل ولم يدل عليه دليل بعينه، فإنه يلحق بأصله.

واختلف العلماء في أصول الأشياء، هل هي على الإباحة أم على المنع، ويأتي الكلام عليه.

قول المصنف رحمه الله هنا: (فرده لأصله في العلم) كأنه رحمه الله يشير هنا إلى أنه لا بد للإنسان أن يكون عالماً بالأصل، فلا يلحق الفرع بأصله الثابت إلا وقد علم الأصل حتى يستصحبه؛ ولهذا قال: (فرده لأصله في العلم) لأن الأصول تتباين، فهناك من الأصول ما خلقها الله عز وجل للناس من المأكول والمشروب والمطعوم، فهذا الأصل فيه الإباحة، وهناك من الأصول ما الأصل فيها التحريم كالأبضاع وهي الفروج، فالأصل فيها التحريم، وليس للإنسان أن يقول: الأصل في إتيان النساء الإباحة، بل نقول: الأصل في ذلك التحريم حتى يثبت الحل، وثبوت الحل هو أن يأتي بشروطه: بعقد صحيح، والرضا، وكذلك الولي، وبشروطه التي ذكرها العلماء؛ ولهذا إذا زعم رجل أن امرأة زوجته لا يقبل هذا القول؛ لأن الأصل التحريم إذا قامت شبهة عليه، بخلاف الإنسان إذا شرب ماء ليس الأصل أنه مسروق، وليس أنه مغصوب، وليس الأصل أن ما في هذه القارورة مسكر، بل الأصل أنه مشروب ومطعوم مباح، وعليك الدليل أنت وليس له أن يثبت الدليل.

وأما النكاح فعليه هو أن يثبت أنها زوجته بالعقد، وإلا الأصل أنها منتفية؛ لأن الأكثر هو الحظر والمنع، والإباحة قد حددها الشارع بنكاح الإنسان بأربع، وأما الأكثر فهو ممنوع؛ لهذا قلنا: إن الأصل في الأبضاع التحريم، ولا يحل للإنسان إلا الأربع، بخلاف الطعام فالإنسان يتناول منه ما يشاء ليلاً ونهاراً، والشراب يتناول منه الإنسان ما يشاء ليلاً ونهاراً، وكذلك اللباس والمال وغير ذلك، وكذلك الأرض فيأخذ أرضاً ويحييها، وغير ذلك الأصل فيها الإباحة من غير حد في الشريعة، فكل ما لم يحده الشرع فالأصل في ذلك الإباحة، وما حده الشرع فالأصل فيه المنع كالفروج.

الأصل في الأشياء الإباحة أم التحريم

قال رحمه الله تعالى:

[ وأصل نفع بعد نور البعثةحل وضر رده للحرمة

وقيل: أصل الكل حل النفعوقيل: للتحريم أصل الوضع

والأول المشهور وهو المعتمدفليحكه أهل الكمال والرشد ]

هنا يريد أن يبين أن الأصول يرجع فيها إلى الضر والنفع، وأن ما كان أصله النفع فالأصل فيه الإباحة، وما كان فيه الضر فالأصل فيه المنع، وهنا كأنه يجعل استصحاب الأصل من جهة رجوعه إلى وجود الضر والنفع، ولكن نستطيع أن نقول: إن الضر أو النفع قد دل الدليل عليه بخصوصه، والأصل فيما خلقه الله عز وجل الإباحة؛ لهذا قال الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] وقوله جل وعلا: ((خَلَقَ لَكُمْ)) أي: للناس، وهنا للتملك والانتفاع وحق التصرف، فالإنسان له أن يتصرف فيما خلقه عز وجل ابتداء من غير دخول سبب في ذلك، فإذا دخل السبب طرأ حينئذٍ الاستثناء، وهذا السبب الذي يطرأ على أصل ما خلقه الله عز وجل الأصل فيه الحظر، وذلك كالبئر إذا حفرت فلها حافر، وكذلك الدار إذا بنيت فلها بانٍ.

ما أوجده الله عز وجل على أصل خلقته كما في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] فأصل ذلك المخلوق من غير تدخل سبب فيه هو الإباحة، وإذا دخل عليه سبب فينتقل من الإباحة إلى المنع، أو من الإباحة إلى الحظر، وذلك كالبئر والدار، فإذا وجد داراً مبنية فهذا سبب خارج عن أصل الخلقة، وكذلك البئر، كذلك الشجرة هل هي مزروعة خلقةً، وجدت في الفلاة، كشجر السدر، أو غير ذلك مما يوجده الله عز وجل، وإلا وضعت بزارع؟ ينظر إليها فإذا وجدت بسبب فالأصل فيها الحظر.

ولهذا نقول: ما خلقه الله عز وجل على نوعين:

النوع الأول: خلق أبقاه الله في الأصل على خلقته، فالأصل فيه الإباحة إلا ما استثني بدليل.

النوع الثاني: ما خلقه الله عز وجل وغير بسبب من الأسباب البشرية، وذلك كما تقدم في الأشجار والدور والمزارع وغير ذلك، فهذا من خلق الله، ولكن ليس للإنسان أن يقول: خلقها الله لي، فآخذ من هذه البئر في هذه المزرعة ما أشاء من ماء، نقول: لا، هذا لا يجوز حتى تستأذن من صاحبها، كذلك أيضاً الأشجار، كذلك الدور ليس للإنسان أن يدخل الدور لأنها خرجت عن أصل الخلقة.

الأصل الضار والأصل النافع

وهنا ذكر نوعاً من أنواع الأصول قال: (وأصل نفع بعد نور البعثةحل وضر رده للحرمة) أي: أرجع الأصول إلى نوعين: أصول ضارة، وأصول نافعة، وهنا نقول: إذا نظرنا إلى هذين الأصلين فلا بد في حال التقسيم أن تكون الأقسام متشابهة أو متقاربة، وهذه الأقسام ليست بمتقاربة، وذلك أن ما كان أصله الضر ضعيف وضئيل؛ فلا يمكن أن يكون قسيماً للنافع؛ لهذا نقول: إن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا نذكر القسيم الثاني إلا تبعاً له، فهل نقول: إن الأصل في ذلك هو الإباحة، ولا نستثني من ذلك شيئاً؟ أم نقول: الأصل في ذلك الإباحة إلا ما أضر؟ الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما أضر، ولا نقول: إنها على قسمين الضار والنافع؛ لأننا لو نظرنا إلى المطعومات لوجدنا أن المطعومات المباحة بالآلاف من الفواكه ومن الخضار ومن الحبوب، وتجد أيضاً من الأشجار مما أحله الله عز وجل مما لو أراد الإنسان أن يذكره لما استطاع أن يتلفظ بها أياماً، ثم نأتي إلى اثنين أو ثلاثة مما حرمه الله سبحانه وتعالى كشرب الخمر وبعض المطعومات كلحم الخنزير أو لحم السباع فنجد أنها أشياء معدودة بالنسبة للحيوان الذي أباحه الله عز وجل أباح الله عز وجل من بهيمة الأنعام، أباح الله من الطيور، من أشكالها وأنواعها، وأباح الله عز وجل الأسماك مما في البحر، وجعل ذلك أصلاً.

وهذا تعضده الأصول؛ لأن الله عز وجل ذكر في الأمور العامة في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] ويكفي في إثبات ذلك أن الأصل الانتفاع في قوله: ((خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ)) ثم أكد ذلك بقوله: ((جَمِيعًا)) يعني: أن الأصل فيها الانتفاع؛ لأنه ينبغي ألا يكون الأصل إلا على الإباحة؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في حديث عبد الله بن عمر واختلف في رفعه ووقفه، قال: ( أحلت لنا ميتتان ودمان ) وذكر الميتتان، فقال: ( الحوت والجراد ) وهذا استثناء للأصل الذي أحل لنا الله عز وجل، أحل لنا صيد البحر وطعامه متاعاً وللسيارة، وإحلال ما في البحر مما خلقه الله عز وجل لا يعني عدم وجود أشياء مستثناة، لكن نقول: هذا الاستثناء لا يكون قسيماً، وفرق بين ذكر الشيء على سبيل الاستثناء، وبين كونه قسيماً له؛ ولهذا نقول: إن الأصل في الأشياء الحل، وليس الأصل فيها الحظر.

خلاف أهل العلم في الأصل في الأشياء

وقوله:

(وقيل: أصل الكل حل النفعوقيل: للتحريم أصل الوضع)

اختلف العلماء من الأصوليين في هذه المسألة وهذا الأمر، وقالوا: إن الأصل في الأشياء المنع، وهذا قول شاذ لا يعول عليه، والأصل في ذلك هو أن يقال: إن الأصل فيها الحل، وتقدم معنا أن الإشكال عند المتكلمين من الأصوليين وغيرهم أنهم يوغلون في النظر في الاستثناءات، فإذا نظروا في الاستثناءات وجدوا أن هذا المستثنى؛ لانشغال الذهن به أنه قسيماً للمستثنى منه، وهذا خطأ؛ لهذا الله عز وجل حينما خلق البشر خلقهم في أحسن تقويم، لكن يوجد من الناس من هو صاحب عاهة، ابتلاه الله عز وجل بعاهة؛ ولهذا تجد في الناس الأبتر، والأقطع، والأعمى، والمشوه، وكذلك ربما أيضاً تجد حتى الملتحم في الجسد، يولد اثنين إخوة متصلين يحتاجون إلى فصل، وهذا تجده كثيراً، وهذا أمر استثناء، هل نقول: إن الله خلق البشر منهم على أحسن تقويم، ومنهم من ليس على أحسن تقويم؟ نقول: لا، هذا من الخطأ، كذلك الناس الذين مثلاً يذهبون إلى المستشفيات، ويرون المرضى، ويرون أصحاب العاهات، ويقولون: الناس كلهم على هذا النوع، الذين يوغلون في النظر في الاستثناءات، ويدققون فيها، ويقعون في التخيلات فيها، هم الذين يولعون بالتقسيم إن لم يجعلوا هذه الاستثناءات هي الأصل، وهذا يظهر عند كثير من أهل الأهواء؛ لأن الشريعة جاءت بالكليات، جاءت بالمعاني العامة؛ حتى يفهم الناس ذلك، وما يأتي عرضاً فهذا لحكم جعلها سبحانه وتعالى.

قال:

(والأول المشهور وهو المعتمدفليحكه أهل الكمال والرشد)

أي: أن الأصل في ذلك النفع هو المعتمد عند العلماء، والذي ينبغي أن يصار إليه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [8] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net